ذكر أنواع المحبة:

قال الشيخ العثيمين في القول المفيد:
أصل الأعمال كلها هو المحبة، فالإنسان لا يعمل إلا لما يحب، إما لجلب منفعة، أو لدفع مضرة، فإذا عمل شيئاً، فلأنه يحبه إما لذاته كالطعام : أو لغيره كالدواء.
وعبادة الله مبنية على المحبة، بل هي حقيقة العبادة، إذ لو تعبدت بدون محبة صارت عبادتك قشراً لا روح فيها، فإذا كان الإنسان في قلبه محبة لله والوصول إلى جنته، فسوف يسلك الطريق الموصل إلى ذلك.
ولهذا لما أحب المشركون آلهتهم توصلت بهم هذه المحبة إلى أن عبدوها من دون الله أو مع الله.
والمحبة تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : محبة عبادة، وهي التي توجب التذلل والتعظيم، وأن يقوم بقلب الإنسان من إجلال المحبوب وتعظيمه ما يقتضي أن يمتثل أمره ويجتنب نهيه، وهذه خاصة بالله، فمن أحب مع الله غيره محبة عبادة، فهو مشرك شركاً أكبر، ويعبر العلماء عنها بالمحبة الخاصة .
القسم الثاني: محبة ليست بعبادة في ذاتها، وهذه أنواع:
النوع الأول: المحبة لله وفي الله، وذلك بأن يكون الجالب لها محبة الله، أي: كون الشيء محبوباً لله تعالى من أشخاص: كالأنبياء، والرسل، والصديقين، والشهداء، والصالحين.
أو أعمال: كالصلاة، والزكاة، وأعمال الخير، أو غير ذلك.
وهذا النوع تابع للقسم الأول الذي هو محبة الله .
النوع الثاني: محبة إشفاق ورحمة، وذلك كمحبة الولد، والصغار، والضعفاء، والمرضى.
النوع الثالث: محبة إجلال وتعظيم لا عبادة، كمحبة الإنسان لوالده، ولمعلمه، ولكبير من أهل الخير.
النوع الرابع: محبة طبيعية ، كمحبة الطعام ، والشراب ، والملبس ، والمركب ، والمسكن .
وأشرف هذه الأنواع النوع الأول، والبقية من قسم المباح، إلا إذا اقترن بها ما يقتضى التعبد صارت عبادة، فالإنسان يحب والده محبة إجلال وتعظيم، وإذا اقترن بها أن يتعبد لله بهذا الحب من أجل أن يقوم ببر والده صارت عبادة، وكذلك يحب ولده محبة شفقة، وإذا اقترن بها ما يقتضي أن يقوم بأمر الله بإصلاح هذا الولد صارت عبادة .
وكذلك المحبة الطبيعية، كالأكل والشرب والملبس والمسكن إذا قصد بها الاستعانة على عبادة صارت عبادة، ولهذا " حبب للنبي ( النساء والطيب " من هذة الدنيا، فحبب إليه النساء، لأن ذلك مقتضى الطبيعة ولما يترتب عليه من المصالح العظيمة، وحبب إليه الطيب، لأنه ينشط النفس ويريحها ويشرح الصدر، ولأن الطيبات للطيبين، والله طيب لا يقبل إلا طيباً.
فهذه الأشياء إذا اتخذها الإنسان بقصد العبادة صارت عبادة، قال النبي ( : " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى " .
وقال العلماء : إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، قالوا : الوسائل لها أحكام المقاصد، وهذا أمر متفق عليه ." اهـ

قال الشيخ عبدالرحمن السعدي في القول السديد شرح كتاب التوحيد:
أصل التوحيد وروحه إخلاص المحبة لله وحده وهي أصل التأله والتعبد له بل هي حقيقة العبادة ولا يتم التوحيد حتى تكمل محبة العبد لربه، وتسبق محبته جميع المحاب وتغلبها ويكون لها الحكم عليها بحيث تكون سائر محاب العبد تبعا لهذه المحبة التي بها سعادة العبد وفلاحه .
ومن تفريعها وتكميلها الحب في الله والبغض في الله فيحب العبد ما يحبه الله من الأعمال والأشخاص ويبغض ما يبغضه الله من الأشخاص والأعمال، ويوالي أولياءه ويعادي أعداءه، وبذلك يكمل إيمان العبد وتوحيده .
