بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا طيبا مباركا فيه والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وسلم :
أما بعد :
اعلم – رحمني الله وإياك – أيا القارئ الكريم أن العلماء اختلفوا في الرقى ووسائلها هل هي توقيفية لا يجوز الخروج بها عن حد المشروع الوارد عنه - صلى الله عليه وسلم - أم أن الأصل فيها الاجتهاد القائم على التجربة فيها، وفي وسائلها ما لم تخرج إلى المحظور .
وقبل بحث مسألة وتوضيح الرؤية فيها وتحريرها وبيان مأخذها ومخرجها أقول :
1 - اعلم –رحمني الله وإياك – أنني أتكلم عن الرقية الشرعية التي أذن فيها الشرع وتوفرت فيها الشروط التي اتفق عليها أهل العلم ، أما الرقى المنهي عنها والتي فيها شرك او معصية أو بدعة فالإجماع قائم - في الجملة - على المنع منها وتحريمها.
2 – لتحرير أي مسألة اختلف فيها العلماء ، لابد من ذكر أقوالهم وحججهم وتعليلاتهم في المسألة ، ثم دراسة الأدلة من حيث القوة والضعف والقبول والرد ، فإن تكافأت ولم تكن طائفة منها منسوخة يلجأ إلى الجمع فإن تعذر فإلى الترجيح ، ومسألتنا هذه ليست من المسائل التي تكافأت فيها الأدلة ،من حيث الورود ، وإن كانت من حيث المعنى متقاربة ، وإليك أدلة الفرقين المختلفين ووجه الدلالة عندهم والتعليل ، ثم الترجيح بينها .
أ – أدلة من قال بالتوقيف : استدل هؤلاء بأمور :
1 - النهي عن الرقى ، إلا من العين والحمى ..وجه الدلالة أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يأتي الدليل ، فقد أتى الدليل بالمنع .
2 – أن الرقى من الشرك بنص الحديث : (( إن الرقى والتمائم والتولة شرك )).ووجه الدليل واضح من الحديث حيث جعل الرقى من الشرك ،فليس من شك أن الاعتماد على الرقى كسبب مؤثر بنفسه شرك .
3 – كراهية بعض الصحابة للرقى إلا من العين والحمى ، بل بعضهم كرهها جميعا لحديث ابن عباس – رضي الله عنهما – (( لا يسترقون )) إذ هي تنافي التوكل أو كماله المانع من دخول الجنة بغير حسب .
4 - أن الرقية تعبدية والأصل في ذلك التوقيف حتى يرد الدليل ، وما لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم- الأصل رده ، ولذلك يتوقف فيها على نقل عن النبي صلى الله عليه وسل في باب الرقية وقد جاءت عنه رقى فلا يزاد عليها .
5-
أن في ذلك أموراً من الغيب لا يُدرى ما هي ، ولا يتوصل إليها بالعقل ، فالمنع مما لا يعرف في باب الرقى محل إجماع.
6- أن فتح الباب فيما لم يرد فيه دليل لا ينضبط، وهو مظنة دخول ما يحرم وما يكون شركاً. فسده من باب سد ذرائع الشرك .
أدلة القائلين بالاجتهاد: استدل هؤلاء بأمور منها :
1 - ما رواه مسلم عن جابر قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عن الرقى، فجاء آل عمرو بن حزم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقالوا:" يا رسول الله إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب، وإنك نهيت عن الرقى، قال: فعرضوها عليه، فقال: (( ما أرى بأساً، من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل))(مختصر مسلم(1452)، الصحيحة (473).ووجوه الدلالة من الحديث من وجوه:
أ - قوله: "من استطاع.." وهذا من صيغ العموم.
ب-خطاب لهم ، وإضافة للفاعل وهم الفاعل ، وقد ترجم له البخاري بقوله: " باب رقية النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال الحافظ في " الفتح " (10 / 207) : " ويؤخذ من هذا الحديث أن الإضافة في الترجمة للفاعل، والتوقيف لا يضاف فيه إلا للرسول صلى الله عليه وسلم .
ت- قوله: ((فعرضوها عليه)) ولو كانت مما شرع ابتداءً أي بالمنقول عنه لم يعرضوها عليه، إذ هي معلومة عنده، فلما عرضوها دل على أنها كانت منهم ولهم في الجاهلية قبل التشريع .
