-تزيين الباطل ، من شرك وكفر وبدعة ، وأعمال اعتقادية ، وقولية وفعلية مخالفة لما أمر الله وبه ونهى عنه : وهذا من أعظم الأبواب التي يلج منها عدو الله ليصل إلى إقناع ابن آدم بباطله وضلاله ، ويوقعهم في شراك غوايته ، وحبال شبكته فيزين الباطل ويلبسه شيئا من الحق ، ويزين للنفس الشهوات ، وللقلب الشبهات ، بالتأويل الفاسد أحيانا ، والبعيد أخرى ، وثالثة بالأغلوطات ، ورابعة باللحن في الحجة عند الخصومات .. ويستعين على ذلك بالإنسان على أخيه الإنسان ، بالحزبي على غير المتحزب ، وبالخلفي على السني ، وبالسني على السلفي ، وبالسلفي على السلفي حتى يلقي العداوة بينهم ؛ فيستعين بضعاف الإيمان على غيرهم ، وبالأقران على أقرانهم ، ويحرك حظوظ النفس ، والعزة بها ليوقع صحابها في التعصب والغلو وحب الاستعلاء والانتقام ظنا منه أن ذلك نصرة للحق .. قال عز وجل :{ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ }(48). قال الماوردي (2/325): فزين للمشركين أعمالهم. يحتمل وجهين : أحدهما: زين لهم شركهم. والثاني : زين لهم قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيه وجه ثالث : أنه زين لهم قوتهم في كثرتهم حتى اعتمدوها.. قلت : ولكن لمّا حصص الحق ، وانكشف الحال الصدق ، نكص على عقبه وفَرَق ، وحينها فقط انتصر الحق ، وتراجع الباطل وزهق . وقال تعالى :{تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (63) النحل . قال أبو جعفر ابن جرير(17/235): القول في تأويل قوله تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ (63) } يقول تعالى ذكره مقسِما بنفسه عزّ وجلّ لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم-: والله يا محمد لقد أرسلنا رسلا من قبلك إلى أممها بمثل ما أرسلناك إلى أمتك من الدعاء إلى التوحيد لله، وإخلاص العبادة له، والإذعان له بالطاعة، وخلع الأنداد والآلهة (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) يقول: فحسَّن لهم الشيطان ما كانوا عليه من الكفر بالله وعبادة الأوثان مقيمين، حتى كذّبوا رسلهم ، وردّوا عليهم ما جاءوهم به من عند ربهم (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) يقول: فالشيطان ناصرهم اليوم في الدنيا، وبئس الناصر (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة عند ورودهم على ربهم، فلا ينفعهم حينئذ ولاية الشيطان، ولا هي نفعتهم في الدنيا، بل ضرّتهم فيها وهي لهم في الآخرة أضرّ. ويقسم عدو الله مؤكدا لرب العزة أنه لا يترك سبيلا في الأرض يصل به إلى إغواء بني آدم بجميع أطيافهم ، وينال مراده أو بعض مراده منهم ، وخاصة من أهل الحق من ضعاف الإيمان وأنصاف المتعلمين إلا زينه بما يعجب النفوس ويصطادها ، وبما يُغيِّر القلوب ويزيغها . أخبرنا الله تعالى بذلك في قوله :{ قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ }(40)الحجر: قال أبو جعفر ابن جرير- رحمه الله - (17/103):وكأن قوله (بِمَا أَغْوَيْتَنِي) خرّج مخرج القسم، كما يقال: بالله، أو بعزّة الله لأغوينهم. وعنى بقوله (لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ) لأحسننّ لهم معاصيك، ولأحببنها إليهم في الأرض (وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) يقول : ولأضلَّنهم عن سبيل الرشاد (إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) يقول : إلا من أخلصته بتوفيقك فهديته، فإن ذلك ممن لا سلطان لي عليه ولا طاقة لي به. قال ابن رجب - رحمه الله - في تفسيره (1/79):وإمَّا المعصيةُ للَّهِ والمخالفةُ لأوامر، وذلكَ يستلزمُ طاعةَ الشيطانِ ؛ لأن الشيطانَ يأمرُ بسلوكِ الطُرقِ التي عن يمينِ الصراطِ وشمالِهِ، ويصدُّ عن سلوكِ الصراطِ المستقيم، كَمَا قالَ تعالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } (61) يس . وقالَ تعالَى مخبرا عنِ الشيطانِ: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ }(18) الأعراف . وقالَ تعالَى: { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} الحجر . وصحَّ عن ابنِ مسعودٍ، أنَّه قالَ: إنَّ هذا الصراطَ مُحتضر، تحضرُهُ الشياطينُ. يا عبدَ اللَّهِ ، هذا الطريقُ، هلُمَّ إلى الطريقِ، فاعتصِمُوا بحبلِ اللَّه، فإنَّ حبلَ اللَّهِ هو القرآنُ ، وهذا كَمَا أنَّ الكتبَ المنزَّلة، والرسلَ المُرسلةَ وأتباعَهُم يدعونَ إلى اتِّباع الصراطِ المستقيم ، فالشيطانُ وأعوانُهُ وأتباعُهُ من الجنِّ والإنسِ يدعونَ إلى بقيةِ الطرقِ الخارجةِ عن الصراطِ المستقيم . كما قالَ تعالى :{كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}(71) الأنعام. انتهى كلامه . فما أكثر السبل المضروبة على جنبتي الصراط المستقيم ، وما أكثر الشياطين المتربصين بالمؤمنين يعينهم في ذلك شياطين الإنس بما يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا . فقد استجاب لهم خلق كثير فانحرفوا عن الصراط المستقيم والمنهج القويم بعد أن كانوا يسيرون عليه ، وما زالوا يعتقدون أنهم كذلك ، وهم قد جرهم عدوهم بما زين لهم من زخرف القول ، وحسن الصنيع فانحرفوا عن الصراط إلى تلك السبل كل بحسبه ... قال تعالى : { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ} (8) فاطر. قال ابن جرير - رحمه الله –(20/441): يقول تعالى ذكره: أفمن حسَّن له الشيطان أعماله السيئة من معاصي الله والكفر به، وعبادة ما دونه من الآلهة والأوثان، فرآه حسنًا فحسب سيء ذلك حسنًا، وظن أن قبحه جميل، لتزيين الشيطان ذلك له. وقوله (فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) يقول: فإن الله يخذل من يشاء عن الإيمان به واتباعك وتصديقك، فيضله عن الرشاد إلى الحق في ذلك، ويهدي من يشاء، يقول: ويوفق من يشاء للإيمان به واتباعك والقبول منك، فتهديه إلى سبيل الرشاد (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) يقول: فلا تهلك نفسك حزنًا على ضلالتهم وكفرهم بالله وتكذيبهم لك. وقال الرازي في تفسيره : يَعْنِي لَيْسَ مَنْ عَمِلَ سَيِّئًا كَالَّذِي عَمِلَ صَالِحًا، كَمَا قَالَ بَعْدَ هَذَا بِآيَاتٍ وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَهُ تَعَلُّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُسِيءِ الْكَافِرِ وَالْمُحْسِنِ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّ الْجَاهِلَ الَّذِي يَعْلَمُ جَهْلَهُ وَالْمُسِيءَ الَّذِي يَعْلَمُ سُوءَ عَمَلِهِ يَرْجِعُ وَيَتُوبُ ، وَالَّذِي لَا يَعْلَمُ يُصِرُّ عَلَى الذُّنُوبِ وَالْمُسِيءُ الْعَالِمُ لَهُ صِفَةُ ذَمٍّ بِالْإِسَاءَةِ وَصِفَةُ مَدْحٍ بِالْعِلْمِ. وَالْمُسِيءُ الَّذِي يَرَى الْإِسَاءَةَ إِحْسَانًا لَهُ صِفَتَا ذَمٍّ الْإِسَاءَةُ وَالْجَهْلُ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْكُلَّ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَقَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ أَشْخَاصُهُمْ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَالْإِسَاءَةُ وَالْإِحْسَانُ، وَالسَّيِّئَةُ وَالْحَسَنَةُ يَمْتَازُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ فَإِذَا عَرَفَهَا الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ بِاسْتِقْلَالٍ مِنْهُمْ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِاسْتِنَادِ إِلَى إِرَادَةِ اللَّهِ. قال الله تعالى :{أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ }(14) سورة محمد. قال ابن جرير – رحمه الله – (22/165):القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ }. يقول تعالى ذكره : (أَفَمَنْ كَانَ) على برهان وحجة وبيان (مِنْ) أمر (رَبِّهِ) والعلم بوحدانيته، فهو يعبده على بصيرة منه، بأن له رَبًّا يجازيه على طاعته إياه الجنة، وعلى إساءته ومعصيته إياه النار، (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) يقول: كمن حسَّن له الشيطان قبيح عمله وسيئه، فأراه جميلا فهو على العمل به مقيم (وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) يقول: واتبعوا ما دعتهم إليه أنفسهم من معصية الله، وعبادة الأوثان من غير أن يكون عندهم بما يعملون من ذلك برهان وحجة. قال الرازي - رحمه الله - (28/45):وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ }فَرْقٌ فَارِقٌ، وَقَوْلُهُ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ تَكْمِلَةٌ وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَرَاجَتِ الشُّبْهَةُ عَلَيْهِ فِي مُقَابَلَةِ مَنْ يَتَبَيَّنُ لَهُ الْبُرْهَانُ وَقَبِلَهُ، لَكِنَّ مَنْ رَاجَتِ الشُّبْهَةُ عَلَيْهِ قَدْ يَتَفَكَّرُ فِي الْأَمْرِ وَيَرْجِعُ إِلَى الْحَقِّ، فَيَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى مَنْ هُوَ عَلَى الْبُرْهَانِ، وَقَدْ يَتَّبِعُ هَوَاهُ وَلَا يَتَدَبَّرُ فِي الْبُرْهَانِ وَلَا يَتَفَكَّرُ فِي الْبَيَانِ فَيَكُونُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ. وقال السعدي - رحمه الله - (1/786): قوله تعالى :{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ }. أي : لا يستوي من هو على بصيرة من أمر دينه ، علما وعملا قد علم الحق واتبعه ، ورجا ما وعده الله لأهل الحق ، كمن هو أعمى القلب ، قد رفض الحق وأضله ، واتبع هواه بغير هدى من الله ، ومع ذلك ، يرى أن ما هو عليه من الحق، فما أبعد الفرق بين الفريقين! وما أعظم التفاوت بين الطائفتين ، أهل الحق وأهل الغي!. أ.هـ ومن طرق تزينه الحق بالباطل ، الوسوسة بما تهوى النفس، وكلمة الصدق يلقيها على من أراد تغريره نصيحة وهو كذوب يريد غيرها ... وقال سبحانه تعالى : {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} الأعراف . قال السعدي : ( 1/285)أمر الله تعالى آدم وزوجته حواء، التي أنعم الله بها عليه ليسكن إليها، أن يأكلا من الجنة حيث شاءا ويتمتعا فيها بما أرادا، إلا أنه عين لهما شجرة، ونهاهما عن أكلها، والله أعلم ما هي، وليس في تعيينها فائدة لنا. وحرم عليهما أكلها، بدليل قوله: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} . فلم يزالا ممتثلَيْن لأمر الله، حتى تغلغل إليهما عدوهما إبليس بمكره، فوسوس لهما وسوسة خدعهما بها، وموه عليهما وقال : {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ} أي: من جنس الملائكة {أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} كما قال في الآية الأخرى : {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} . ومع قوله هذا أقسم لهما بالله {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} أي: من جملة الناصحين حيث قلت لكما ما قلت، فاغترا بذلك، وغلبت الشهوة في تلك الحال على العقل. انتهى كلامه قال أبو هريرة – رضي الله عنه - : فقلت: لأرفعنّك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث المرات ، أنك تزعم لا تعود، ثم تعود. قال : دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [البقرة: 255]، حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما فعل أسيرك البارحة»، قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال: «ما هي»، قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [البقرة: 255]، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم- : «أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة»، قال: لا، قال: «ذاك شيطان» البخاري(2311-3275). قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري (10/247) فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) : (صَدَقَكَ، وَهُوَ كَذُوبٌ ذَاكَ شَيْطَانٌ) . قال المؤلف : إذا كان من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة كفتاه، ومن قرأ آية الكرسي كان عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح، فما ظنك بمن قرأها كلها من كفاية الله له وحرزه وحمايته من الشيطان وغيره، وعظيم ما يدخر له من ثوابها. انتهى كلامه. ومن أسباب تزين الأعمال تزيين البدعة وإخراجها على وجه الحق وصورته لذلك كان باب التوبة دونه مغلق فقد (( أبى الله أن يجعل لصاحب بدعة توبة))؟ أي: فالمبتدع المقيم على بدعته هو ممن يقال لهم : {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} (التوبة:37). وقد اجتمع إسناد التزين للشيطان والنفس ، ولذلك لا يتوب من بدعته لأنه يراها حسنة ؛ فمثله كمثل أولئك الذين قال الله عز وجل عنهم في القرآن: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (الكهف:103، 104). فإنسان كان مشركاً أو كان مبتدعاً ضالا يحسب أنه يحسن صنعاً هذا يتصور أن يتوب؟ لا يتصور أن يتوب لأنه يرى أنه هو على الحق ، وصاحب الحق وغيره على الباطل وهو مبطل . ومن هنا قال العلماء: ضرر البدعة على صاحبها أخطر من ضرر المعصية ؛ لأن المعصية حينما يرتكبها العاصي يعرف أنه عاصي فيرجع ، أو أنه يوماً ما يتوب إلى الله من معصيته التي هو عارف بأنها معصية، لكن المبتدع الذي لسان حاله يقول: رب زدني؛ لأنه يتقرب ببدعته إلى الله عز وجل، فهذا لا يتصور أن يتوب إلى الله إلا أن يشاء الله رب العالمين . وهنا تنبيه مهم : وهو أن الشيطان - عليه اللعنة - حريص كل الحرص على تزيين الباطل وتزويقه وجعله في صورة الحق بزخرف القول غرورا ؛ ليصل به إلى مبتغاه الذي ينشده منذ أن طرده الله من رحمته .. فلا يترك كبيرة ولا صغيرة ، لا شاردة ولا واردة فيها أدنى أدنى طُعْم ليصطاد به فرائسه إلا سارع وبادر واستعمله لعله ينال من عدوه الذي أقسم بذات الله أنه له بالمرصاد من كل الجهات .. ومن أعظم أهدافه وأسمى غايته أن يجيش الجيوش ، جيش الكذب ، وجيش الخيانة ، والغدر ، وجيش النميمة ، والغيبة ، والحسد ، والغلو ، والتعصب ، والتفريط والإفراط والتدابر ، والتقاطع ، والمعاصي والشهوات والشبهات ، والقيل والقال ، وتتبع العورات ، والسقطات ، والتحسس والتجسس ، والتعالي ، والتعالم ، والقول على الله بغير علم ، والنيل من أعراض العلماء وأفاضل شيوخ العلم ، والطعن في الأنساب والفخر بالأحساب وغير ذلك .. من الجيوش الكثيرة من كل حدب وصوب على عباد الله الصالحين أتباع الرسل أهل الحق والصدق ، أهل السنة والجماعة ، حتى يفت في عضدهم ، ويفرق جماعتهم ، ويغرس العداوة والبغضاء بينهم حتى يصل بهم الحال إلى التنافر ، والتدابر ، و الاقتتال ، ولن يهنأ له بال ، ويهدأ له حال حتى يفعل بعض فعلته ولو بأضعف الإيمان إذا يئس من زعزعتهم وإضعافهم ؛ فيرضى بالتحريش بينهم هذا في الصحابة الذين هم القدوة ، وهم في أعلى مراتب الإيمان وأكمل منازل التوحيد والصلاح بالتقوى والطاعة والاتباع والورع والصدق .. ولكن في غيرهم لا يرضى بذلك حتى يضرب في مقاتلهم لعله يصب منهم مقتلا . لقد كاد ومكر عدو الله لكثير من النّاس في زمننا حتى غلب عليهم الهوى ، والزيغ والضلال ، فزين لهم حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ، وغير ذلك من زينة الدنيا التي يشغلهم بها عن الغاية التي من أجلها خلقوا .. وقد ركب كثير منهم أمواج الباطل المزخرف ، وسبل الضلال المزين ، وحملوا رايات التعصب والغلو ، وألوية التحزب والطائفية ، والانتصار للباطل باسم الحق ، وللكذب باسم الصدق، وللخيانة باسم الأمانة ، وللبدعة باسم السنة ، وللجماعات والطائفيات باسم الجماعة والطاعة ، وهكذا في صور زينها الشيطان لكثير من بني جنسنا ممن يحسبون عل السنة ومنهج السلف الصالح ، وهم في الحقيقة يهدون بغير هدي السنة ومنهج السلف الصالح ، ويقولون من خير قول البرية ، تمويها وطاعة لوليهم وعدو أنفسهم إبليس لعنه الله ... أسأل الله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه ، ويرينا الباطل ويرزقنا اجتنابه ، اللهم عالم الغيب والشهادة فاطر السموات والأرض رب كل شيء ومليكه ، وأعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه . اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما اختلفوا فيه أهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك أن تهدي من تشاء إلى صراط المستقيم . آميـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــن .