بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله راد كيد الظالمين وفاضح أمر الملبسين، والصلاة والسلام على النبي محمد خير من جاهد باللسان والسنان، وعلى آله وأصحابه المتبعين له على هذا النهج القويم المتين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فمازلنا مع ما سوده الحلبي في قديم كتاباته، لتبيين لك أخي الكريم أن الحلبي على خطى أهل البدع منذ نعومة أظفاره في كثير من المسائل العقدية والمنهجية.
وفي هذا البيان نحن مع تحقيقه بل مع تحريفه لرسالة ((نصيحة الملك الأشرف)) للحافظ ضياء الدين المقدسي رحمه الله، نشرها في مجلة الحكمة العدد (الثالث) سنة 1415 هـ الموافق 1994 ف، تخبط فيها الحلبي كعادته فيما تخبط فيه من تحقيقاته وتسويداته لكتب السلف، وهذه التخبطات في العادة في المقدمة والحواشي.
ولي معه في تحقيقه لرسالة ((نصيحة الملك الأشرف)) ثلاث وقفات:
الوقفة الأولي:
الحلبي في مقدمة لرسالة ضياء الدين المقدسي رحمه الله سار على بعض أصول القطبيين.
والقطبيون من أصولهم الدعاء على الحاكم الظالم، وكذلك ترك الدعاء لهم ديانة.
ومن أصول أهل السنة والجماعة السلفيين الدعاء بالخير والصلاح للسلطان وولاة الأمر سواء البار منهم أو الفاجر، وهذا متقرر عند سلفنا الصالح، ولم يفرقوا في الدعاء لولي الأمر بين العادل والظالم وبين القاسط والمقسط.
أما الحلبي في هذا التحقيق فهو مع القطبيين في ترك الدعاء ديانة للحاكم الجائر، فقد وضع عنوانا في مقدمته لرسالة ((نصيحة الملك الأشرف)) كما في مجلة الحكمة (ص 218) (الصلة بين العلماء والأمراء).
ثم قال الحلبي: ولقد قال الفضيل بن عياض: (لو أن لي دعوة مستجابة، ما صيرتها إلا في الإمام(.
والمعنى المراد من هذه الكلمة: ((إذا جعلتُها في نفسي لم تَعْدُني، وإذا جعلتُها في السلطان صلح فصلح بصلاحه العباد والبلاد ((.
من أجل هذا كان الإمام أحمد يقول: (وأني لأدعو له بالتسديد والتوفيق – أي: الإمام - في الليل والنهار - والتأييد، وأرى ذلك واجباً علي).
ثم علق الحلبي على الكلام السابق فقال كما في (ص 221): ((قلت: ونحن نقول ذلك، لكن.. لمن يرفع للإسلام – بالإسلام – رأسه، ويشدد على المنحرف عنه – المخالف له – باسه..
والله الهادي – وحده – إلى سوء السبيل)) انتهي كلامه بحروفه وعلاماته.
والمفهم من كلام الحلبي ترك الدعاء ديانة – وليس تركه عن غفلة وسهو وكسل - لولاة الأمر الذين عندهم ظلم وجور.
وقد ذكر أهل العلم أن من لوازم البيعة النصيحة للسلطان، ومن النصيحة الدعاء لهم بالتوفيق والتسديد والصلاح وأن يهيأ الله لهم البطانة الصالحة التي تدلهم على الخير وأهله وتحذرهم من الشر وأهله.
قال شيخ الإسلام ابن باز رحمه الله كما في ((مجموع الفتاوى)): ((من مقتضى البيعة النصح لولي الأمر، ومن النصح: الدعاء له بالتوفيق والهداية وصلاح النية والعمل وصلاح البطانة؛ لأن من أسباب صلاح الوالي ومن أسباب توفيق الله له: أن يكون له وزير صدق يعينه على الخير، ويذكره إذا نسي، ويعينه إذا ذكر، هذه من أسباب توفيق الله له)) اهـ.
