عماد فراج الغالي في تكفير أهل السنة إنما هو ثمرة من ثمار فتنة الحدادية وتأصيلاتهم الباطلة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد:
فقد وقفتُ على مقال لمن يسمى بـ"عماد فراج" المصري، بعنوان " إجابة على تساؤلات ورد على افتراءات".
ثم قال: "أنا لا أعرف ابن تيمية". ثم كتب مقدمة عليه، فيها مآخذ، ثم قال: "وأنا فقد سألني غير واحد: هل صحيح أنك تكفر ابن تيمية؟ فأقول: اقرأوا أقواله، وما كتبته عنه، كـ: 1- تبديع ابن تيمية 2- ابن تيمية ليس نبي السلفية".
أقول: إن الإمام ابن تيمية لسيف مسلول على البدع وأهلها. فكيف تبدعه أيها الضال الحقود على السنة وأهلها؟

ومن ادعى لشيخ الإسلام ابن تيمية النبوة حتى تقول هذا الكلام؟
أتريد أن توهم الجهلاء من أمثالك أن السلفيين يدّعون النبوة لابن تيمية؟
وأقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى قد قال: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة)).
فأخبرنا من هي هذه الطائفة التي ينطبق عليها هذا الحديث من عهد ابن تيمية –رحمه الله- إلى يومنا هذا إن كنت تؤمن بالحديث النبوي وما يؤيده. وأعتقد اعتقاداً جازماً أنك ستعجز عن تعيين هذه الطائفة، أما أهل السنة الذين تكفرهم فإنهم يعتقدون أن شيخ الإسلام ابن تيمية الذي تكفره ومن سار على نهجه إلى يومنا هذا هم الطائفة المنصورة الذين ينطبق عليهم الحديث، وأنه لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة.
ثم قال: "3- عقيدة ابن تيمية (الجزء الأول) 4- عقيدة ابن تيمية (الجزء الثاني) 5- عقيدة ابن تيمية (الجزء الثالث)".
أقول: إن شيخ الإسلام لحامل لواء التوحيد والسنة، وحامل لواء الحرب على الشركيات والبدع والضلالات، وعلى أهلها، وجهاده العظيم طول حياته، ومؤلفاته الكثيرة والعظيمة في ميادين التوحيد والسنة تشهد له بذلك أعظم الشهادات، وأهل السنة والتوحيد يشهدون له بذلك، وهم شهداء الله في أرضه. وأنت أيها الجهول الكذوب تُكفِّره وتُكفِّر من يسير على نهجه الصحيح، فلقد جمعتَ بين منهجي الروافض والخوارج في حرب أهل التوحيد والسنة؛ ولا سيما شيخ الإسلام ابن تيمية، تحاربهم أشد الحرب بالفجور والكذب، فأنت من أفجر من يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا.
قال عماد الجهول الكذوب: "6- حقيقة موقف ابن تيمية من ابن مخلوف".
أقول: حقيقة موقف ابن تيمية من ابن مخلوف ما يأتي:
قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (3/235): "وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ الطيبرسي الْقُضَاةَ وَأَجْمَلَهُمْ: قُلْت لَهُ إنَّمَا دَخَلَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ " ابْنُ مَخْلُوفٍ " وَذَاكَ رَجُلٌ كَذَّابٌ فَاجِرٌ قَلِيلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، فَجَعَلَ يَتَبَسَّمُ لَمَّا جَعَلْت أَقُولُ هَذَا كَأَنَّهُ يَعْرِفُهُ وَكَأَنَّهُ مَشْهُورٌ بِقُبْحِ السِّيرَةِ ".
وقال في (ص236): "وَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ وَالْحَاكِمُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ وَلَا التَّقْوَى فِيهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْكَلَامُ فِيهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ حَاكِمًا. وَابْنُ مَخْلُوفٍ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ وَلَا التَّقْوَى فِيهِ ".
أقول: هذا طعن شيخ الإسلام في ابن مخلوف، فماذا تريد منه؟ ولا يبعد أنك أجهل وأكذب من ابن مخلوف، وأبعد عن التقوى منه.
وقال الجهول الظلوم: "7- القول الذي ابتدعه ابن تيمية بأن أحمد لم يُكفِّر الجهمية".
أقول: إن قولك هذا في شيخ الإسلام لمن أعظم الكذب. فشيخ الإسلام لم يقل عن الإمام أحمد إنه لا يُكفِّر الجهمية بهذا الإطلاق، وإنما ينقل عنه أنه يُفرِّق بين علماء الجهمية فإنه يكفرهم، وبين جهالهم فلا يكفرهم. وهذا كلام الإمام أحمد–رحمه الله- في جهال الجهمية.
