إعلان النكير على من طعن في الشيخ العقبي ورماه بالتكفير
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنْ أرْسَلَهُ اللهُ رَحْمَةً لِلْعاَلَمِينَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَإِخْوَانِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
فالجنون فنون! عرّفه قوم بعبارات مختلفة منها‏:‏ «أنّه اختلال العقل بحيث يمنع جريان الأفعال والأقوال على نهجه إلاّ نادراً‏».
وقيل‏:‏ «الجنون اختلال القوّة المميّزة بين الأشياء الحسنة والقبيحة المدركة للعواقب بأن لا تظهر آثارها، وأن تتعطّل أفعالها»‏.‏
وقيل هو‏:‏ «اختلال القوّة الّتي بها إدراك الكلّيّات»‏.‏
ومع كل هذه التعاريف نلخصه في أن الجنون هو: «زوال العقل وذهابه»، وإذا كان الجنون زوال العقل فما علاقته بالفن؟
أقول: ربما من استغل جنونه لصالح فن من الفنون صار إبداعا!
نعم إبداع كبير خاصة ونحن في زمن الفن، والفن أنواع منها فن التهريج، ومنها فن الكذب والبهتان وإلصاق التهم، وللأسف أصبحت القنوات الجزائرية مشهورة بهذا الفن العجيب، بل من أكبر مروجيه، وقد ظهر لنا في هذه الأيام مبدع كبير اسمه: «بوزيد بومدين»، مدير الأشغال العمومية! عفوا، «مدير الثقافة الإسلامية بوزارة الشؤون الدينية والأوقاف».
جاء بكذبة فنية تليق ببرامجهم السمجة استحق من أجلها لقب مبدع كبير برتبة مدير!.
يقول: «سي بومدين»: «في جمعية العلماء ليس هناك انسجام ولو يحاول وارثوا جمعية العلماء أن يخفوه، كان هناك أيضا خلافات والخلافات معروفة داخل جمعية العلماء ولعل مقتل كحول قصة طويلة تبرز هذا الخلاف، كان الذي أقرب إلى الحركة الوهابية هو الطيب العقبي الذي كان في الحجاز وكتب في بعض جرائد الحجاز، فكان أقرب إلى الوهابية وأقرب إلى التكفيريين إن صحت التسمية بين قوسين، بينما ابن باديس لم يكن بهذا الحجم، بحيث أنه زار الزواية أيضا بمعنى أنه كان يقول هذه بدعة اللفظ الذي كان يستخدم في البصائر والشهاب و أن هؤلاء مبتدعة، هم يقصدون بالخصوص الطرقيين».
نعم ودون حياء وبكل موضوعية! يطعن في أبرز علماء هذه الدعوة المباركة ألا وهو الشيخ الطيب العقبي رحمه الله رحمة واسعة وعظم أجره وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
إن من واجبنا نحن كسلفيين الدفاع عن الشيخ العقبي ورد كيد هذا الرويبضة الخائن الذي أراد أن يطعن في الدعوة الاصلاحية للجمعية ممثلة في شخص العقبي رحمه الله، لهذا وبما أن الله تعالى منَّ علينا بهذا المنبر المبارك رأيت من الواجب المشاركة بمقال متواضع دفاعا عن الشيخ ودفاعا عن الجمعية والدعوة السلفية والله ولي التوفيق.
أولا: هل كان الخلاف بين العقبي والجمعية حول مقتل الشيخ كحول؟
أراد هذا الباحث – المبدع الكبير- أن يصور الخلاف الواقع بين علماء الجمعية والشيخ العقبي سببه مقتل الشيخ كحول، وهذا من التلبيس والتدليس بل من الكذب المفضوح فالكل يعلم أن العقبي بريء من هذه التهمة الملفقة، ولعل هذا المبدع يقصد ما ذكره أحمد مريوش في كتايه: «الطيب العقبي ودوره في الحركة الوطنية» نقلا عن الشيخ علي مغربي: أن الشيخ العقبي لم يجد مساندة معنوية ولا مادية من رجال الجمعية، بمعنى أنهم تخلوا عنه، وهذا أمر مستبعد لأن تلك الواقعة كتب فيها الإبراهيمي وأطال وفصل وبين، فالقول بعدم مساندته معنويا قول غير مقبول في نظري، مع أن للواقعة أثر بالغ في استقالته من مجلس الجمعية، وقد استقال من المجلس الإداري بطلب منه، ذلك بعد أن طلب من الجمعية ملاينة فرنسا واتقاء بطشها وتضييقها.
