بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد
فهذا مقال كتبته في بيان ما استشكله بعض الإخوة من أحد الأحاديث
فقد قال لي أحد الإخوة كيف الجمع بين قولنا أن القرآن من كلام الله وكلام الله صفة له غير مخلوقة وبين الحديث التالي:

[ اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه اقرأوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما اقرأوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة قال معاوية بلغني أن البطلة السحرة ] أخرجه مسلم في صحيحه.

فالجواب :
ليس معنى الأحاديث أن القرآن الذي هو صفة الله يأتي ويتكلم بل هذا موافق لأصول من يقول أن القرآن مخلوق أما عند أهل السنة فمعنى الحديث على وجهين:
1_ أي ثواب ذلك ولا شك أن هذا مخلوق من مخلوقات الله.
2_ أن الله جل وعلا يجعلها أجساما كذلك وليست هي القرآن ولكن يجعل ذلك أجساما لتكون المحاجة وأما القرآن فهو كلام الله جل وعلا منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود.
والأول هو المشهور.

* أقوال الأئمة رحمهم الله.

1_ قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلاّم رحمه الله (ت: 224 هـ ) : يعني ثوابهما .... اهـ.فضائل القرآن ومعالمه وآدابه 2/ 41 - ح 434 –

2_ وهذا قول الإمام أحمد رحمه الله (ت:241هـ)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
لما احتجوا عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم { تجيء البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف } ونحو ذلك من الحديث الذي فيه إتيان القرآن ومجيئه .
وقالوا له : لا يوصف بالإتيان والمجيء إلا مخلوق ; فعارضهم أحمد بقوله : - وأحمد وغيره من أئمة السنة - فسروا هذا الحديث بأن المراد به مجيء ثواب البقرة وآل عمران كما ذكر مثل ذلك من مجيء الأعمال في القبر وفي القيامة والمراد منه ثواب الأعمال . (شرح حديث النزول:55)

3_ وابن تيمية ذكر هذا عدة مرات فهو مقر لهذا رحمه الله.

4_ قال الإمام ابن قتيبة رحمه الله (ت: 276 هـ)
في تأويل مختلف الحديث:
قالوا أحاديث تدل على خلق القرآن
قالوا رويتم قلب القرآن يس وسنام القرآن البقرة وتجيء البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو خرقان من طير صواف
ويأتي القرآن الرجل في قبره فيقول له كيت وكيت وهذا كله يدل على أن القرآن مخلوق ولا يجوز أن يكون ماله قلب وسنام وما كان غمامة أو غياية غير مخلوق
قال أبو محمد ونحن نقول إنه قد كان ينبغي لهؤلاء إذا كانوا أصحاب كلام وقياس أن يعلموا أن القرآن لا يكون حسما ولا ذا حدود وأقطار وإنما أراد بقوله سنام القرآن البقرة أعلاه كما أن السنام من البعير أعلاه وأراد بقوله قلب القرآن يس أنها من القرآن كمحل القلب من البدن وأراد بقوله تجيء البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أن ثوابهما يأتي قارئهما حتى يظله يوم القيامة ويأتي ثوابه الرجل في قبره ويأتي الرجل يوم القيامة حتى يجادل عنه ويجوز أن يكون الله تعالى يجعل له مثالا يحاج عنه ويستنقذه ....
والقرآن نفسه لا يكون رجلا ولا جسما ولا يتكلم لأنه كلام ولو أمعن هؤلاء النظر وأوتوا طرفا من التوفيق لعلموا أنه لا يجوز أن يكون القرآن مخلوقا لأنه كلام الله تعالى وكلام الله من الله وليس من الله عز و جل شيء مخلوق.. اهـ.

5_ قال الإمام الترمذي رحمه الله (ت: 279 هـ ) :
قال أبو عيسى هذا حديث غريب من هذا الوجه
ومعنى هذا الحديث عن أهل العلم أنه يجيء ثواب قراءته كذا فسر بعض أهل العلم هذا الحديث وما يشبه هذا من الأحاديث أنه يجيء ثواب قراءة القرآن.
وفي حديث النواس عن النبي صلى الله عليه و سلم ما يدل على ما فسروا إذ قال النبي صلى الله عليه و سلم وأهله الذين يعملون به في الدنيا ففي هذا دلالة أنه يجيء ثواب العمل اهـ.

6_ قال الإمام إبراهيم بن إسحاق الحربي رحمه الله (ت: 285هـ) :
في غريبه 1/224:
قوله : كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ يُظِلاَّنِ مَنْ كَانَ يَقْرَؤُهُما نُسِبَ الفِعْلُ إِلَيْهِمَا . وَإِنَمَا المَعْنَى لِثَوَابٍ يَفْعَلُهُ اللُّه بِمَنْ يَقْرَأُ بِهِما لِقَوْلِهِ ظِلُّ المُؤْمِنِ صَدَقَتُهُ يقول : ثَوَابُ صَدَقَتِهِ . اهـ.