1- قال الحافظ ابن الجوزي –رحمه الله- في "مناقب الإمام أحمد" (ص465-468): "أخبرنا محمد بن أبي منصور، قال: أخبرنا عبد القادر بن محمد، قال: أخبرنا أبو إسحاق البَرْمَكي، قال: أخبرنا علي بن مَرْدَك، قال: حدثنا ابن أبي حاتم، قال: قال صالح بن أحمد: سمعتُ أبي يقول: لقد جَعلتُ الميّتَ في حِلٌّ من ضَربه إياي، ثم قال: مررتُ بهذه الآية: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)، فنظرت في تفسيرها فإذا هو ما أخبرنا هاشم ابن القاسم، قال: أخبرنا المبارك بن فَضَالة، قال: أخبرني مَن سمع الحسن يقول إذا كانَ يوم القيامة جَثت الأمم كلّها بين يدي الله عزَّ وجلَّ ثم نُودي أن لا يقوم لا من أجره على الله عزّ وجلّ، قال: فَلا يقوم إلا من عَفا في الدنيا. قال أبي: فجعلتُ الميّتَ في حلٌّ من ضَربه إياي، وجَعل يقول: وما عَلى رجل أن لا يعذِّبَ اللهُ بسببه أحداً؟ قال ابن أبي حاتم: وحدثنا أحمد بن سنان، قال: بلغني أن أحمد بن حنبل جعل المعتصم في حل في يوم فَتح [عاصمة] بابك، أو في يوم فتح عَموريّة، فقال: هو في حل من ضربي أخبرنا محمد بن أبي منصور، قال: أخبرنا عبد القادر بن محمد، قال: أخبرنا إبراهيم بن عمر، قال: أخبرنا عبيد الله بن عبد الرحمن، قال: حدثنا أبو عبد الله الحسن بن عبد الله ابن سقلاب، قال: حدثني عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: قال لي أبي: وَجَّه إليّ الواثق أن أجعل المعتصم في حِل من ضَربه إياي، فقلت: ما خرجتُ من داره حتى جعلته في حل، وذكرتُ قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يَقومُ يَوم القيامةِ إلا مَنْ عَفا" فعفوتُ عنه. أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن علي الخياط، قال: أخبرنا محمد بن أبي الفوارس، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر بن سَلْم، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن عبد الخالق، حدثنا أبو بكر المرُّوذي، قال: قال لي أبو عبد الله: قد سألني إسحاق بن إبراهيم أن أجعل أبا إسحاق([1]) في حل، فقلت له: قد كنتُ جعلته في حل، ثم قال أبو عبد الله: تفكرتُ في الحديث: "إذا كان يوم القيامة نادى مُنادٍ: لا يقم إلا من عفا". وذكرتُ قول الشَّعْبي: إن تعف عنه مَرة يكن لك من الأجر مَرَّتين. أخبرنا عبد الملك بن أبي القاسم، قال: أخبرنا عبد الله بن محمد الأنصاري، قال: حدثنا محمد بن أحمد الجارودي، قال: حدثنا الحسين بن علي بن جعفر، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أبو علي الحسين بن عبد الله الخِرَقِي- وقد رأى أحمد بن حنبل -قال: بت مع أحمد بن حنبل ليلةً؛ فلم أره ينام إلا يَبكي إلى أن أصبح، فقلت: أبا عبد الله، كثر بُكاؤك الليلة، فما السبب فقال لي: ذكرتُ ضرب المعتصم إياي ومرَّ بي في الدَّرس: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، فسجدت وأحللته من ضربي في السجود. أنبأنا محمد بن ناصر، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا عُبيد الله بن عمر ابن شاهين، قال: حدثني أبي، قال: سمعت عثمان بن عَبْدُويَه، يقول: سمعتُ إبراهيم الحربي، يقول: أحلَّ أحمد بن حنبل من حَضر ضربَه وكلَّ من شايع فيه والمعتصم، وقال: لولا أن ابن أبي دُؤاد داعية لأحللته. قال عمر بن شاهين: وحدثنا أحمد بن خالد المُكْتِب، قال: سمعت أبا العباس بن واصل المقرئ يقول: قال لي فُوران: وجَّه إليّ أبو عبد الله أحمد بن حنبل في اللّيل فدعاني، فقال لي: كيف أخبرتني عن فَضْل الأنماطي قال: قلت: يا أبا عبد الله، قال لي فَضل: لا أجعل في حل من أمرَ بضربي حتى أقول: القرآن مخلوق، ولا من تولي الضرب، ولا من سَرَّه ممن حضر وغابَ من الجهميَّة، فقال لي أحمد بن حنبل: لكني جعلتُ المعتصم في حل ومن تَولّى ضربي ومن غابَ ومن حضر، وقلت: لا يُعذب فيَّ أحد. وذكرتُ حديثين يُرويان عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله عزَّ وجلَّ ينشئُ قصوراً، فيرفع الناسُ رءوسهم، فيقولون: لمن هذه القصور ما أحسنها؟ فيقال: لمن أعطى ثمنها، قيل: وما ثمنها؟ قال: من عَفا عن أخيه المسلم" و"يأمر الله عز وجل بعقد لواءٍ فينادي منادٍ: ليقم تَحتَ هذا اللواء إلى الجَنة من له عند الله عَهد. فقال: بيِّن بيِّن من هو؟ قال: مَن عَفا عن أخيه المسلم". أخبرنا محمد بن أبي منصور، قال: أخبرنا محمد بن عبد الملك بن عبد القاهر، قال: أنبأنا عُبيد الله بن أحمد بن عثمان الصَّيرفي، قال: أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد، أن أبا عَمرو بن السمّاك أخبرهم، قال: أخبرنا محمد بن سفيان بن هارون، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن صالح، قال: سمعتُ عمي عبد الله بن أحمد، يقول: قرأت على أبي روح عن أشعث عن الحسن: "إن لله عز وجل باباً في الجنة لا يدخله إلا من عَفا عن مَظْلَمة". فقال لي: يا بُني، ما خرجتُ من دار أبي إسحاق حتى أحللته ومن معه إلا رجلين، ابن أبي دؤاد وعبد الرحمن بن إسحاق فإنهما طلبا دمي، وأنا أهونُ على الله عز وجل من أن يعذب فيَّ أحداً، أشهدك أنهما في حِل" ا.هـ.