فالخلافات إذا التي يجدف حولها «سي بومدين» هي خلافات في طريقة التعامل مع الإدارة والحكومة الفرنسية، فالعقبي يريد أن يجنب -حسب رأيه- الجمعية غضب وانتقام فرنسا، حتى لا تتعرض لهم ويمضون في برنامجهم الاصلاحي، ومنهم من قال: أرهبته الإدارة وأحاطت به جواسيسها ونقلوا إليه أمورا، فصار يرهبهم ويخافهم.
فهذه خطة اختارها العقبي في معاملة الإدارة الفرنسية، أراد بها خدمة الأمة وتجنيبها ما يضرها، أما عقيدته ودينه فالكل يشهد أن العقبي ضل ثابتا في عقيدته ومبادئه.
ومما يلفت الانتباه أن العقبي بعد خروجه من الجمعية لم يكن ليرفض التعاون مع إخوانه إن دعوه لأمر يهم المسلمين فقد لبى دعوة الشيخ الإبراهيمي رحمه الله في قضية فلسطين، قال الإبراهيمي: «اتخذنا من قضية فلسطين وسيلة جديدة للاتحاد عسى أن يجتمع عليها ما تشتّت من القلوب النافرة. وكان للأخ الشيخ الطيب العقبي مساع محمودة في هذا السبيل»(1).
فتعاونا في تنظيم الهيئة العليا لإغاثة فلسطين، التي نشر خبرها في 21 جوان 1948م، فترأسها الشيخ الإبراهيمي وكان الشيخ العقبي أمين مالها، قال الإبراهيمي: «وقد تشكّلت الهيئة العليا من أربعة على الصورة الآتية: ولعل التاريخ الذي غبناه مرارًا ينتقم منا هذه المرّة فيلجئنا إلى نشر كل شيء بشواهده وشهوده وأيامه ولياليه.
وهذا تركيب الهيئة العليا:
محمد البشير الإبراهيمي: رئيس
عباس فرحات: كاتب عام
الطيب العقبي: أمين مال»(2).
وقال: «بل كان أمين مالها، وقد قام بواجبه فيها»(3).
هذا وإن كان المدعي صحاب رأي والأكثر اطلاعا بالمرجعية الدينية في الجزائر فلعلنا نذكره ببعض ما قرأه ونسيه أو تناساه من كلام الإبراهيمي حول حادثة مقتل الشيخ كحول وكيف صورها الإبراهيمي وكيف دافع عن أخيه العقبي دفاع الأخ المحب لأخيه، فقد كتب البشير رحمه الله على جريدة البصائر عدة مقالات حول هذه الحادثة وهي موجودة ضمن آثاره المطبوعة عن دار الغرب الإسلامي، كتب المقال الأول وهو مقال طويل صور فيه الحادثة كاملة، وهو المقال الموسوم بـ: «مقتل الشيخ كحول، ليسجّل التاريخ ولتشهد الأجيال المقبلة، تحقيقات وتفاصيل مهمة»، وجاء تحت هذا العنوان الرئيسي عدة عناوين فرعية وهي:
- وقفة على أطلال الحادثة
- أول تحد للمكيدة
- مستند العدلية في اعتقال الأستاذ العقبي
- المستغربات في هذه الحادثة
- مرامي الإشاعات الأولى
- الإفراج عن الأستاذ العقبي ورفيقه
- فتح نادي الترقي وما يتصل به
ثم كتب مقالا ثانيا تحت عنوان: «آثار اعتقال الأستاذ العقبي في الأمة الجزائرية ونتيجته للدّعوة الإصلاحية»(4).
