الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد :
فقد درج أهل العلم عادة في مؤلفتهم ودروسهم عند نقل أقوال العلماء على ذكرهم حسب الترتيب الزمني وعلى السبق في الفضل.
وهذا الأدب الرفيع مستوحي من كتاب الله العزيز وسنة النبي الأمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفعل صحابته رضي الله عنهم أجمعين.
قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7].
وقال الله تعالى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ } [الشورى: 13] .
قال صاحب ((التحرير والتنوير)): ((هو من ذكر بعض أفراد العام للاهتمام بهم فإن هؤلاء المذكورين أفضل الرسل، وقد ذكر ضمير محمد صلى الله عليه وسلم قبلهم إيماء إلى تفضيله على جميعهم، ثم جعل ترتيب ذكر البقية على ترتيبهم في الوجود)).
وقال الله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [التّوبة: آية: 100].
وقال الله عز وجل: {لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة:117].
في هاتين الآيتين وغيرهما قدم الله عز وجل ذكر المهاجرين على الأنصار.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ((الواسطية)): ((ومن أصول أهل السنة والجماعة : سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ...
ثم قال رحمه الله : ويقدمون المهاجرين على الأنصار)).
وقال العلامة الفوزان حفظه الله في ((شرح العقيدة الواسطية)): ((والدليل على تفضيل المهاجرين على الأنصار أن الله قدمهم في الذكر كما قال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ } وقال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ } وقال تعالى : { لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ } الآية ( 117 ) التوبة . وقال تعالى : { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } الآية . الآيتان ( 8 ـ 9 ) الحشر . فدلت هذه الآيات الكريمة على فضل المهاجرين والأنصار وعلى تقديم المهاجرين على الأنصار في الفضل لتقديمهم في الذكر)).
بل قدم الله عز وجل ذكر المسجد الحرام على المسجد الأقصى، وذلك لما له من السبق في البناء والسبق في الفضل، فقال تعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير } [الإسراء: 1].
وهذا ترتيب أولي في الشرف والفضل وكذلك في البركة والبناء.
ويشهد له ما أخرجه البخاري في ((صحيحه)) عَنْ أَبَي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلَ؟ قَالَ: ((الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ)).
قَالَ: قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ((الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى)).
قُلْتُ كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: ((أَرْبَعُونَ سَنَةً ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيهِ)).
أما من السنة فقد أخرج البخاري في ((صحيحه)) عن ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: وُضِعَ عُمَرُ عَلَى سَرِيرِهِ فَتَكَنَّفَهُ النَّاسُ يَدْعُونَ وَيُصَلُّونَ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ وَأَنَا فِيهِمْ فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا رَجُلٌ آخِذٌ مَنْكِبِي فَإِذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَتَرَحَّمَ عَلَى عُمَرَ وَقَالَ مَا خَلَّفْتَ أَحَدًا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ وَحَسِبْتُ إِنِّي كُنْتُ كَثِيرًا أَسْمَعُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((ذَهَبْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ)).
أخرج البخاري في ((صحيحه)) عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحداً وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال: ((أثبت أحد فإنما عليك نبيٌّ وصديق وشهيدان)).
وهذا سنة صلى الله عليه وسلم في ذكر السابق في الفضل والكبير في القدر - وكل صحابي كبير -.
وهي سنة أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم وقد مر معنا قول الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحداً وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم.
وجاء عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ حَتَّى يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنِ رَوَاحَةَ) أخرجه البخاري.
هذه سنتهم ذكر الأفضل والأسبق والأقدم، وعلى هذا سار علمائنا فتجدهم يبتدئون بذكر أقوال الأحناف ثم المالكية ثم الشافعية ويختمون بالحنابلة.
وهذا الأدب السامي يذكر في الكتب التي تعني بكيفية تكتب بحث يقول صاحب كتاب ((المنهج في تأليف البحوث وتحقيق المخطوطات)) (ص 98): ((إذا اضطررت إلى ذكر أسماء فحاول أن ترتبها ترتيبًا زمنيًا ما أمكن والأمر نفسه في الشواهد، إلا إذا رأيت ضرورة أخرى في عرض بحثك)) اهـ.
فستشعر يا طالب العلم وأنت ترتب الاستدلالات من كلام أهل العلم أنك تقتدي بكتاب الله الكريم ومستن بهدي نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعلى طريقة سلفنا الكريم.
هذا والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: يوم الاثنين 8 رمضان سنة 1437 هـ
الموافق لـ: 13 يوليو سنة 2016 م