2- وقال الخلال في "السنة" (1/133-134): "90 - وأخبرني علي بن عيسى قال سمعت حنبل يقول: في ولاية الواثق اجتمع فقهاء بغداد إلى أبي عبدالله أبو بكر بن عبيد وإبراهيم بن علي المطبخي وفضل بن عاصم فجاؤوا إلى أبي عبدالله فاستأذنت لهم فقالوا يا أبا عبدالله هذا الأمر قد تفاقم وفشا يعنون إظهاره لخلق القرآن وغير ذلك فقال لهم أبو عبدالله فما تريدون قالوا أن نشاورك في أنا لسنا نرضى بإمرته ولا سلطانه فناظرهم أبو عبدالله ساعة وقال لهم عليكم بالنكرة بقلوبكم ولا تخلعوا يدا من طاعة ولا تشقوا عصا المسلمين ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم انظروا في عاقبة أمركم واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر ودار في ذلك كلام كثير لم أحفظه ومضوا ودخلت أنا وأبي على أبي عبدالله بعدما مضوا فقال أبي لأبي عبدالله نسأل الله السلامة لنا ولأمة محمد وما أحب لأحد أن يفعل هذا وقال أبي يا أبا عبدالله هذا عندك صواب قال لا هذا خلاف الآثار التي أمرنا فيها بالصبر ثم ذكر أبو عبدالله قال قال النبي إن ضربك فاصبر وإن وإن فاصبر فأمر بالصبر قال عبدالله بن مسعود وذكر كلاما لم أحفظه". أقول: تأمل هذا النص وقول هؤلاء العلماء. لقد تفاقم هذا الأمر وفَشا أي أمر الدعوة إلى خلق القرآن وظهور هذا الضلال. فهؤلاء العلماء يعتقدون أن القول بخلق القرآن كفر. والإمام أحمد يعتقد أن هذا القول كفر، وموقفه الصارم منه مشهور، لكنه مع ذلك لا يرى أن الخليفة الواثق كافر وكذا أمثاله ممن يعذرهم الإمام أحمد لجهلهم، ويرى أن هذا الخليفة مسلم لا يجوز خلعه، ولا الخروج عليه، ويرى أن المجتمع الذي فشا فيه القول بخلق القرآن مجتمع مسلم لا يجوز سفك دمائهم لجهلهم. ويرى الصبر على هذا البلاء والاقتصار على إنكاره بالقلوب حتى يأتي الفرج من الله، فسمع هؤلاء العلماء نصيحة الإمام أحمد وتقبّلوها، وحقق الله أمل الإمام أحمد وآمالهم بموت الواثق ومجيء الخليفة المتوكل الذي نصر الله به الحق والسنة، وكبح به جماح الجهمية الضلّال، وأطفأ الله فتنتهم، وأعلى راية السنة. ولو كان الإمام أحمد يعتقد كفر هذا الخليفة لشجع هؤلاء العلماء على الخروج بناء على قول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في وصيته بالصبر على جور الولاة حتى يروا كفراً بواحاً عندهم من الله برهان. وهذا النص وغيره من النصوص فيها براهين واضحة على أمانة وصدق شيخ الإسلام فيما ينقله عن الإمام أحمد من أنه يعذر من دان بالتجهم من الجهال، ويحكم بإسلامهم. وفي هذه النصوص إدانة للحدادية، -ومنهم عماد فراج- بمروقهم عن منهج السلف أهل السنة والجماعة، لا سيما وهم يكفرون من يعذر بالجهل، فحكمهم هذا يدخل فيه السلف الصالح دخولاً أولياً، فليعتبر أولوا الأبصار بما في هذا الأصل من الدمار.