ومن خلال ما سطر في هذه المقالات يبدو أن حادثة الاغتيال مكيدة مدبرة للإطاحة بالجمعية ككل وكان الطعم هو الشيخ العقبي، وسبب هذه المكيدة هو الدور الفعال الذي لعبته الجمعية في المؤتمر الإسلامي الجزائري، «فضربت الجمعية في الدعوة إليه بسهم على أنها دعوة إلى الحق والخير، وشاركت في تكوينه والحضور فيه، على أن ذلك جزء من عملها ونوع من إيصال الخير إلى الأمة، وأدمجت مطالبها الدينية في مطالبه على أنها جزء من مطالب الأمة الجزائرية مكمّل لها، ثم شاركت في اللجنة التنفيذية للمؤتمر على أنها إحدى عناصر القوة الثلاثة التي قام عليها المؤتمر، ثم شاركت في الوفد الإسلامي الذي أوفدته اللجنة التنفيذية إلى باريس، وتجلّت قوة الجمعية بمواقفها الثلاثة: من المؤتمر، واللجنة التنفيذية، والوفد، تمام التجلّي» (5).
و«هنا ضاق ذرع المبطلين بهذه الجمعية وبالمؤتمر الذي هي إحدى دعائمه، وبالمطالب التي يوشك أن تتحقّق وينتزعها الإنصاف من بين أشداق الأسد، وبالأمة التي أصبحت معلّقة الآمال بالجمعية وبالمؤتمر، وعلم أولئك المبطلون أن الأمر إذا تمادى على هذا الحال فإن سلطان الاستبداد إلى زوال، وإن هذه الحملة ستذهب في نظرهم بقيصر، فلا قيصر بعد اليوم فكانت المكيدة الشنعاء، وكان الاغتيال الشنيع وكان الاعتقال المزعج»(6).
ثم وصف الإبراهيمي الحادثة فقال: «اغتيل الشيخ كحول في رابعة النهار وفي يوم احتشدت فيه عشرات الألوف من الأمة الإسلامية لتسمع أعمال الوفد من رجاله ولتعلن ابتهاجها بالمرحلة التي قطعتها من حياتها الجديدة وهي إسماع صوتها لفرنسا .. وكانت خطبة أخينا الأستاذ العقبي في هذا الاجتماع الرائع صريحة في تحديد الآراء، فصيحة في التبليغ والأداء، بليغة في النصح بلزوم السكون.
وبلغنا خبر الاغتيال ونحن في غمرة من الفرح بنجاح الوفد في تبليغ أمانة الأمة للحكومة وفي تبليغ جواب الحكومة للأمة، فاستفظعنا الحادثة وقلنا: محال أن تسفك الدم يد صفقت طربا بيوم المؤتمر وبيوم سفر الوفد وبيوم رجوعه، ومحال أن يملي القتل قلب أفعم سرورًا بهذه المشاهد الثلاثة، ومحال أن تعيه أذن واعية للنصائح التي بثّت يوم المؤتمر ويوم الوفد ... ولم يكن موضع الغرابة عندنا في ذلك اليوم قاتلًا ومقتولًا فهذا أمر اعتيادي يقع مثله في كثير من الأيام، ولكن موضع الغرابة أن يكون المقتول فلانًا وأن يكون قتله في ذلك اليوم وفي تلك الحصة التي هي منتصف الساعة العاشرة والاجتماع لم ينفضّ بعد.
شممنا رائحة الكيد من تلك اللحظة، ثم قرأنا في بعض الخطب والمقالات جملًا فيها دس وفيها تحريش، وفيها إشارات مبهمة فوكلنا الأمر إلى الله الحق، وانتظرنا التحقيق العدلي وبدأت الألسنة تهرف، والأقلام ترجف، والتحقيق يدور في طريق طامس إلى أن صدر الأمر بتفتيش نادي الترقّي وإدارة جمعية العلماء وإدارة جريدة البصائر، وعقب ذلك اعتقال الأستاذ الشيخ الطيب العقبي»(7).
فأنت ترى أخي القاريء كيف وصف الإبراهيمي الحادثة بالمكيدة وكيف كان استغرابهم لها، وعرفت الدافع الحقيقي من تدبير هذه المؤامرة الشنيعة، فهل يعقل أن تكون هذه الحادثة هي جوهر الخلاف بين العقبي والجمعية يا بومدين؟ حقا إنه لشيء عجاب.