أما اتخاذ أنداد من الخلق يحبهم كحب الله ويقدم طاعتهم على طاعة الله ويلهج بذكرهم ودعائهم فهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، وصاحب هذا الشرك قد انقطع قلبه من ولاية العزيز الحميد، وتعلق بغيره ممن لا يملك له شيئا، وهذا السبب الواهي الذي تعلق به المشركون سينقطع يوم القيامة أحوج ما يكون العبد لعمله وستنقلب هذه المودة والموالاة بغضا وعداوة .
واعلم أن أنواع المحبة ثلاثة أقسام :
الأول : محبة الله التي هي أصل الإيمان والتوحيد .
الثاني : المحبة في الله وهي محبة أنبياء الله ورسله وأتباعهم ومحبة ما يحبه الله من الأعمال والأزمنة والأمكنة وغيرها وهذه تابعة لمحبة الله ومكملة لها .
الثالث : محبة مع الله وهي محبة المشركين لآلهتهم وأندادهم من شجر وحجر وبشر وملك وغيرها وهي أصل الشرك وأساسه .
وهنا قسم رابع وهو المحبة الطبيعية التي تتبع ما يلائم العبد ويوافقه من طعام وشراب ونكاح ولباس وعشرة وغيرها، وهذه إذا كانت مباحة إن أعانت على محبة الله وطاعته دخلت في باب العبادات، وإن صدت عن ذلك وتوصل بها إلى ما لا يحبه الله دخلت في المنهيات، وإلا بقيت من أقسام المباحات، والله أعلم ." اهـ
المحبة من شروط لاإله إلا الله:

قال الشيخ حافظ الحكمي في معارج القبول:
و السابع:-أي: من الشروط- المحبة لهذه الكلمة ولما اقتضته ودلت عليه ولأهلها العاملين بها الملتزمين لشروطها وبغض ما ناقض ذلك قال الله عز و جل: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله" البقرة 561 ، وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم" المائدة 45 فأخبرنا الله عز وجل أن عباده المؤمنين أشد حبا له، وذلك لأنهم لم يشركوا معه في محبته أحدا، كما فعل مدعو محبته من المشركين الذين اتخذوا من دونه أندادا يحبونه كحبه، وعلامة حب العبد ربه تقديم محابه وإن خالفت هواه، وبغض ما يبغض ربه وإن مال إليه هواه، وموالاة من والى الله ورسوله، ومعاداة من عاداه واتباع رسوله صلى الله عليه و سلم، واقتفاء أثره، وقبول هداه وكل هذه العلامات شروط في المحبة، لا يتصور وجود المحبة مع عدم شرط منها، قال الله تبارك وتعالى: أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا" الفرقان 34 الآيات، وقال تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله" الجاثية 32، فكل من عبد مع الله غيره فهو في الحقيقة عبد لهواه، بل كل ما عصى الله به من الذنوب فسببه تقديم العبد هواه على أوامر الله عز و جل ونواهيه، وقال تعالى في شأن الموالاة والمعاداة فيه "قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم أنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده" الممتحنه 4 الآية، وقال تعالى " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أوأبناءهم أوإخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الايمان" الجاثية 22 الآية، وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياءه بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم" المائدة 15 الآيات، وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون" التوبة 32 42 الآيتين، وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء" الممتحنه 1 آلى آخر السورة، وغير ذلك من الآيات، وقال تعالى في اشتراط اتباع رسوله صلى الله عليه و سلم: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين" آل عمران 13 وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار" أخرجاه من حديث أنس رضي الله عنه، وفيهما عنه وعن أبي هريرة رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" وفي كتاب الحجة بسند صحيح عن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به" – الحديث فيه مقال- وذلك الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الخبر عن الله والأمر بما يحبه الله ويرضاه والنهي عما يكره ويأباه فإذا امتثل العبد ما أمره به واجتنب ما نهى الله عنه وإن كان ذلك مخالفا لهواه كان مؤمنا حقا، فكيف إذا كان لا يهوى سوى ذلك، وفي الحديث "أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض فيه" وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك، وقد أصبح غالب مؤاخاة الناس اليوم