3- وقال الحافظ ابن رجب –رحمه الله- في "ذيل طبقات الحنابلة" (2/155-156) ناقلاً عن ابن قدامة-رحمه الله- قوله: "قال أبو نصر السجْزِي: اختلف القائلون بتكفير القائل بخلق القرآن. قال بعضهم: كفر ينقل عن الملة. وقال بعضهم: كفر لا ينقل عن الملة([2]). ثم إن الإِمام أحمد - الذي هو أشد الناس على أهل البدع - قد كان يقول للمعتصم: يا أمير المؤمنين، ويرى طاعة الخلفاء الداعين إلى القول بخلق القرآن، وصلاة الجمع والأعياد خلفهم ولو سمع الإمام أحمد من يقول هذا القول، الذي لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد قبله([3]): لأنكره أشد الإنكار. فقد كان ينكر أقل من هذا". أقول: لقد افترى عماد على شيخ الإسلام فرية عظيمة حيث اتهمه في النقل عن الإمام أحمد، فما رأي هذا الجهول في الإمام أحمد ومن تداول مواقفه من هؤلاء العلماء، ومنهم عبد الله بن أحمد والسجزي وابن قدامة وابن رجب. هذه الفرية من عماد يدحضها هذه المواقف من الإمام أحمد القائمة على العذر بالجهل؛ القائم على الأدلة من الكتاب والسنة، ذلك الأصل الذي يُبدع ويكفر الحدادية من يقول به، فأئمة الإسلام ومنهم الإمام أحمد والإمام الشافعي وغيرهم عندهم كفار؛ لأنهم يعذرون بالجهل في منهج الحدادية التكفيري. ومن أدلة شيخ الإسلام على العذر بالجهل الحديث الصحيح في الرجل الذي شكَّ في قدرة الله على إحيائه. قال -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (3/231): "وَالتَّكْفِيرُ هُوَ مِنْ الْوَعِيدِ. فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ تَكْذِيبًا لِمَا قَالَهُ الرَّسُولُ، لَكِنْ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِإِسْلَامِ أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةِ بَعِيدَةٍ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكْفُرُ بِجَحْدِ مَا يَجْحَدُهُ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ. وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ لَا يَسْمَعُ تِلْكَ النُّصُوصَ أَوْ سَمِعَهَا وَلَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ أَوْ عَارَضَهَا عِنْدَهُ مُعَارِضٌ آخَرُ أَوْجَبَ تَأْوِيلَهَا، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا، وَكُنْت دَائِمًا أَذْكُرُ الْحَدِيثَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي الرَّجُلِ الَّذِي قَالَ: " { إذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ ذروني فِي الْيَمِّ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ، فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: مَا حَمَلَك عَلَى مَا فَعَلْت. قَالَ خَشْيَتُك: فَغَفَرَ لَهُ } ". فَهَذَا رَجُلٌ شَكَّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَفِي إعَادَتِهِ إذَا ذُرِّيَ، بَلْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا يُعَادُ، وَهَذَا كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنْ كَانَ جَاهِلًا لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ وَكَانَ مُؤْمِنًا يَخَافُ اللَّهَ أَنْ يُعَاقِبَهُ فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ. وَالْمُتَأَوِّلُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ الْحَرِيصُ عَلَى مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ أَوْلَى بِالْمَغْفِرَةِ مِنْ مِثْلِ هَذَا". انظر إلى قول شيخ الإسلام: " فَهَذَا رَجُلٌ شَكَّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَفِي إعَادَتِهِ إذَا ذُرِّيَ، بَلْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا يُعَادُ، وَهَذَا كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنْ كَانَ جَاهِلًا لَا يَعْلَمُ..."الخ. فهذا الرجل ارتكب كفراً واضحاً بإجماع المسلمين، لكن الله عذره لجهله، فغفر له ما ارتكبه من كفر من أجل هذا الجهل. وهذا النص وما جرى مجراه لا يُسلِّم بها عماد الحدادي التكفيري وكذا الحدادية التكفيريون، ويحاربون من يؤمن بها ويُسلِّم بمقتضاها في أهل الجهل من ضُلّال المسلمين، الذين يشهدون أن "لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"، ويؤمنون بالرسل والكتب والجنة والنار...الخ. ولكن يقعون بجهلهم في بعض الكفريات تقليداً لعلماء الضلال الذين يقررون ذلك الكفر أو الشرك، ويحرفون له النصوص القرآنية والنبوي([4])، ويأخذون بالأقوال الكفرية والأحاديث المكذوبة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-في تزيين الضلال. فعلماء السوء والضلال الذين يقررون الكفر أو الشرك كفار، لا يشك في كفرهم. وكذا لا يشك في كفر غير الجهال. وأما المخدوعون بهم من الجهلاء إذا وقعوا في شرك أو كفر فإنه يبين لهم بالأدلة والبراهين أن هذا القول أو العمل شرك، وهذا كفر، فإن تابوا منه فالحمد لله، وإن أصروا على هذا الكفر أو ذاك الشرك فحينئذ يحكم بكفرهم؛ لأنهم قامت عليهم الحجة الشرعية.
وفي هذا الموضوع أدلة من القرآن والسنة.
1- منها قول الله تعالى: (رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا). فالله لحكمته وعدله إنما يبعث الرسل لإقامة الحجة على الناس.
2- وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ) [سورة محمد: 25]. فما حكم الله عليهم بالردة إلا لأنهم أطاعوا الكفار من بعد ما تبين لهم الهدى.
3- وقال تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) [سورة النساء: (115)]. فرتب الله على عمل المشاق للرسول الخلود في النار؛ لأنه وقع منه المشاقة للرسول واتباع غير سبيل المؤمنين بعد ما تبين له الهدى، والمفهوم من الآية أن هذا الذم وهذا الوعيد لا يتناولان الجاهل الذي لم يتبين له الهدى، وأن مخالفته لا تعتبر مشاقة للرسول –صلى الله عليه وسلم-. وإذن فهذه النصوص من القرآن فيها دلالة أنه لا يكفر إلا من عرف الحق فعانده واختار الكفر، وفيها دلالة واضحة على أن الله يعذر بالجهل. ومن السنة الحديث الذي احتج به شيخ الإسلام وهو في غاية الوضوح في إعذار الجاهل. ومن السنة حديث الأسود بن سريع وأبي هريرة، رواهما الإمام أحمد في "مسنده" (4/24). قال –رحمه الله-: "حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: أَرْبَعَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا وَرَجُلٌ أَحْمَقُ وَرَجُلٌ هَرَمٌ وَرَجُلٌ مَاتَ فِي فَتْرَةٍ فَأَمَّا الْأَصَمُّ فَيَقُولُ رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئًا وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَيَقُولُ رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونِي بِالْبَعْرِ وَأَمَّا الْهَرَمُ فَيَقُولُ رَبِّي لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَعْقِلُ شَيْئًا وَأَمَّا الَّذِي مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ فَيَقُولُ رَبِّ مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْ ادْخُلُوا النَّارَ قَالَ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا. حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَ هَذَا، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ: فَمَنْ دَخَلَهَا كَانَتْ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا يُسْحَبُ إِلَيْهَا". فهؤلاء الأصناف الأربعة يعتذرون إلى الله يوم القيامة بجهلهم بالإسلام، فيمتحنهم في الآخرة بدخول النار، فمن جد في دخولها فدخلها كانت عليه برداً وسلاما، ومن لم يدخلها فقد عصى الله، فيسحب إليها. وفي الباب أحاديث أخر عن أبي سعيد الخدري ومعاذ بن جبل وأنس بن مالك وثوبان –رضي الله عنهم-. وفي حديث أنس: "فيقول الرب تعالى: قد عاندتموني وعصيتموني فأنتم لرسلي أشد تكذيباً ومعصية". قال هذا القول لمن عصاه فلم يدخل النار. وقال الإمام أحمد في "مسنده" (2/178): " حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَالنَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْقَدَرِ، قَالَ: وَكَأَنَّمَا تَفَقَّأَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ مِنْ الْغَضَبِ قَالَ فَقَالَ لَهُمْ مَا لَكُمْ تَضْرِبُونَ كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ بِهَذَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَالَ فَمَا غَبَطْتُ نَفْسِي بِمَجْلِسٍ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ أَشْهَدْهُ بِمَا غَبَطْتُ نَفْسِي بِذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَنِّي لَمْ أَشْهَدْهُ". وأخرج الحديث عبد الرزاق في "المصنف" (11/216-217)، والبخاري في "خلق أفعال العباد" برقم (230)، وابن ماجه في "السنن" برقم (85)، بلفظ: "خرج رسول الله –صلى الله عليه سلم- على أصحابه وهم يختصمون في القدر...الحديث. ورواه أئمة آخرون. فهذه الخصومة التي وقعت من هؤلاء الصحب الكرام –رضي الله عنهم- قبل أن يعلموا أن هذه الخصومة والخلاف من أسباب هلاك من كان قبلهم، وقبل أن يعلموا أن هذا مما يغضب رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، ولم يحكم عليهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بالهلاك ولا بغيره، لأنهم معذورون. ولا يشك مسلم في توبة هؤلاء الصحابة الكرام التوبة النصوح، وأنهم داخلون في قول الله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). ومن مواقف الصحابة في هذا الباب ما رواه الطحاوي عنهم في كتابه "شرح معاني الآثار" (3/45-46 رقم 4798): قال –رحمه الله-: "حدثنا فهد قال ثنا محمد بن سعيد الأصبهاني قال أخبرنا محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال: شرب نفر من أهل الشام الخمر وعليهم يومئذ يزيد بن أبي سفيان وقالوا: هي حلال وتأولوا: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا...) الآية، فكتب فيهم إلى عمر، فكتب عمر أن أبعث بهم إلي قبل أن يفسدوا من قبلك، فلما قدموا على عمر استشار فيهم الناس، فقالوا: يا أمير المؤمنين نرى أنهم قد كذبوا على الله وشرعوا في دينهم ما لم يأذن به الله فاضرب أعناقهم، وعلي ساكت، فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ قال: أرى أن تستتيبهم، فإن تابوا ضربتهم ثمانين ثمانين لشربهم الخمر، وإن لم يتوبوا ضربت أعناقهم فإنهم قد كذبوا على الله وشرعوا في دينهم ما لم يأذن به الله، فاستتابهم فتابوا، فضربهم ثمانين ثمانين". ورواه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" (9/343) رقم (28878). أقول: فهؤلاء القوم استحلوا شرب الخمر متأولين للآية المذكورة، فلم يبادر عمر والصحابة –رضي الله عنهم- إلى تكفيرهم بهذا الاستحلال، بل تأنوا ورأوا استتابتهم، فإن تابوا أقاموا عليهم الحد ثمانين ثمانين، وإن أصروا على استحلال الخمر قُتلوا مرتدين؛ لأنهم قامت عليهم الحجة.