إن العلاقة بين العقبي والجمعية في هذا الوقت بالذات علاقة متينة كيف وهو أحد رجالها وأبرز من حمل فكرتها، يقول الإبراهيمي عن العقبي: «وأما الاعتبار الثاني الراجع إلى الأستاذ العقبي وجمعية العلماء التي هو من أكبر الممثلين لهديها وسيرتها والقائمين بدعوتها، بل هو أبعد رجالها صيتًا في عالم الإصلاح الديني وأعلاهم صوتًا في الدعوة إليه، فإن الرأي العام في القطر الجزائري- من المسلمين وغير المسلمين- ولا نستثني من خصوم الإصلاح إلا القليل، يعرف حق المعرفة من هو الأستاذ العقبي في ورعه وتقواه وعلمه وهداه؟ ويعرف أن ما وصمه به عكاشة هو شيء مصنوع لا مطبوع، وأن العقبي لم يخلق قتّالًا وإنما خلق قوالًا للحق أمّارًا بالمعروف، نهاءًا عن المنكر، وقّافًا عند حدود دينه، وإن شدّته في الحق لا تعدو بيان الحق وعدم المداراة فيه وعدم المبالاة بمن يقف في سبيله وأنه رجل كفاح ولكن في غير هذه الميادين، وأن الغيلة والدسّ والتحريش كلها مياه لا ترشح من هذا الإناء، وأن رجلًا مثل العقبي أدّبته الأخلاق الإسلامية الصحيحة وطبعته الهداية القرآنية العالية على غرارها يستحيل أن تخالط هذه المقاصد السافلة قلبه أو تجمعه بأصحابها سبيل.
ويعتقد الرأي العام أن الأستاذ العقبي لو لم يمنعه دينه وتقواه مما وصمه به عكاشة لمنعه شرفه وهمّته ومروءته، ولو لم تمنعه هذه الثلاثة لمنعه عقله وذكاؤه. فهل يعقل أن تهمة سخيفة كهذه من مجرم كعكاشة تعلق بمتحصّن بهذه الحصون المنيعة كالعقبي ويكون لها من القيمة ما يصيره متهمًا بالإجرام، ومن الأثر ما يدخله سجن «بربروس»، ومن النتيجة أن يقال له بعد ستة أيام قضاها في السجن: أنت حر ولكن تحت الطلب؟»(8).
وقد قابل رجال الجمعية خبر الإفراج عن الشيخ العقبي بالفرح والسرور كما وصفها الإبراهيمي رحمه الله في هذه الكلمات، قال رحمه الله: «لم يخالجنا الشك لحظة في أن مصير الأستاذ العقبي ورفيقه السيد عبّاس التركي هو الإفراج وبراءة الساحة، وان الحق في هذه التهمة الشنعاء سيتجلّى للعيان، ولكننا كنّا نذهب في تقدير المدة مذاهب لا تحكم فيها إلا نتائج التحقيق، وقد لبث الأستاذ في السجن ستة أيام بلياليها، ولبث رفيقه نصفها ولم نمتعض- علم الله- للسجن وان عظم خطبه، ولا للسجين وان جل عندنا قدره، ولكننا كنا نمتعض لحظ هذه الأمة العاثر وطالعها المنكود، فهي كلما أقدمت على خير وشارفت الوصول إليه وبسطت الراحتين لتناوله، رماها الشيطان بفتنة هوجاء، أقل آثارها إطالة المدة، ومضاعفة الشدة، ومع ذلك الامتعاض فإن رجاءنا في الله وحده لم ينقطع، وثقتنا بالعدالة ورجالها لم تتزعزع.
كان اليوم السادس من اعتقال الأستاذ العقبي هو اليوم المعين للتحقيق معه ومقابلته بالجاني، وكنا ننتظر نتيجة هذه المقابلة بوثوق بالحق، واطمئنان إليه. واستدعى قاضي التحقيق الأستاذ من معتقله وجيء بالجاني، وكان محاميا الأستاذ حاضرين، فلما مثل الجاني أمام القاضي وألقى عليه الأسئلة في الموضوع رجع على تلك الوصمة التي رمى بها الأستاذ، واعترف اعترافًا صريحًا بأنه مبطل فيها ومفتر على الأستاذ، وانه يرجو منه في هذا المجلس أن يسامحه ويعفو عنه، وأعلن أنه رجع عن الباطل إلى الحق، وكانت مفاوضة بين القاضي والمحاميين في قانونية إطلاق الأستاذ ورفيقه أسفرت عن لزوم الإفراج عنهما في تلك العشية.