وسئل رحمه الله كما في ((مجموع الفتاوى)): ((ومن يمتنع عن الدعاء لولي الأمر - حفظك الله -؟
فأجاب رحمه الله: هذا من جهله، وعدم بصيرته؛ لأن الدعاء لولي الأمر من أعظم القربات، ومن أفضل الطاعات، ومن النصيحة لله ولعباده، ((والنبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: إن دوسا عصت وهم كفار قال: اللهم اهد دوسا وائت بهم)). فهداهم الله وأتوه مسلمين.
فالمؤمن يدعو للناس بالخير، والسلطان أولى من يدعى له؛ لأن صلاحه صلاح للأمة، فالدعاء له من أهم الدعاء، ومن أهم النصح: أن يوفق للحق وأن يعان عليه، وأن يصلح الله له البطانة، وأن يكفيه الله شر نفسه وشر جلساء السوء، فالدعاء له بالتوفيق والهداية وبصلاح القلب والعمل وصلاح البطانة من أهم المهمات، ومن أفضل القربات، وقد روي عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: (لو أعلم أن لي دعوة مستجابة لصرفتها للسلطان)، ويروى ذلك عن الفضيل بن عياض رحمه الله)) اهـ.
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في ((لقاء الباب المفتوح)): ((الذي لا يدعو للسلطان فيه بدعة من بدعة قبيحة، وهي: الخوارج -الخروج على الأئمة- ولو كنت ناصحاً لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم لدعوت للسلطان؛ لأن السلطان إذا صلح صلحت الرعية، أما بعض الناس إذا رأى من سلطانه انحرافاً وقيل: ادع الله أن يهديه، قال: لا لا هذا لن يهديه الله، ولكن أدعو الله أن يهلكه إذاً! كيف لا يهديه الله، أليس الله هدى بعض أئمة الكفر؟!! هداهم)) اهـ.
وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء: ما حكم الدعاء على الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله ؟
فكان الجواب: تدعو له بالهداية والتوفيق وان يجعل الله على يده إصلاح رعيته فيحكم بينهم بشريعة الله)) اهـ.
وهذا من جهل الحلبي عندما وضع قيودا للدعاء لولي الأمر بقوله: ((لكن.. لمن يرفع للإسلام – بالإسلام – رأسه، ويشدد على المنحرف عنه – لمخالف له – باسه)) اهـ.
من سبقك يا حلبي لتقيد ما أطلقه السلف من الدعاء للسلطان غير أذناب الخوارج من القطبيين والسروريين.
السلفيون يرون أن من السنة الدعاء لولاة الأمور بالخير والصلاح والسداد والتوفيق للحكم المسلم البر منهم أو الفاجر.
والقطبيون والسروريون منهم من يترك في الدعاء ديانة لولي الأمر، ومنهم من يوجبون الدعاء عليهم لا لهم، بل منهم من يرى أن ولاة الأمور كفار بحجة أنهم يحكمون بغير ما أنزل الله [1] ؛ فكيف يُدعى لكافر بالتوفيق حسب زعمهم؟!
وهذا جملة من أقول أهل العلم من السابقين في تقرير أن الدعاء للسلطان وإطلاقهم القول بذلك ولم يقيدوا بالبر فقط، وأن هذا هو منهج أهل السنة من سلفنا الصالح.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله كما في ((شرح السنة((للبريهاري (ص 51): (لو أن لي دعوة مستجابة، ما صيرتها إلا في الإمام(.
والمعنى المراد من هذه الكلمة: ((إذا جعلتُها في نفسي لم تَعْدُني، وإذا جعلتُها في السلطان صلح فصلح بصلاحه العباد والبلاد ((.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: (وأني لأدعو له بالتسديد والتوفيق – أي: الإمام - في الليل والنهار - والتأييد، وأرى ذلك واجباً علي).
وقال الإمام الآجري رحمه الله في ((الشريعة)) ((قد ذكرت من التحذير من مذاهب الخوارج ما فيه بلاغ لمن عصمه الله تعالى، عن مذهب الخوارج، ولم ير رأيهم، وصبر على جور الأئمة، وحيف الأمراء، ولم يخرج عليهم بسيفه، وسأل الله تعالى كشف الظلم عنه، وعن المسلمين، ودعا للولاة بالصلاح، وحج معهم، وجاهد معهم كل عدو للمسلمين وصلى معهم الجمعة والعيدين، فإن أمروه بطاعة فأمكنه أطاعهم، وإن لم يمكنه اعتذر إليهم، وإن أمروه بمعصية لم يطعهم، وإذا دارت الفتن بينهم لزم بيته وكف لسانه ويده، ولم يهو ما هم فيه، ولم يعن على فتنة، فمن كان هذا وصفه كان على الصراط المستقيم إن شاء الله)) اهـ.
وقال الطّحاوي رحمه الله في ((عقيدته)): ((وَلَا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلَاةِ أُمُورِنَا وَإِنْ جَارُوا، وَلَا نَدْعُو عَلَيْهِمْ)).
وقال رحمه الله أيضا: ((وَنَدْعُو لَهُمْ بِالصَّلَاحِ وَالْمُعَافَاةِ)) اهـ.
وقال الإمام البربهاري رحمه الله في ((شرح السنَّة)): ((وإذا رأيتَ الرَّجلَ يدعو على السلطان فاعلم أنَّه صاحبُ هوى، وإذا رأيتَ الرَّجلَ يدعو للسلطان بالصّلاح فاعلم أنَّه صاحبُ سنَّةٍ إن شاء الله)) ثم نقل كلام الفضيل بن عياض.
وقال الإمام أبو إسماعيل الصابوني رحمه الله في ((عقيدة السلف أصحاب الحديث)): ((ويرى أصحاب الحديث الجمعةَ والعيدين وغيرهما مِن الصلوات خلف كلِّ إمامٍ مسلمٍ، برًّا كان أو فاجرًا، ويرون جهادَ الكفرة معهم وإن كانوا جوَرَةً فجَرةً، ويرون الدعاءَ لهم بالإصلاح والتوفيق والصّلاح وبسط العدل في الرَّعيَّة)) اهـ.
وقال الإِمام الحافظ أبو بكر الإِسماعيلي رحمه الله في ((اعتقاد أهل السنة)): ((ويرون جهاد الكفار معهم، وإن كانوا جورة، ويرون الدعاء لهم بالصلاح)) اهـ.
وقال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في ((جامع بيان العلم)): ((نشدني أحمد بن عمر بن عبد الله لنفسه في قصيدة له:
نسأل الله صلاحًا للولاة الرؤساء * * * فصلاح الدين والدنيا صلاح الأمراء
فيهم يلتئم الشمـل على بعد الثناء * * * وبهم قامت حدود الله في أهل العداء
وهم المغنون عنا في مواطين العناء * * * وذهاب العلم عنا في ذهاب العلماء
فهم أركان دين الله في الأرض الفضاء * * * فجزاهم ربهم عنا بمحمود الجزاء)) اهـ.
وقال ابن المنير رحمه الله في ((الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال)) نُقل عن بعض السلف أنه دعا لسلطان ظالم:
فقيل له: أتدعو له وهو ظالم ؟
فقال:إِي والله أدعو له، إِن ما يَدفعُ الله ببقائه، أعظمُ مما يندفع بزواله.
ثم قال ابن الُمنِّير: لاسيما إِذا ضُمِّن ذلك الدعاء بصلاحه وسداده وتوفيق ((اهـ.
وقال الحافظ النووي رحمه الله في ((المجموع شرح المهذب)): ((فأما الدعاء لائمة المسلمين وولاة أمورهم بالصلاح والإعانة علي الحق والقيام بالعدل ونحو ذلك ولجيوش الإسلام فمستحب بالاتفاق والمختار انه لا بأس بالدعاء للسلطان بعينه إذا لم يكن مجازفة في وصفه ونحوها والله اعلم)) اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ((السياسة الشرعيَّة)): ((ولهذا كان السَّلَفُ كالفُضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون: لو كان لنا دعوةٌ مجابةٌ لدعونا بها للسلطان)) اهـ.