على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئا" وقال الحسن البصري وغيره من السلف: ادعى قوم محبة الله عز وجل فابتلاهم الله بهذه الآية "قل إن كنتم تحبون الله فآتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم قل أطيعوا الله والرسوله فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين" وقال البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا محمد بن سنان قال حدثنا فليح قال حدثنا هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا يا رسول الله ومن يأبى قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى" قال حدثنا محمد بن عبادة أخبرنا يزيد حدثنا سليم وأثنى عليه حدثنا سعيد بن ميناء حدثنا أو سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم فقال بعضهم إنه نائم وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقظان فقالوا إن لصاحبكم هذا مثلا فاضربوا له مثلا فقال بعضهم إنهم نائمون وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقظان فقالوا إن مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة فقالوا أولوها له يفقهها فقال بعضهم إنه نائم وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقظان فقالوا فالدار الجنة والداعي محمد صلى الله عليه و سلم فمن أطاع محمدا صلى الله عليه و سلم فقد أطاع الله ومن عصى محمدا صلى الله عليه و سلم فقد عصى الله ومحمد صلى الله عليه و سلم فرق بين الناس" ومن هنا يعلم أنه لا تتم شهادة أن لا إله إلا الله إلا بشهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه و سلم، فإذا علم أنه لا تتم محبة الله عز و جل إلا بمحبة ما يحبة وكراهة ما يكرهه فلا طريق إلى معرفة ما يحبه تعالى ويرضاه وما يكرهه ويأباه إلا باتباع ما أمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم واجتناب ما نهى عنه، فصارت محبته مستلزمة لمحبة رسول الله وتصديقه ومتابعته ولهذا قرن محبته بمحبة رسول الله صلى الله عليه و سلم في مواضع كثيرة من القرآن كقوله عز و جل" قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجها في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين" التوبه 42 وغير ذلك من الآيات ."اهـ
وقال: ومن تتبع القرآن والسنة وتدبر نصوصهما تبين له أنها لا تخرج عن الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك وما يتعلق بذلك ولم يخلق الله الخلق إلا لذلك، التعريف بالشرك وهو أي: الشرك الذي تقدم ذكره في المتن وذكر النصوص فيه في الشرح اتخاذ العبد غير الله من نبي أو ولي أو ملك أو قبر أو جني أو شجر أو حجر أو حيوان أو نار أو شمس أو قمر آو كوكب أو غير ذلك ندا من دون الله مساويا به الله يحبه كحب الله ويخافه ويخشاه كخشية الله ويتبعه على غير مرضاة الله ويطيعه في معصية الله ويشركه في عبادة الله مضاهي به الله، قال الله تعالى "ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله " البقرة 165 وحكى عنهم في اختصامهم في النار" قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين" الشعراء 96 98، وقد أخبرنا الله عز و جل أنهم لم يسووهم به في خلق ولا رزق ولا إحياء ولا إماتة ولا في شيء من تدبير الملكوت، بل أخبرنا أنهم مقرون لله تعالى بالربوبية "ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم" الزخرف 9 ، وغير ذلك من الآيات والأحاديث التي تقدمت ولكنهم سووهم بالله تعالى في حبهم إياهم كحب الله ولم يجعلوا المحبة لله وحده، في خوفهم منهم وخشيتهم كخشية الله ولم يجعلوا الخشية لله والخوف من الله وحده، وأشركوهم في عبادة الله ولم يفردوا الله بالعبادة دون من سواه مع أنهم لم يعبدوهم استقلالا، بل زعموهم شفعاء لهم عند الله ليقربوهم إلى الله زلفى، ولكن اعتقدوا تلك الشفاعة والتقريب ملكا للمخلوق ويطلبونه منه، وأن له أن يشفع بدون إذن الله، والله تعالى يقول "ما من شفيع إلا من بعد إذنه" يونس ،3 ولهذا سمى الله تعالى استشفاعهم ذلك شركا، كما قال تعالى: ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون" يونس " اهـ

تفسير آية: ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله:

قال الشيخ العثيمين رحمه الله في القول المفيد:
قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله...( الآية.