أطلق سراح الأستاذ ورفيقه في لحظة واحدة في منتصف الساعة السادسة وذهب بهما المحاميان إلى بيتيهما من طريق قليلة السلوك تفاديًا من التشويش والهيجان، ولكن الخبر انتشر بسرعة واهطعت الخلائق إلى داري الأستاذ ورفيقه (وكانتا متصاقبتين)، وطفق الناس في الشوارع يهنئ بعضهم بعضًا والبشر يطفح على وجوههم والدموع تسيل فرحًا، وكان مشهد الجموع المتدفقة على الأستاذ للتهنئة والتحقق من سراحه مشهدًا رائعًا، تجلّت فيه عواطف المحبة والأخوة الإسلامية والتقدير للرجال العاملين.
واضطربت أسلاك البرق والتلفون في ذلك المساء تحمل البشرى إلى أطراف القطر وإلى خارج القطر.
ثم تضافرت الأخبار وحملت إلينا الوفود ان تلك الليلة كانت ليلة عيد ضاحك مبتهج في جميع البلدان، وان كثيرًا من الناس أحيوها إلى الصباح في مرح وسرور وابتهاج، وانهم نسخوا بها كل ما اعتراهم من حزن وألم لاعتقال الأستاذ.
ثم انهالت علينا في الأيام الموالية رسائل التهنئة، برقية وبريدية من القطر الجزائري وغيره من الأقطار، وكانت ترد علينا في كل ساعة عشرات البرقيات من الصباح إلى الساعة لعاشرة ليلًا، ثم انثالت وفود التهنئة من الأماكن القريبة والبعيدة يحملهم الشوق ويستتفزّهم السرور، لم يثنهم بعد الشقة ولا مس المشقة ولا كثرة الأشغال عن ذلك، ورأينا العجب العجاب من وحدة في الشعور وصدق في الأخوة وقصد في التقدير وتفانٍ في الإخلاص للرجال العاملين ما كنّا نظنّه ولا نطمع فيه، وربّ نقمة في طيّها نعمة»(9).
ولمن أراد أن يقرأ الموضوع بكامله فليرجع إلى ما كتبه الإبراهيمي حول الموضوع كاملا مفصلا في آثاره.




ثانيا: اتهامه بالتكفير:
أما قول الجاني بأن العقبي أقرب إلى التكفيريين فهذا كذب أبلق أصلع، كيف يكون العقبي تكفيريا وهو القائل كما في قصيدته المشهورة إلى الدين الخالص:
إِنَّـنِي لَـسْتُ بِـبِدْعِيٍّ وَلاَ *** خَـارِجِيٍّ دَأْبُهُ طُـولُ العِنَـادْ
ثم يقول:
مَذْهَبِي شَرْعُ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى *** وَاعْتِقَـادِي سَلَفِيٌّ ذُوسَـدَادْ
وكيف يكون تكفيريا وقد أثنى عليه علماء الجمعية ووسموه بالسلفي، بل لما كتب الشيخ العقبي مقالته المشهورة يقولون وأقول عنونت له الشهاب بعنوان بين سلفي وخصومه، وكان الشيخ ابن باديس دائما ينعته بالسلفي، كما لقبه بسيف السنة وعلم الموحدين حين قال: «حياك الله وأيدك يا سيف السنة وعلم الموحدين، وجزاك الله أحسن الجزاء عن نفسك وعن دينك وعن إخوانك السلفيين المصلحين...»(10).