وقال المناوي رحمه الله في ((فيض القدير)): ((وكذا السلطان جعله الله معونة لخلقه فيصان منصبه عن السب والامتهان ليكون احترامه سببا لامتداد فئ الله ودوام معونة خلقه وقد حذر السلف من الدعاء عليه فإنه يزداد شرا ويزداد البلاء على المسلمين)) اهـ.
وقد جاء عن السلف مصنفات خاصة في ذلك منها: ((دعائم الإسلام في وجوب الدعاء للإمام)) ليحيى بن منصور الحراني الحنبلي المعروف بابن الحبشي ترجمته في ((ذيل طبقات الحنابلة)) لابن رجب.
وهذا موقف للإمام أحمد رحمه الله يسطر فيه أروع المثل في الدعاء للسلطان الذي كان سببا في محنته.
قال ابن حبان البستي رحمه الله في ((روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)): ((سمعت إسحاق بن أحمد القطان البغدادي بتستر يقول: كان لنا جار ببغداد كنا نسميه طبيب القراء وكان يتفقد الصالحين ويتعاهدهم.
فقال لي: دخلت يوما على أحمد بن حنبل فإذا هو مغموم مكروب.
فقلت: ما لك يا أبا عبد الله.
قال: خير.
قلت: وما الخير.
قال: امتحنت بتلك المحنة حتى ضربت ثم عالجوني وبرأت إلا أنه بقى في صلبي موضع يوجعني هو أشد علي من ذلك الضرب.
قلت: اكشف لي عن صلبك.
قال: فكشف لي فلم أر فيه إلا أثر الضرب فقط.
فقلت: ليس لي بذي معرفة ولكن سأستخبر عن هذا.
قال: فخرجت من عنده حتى أتيت صاحب الحبس وكان بيني وبينه فضل معرفة فقلت له: أدخل الحبس في حاجة.
قال: أدخل فدخلت وجمعت فتيانهم وكان معي دريهمات فرقتها عليهم وجعلت أحدثهم حتى أنسوا بي.
ثم قلت: من منكم ضرب أكثر.
قال: فأخذوا يتفاخرون حتى اتفقوا على واحد منهم أنه أكثرهم ضربا وأشدهم صبرا.
فقلت: له أسألك عن شيء.
فقال: هات.
فقلت: شيخ ضعيف ليس صناعته كصناعتكم ضرب على الجوع للقتل سياطا يسيرة إلا أنه لم يمت وعالجوه وبرأ إلا أن موضعا في صلبه يوجعه وجعا ليس له عليه صبر.
قال: فضحك.
فقلت: مالك.
قال: الذي عالجه كان حائكا.
قلت: إيش الخبر.
قال: ترك في صلبه قطعة لحم ميتة لم يقلعها.
قلت: فما الحيلة.
قال: يبط صلبه وتؤخذ تلك القطعة ويرمى بها وإن تركت بلغت إلى فؤاده فقتلته.
قال: فخرجت من الحبس فدخلت على أحمد ابن حنبل فوجدته على حالته فقصصت عليه القصة.
قال ومن يبطه.
قلت: أنا.
قال أو تفعل.
قلت: نعم.
قال فقام فدخل البيت ثم خرج وبيده مخدتان وعلى كتفه فوطة فوضع إحداهما لي والأخرى له ثم قعد عليها وقال: استخر الله فكشفت الفوطة عن صلبه.
وقلت: أرني موضع الوجع.
فقال: ضع إصبعك عليه فإني أخبرك به فوضعت إصبعي.
وقلت: ها هنا موضع الوجع.
قال: ههنا أحمد الله على العافية.
فقلت ها هنا.
قال: هاهنا أحمد الله على العافية.
فقلت هاهنا.
قال: هاهنا أسأل الله العافية.