7_ قال الإمام البزار رحمه الله (ت: 292 هـ ) في مسنده (4421) :
وإنما معنى " يجيئان يوم القيامة " يجيء ثوابهما كما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن اللقمة لتجيء مثل أحد " وقال : " ظل المؤمن يومئذ صدقته " فإنما هذا كله على ثوابه . اهـ.

8_ قال الإمام أبو عوانه رحمه الله (ت: 316 هـ.) في مستخرجه:
قال أبو عبيد في قوله "يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان": إنما هو الثواب ،
وهو بيّن في الكتاب والسنة؛ أما في الكتاب فقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } ، يريد به الثواب
{وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ}.
فيرون لو أنَّ رجلًا أطعم مسكينًا رغيفًا يراه بعينه أو ثوابه.
وأمّا السنة فقوله عليه السلام: "من عال ثلاث بنات كُنَّ له حجابًا من النار". معناه الثواب، لا أنهن يكن له حجابا من النار اهـ (11/141)

9_ ويقول الإمام ابن بطة رحمه الله (ت: 387 هـ )
في "الإبانة الكبرى" (5/476) :
" ثم إن الجهمية لجأت إلى المغالطة في أحاديث تأولوها ، موهوا بها على من لا يعرف الحديث ، وإنما عنى في هذه الأحاديث في قوله : (يجيء القرآن وتجيء البقرة وتجيء الصلاة ويجيء الصيام) يجيء ثواب ذلك كله ، وكل هذا مبين في الكتاب والسنة .
قال الله عز وجل : (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) الزلزلة/7-8
فظاهر اللفظ من هذا أنه يرى الخير والشر ، وليس يرى الخير والشر ، وإنما ثوابَهما والجزاء عليهما من الثواب والعقاب .
كما قال عز وجل (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ) آل عمران/30
وليس يعني أنها تلك الأعمال التي عملتها بهيئتها وكما عملتها من الشر ، وإنما تجد الجزاء على ذلك من الثواب والعقاب .
فيجوز في الكلام أن يقال : يجيء القرآن ، تجيء الصلاة ، وتجيء الزكاة ، يجيء الصبر ، يجيء الشكر ، وإنما يجيء ثواب ذلك كله " انتهى .

10_ ونقل الإمام البغوي رحمه الله (ت:516 هـ) في شرح السنة كلام الترمذي:
قَالَ أَبُو عِيسَى فِي مَعْنَى قَوْلِهِ «يَأْتِيَانِ»: يَعْنِي يَجِيءُ ثَوَابُ قِرَاءَتِهِ، هَكَذَا فَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ وَمَا يُشْبِهُ هَذَا أَنَّهُ يَجِيءُ فَضْلُ الأَعْمَالِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ اهـ (4/45

11_ ونقل عبد العظيم بن عبد القوي المنذري رحمه الله (ت: 656 هـ ):
في الترغيب والترهيب (2251) كلام الترمذي السابق.


12_ قال الإمام ابن القيم رحمه الله (ت: 751) :
و لم يهتد الفريقان الى هذا القول الذي ذكرناه و أن الله سبحانه ينشئ من الأعراض أجسام و يجعلها مادة لها كما في الصحيح عنه تجيء البقرة و آل عمران يوم القيامة كأنهما غمامتان الحديث فهذه هي القراءة التي ينشئها الله سبحانه تعالى غمامتين اهـ (حادي الأرواح: 284)

13_ وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله (ت: 774 هـ ) :
والذي يوضع في الميزان يوم القيامة قيل: الأعمال وإن كانت أعراضًا، إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساما.
قال البغوي: يروى هذا عن ابن عباس كما جاء في الصحيح من أن "البقرة" و "آل عمران" يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان -أو: غيَايَتان -أو فِرْقَان من طير صَوَافّ. من ذلك في الصحيح قصة القرآن وأنه يأتي صاحبه في صورة شاب شاحب اللَّون، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا القرآن الذي أسهرت ليلك وأظمأت نهارك وفي حديث البراء، في قصة سؤال القبر: "فيأتي المؤمن شابٌّ حسن اللون طيّب الريح، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح" وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق.
.... اهـ (تفسير القرآن العظيم)

14_ قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله (ت: 795هـ )
في جامع العلوم والحكم:
فاتفقت الأحاديثُ كلُّها على أنَّه يملأ الميزانَ ، وقد قيل : إنَّه ضربُ مثل ، وأنَّ المعنى : لو كان الحمدُ جسماً لملأ الميزان ، وقيل : بل الله - عز وجل - يُمثِّلُ أعمالَ بني آدم وأقوالهم صُوَراً تُرى يومَ القيامة وتوزَنُ ، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : (( يأتي القرآنُ يومَ القيامة تقْدُمُه البقرةُ وآلُ عمران كأنَّهما غمامتان أو غَيَايتانِ أو فِرقان من طيرٍ صَوَّاف )) اهـ.