أقوال أئمة السنة في العذر بالجهل:
1- الإمام الشافعي –رحمه الله-. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (13/407): "وأخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى سمعت الشافعي يقول لله أسماء وصفات لا يسع أحدًا ردها ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية والفكر فنُثبت هذه الصفات ونَنفي عنها التشبيه كما نفى عن نفسه فقال: "ليس كمثله شيء"". ونقل هذا النص الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (10/79-80) وفيه بعض الزيادات. وقال الإمام البغوي –رحمه الله- في "شرح السنة" (1/228): " وأجاز الشافعي شهادة أهل البدع، والصلاة خلفهم مع الكراهية على الإطلاق، فهذا القول منه دليل على أنه إن أطلق على بعضهم اسم الكفر في موضع أراد به كفرا دون كفر، كما قال الله تعالى: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )" [ المائدة: 44 ].
2- مواقف الإمام أحمد من المعتصم وغيره ممن ظلمه في المحنة بخلق القرآن. تقدّم إيراد مواقفه (ص4) وما بعدها من هذا الرد.
3- وقال الإمام البخاري –رحمه الله- في "خلق أفعال العباد" (ص526): "نَظَرْتُ فِي كَلامِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ فَمَا رَأَيْتُ قوماً أَضَلَّ فِي كُفْرِهِمْ مِنْهُمْ، وَإِنِّي لأَسْتَجْهِلُ مَنْ لا يُكَفِّرُهُمْ إِلا مَنْ لا يَعْرِفُ كُفْرَهُمْ". فالإمام البخاري مع شدته في تكفير الجهمية لم يبدع من لم يكفر الجهمية من أهل العلم، وإنما استجهلهم واستثنى من لا يعرف كفرهم، فلم يطعن فيهم، ولم يبدعهم، بل عذرهم بسبب جهلهم.. وقال –رحمه الله- في (ص627): "وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ -عز وجل- بِكَلامِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ , فَإِنَّهُ يُعَلَّم، وَيُرَدُّ جَهْلُهُ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَنْ أَبَى بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ كَانَ مُعَانِدًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) [سورة التوبة: آية 115]، وَلِقَوْلِهِ: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [سورة النساء: آية 115]". ففي هذا الكلام أن الإمام البخاري –رحمه الله- يعذر بالجهل وأنه لا يُكفر الجاهل إلا بعد أن يُعلَّم بنصوص الكتاب والسنة وأنه إن أبى وعاند وأصرَّ على هذا الاعتقاد الكفري فحينئذ يُكفر لأنه أُقيمت عليه الحجة، ولقد ساق الآيتين الكريمتين لبيان أنهما تضمنتا الإعذار بالجهل، وهذا التقرير العلمي الصحيح من هذا الإمام لا يقبله هذا الجهول المتهور ولا إخوانه الحدادية الجهلاء.