قال: فعلمت انه موضع الوجع.
قال: فوضعت المبضع عليه فلما أحس بحرارة المبضع وضع يده على رأسه وجعل يقول: اللهم أغفر للمعتصم حتى بططته فأخذت القطعة الميتة ورميت بها وشددت العصابة عليه وهو لا يزيد على قوله: اللهم أغفر للمعتصم قال: ثم هدأ وسكن.
ثم قال: كأني كنت معلقا فأصدرت.
قلت: يا أبا عبد الله إن الناس إذا امتحنوا محنة دعوا على من ظلمهم ورأيتك تدعو للمعتصم.
قال: إني أفكرت فيما تقول وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكرهت أن آتي يوم القيامة وبيني وبين أحد من قرابته خصومة هو مني في حل)) اهـ.
وأخرج الخلال رحمه الله في ((السنة)) عن أحمد بن الحسين بن حسان قال سمعت أبا عبد الله وسئل عن طاعة السلطان.
فقال بيده: (عافا الله السلطان تنبغي سبحان الله السلطان).
وأخرج الخلال رحمه الله في ((السنة)) قال: وأخبرنا أبو بكر المروذي قال سمعت أبا عبد الله وذكر الخليفة المتوكل رحمه الله فقال: (إني لأدعو له بالصلاح والعافية).
وقال: (لإن حدث به حدث لتنظرن ما يحل بالإسلام).
وجاء في ((الآداب الشرعية)) للإمام ابن مفلح رحمه الله (فصل في دعاء المظلوم على ظالمه وشيء من مناقب أحمد).
وقال: ((وقال يحيى بن نعيم: لما خرج أبو عبد الله أحمد بن حنبل إلى المعتصم يوم ضرب.
قال له العون الموكل به: أدع على ظالمك.
قال: ليس بصابر من دعا على ظالمه يعني الإمام أحمد أن المظلوم إذا دعا على من ظلمه فقد انتصر)) اهـ.
وقال معالي الشيخ سليمان بن عبد الله أبا الخيل حفظه الله في ((نظرات تأصيلية)) (ص 21-22): ((وانظر إلى الإمام أحمد رحمه الله، الذي امتحن محنة شديدة في فتنة خلق القرآن، حتى قيل عنه: (إن الله تعالى حفظ الإسلام برجلين: أبي بكر يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة)، كيف كان موقفه من الخليفة المأمون؟ رغم تعذيبه له، وتضييقه على العلماء، وقتله لكثير منهم، فقد كان يسميه: أمير المؤمنين، ويدعو له)) اهـ.
* * *
الوقفة الثانية:
عنون الحلبي كما في (ص 217): (النصيحة لأئمة المسلمين)
ثم قال: ((ومن تلك الحقوق المشار إليها آنفًا حق النصيحة لأئمة المسلمين وحكامهم.
ثم نقل كلاما من كتاب ((البصائر ذوي التمييز)) للفيروزآبادي (3/65): ((فإن الأئمة هم الولاة من الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من يلي إلى أمر الأمة ويقوم به.
ومن نصيحتهم معاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وأمرهم به، وتنبيههم وتذكيرهم برفق، وإعلامهم بما غفلوا عنه، وترك الخروج عليهم، وتألف الناس لطاعتهم...)) الخ.
وعند قول: ((وترك الخروج عليهم)) علق الحلبي في الحاشية (ص 217): ((وفي هذا تفصيلات فقهية دقيقة، ليس هنا موضع بينها)) اهـ.
تعليق الحلبي الخلفي هذا فيه حشو، فسياق الكلام وسباقه ولحاقه والعنوان الذي وضعه كله يصب في الحديث على الإمام المسلم، وترك الخروج عليه.
فما هي هذه التفصيلات الفقهية الدقيقة؟!!
