تقديم نصوص الكتاب والسنة على العقل
مقال المؤلف نشر في مجلة أنصار السنة المحمدية
وقد جُمع ضمن رسالة بعنوان [شبهات حول السنة] للمؤلف رحمه الله تعالى قامت على نشره دار الفرقان المصرية جزى الله القائمين عليها خيرا.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه.
وبعد:
فإن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم قد أيَّده الله بروح من عنده في التشريع بالوحي وعصمه من الإخبار عن الكذب: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) [النجم:3،4].
وما كان منه عليه الصلاة والسلام عن اجتهاده أقرَّه الله تعالى عليه إن أصاب فيه، وكشف له عن الحق وأبان له الصواب إن أخطأ، فكان بفضل الله وتوفيقه على بينة وبصيرة من أمره على كل حال، لم يكله الله لنفسه، ولم يدعه لحسن تفكيره، بل هداه سبحانه في كل شئونه إلى سواء السبيل.
لقد أنزل الله عليه القرأن هدى وبينات من الهدى والفرقان.
وأوحى إليه من الأحاديث ما فيه بيان لما أُجمل في القرآن، وتفصيل لقواعده، وشرح للعقائد والشرائع، فضلًا من الله ونعمة والله عليم حكيم.
قال تعالى:( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) [النحل: 44]؛ فوجب تصديق ما جاء في كتاب الله وما صح من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحكيمها في كل شأن من الشئون، والرضا والتسليم لحكمها دون حرج أوضيق في الصدور تحقيقاً للإيمان ، وتطهيراً للقلوب من درن الشرك والنفاق.
قال الله تعالى:( فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحكِّموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في أنفسهم حَرجاً مما قضيتَ ويُسلِّموا تسليماً) [النساء:65].
ولايغترنَّ إنسان بما أتاه الله من قوة في العقل وسعة في التفكير، وبسطه في العلم، فيجعل عقله أصلاً، ونصوص الكتاب والسنة الثابتة فرعاً، فما وافق منهما عقله قبله واتخذه ديناً، وماخالفه منهما لوَّى به لسانه وحرَّفه عن موضعه، وأوَّله على غير تأويله إن لم يسعه إنكاره، وإلا ردَّه ما وجد في ظنه إلى ذلك سبيلاً- ثقة بعقله - واطمئناناً إلى القواعد التي أصَّلها بتفكيره واتهاماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم أوتحديداً لمهمة رسالته وتضييقاً لدائرة مايجب اتباعه فيه واتهاماً لثقات الأمة وعدولها، وأئمة العلم، وأهل الأمانة الذين نقلوا إلينا نصوص الشريعة، ووصلت إلينا عن طريقهم قولاًوعملاً.
فإن في ذلك قلباً للحقائق، وإهداراً للإنصاف مع كونه ذريعة إلى تفويض دعائم الشريعة وإلى القضاء على أصولها.
إذ طبائع الناس مختلفة واستعدادهم الفكري متفاوت وعقولهم متبانية، وقد تتسلط عليهم الأهواء، ويشوب تفكيرهم الأغراض ، فلا يكادون يتفقون على شيء، اللهم إلا ما كان من الحسيات أو الضروريات.
فأي عقل من العقول يُجعل أصلاً يحكم في نصوص الشريعة فتُردُّ أوتُنزَّلُ على مقتضاه فهماً وتأويلاً؟!
أعقل الخوارج في الخروج على الولاة، وإشاعة الفوضى وإباحة الدماء؟!
أم عقل الجهمية في تأويل نصوص الأسماء والصفات وتحريفها عن موضعها، وفي القول بالجبر؟!
أم عقل المعتزلة ومن وافقهم في تأويل نصوص أسماء الله وصفاته ونصوص القضاء والقدر وإنكار رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة؟!
أم عقل الغلاة في إثبات الأسماء والصفات، والغلاة في سلب المكلفين المشيئة والقدرة على الأعمال؟!
[ الظاهر أنه -أي المؤلف-يريد الممثلة الذين غلوا في إثبات الأسماء والصفات حتى مثلوا مايختص منهما بما يختص بالمخلوقين. قاله ابنه الشيخ محمود عفيفي ].
أم عقل من قالوا بوحدة الوجود؟! ..إلخ.

ولقدأحسن العلامة أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رضي الله عنه إذ يقول: "ثم المخالفون للكتاب والسنة، وسلف الأمة من المتأولين لهذا الباب في أمر مريج.
فإن من ينكر الرؤية بزعم أن العقل يحيلها، وأنه مضطر فيها إلى التأويل، ومن يجهل أن لله علماً وقدرة، وأن يكون كلامه غير مخلوق ونحو ذلك يقول: إن العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأ ول، بل من ينكر حقيقة حشر الأجساد، والأكل والشرب الحقيقيين في الجنة، يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل، ومن يزعم أن الله ليس فوق العرش بزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل.
ويكفيك دليلاً على فساد قول هؤلاء أنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل، بل منهم من يزعم أن العقل جوَّز وأوجبَ مايدعي الآخر أن العقل أحاله.
فياليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة، فرضي الله عن الإمام مالك بن أنس حيث قال: أوكلما جاء رجل أجدل من رجل تركنا ماجاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء" انتهى.
[مجموع الفتاوى (5/28،29].
هذا وإن فريقاً ممن قدَّسوا عقولهم، وخدعتهم أنفسهم، واتهموا سنة نبيهم قد أنكروا رفع الله نبيه عيسى بن مريم عليه السلام إلى السماء حيَّاً بدنًاً ورُوحاً، ونزوله أخر الزمان حَكماً عدلًا، لا لشيء سوى اتباع ما تشابه من الآيات دون ردِّها إلى المُحْكم منها، واتباعاً لما ظنوه دليلًا عقلياً وماهو إلا وهمُ خيالٍ.
وردُّوا ماثبت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم نزولًا على ما أصلُّوه من عند أنفسهم من أن العقائد لا يستدل عليها بأحاديث الآحاد، واتهاماً لبعض الصحابة ومن إليهم فيما نقلوا من الأحاديث، وفي ذلك جُرأة منهم على الثقات الأمناء من أهل العلم والعرفان دون حُجة أو برهان.
وتطاولوا على علماء الحديث وتناولوا رجال الجرح والتعديل بألسنة حداد جهلًا منهم بما قدموه من خدمة للدين وحفظ الأصل الثاني من أصول الإسلام - وهو السنة النبوية -، وعجزاً منهم عن أن يبخسوا مادوَّنوه أولئك الأئمة الأخيار من كتبٍ في قواعد علوم الحديث ودواوين في تاريخ رواة الحديث، وبيان درجاتهم، ومراتبهم في الرواية، وطبقاتهم ومواليدهم ووفياتهم، ولقاء بعضهم بعضاً أو سماعه تمييزاً لمن تُقبل روايه ممن تُردُّ روايته، ومايُقبل من الأحاديث ومايُرد، وذباً عن السنة النبوية وحفاظاً عليها.
تم ولله الحمد والمنة.