ومن الغريب أنه ربط التكفير بالوهابية والشيخ ابن باديس يقول: «قام الشيخ محمَّد بنُ عبد الوهَّاب بدعوةٍ دينيَّةٍ؛ فتَبِعه عليها قومٌ فلُقِّبوا ﺑ: «الوهَّابيِّين»، لم يَدْعُ إلى مذهبٍ مُستقِلٍّ في الفقه؛ فإنَّ أتباعه النجديِّين كانوا قبله ولا زالوا ـ إلى الآن بعده ـ حنبليِّين؛ يدرسون الفقهَ في كُتُبِ الحنابلة، ولم يَدْعُ إلى مذهبٍ مُستقِلٍّ في العقائد؛ فإنَّ أتباعه كانوا قبله ولا زالوا ـ إلى الآن ـ سنِّيِّين سلفيِّين: أهلَ إثباتٍ وتنزيهٍ، يؤمنون بالقَدَرِ ويُثْبِتون الكسبَ والاختيار، ويصدِّقون بالرؤية، ويُثْبِتون الشفاعة، ويترضَّوْن عن جميع السلف، ولا يُكفِّرون بالكبيرة، ويُثْبِتون الكرامة»(11).
فقول ابن باديس لا يكفرون بالكبيرة رد صريح على زعمك أيها البهات.
ومن المضحك المبكي أن ذنب العقبي عند هذا المسكين أنه كان يكتب في جرائد المملكة فهو تكفيري وهابي ما بين قوسين (...)! إن صحت التسمية عنده وأمر مؤكد أنها تصح، فنقول للباحث الموضوعي اقرأ معي قول مبارك الميلي رحمه الله حين تأسست جريدة البصائر كما في البصائر، العدد (48)، (ص:1): «اختارت إدارة الجمعية لإدارة البصائر الكاتب المبين والخطيب البليغ والداعية البصير الأستاذ الشيخ الطيب العقبي واعتمدت في هذا الاختيار على تلك الصفات التي عرف بها العقبي إلى ماضيه الصحافي شرقا وغربا؛ فقد كان بالمشرق من محرري صحيفة القبلة بمكة من أرض الحجاز، ثم كان بالمغرب مديرا ومحررا لصحيفة الإصلاح ببسكرة من مدن الجزائر».
وقال ابن باديس: «أصدرت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين جريدتها تحت اسم البصائر وسلمت تحريرها للأستاذ الداعي إلى الله الشيخ الطيب العقبي العضو الإداري بمجلس الجمعية...» (12).
فهل عاب علماء الجمعية على العقبي إذ كان كاتبا ومحررا في صحيفة القبلة؟ أم عدوه مفخرة له وسببا لاختيارهم له محررا للبصائر.
فيا للخيبة يا «سي بومدين».
أما قولك يا «سي بومدين»: «بينما ابن باديس لم يكن بهذا الحجم، بحيث أنه زار الزواية أيضا، بمعنى أنه كان يقول هذه بدعة، اللفظ الذي كان يستخدم في البصائر والشهاب وأن هؤلاء مبتدعة، هم يقصدون بالخصوص الطرقيين».
نقول: فما رأيك يا «سي بومدين» فيما صدره ابن باديس في الشهاب نفسها حول انتقاد العقبي للقصيدة العاشورية(13)، فقال ابن باديس الإمام رحمه الله: «شكر الله العالم النصوح الشيخ الطيب العقبي سعيد الجميل، فقد شفى صدور المؤمنين بكشف الغطاء عن ما في العاشورية من إلحاد صريح وكفر بواح...»(14).
وقال: «وقد بلا هذا الزعيم السلفي عناد الناس فيما هم عليه من مخالفة أصول التوحيد القطعية...»(15).
وجاء في تأييده للمباهلة المشهورة بين العقبي وبين الطرقيين تحت عنوان: «سيهزم الجمع ويولون الدبر»:
«... ها نحن كلنا معك في موقفك صفا واحدا ندعو دعوتك ونباهل مباهلتك، ونؤازرك لله وبالله، فليتقدم إلينا الحلوليون وشيخهم...» (16).
وما رأيك في قول ابن باديس عن أوراد التيجانية التي نشرها في الشهاب الجزء (7)، (ص 49 – 57)، رجب 1357هـ- سبتمبر 1938: « القرآن كلام الله، و(صلاة الفاتح) من كلام المخلوق ومن اعتقد أن كلام المخلوق أفضل من كلام الخالق فقد كفر. ومن جعل ما للمخلوق مثل ما لله فقد كفر بجعله لله ندا فكيف بمن جعل ما للمخلوق أفضل مما للخالق»(17).