قوله: من الناس: من للتبعيض، وعلامتها أن يصح أن يحل محلها بعض، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم، و(من يتخذ) مبتدأ مؤخر، أي من يجعل لله أنداداً، ومفعولها الأول "أنداداً" مؤخراً، ومفعولها الثاني "من دون الله" مقدماً.
وقوله: (يتخذ): جاءت بالإفراد مراعاة للفظ "من".
وقوله: (يحبونهم): بالجمع مراعاة للمعنى.
وقوله: (أنداداً): جمع ند، وهو الشبيه والنظير، ولهذا قال النبي ( لمن قال له ما شاء الله وشئت: "أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده".
وقوله: (يحبونهم كحب الله): هذا وجه المشابهة، أي: الندية في المحبة يحبونهم كحب الله.
واختلف المفسرون في قوله: (كحب الله):
فقيل: يجعلون محبة الأصنام مساوية لمحبة الله، فيكون في قلوبهم محبة لله ومحبة للأصنام، ويجعلون محبة الأصنام كمحبة الله، فيكون المصدر مضافاً إلى مفعوله، أي يحبون الأصنام كحبهم لله.
وقيل: يحبون هذه الأصنام محبة شديدة كمحبة المؤمنين لله.
وسياق هذه الآية يؤيد القول الأول.
وقوله: (والذين آمنوا أشد حباً لله).
على الرأي الأول يكون معناها: والذين آمنوا أشد حباً لله من هؤلاء لله، لأن محبة المؤمنين خالصة، ومحبة هؤلاء فيها شرك بين الله وبين أصنامهم.
وعلى الرأي الثاني معناها: والذين آمنوا أشد حباً لله من هؤلاء لأصنامهم، لأن محبة المؤمنين ثابتة في السراء والضراء على برهان صحيح، بخلاف المشركين، فإن محبتهم لأصنامهم تتضاءل إذا مسهم الضر.
فما بالك برجل يحب غير الله أكثر من محبته لله؟! وما بالك برجل يحب غير الله ولا يحب الله؟! فهذا أقبح وأعظم، وهذا موجود في كثير من المنتسبين للإسلام اليوم، فإنهم يحبون أولياءهم أكثر مما يحبون الله، ولهذا لو قيل له: أحلف بالله، حلف صادقاً أو كاذباً، أما الولي، فلا يحلف به إلا صادقاً.
وتجد كثيراً منهم يأتون إلى مكة والمدينة ويرون أن زيارة قبر الرسول أعظم من زيارة البيت، لأنهم يجدون في نفوسهم حباً لرسول الله كحب الله أو أعظم، وهذا شرك، لأن الله يعلم أننا ما أحببنا رسول الله إلا لحب الله، ولأنه رسول الله، ما أحببناه لأنه محمد بن عبدالله، لكننا أحببناه، لأنه رسول الله، فنحن نحبه بمحبة الله، لكن هؤلاء يجعلون محبة الله تابعة لمحبة الرسول.
فهذه الآية فيها محنة عظيمة لكثير من قلوب المسلمين اليوم الذين يجعلون غير الله مثل الله في المحبة، وفيه أناس أيضاً أشركوا بالله في محبة غيره، لا على وجه العبادة الشرعية، لكن على وجه العبادة المذكورة في الحديث، وهي محبة الدرهم والدينار والخميصة والخميلة، يوجد أناس لو فتشت عن قلوبهم، لوجدت قلوبهم ملأى من محبة متاع الدنيا، وحتى هذا الذي جاء يصلي هو في المسجد لكن قلبه مشغول بما يحبه من أمور الدنيا.