ث- قوله: (( كانت عندنا)) أي: في الجاهلية، كما هي ظاهر لا يخفى قبل ورود الشرع ، فلو كان شيئا ممنوعا لنهاهم عنه لمّا عرضوها عليه ؛ فلما صوبهم دل على مشروعية ذلك وقد جاء في بعض ألفظ رقاهم كلمات ليست في كتاب الله ولا في سنة رسوله .
ج - أن الرقية من باب العلاج والتداوي ، وهذا صنيع كثير من العلماء فقد بوبوا على أحاديث الرقية في كتاب الطب من كتبهم كصنيع البخاري وأبي داود والترمذي وعيرهم.
2-
وروى مسلم أيضاً عن عوف بن مالك الأشجعي، قال:" كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: (( اعرضوا عليّ رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك)).
ووجه الدلالة منه من ثلاثة وجوه أيضاً:
أ- قوله: ((كنا نرقي في الجاهلية))، هكذا بالفعل المضارع ، مما يدل أنهم استمروا في الرقية حتى بعد مجيء الإسلام ، ولم يمتنعوا عنها حتى بلغهم النهي ، فلما بلغهم جاءوا يستفسرون عن رقاهم التي كانوا يرقون بها فلما وجدها خالية من الشرك رخص وأذن لهم فيها وليس من شك أن رقيتهم لم يرد بها الشرع ، والإذن فيها إذن لكل ما خلى من محظور من مباح .
ب - قوله: (( اعرضوا عليّ رقاكم )) جليّ في أن تلك الرقى لم يرد بها الشرع أيضاً، وإنما هي من فعلهم ومعقولهم وتجاربهم في الجاهلية فإقراره لذلك إقرار لاجتهادهم ومعقولهم .
ت- قوله: (( لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك)) وهذا ظاهر في إطلاق الإباحة في هذا الباب ما لم يكن في الرقى شرك ، فيقال كل رقية واضحة اللفظ والمعنى خالية من الشرك فهي من هذا الباب .
3- حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه – في الصحيحين في قصة اللديغ ، وفيه قال له النبي - صلى الله عليه وسلم- : (( وما أدراك أنها رقية؟)).وفي رواية أبي داود(3418) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : « مِنْ أَيْنَ عَلِمْتُمْ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ أَحْسَنْتُمْ وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ».
ووجه الدلالة من ثلاثة وجوه .
أ – هذا الاستفسار منه - صلى الله عليه وسلم- يبين أنهم اجتهدوا وقد جاء مبينا عند ابن حبان (6112). قَالَ أبو سعيد: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا دَرَيْتُ أَنَّهَا رُقْيَةٌ، شَيْءٌ أَلْقَاهُ اللَّهُ فِي نَفْسِي..
ب - جاء في بعض طرق الحديث أن بعضهم سأل الصحابي الذي رقى اللديغ فقال له ، أكنت ترقي ؟ فقال : لا.فلو كان عنده علم بشيء من الرقية الشرعية التوقيفية مسبقا ما اجتهد في ذلك الموقف الذي دفعه بعض الانتهاء منه إلى الاستفسار عما قام به .
ج - لو كانت رقياه للذيغ توقيفية لما توقفوا في أخذ ما أعطي لهم من الأجرة حتى يسألوا عنها النبي - صلى الله عليه وسلم- لأنهم سألوه عما قام به من عمل دون دليل مسبق عليه ، بل لما سألوه عن ذلك أصلاً.
4- وروى أبو داود وأحمد من حديث الشفاء بنت عبد الله، قالت: دخل عليّ النبي - صلى الله عليه وسلم- وأنا عند حفصة، فقال لي: (( ألا تعلّمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة)). والحديث صحيح أنظر الصحيحة (178) ولفظ رقيتها واضح جدا أن ألفاظها ليست من كلام الله ولا كلام رسوله ،بل هو شيئا كانت تقوله دون وحي مسبق .
وهذه هي رقيتها : (( بسم الله ، صلوب، حين يعود من أفواهها، ولا تضر أحدا، اللهم اكشف البأس، رب الناس، قال: ترقي بها على عود كركم سبع مرات، وتضعه مكانا نظيفا، ثم تدلكه على حجر، وتطليه على النملة )).
5- وروى مسلم عن جابر بن عبد الله قال: (( أرخص النبي - صلى الله عليه وسلم- في رقية الحية لبني عمرو)) ولم يبين لفظ الرقية التي كانوا يرقون بها للعقرب .