الخاتمة
فهذه أقوال العلماء تبين لنا المراد من الحديث ولم يفهم أحد من المتقدمين أن صفة الله هي التي تأتي وتتكلم ومن يقول بهذا فهو قائل بخلق القرآن لا محالة لذلك احتج الجهمية بمثل هذه الأحاديث على القول بخلق القرآن
أو يقول بأن صفات الله تنفصل عن الله عز وجل وهذا القول في غاية الضلالة بل هو الكفر الصريح.
فإن قيل الله عز وجل قادر على كل شيء قيل له هذه أغلوطة منك بل هو بنفسه لا يقول بهذا الكلام في بقية الصفات كصفة اليد فلا يأتي أحد يقول أنها تنفصل عن الله عز وجل سبحانه وتعالى.


قلت: وقد ذكر الأئمة أن الإمام إسماعيل ابن علية تكلم فيه العلماء بسبب خطئه في هذا الحديث
حتى تراجع على رؤوس الأشهاد ومع ذلك أبغضه بعض علماء الحديث إلى أن مات وإن كان الحق أن الله عز وجل يقبل توبة العبد إذا تاب.

جاء في تاريخ بغداد:
-أن- حماد بن سلمة قال ما كنا نشبه شمائل إسماعيل بن علية إلا بشمائل يونس بن عبيد حتى دخل فيما دخل فيه قال عفان-الراوي عن حماد- مرة أخرى حتى أحدث ما أحدث قال عفان وكان بن علية وهو شاب من العباد بالبصرة .
قلت: والحدث الذي حفظ على بن علية شيء يتعلق بالكلام في القرآن
أخبرنا احمد بن أبي جعفر حدثنا محمد بن العباس الخزاز حدثنا أبو أيوب سليمان بن إسحاق الجلاب قال قال إبراهيم الحربي وسأله أبو يعقوب فقال دخل بن علية على محمد بن هارون فقال له يا بن كذا وكذا أي شتمه أيش قلت فقال: أنا تائب إلى الله لم اعلم أخطأت.

فقال: إنما كان حدث بهذا الحديث [ تجيء البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما ] قال فقيل: لابن علية ألهما لسانان قال: نعم فكيف تكلما فقيل: أنه يقول القرآن مخلوق وإنما غلط .....
-عن-الفضل بن زياد قال سألت أبا عبد الله احمد بن حنبل عن وهيب وإسماعيل بن إبراهيم بن علية قلت أيهما أحب إليك إذا اختلفا فقال وهيب كان عبد الرحمن بن مهدى يختار وهيبا على إسماعيل قلت في حفظه قال في كل شيء ما زال إسماعيل وضيعا من الكلام الذي تكلم به إلى ان مات قلت أليس قد رجع وتاب على رؤوس الناس فقال بلى ولكن ما زال مبغضا من أهل الحديث بعد كلامه ذاك إلى أن مات اهـ. والقصة في عدد من كتب التراجم والتاريخ.

ولا شك أنه زلة عالم وإلا نقل عن الإمام ابن علية أنه قال القرآن كلام الله غير مخلوق.


تنبيهات.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
وهنا يرد إشكال: كيف يوزن العمل وهو ليس بجسم، وكيف الحمد تملأ الميزان وهي ليست بجسم؟
والجواب عن كل هذا سهل، وهو: أن الله عزّ وجل قادر على أن يجعل الأعمال أجساماً والمعاني أجساماً، فإنه على كل شيء قدير عزّ وجل، ألم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن البقرة وآل عمران تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان تظلان صاحبهما[163] ،وهما عمل، لكن الله على كل شيء قدير اهـ (رسائل ابن عثيمين:29/12) راجع شرح الأربعين النووي حديث 23

وقول الشيخ هنا أنهما عمل يدل أنه يرى أن المقصود قراءة العبد وثوابه لا القرآن الذي هو صفة لله عز وجل موافقا بذلك ما قاله أئمة أهل السنة.


فإن قيل أن هذا تأويل من أهل السنة فالجواب:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
النبي صلى الله عليه وسلم قال : { اقرءوا البقرة وآل عمران فإنهما يجيئان يوم القيامة كأنهما غيايتان أو غمامتان أو فرقان من طير صواف يحاجان عن أصحابهما } وهذا الحديث في الصحيح : فلما أمر بقراءتهما وذكر مجيئهما يحاجان عن القارئ : علم أنه أراد بذلك قراءة القارئ لهما وهو عمله وأخبر بمجيء عمله الذي هو التلاوة لهما في الصورة التي ذكرها كما أخبر بمجيء غير ذلك من الأعمال . اهـ (شرح حديث النزول:55)

ولا يفهم من ظاهر الأحاديث أن صفة الله تنفصل وتأتي وتتحول إلى مخلوق فهذا ظاهر البطلان.

كتبه : أبو سهيلة حسين بن علي البلوشي عفا الله عنه