وأهل العلم وسلفنا الصالح ومن تبعهم بإحسان عندما يتكلمون على النصيحة لأئمة المسلمين ومنها ترك الخروج عليهم يطلقون ولا يقيدون ولا يفصلون؛ ولا يذكرون تلك التفصيلات إلا عند حديثهم عمن ظهر كفره، والعنوان الذي وضعه الحلبي: (النصيحة لأئمة المسلمين) لا يشير لا من قريب ولا من بعيد على من ارتد من الحاكم وظهر كفره.
وهذه جملة من كلام أهل العلم من سلفنا الصالح ومن بعض المعاصرين في إطلاق قولهم بترك الخروج على السلطان عند كلامهم على النصيحة لولي الأمر، ولم يفصلوا تفصيلات دقيقة ولا غير دقيقة.
قال ابن منده رحمه الله في ((الإيمان)): ((وأما النصيحة لأئمة المسلمين فحب صلاحهم ورشدهم وعدلهم واجتماع الأمة عليهم وكراهية افتراق الأمة عليهم والتدين بطاعتهم في طاعة الله والبغض لمن أراد الخروج عليهم)) اهـ.
وقال الخطابى رحمه الله كما في ((شرح النووي على مسلم)): ((ومن النصيحة لهم الصلاة خلفهم والجهاد معهم وأداء الصدقات إليهم وترك الخروج بالسيف عليهم إذا ظهر منهم حيف أو سوء عشرة)) اهـ.
وقال الإمام محمد بن نصر المروزي رحمه الله في ((تعظيم قدر الصلاة)): ((النصيحة لأئمة المسلمين تعني حب صلاحهم... والبغض لمن رأى الخروج عليهم)) اهـ.
وقال الإمام البغوى رحمه الله في ((شرح السنة)): ((فمن نصيحتهم بذل الطاعة لهم في المعروف،... وترك الخروج عليهم بالسيف إذا ظهر منهم حيفٌ، أو سوءُ سيرةٍ)) اهـ.
وقال القاضي عياض رحمه الله في ((الشفا)): ((وأما النصح لأئمة المسلمين: فطاعتهم في الحق،... وترك الخروج عليهم)) اهـ.
وقال القرطبي رحمه الله في ((تفسيره)): ((والنصح للأئمة المسلمين ترك الخروج عليهم)) اهـ.
وقال النووي رحمه الله في ((شرحه على مسلم)): ((وأمَّا النَّصيحةُ لأئمَّة المسلمين فمعاونَتُهم على الحقِّ وطاعتُهم فيه،... وتركُ الخروج عليهم)) اهـ.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله في ((جامع العلوم والحكم)): ((وأما النصيحة لأئمة المسلمين فحب صلاحهم... والبغض لمن رأى الخروج عليهم وحب إعزازهم في طاعة الله عز و جل)) اهـ.
وقال العلامة الفيروزابادى رحمه الله في ((بصائر ذوى التمييز فى لطائف الكتاب العزيز)): ((ومن نصيحتهم مُعاوَنَتُهم على الحقّ وطاعتُهم فيه،... وتركُ الخروج عليهم)) اهـ.
وقال الملا علي القاري رحمه الله في ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)): ((ولأئمة المسلمين بأن ينقاد لطاعتهم في الحق ولا يخرج عليهم إذا جاروا)) اهـ.
وقال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في ((الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة)): ((وأما النصيحة لأئمة المسلمين، وهم ولاتهم من السلطان الأعظم إلى الأمير إلى القاضي إلى جميع من لهم ولاية صغيرة أو كبيرة، فهؤلاء لما كانت مهماتهم وواجباتهم أعظم من غيرهم وجب لهم من النصيحة بحسب مراتبهم ومقاماتهم، وذلك باعتقاد إمامتهم... وعدم الخروج عليهم)) اهـ.
وقال الشيخ محمد بن جميل زينو رحمه الله كما في ((مؤلفات الشيخ)): ((النصيحة لأئمة المسلمين والحكام: تكون بمعاونتهم على الحق... وترك الخروج عليهم بالسيف إذا ظهر منهم حيف أو سوء عشرة)) اهـ.