وقال: «فمن زعم أن محمداً مات وقد بقي شيء لم يعلمه للناس في حياته فقد أعظم على الله الفرية وقدح في تبليغ الرسالة، وذلك كفر. فمن اعتقد أن (صلاة الفاتح) علمها النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لصاحب الطريقة التجانية دون غيره، كان مقتضى اعتقاده هذا أنه مات ولم يبلغ وذلك كفر»(18).
ثم قال: «عقيدة الحساب والجزاء على الأعمال قطعية الثبوت ضرورية العلم فمن اعتقد أنه يدخل الجنة بغير حساب فقد كفر.
فالمندمج في الطريقة التجانية على هذه العقائد ضال كافر. والمندمج فيها دون هذه العقائد عليه إثم من كثر سواد البدعة والضلال»(19).
وهذا الكلام كله في الشهاب فأين دعواك أن ابن باديس كان يقول هذه بدعة فقط ولم يكفر من اعتقد هذه الاعتقادات الباطلة؟ بل تؤكد وتقول اللفظ الذي يستعمل في البصائر والشهاب، فها هي الشهاب تنقل لفظ: «الكفر البواح»، «مخالفة أصول التوحيد القطعية»، «الحلول والإلحاد»، «ضال كافر»، «فقد كفر»، وغيرها كثير.
بل إن العقبي كان ألين من ابن باديس وإخوانه من علماء الجمعية في مسألة قبول توبة المتجنس، قال الشيخ أحمد حماني رحمه الله: «فإن أراد أن تقبل توبته - أي المتجنس بالجنسية الفرنسية- ظاهرا وباطنا فليهاجر إلى بلاد إسلامية، ويتبرأ من الجنسية الفرنسية، ويدخل في جنسية إسلامية، وبهذا تتم توبته.
هذا ما أفتى به معظم علماء تونس والجزائر، وفي الجزائر لم يخالف – في الحقيقة- إلا الشيخ الطيب العقبي، فقد قال رحمه الله: مادام يقول تبت فأنا أحكم بتوبته؛ لأن الله يقبل التوبة عن عباده. وأفتى بقية العلماء بما تقدم»(20).
وفي الأخير نقول لك يا بومدين اتق الله وتب مما قلته فقد أعظمت الفرية، ودع ما لا تحسنه واشتغل بما تحسنه خير لك وأنفع، فالعقبي علم من أعلامنا رغم أنفك وسندافع عنه دفاع الأخ عن أخيه ودفاع الولد عن أبيه، ودفاع الطالب عن شيخه، ندافع عنه دفاع البواسل التي لا تخش جيوش الباطل مهما كثرت ومهما جمعت من شبه وشعوذات، فللباطل صولة وللحق انتصارات والله ولي ذلك وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


====


(1): آثار الإبراهيمي (2/210).
(2): المصدر السابق.
(3): آثار الإبراهيمي (2/339).
(4): الآثار (1/275).
(5): الآثار (1/263).
(6): الآثار (1/263).
(7): الآثار (1/264-265).
(8): الآثار (1/267).
(9): الآثار (1/273-274).
(10): الشهاب، السنة الثانية، العدد (97)، 17 ذي القعدة 1345هـ، (ص:7).
(11): آثار ابن باديس (5/32)، ط. وزارة الشؤون الدينية.
(12): الشهاب، م11، (ص636)، ج11، ذي القعدة 1354هـ فيفري 1936م.
(13): وهي قصيدة إلحادية حلولية نظمها عاشور الخَنْقِي القسنطيني، فنسبت إليه.
(14): الشهاب، العدد (3)، (ص:15).
(15): الشهاب، العدد (85)، (ص:13).
(16): الشهاب، السنة الثانية، العدد (97)، 17 ذي القعدة 1345هـ، (ص:7).
(17): آثار ابن باديس (3/143).
(18): آثار ابن باديس (3/146-147).
(19): آثار ابن باديس (3/148).
(20): فتاوى أحمد حماني (1/158) ط. عالم المعرفة- الجزائر.