6 -
حديث عم خارجة بن الصلت عند أبي داود والنسائي وأحمد وغيرهم وفيه أيضا أنه استفسر من النبي صلى الله عليه وسلم على ما قام به من رقية المجنون الموثق في الحديد. وفي الباب غير هذا.
7 - عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: كنت أرقي من حمة العين في الجاهلية فلما أسلمت ذكرتها لرسول الله -r- فقال: << اعرضها علي>> فعرضتها عليه ، فقال: << ارق بها فلا بأس بها >>. ولولا ذلك ما رقيت بها إنساناً أبداً.قال الحافظ نور الدين الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (5/132)(ح 8444 ) بتحرير الحافظين الجليلين: العراقي وابن حجر :رواه الطبراني وإسناده حسن. فهذا عبادة بن الصامت كانت له رقية خاصة بحمة العين فذكرها للنبي - r- فطلب منه أن يعرضها عليه ، فلما تبين أنها خالية من أي محظور قال له : << ارق بها لا بأس بها >> فهذا أمر بالرقية إذا جاءه محتاج وهو كان معروفا بها .
8 - ففي سنن الترمذي (ح 1557)قال :حدثنا قتيبة حدثنا بشر بن المفضل عن محمد بن زيد عن عمير مولى أبي اللحم قال : شهدت خيبر مع سادتي فكلموا في رسول لله- r- وكلموه أني مملوك قال فأمرني فقلدت السيف فإذا أنا أجره فأمر لي بشيء من خرتي المتاع وعرضت عليه رقية كنت أرقي بها المجانين فأمرني بطرح بعضها وحبس بعضها .قال وفي الباب عن ابن عباس وهذا حديث حسن صحيح .وأخرجه أحمد وزاد فيه (5/223):قال محمد بن زيد(( وأدركته وهو يرقى بها المجانين ))وهو السنن الكبرى للنسائي (7/72).قال الشيخ الألباني : صحيح ، وصححه شعيب الأرناؤوط في تعليقه على المسند.
ففي هذه الأخبار دلالة واضحة على أن تلك الرقى لم تكن بأمر الشرع، بل كانت بالاجتهاد، ولما لم تكن شركية ولا متضمنة لمحظور أذن ورخص لهم فيها ، إذنه للمباح ، لأن التداوي والعلاج هو من باب الاجتهاد الذي كان عندهم ، وهذا القدر كافٍ في الاستدلال على أن الرقى ووسائلها يمكن القول بأنها غير توقيفية .
مع أن القول بالمنع مطلقا ليس عليه دليل ، وأما النهي الوارد عن الرقية مما استدلى به المانعون هو في الرقى الشركية ، أو التي فيها محظور شرعي فهذه بلا شك محرمة ومتفق عليه بين الفرقين. ومما يميل كفة ترجيح القول الثاني (عدم التوقيف ) بعض القواعد وهي :
أولاً: إذا كان القولان في مسألةٍ ما، أحدهما مثبت، والآخر نافٍ، فالمثبت مقدم على النافي؛ لأن المثبت معه زيادة علم. وهنا الذين أثبتوا أن الرقى تجريبية معهم زيادة علم بما أوردوه من أدلة .
ثانياً: إذا اشتبه الحظر بالإباحة غلّب جانب الحظر؛ صيانةً للدين.وهذه القاعدة فيما إذا كانت الرقية في شرك أو شبهة أو وسيلة إلى الشرك فيقدم جانب الحظر بلا شك .
ثالثاً: إذا احتج لأحد القولين بالقواعد العامة للشريعة، واحتج للآخر بالنصوص الخاصة، أون العام لا ينافي الخاص من كل وجه ، فيحمل العام على عمومه والخاص على خصوصه ، وإذا تعارضا فإن الخاص يقضي على العام ، والنهي عن الرقى عام ، والإذن في بعضها مما عرض عليه خاص والترخيص لهم في بعضها خاص فيقدم الخاص على العام .
رابعاً: الأصل أن المنافع مباحة، وكل ما عظم نفعه وقلّ ضرره أُطلق بابه للمكلفين، وعكسه كذلك، وهذه قاعدة عظيمة ثبت بالقرآن الكريم والسنة ، وهي أن أي أمر اجتمع فيه الخير والشر والنفع والضر فالحكم لمن غلب منهما .دليلها قوله تعالى :{ يسألونك عن الخمر والمسير قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ، وإثمهما أكبر من نفعهما } لذلك حرما ، والرقى التي قامت على التجربة وكانت خالية من الشرك أو أي محظور شرعي كرقية الشفاء بنت معوذ وغيرها فيها نفع بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : (( من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل )) ولقوله : (( ارقيه بها )) وقوله : ((أرقي بها )).