4- قال الإمام اللالكائي –رحمه الله- في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (1/176): "اعتقاد أبي زرعة عبيد الله بن عبد الكريم وأبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر الرازيين وجماعة من السلف ممن نقل عنهم -رحمهم الله-". ثم ساق اعتقاد هذين الإمامين ومن ذُكر معهم من جماعة السلف إلى (ص178). ثم قال اللالكائي في (1/178-179) ناقلاً عنهم: " ومن زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم كفرا ينقل عن الملة، ومن شك في كفره ممن يفهم فهو كافر، ومن شك في كلام الله عز وجل فوقف شاكاً فيه يقول: لا أدري مخلوق أو غير مخلوق فهو جهمي، ومن وقف في القرآن جاهلا علم وبدع ولم يكفر. ومن قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي أو القرآن بلفظي مخلوق فهو جهمي". انظر إلى تفريق هؤلاء الأئمة بين العالم وبين الجاهل، فكفّروا من يعلم ومن لم يُكفره ممن يفهم، ثم قالوا: " ومن وقف في القرآن جاهلا عُلِّم وبُدِّع ولم يُكفَّر". فما رأي عماد فراج والحدادية في هؤلاء الأئمة الذين يعذرون بالجهل فلم يُكفِّروا من يجهل أن القرآن كلام الله غير مخلوق؟! 4- وقال الإمام الحافظ قوام السنة أبو القاسم إسماعيل بن محمد في كتابه "الحجة في بيان المحجة" (2/511): " ومن تعمد خلاف أصل من هذه الأصول وكان جاهلاً لم يقصد إليه من طريق العناد فإنه لا يكفر، لأنه لم يقصد اختيار الكفر ولا رضي به وقد بلغ جهده فلم يقع له غير ذلك، وقد أعلم الله سبحانه أنه لا يؤاخذ إلا بعد البيان، ولا يعاقب إلا بعد الإنذار فقال تعالى: ( وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم ) فكل من هداه الله عز وجل ودخل في عقد الإسلام فإنه لا يخرج إلى الكفر إلا بعد البيان". أ‌- مراده بالأصول الكتاب والسنة والإجماع التي يقطع بها العذر. وقد ذكر قبل هذا النص تكفير من تعمّد مخالفة واحد منها. ب‌- فانظر إلى هذا الإمام كيف يعذر بالجهل، مستدلاً بالآية الكريمة وأن المسلم لا يخرج من الإسلام إلا بعد البيان، يريد إقامة الحجة عليه. 5- وقال الإمام ابن قدامة –رحمه الله- في كتابه "المغني" (12/276-277): " فصل: ومن اعتقد حل شيء أجمع على تحريمه وظهر حكمه بين المسلمين وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة فيه كلحم الخنزير والزنا وأشباه هذا مما لا خلاف فيه كفر لما ذكرنا في تارك الصلاة، وإن استحل قتل المعصومين وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل فكذلك، وإن كان بتأويل كالخوارج فقد ذكرنا أن أكثر الفقهاء لم يحكموا بكفرهم مع استحلالهم دماء المسلمين وأموالهم وفعلهم لذلك متقربين به إلى الله تعالى. وكذلك لم يحكم بكفر ابن ملجم مع قتله أفضل الخلق في زمنه متقربا بذلك، ولا بكفر المادح له على هذا المتمني مثل فعله فإن عمران بن حطان قال فيه يمدحه لقتل علي: ( يا ضربة من تقي ما أراد بها... الا ليبلغ عند الله رضوانا ) ( إني لأذكره يوما فأحسبه... أوفى البرية عند الله ميزانا ) وقد عُرف من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة ومن بعدهم واستحلال دمائهم وأموالهم واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى ربهم ومع هذا لم يحكم الفقهاء بكفرهم لتأويلهم وكذلك يخرج في كل محرم استحل بتأويل مثل هذا وقد روي أن قدامة بن مظعون شرب الخمر مستحلا لها فأقام عمر عليه الحد ولم يكفره وكذلك أبو جندل بن سهيل وجماعة معه شربوا الخمر بالشام مستحلين لها مستدلين بقول الله تعالى: ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ) الآية فلم يكفروا وعرفوا تحريمها فتابوا وأقيم عليهم الحد فيخرج فيمن كان مثلهم مثل حكمهم وكذلك كل جاهل بشيء يمكن أن يجهله لا يحكم بكفره حتى يعرف ذلك وتزول عنه الشبهة ويستحله بعد ذلك". أقول: وعلي –رضي الله عنه- لم يُكفِّر الخوارج مع أنهم خرجوا عليه، وكفروه وغيره من الصحابة وغيرهم. قال ابن الوزير في (إيثار الحق على الخلق) (ص393-395) خلال كلامه في العفو عن الخطأ: "الوجه الثالث: أنها قد تكاثرت الآيات والأحاديث في العفو عن الخطأ والظاهر أن أهل التأويل أخطأوا ولا سبيل إلى العلم بتعمدهم لأنه من علم الباطن الذي لا يعلمه إلا الله تعالى قال الله تعالى في خطاب أهل الاسلام خاصة: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) وقال تعالى: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) وصح في تفسيرها أن الله تعالى قال: قد فعلت في حديثين صحيحين، أحدهما عن ابن عباس والآخر عن أبي هريرة وقال تعالى: (ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) فقيد ذمهم بعلمهم وقال في قتل المؤمن مع التغليط العظيم فيه: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) فقيد الوعيد فيه بالتعمد وقال في الصيد (ومن قتله منكم متعمدا) وجاءت الأحاديث الكثيرة بهذا المعنى كحديث سعد وأبي ذر وأبي بكرة متفق على صحتها فيمن ادعى أبا غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فشرط العلم في الوعيد ومن أوضحها حجة حديث الذي أوصى لإسرافه أن يحرق ثم يذري في يوم شديد الرياح نصفه في البر ونصفه في البحر حتي لا يقدر الله عليه ثم يعذبه ثم أدركته الرحمة لخوفه، وهو حديث متفق على صحته عن جماعة من الصحابة منهم حذيفة وأبو سعيد وأبو هريرة بل رواته منهم قد بلغوا عدد التواتر كما في جامع الاصول ومجمع الزوائد وفي حديث حذيفة أنه كان نباشا وإنما أدركته الرحمة لجهله وإيمانه بالله والمعاد لذلك خاف العقاب، وأما جهله بقدرة الله تعالى على ما ظنه محالا فلا يكون كفرا إلا لو علم أن الأنبياء جاؤا بذلك وأنه ممكن مقدور ثم كذبهم أو أحدا منهم لقوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وهذا أرجى حديث لأهل الخطأ في التأويل ويعضد ما تقدم بأحاديث أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء وهي ثلاثة أحاديث صحاح ولهذا قال جماعة جلة من علماء الاسلام أنه لا يكفر المسلم بما يندر منه من ألفاظ الكفر إلا ان يعلم المتلفظ بها أنها كفر..... ومما يقوي العفو عن أهل الخطأ أنه قد يكون في الأدلة ومقدماتها ولذلك كان المشهور في القتلى في فتن الصحابة سقوط القصاص كما هو المشهور في سيرة على عليه السلام كما تقدم وروي الشافعي عن الزهري أنه قال أدركت الفتنة الأولى في أصحاب رسول الله وآله وكانت فيها دماء وأموال فلم يقتص فيها من دم ولا مال ولا قدح أصيب بوجه التأويل إلا أن يوجد مال رجل بعينه فيدفع إلى صاحبه. قال ابن كثير في إرشاده وهو ثابت عن الزهري وهو عام في أهل العدل والبغي وإن واحدا من الفريقين لا يضمن للآخر شيئا وهو الذي صححه الشيخ أبو إسحاق من قولي الشافعي فدل على دخول الخطأ في أفعال القلوب كأفعال الخوارج كما هو واضح في قوله تعالى: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) وكذلك قوله تعالى في سورة النحل: (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) فقوله في هذه الآية الكريمة: (ولكن من شرح بالكفر صدرا) يؤيد أن المتأولين غير كفار لأن صدورهم لم تنشرح بالكفر قطعا أو ظنا أو تجويزا أو احتمالا. وقد يشهد لهم بذلك كلام أمير المؤمنين عليه السلام وهو الصادق المصدوق في المشهور عنه حيث سئل عن كفر الخوارج فقال: من الكفر فروا، فكذلك جميع أهل التأويل من أهل الملة وإن وقعوا في أفحش البدع والجهل فقد علم منهم أن حالهم في ذلك هي حال الخوارج".
1- تأمل قول ابن الوزير: "الوجه الثالث أنها قد تكاثرت الآيات والأحاديث في العفو عن الخطأ"إلخ، واستدلاله مرة أخرى بالآيتين، والأحاديث بعدهما. 2- وانظر إلى قوله: "فشرط العلم في الوعيد"، يشير إلى العذر بالجهل.
3- وانظر إلى قوله: " ومن أوضحها حجةً حديث الذي أوصى لإسرافه أن يحرق ويذرى في يومٍ شديد الرياح نصفه في البر ونصفه في البحر -إلى قوله-: "ثم أدركته الرحمة لخوفه، وإن رواة هذا الحديث بلغوا حد التواتر، وانظر إلى قوله: وهذا أرجى حديث لأهل التأويل.
4- وتأمل بقية استدلالاته وسوقه لكلام العلماء في العفو عن أهل التأويل.
5- وانظر إلى قوله: "وقد يشهد لهم بذلك كلام أمير المؤمنين رضي الله عنه وهو الصادق المصدوق... إلى قوله: "هي حال الخوارج.
أقول الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ومواقف الصحابة ولا سيما الخليفة الراشد علي رضي الله عنه في عدم تكفير الخوارج الذين كفروه وكفروا الكثير من الصحابة والتابعين في عصره. وكذا مواقف علماء الأمة وأئمتهم في العذر بالجهل والخطأ في التأويل. كل هذا وذاك في واد وعماد وغلاة الحدَّادية في واد. فتراهم يكفرون أهل السنة؛ لأنهم يعذرون بالجهل. ألا يرى القارئ المنصف أن هذا الأصل الحدادي (تكفير من يعذر بالجهل) ينطبق على الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام وقد ينطبق على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو عمدة الصحابة فمن بعدهم.
فهؤلاء الغلاة شر من الخوارج لأنهم يزيدون عليهم بالكذب والحقد الشديد على أهل السنة والحق.

وكتبه/ ربيع بن هادي عمير المدخلي.
27/8/1436ه.
-------------------------------------------------------------------------------
[1] - يعني المعتصم.
[2] - لقد انقسم العلماء القائلون بكفر الجهمية، فبعضهم يرى أن كفرهم كفرٌ أكبر يخرج من الملة، وبعضهم يرى أنه كفرٌ أصغر لا ينقل عن الملة الإسلامية، ومع هذا لا يطعن بعضهم في بعض، ولا يضلل ولا يحارب بعضهم بعضا. والحداديون ومنهم عماد فراج لهم منهج آخر، يحارب هذا المنهج وأهله. قاتل الله الأهواء وأصحابها.
[3] - كذا، والصواب: "بعده".
[4] - انظر: كتاب النبهاني "شواهد الحق في جواز الاستغاثة بسيد الخلق" فإنه مليء بتحريف النصوص القرآنية ومليء بتقرير الشرك، ونحوه كتاب دحلان في تقرير الشرك.