وقال الإمام ابن باز رحمه الله كما في ((مجموع الفتاوى)): ((أما النصيحة لأئمة المسلمين فبالدعاء لهم... وترك الشر وعدم الخروج عليهم)) اهـ.
وقال الإمام ابن عثيمين رحمه الله في ((شرح الأربعين نووية)): ((النصيحة للأمراء تكون بأمور منها:
خامساً: عدم الخروج عليهم، وعدم المنابذة لهم)) اهـ.
وقال العلامة عبد المحسن العباد حفظه الله في ((شرح الأربعين النووية)): ((أما النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم فالولاة يكون النصح لهم بالسمع والطاعة لهم بالمعروف،... وترك الخروج عليهم)) اهـ.
وقال العلامة صالح آل الشيخ حفظه الله في ((شرح الأربعين النووية)): ((والنصيحة لأئمة المسلمين أن يُعْطَوا حقهم الذي أعطاهم الله جل وعلا إياه، وبينه تعالى في الكتاب، وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة؛ من طاعتهم في المعروف،... وأن يُتْرَك الخروج عليهم بالسّيف طاعة لله جلَّ وعلا وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم)) اهـ.
وكل خير في إتباع من سلف *** وكل شر في ابتداع من خَلَف
* * *
الوقفة الثالثة:
نقل الحلبي كلاما للحافظ ابن حجر رحمه الله في (ص 218).
وقال الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)): ((والنصيحة لأئمة المسلمين إعانتهم على ما حملوا القيام به، وتنبيههم عند الغفلة، وسد خلتهم عند الهفوة، وجمع الكلمة عليهم، ورد القلوب النافرة إليهم.
ومن أعظم نصيحتهم دفعهم عن الظلم بالتي هي أحسن)).
ثم قال الحلبي: ((أقول: وأئمة المسلمين – حقا – هم الذين ارتضوا بالله ربا، وبالإسلام دينًا، وبالقرآن دستورًا، وبالرسول صلى الله عليه وسلم أسوة وقدوة...
ليسوا هم الذين غيروا وبدلوا...
ليسوا هم المنحرفين الطاغين الفاجرين...
ليسوا هم الحاكمين بغير ما أنزل رب العالمين...)) انتهى بحروفه وعلاماته.
هكذا اطلاقات في اطلاقات ليسوا هم الذين غيروا وبدلوا وليسوا هم المنحرفين الطاغين الفاجرين وليسوا هم الحاكمين بغير ما أنزل رب العالمين.
فمن انحرف وطغي وفجر من السلاطين ولم يصل به الأمر من الخروج عن الملة والوقوع في الردة فهو من أئمة المسلمين بحق وإن رغمت أنوف، ومن عقيدة سلفنا الصالح لا نكفر أحدا بكل ذنب ما لم يستحله.
والحكم بغير ما أنزل الله فيه تفصيل ما هو المقصود من هذه اطلاقات يا حلبي؟
ومن أكثر ما يسبب الإشكالات مثل هذه الاطلاقات، وعند بيان خطأ هذا الإطلاق يُأتي بمبررات أنه وضح وقيد وبين في عدة مواضع من كتبه وأشرطته ويستدلون بالقاعدة المأربية (جمل المجمل على المفصل) - وهي من شر القواعد التي وضعت في هذا العصر في الدفاع عن أهل الأهواء والبدع - وكان الواجب عليهم أن يبينوا خطأ هذه الاطلاقات.
وفي هذه الوقفات تنبيه لكل من تمسك بخيوط الحلبي التي هي أوهي من خيط العنكبوت، والله أعلم، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
عزالدين بن سالم بن الصادق أبوزخار
طرابلس الغرب: يوم الخميس 24 جمادى الآخرة سنة 1438 هـ
الموافق لـ: 25 مارس سنة 2017 ف

[1] يكفر من حكم بغير من أنزل الله إذا استحل ما حرم الله وهو عالم غير مكره أو يرى أن التحاكم للقوانين الوضعية أحسن من شرع الله أو مساوية له واعتقده جائزا.