خامساً: الرقى ضربٌ من ضروب العلاج والأدوية، وهذا قول العلماء المحققين لا أكاد أجد بينهم خلافا، وباب الدواء والعلاج في الأصل اجتهاد وتجربة، وهو باب مفتوح إلا أن يداخله محرم كالنجاسة، فيعلم هذا من نص خاص منفصل.إذا تأملت ذلك مع الأدلة المتقدمة ظهر لك أن القول بأن الرقية ووسائلها اجتهادي هو الأظهر، وأن القول بالتوقيف مرجوح ، بيد أنه لابد من وضع ضوابط تمنع إدخال ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى وهي:
1- الاعتقاد بأن الرقى لا تؤثر بذاتها، بل بتقدير الله تعالى، فالرقية سبب العلاج ؛والشفاء بمعنى البرء لا يملكه أحد إلا الله ، فلا يجوز الاعتماد عليها بذاتها فإن ذلك شرك في الأسباب وإنما يعتقد فيها أنها تؤثر بإذن الله .
2- ألا يكون فيها ما لا يعرف معناه ، بمعنى أن تكون بألفاظ واضحة صريحة مفهومة المعنى ، لا تصدم مع دليل شرعي .
3- ألا يفتح الراقي على نفسه باب المحرمات، من الاتهام الكاذب للناس، وادعاء معرفة الغيب أو التداوي بالمحرمات والنجاسات ..
4- أن لا تكون التجربة سارية على ذكر الله ، إذ من لم يعتقد الشفاء فيه لا ينتفع بذلك، أما التجربة في الأسباب الكونية الحسية فيشترط فيها شرطان حتى تكون معتبرة .
الأول : أن توافق الأسباب الشرعية ، فلا تخالفها، ولا تصادمها كمن يعلق تميمة أو ودعة أو ما شابه ذلك ويعتقد أنها تدفع الضر وتجلب النفع؛ فهذه صادمت نصا صريحا وهو قوله صلى الله عليه وسلم : (( إن الرقى والتمائم والتولة شرك ))وكذلك لبس الحلقة والخيط ، أو وضع أمام البيت اليد وفيها العين ، والشوق وإطارات العجلات فوق المنازل ، وغير ذلك ..
الثاني : يثبت أهل الاختصاص أن لها نفعا ، كالمتخصصين في أقراص ألم الرأس ، فتأخذ بشرط أن تكون مركبة من مباح وأن لا تذهب العقل ، وأن يذهب الألم بإذن الله فلا يعتقد فيها أنه مؤثرة بذاتها أيضا.
5- ألا يتوسع في التجربة بحجة أن الرقية اجتهادية ، بل يكتفي بما ورد عن الصحابة والتابعين ففيه غنية لمن أراد العصمة من الزلل ، والنجاة من النّار . والخير كل الخير في اتباع من سلف وفتح هذا الباب على مصراعيه فيه الزلل والخطأ.
6- ألا يستخدم فيها الجن، فإن هذا باب مجهول لا ينضبط، فاستخدامهم وسائل في الرقى يمنع سداً للذريعة.
7 - ألا يشابه فيها أهل الكفر والسحرة والدجالين والمشعوذين فيما لا ينفع او يحاكي أقوالهم وأفعلهم ، من أوهام وخرافات وشعوذة وحركات لا تنفع ، بل تضر فإن من تشبه بقوم فهو منهم.
8- وهو أهمها أن يكون فقيه النفس عالما بمداخل الشيطان ومخارجه ، متشبعا بالعقيدة الصحيحة سليم المنهج .فإن الرقية الشرعية علم قائم بذاته وهذا ما سأفرده ببحث إن شاء الله .
تنبيه : ليس لي فيه إلا الجمع والترتيب ، وأسأل الله تعالى أن ينفعني به ومن بلغ ، وأرجو من كل غيور على دين الله وجد فيه شيئا يخالف الشرع أن ينصح لأخيه بالتي هي أحسن للتي هي أقوم داعيا له بهر الغيب أن يسدده الله لما يحبه ويرضاه كما سددني وأن يرفع قدره ويغفر ذنبه ويعفو عني وعنه إن ربي قريب مجيب .