فهذا نوع من أنواع العبادة في الحقيقة، لو حاسب الإنسان نفسه لماذا خلق؟ لعلم أنه خلق لعبادة الله، وأيضاً خلق لدار أخرى ليست هذه الدار، فهذه الدار مجاز يجوز الإنسان منها إلى الدار الأخرى، الدار التي خلق لها والتي يجب أن يعنى بالعلم لها، يا ليت شعري متى يوماً من الأيام فكر الإنسان ماذا عملت؟ وكم بقي لي في هذه الدنيا؟ وماذا كسبت؟ الأيام تمضي ولا أدري هل ازددت قرباً من الله أو بعداً من الله؟ هل نحاسب أنفسنا عن هذا الأمر؟
فلا بد لكل إنسان عاقل من غاية، فما هي غايته؟
نحن الآن نطلب العلم للتقرب إلى الله بطلبه، وإعلام أنفسنا، وإعلام غيرنا، فهل نحن كلما علمنا مسألة من المسائل طبقناها؟ نحن على كل حال نجد في أنفسنا قصوراً كثيراً وتقصيراً، وهل نحن إذا علمنا مسألة ندعو عباد الله إليها؟ هذا أمر يحتاج إلى محاسبة، ولذلك، فإن على طالب العلم مسؤولية ليست هينة، عليه أكثر من زكاة المال، فيجب أن يعمل ويتحرك ويبث العلم والوعي في الأمة الإسلامية، وإلا انحرفت عن شرع الله.
قال ابن القيم رحمه الله: كل الأمور تسير بالمحبة، فأنت مثلاً لا تتحرك لشيء إلا وأنت تحبه، حتى اللقمة من الطعام لا تأكلها إلا لمحبتك لها.
ولهذا قيل: إن جميع الحركات مبناها على المحبة، فالمحبة أساس العمل، فالإشراك في المحبة إشراك بالله.
والمحبة أنواع:
الأول: المحبة لله، وهذه لا تنافي التوحيد، بل هي من كماله، فأوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله.
والمحبة لله هي أن تحب هذا الشيء، لأن الله يحبه، سواء كان شخصاً أو عملاً، وهذا من تمام التوحيد.
قال مجنون ليلي:
أمر على الديار ديار ليلى...... أقبل ذا الجدار وذا الجدار
وما حب الديار شغفن قلبي...ولكن حب من سكن الديارا
الثاني: المحبة الطبيعية التي لا يؤثرها المرء على محبة الله، فهذه لا تنافي محبة الله، كمحبة الزوجة، والولد، والمال، ولهذا لما سئل النبي (: من أحب الناس إليك؟ قال: "عائشة". قيل: فمن الرجال؟ قال: "أبوها".
ومن ذلك: محبة الطعام والشراب واللباس.
الثالث: المحبة مع الله التي تنافي محبة الله، وهي أن تكون محبة غير الله كمحبة الله أو أكثر من محبة الله، بحيث إذا تعارضت محبة الله ومحبة غيره قدم محبة غير الله، وذلك إذا جعل هذه المحبة نداً لمحبة الله يقدمها على محبة الله أو يساويها بها.
الشاهد من هذه الآية: أن الله جعل هؤلاء الذين ساووا محبة الله بمحبة غيره مشركين جاعلين لله أنداداً." اهـ

قال الشيخ صالح الفوزان في إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} تتمة الآية: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}.
"{وَمِنَ النَّاسِ}" بعض الناس يعني: المشركين.
"{مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ}" يعني: غير الله.
"{أَنْدَاداً}" جمع نِدْ، والنِّد معناه: الشبيه والنظير والمثيل، يقال: فلان نِدُّ فلان، بمعنى: أنه يشبهه، وأنه نظيره، وأنه يساويه.
فاتخاذ الأنداد من دون الله معناه اتخاذ الشركاء، سُمُّوا أنداداً لأن المشركين سوّوهم بالله عزّ وجلّ، وشبّهوهم بالله عزّ وجلّ وأحبوهم محبة عبادة وتذلل.
"{يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}" الحب عمل قلبي ضد البُغض.
فالمشركون اتخذوا من الأحجار والأشجار والأصنام شركاء لله سوّوهم بالله في المحبة، يحبونهم كما يحبون الله عزّ وجلّ، فالمراد هنا محبة العبادة، فالمشركون يحبون أصنامهم كما يحبون الله عزّ وجلّ محبة عبادة وتذلل.
"{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}" من المشركين لله، فالمشركون يحبون الله، والمؤمنون يحبون الله، ولكن المشركين يحبون الله ويحبون معه غيره، أما المؤمنون فيحبون الله وحده، ولا يشركون معه غيره في المحبة، فلذلك صار المؤمنون أشد حبًّا لله، لأن محبتهم خالصة، ومحبة المشركين مشتركة، فدلّت الآية على أن المشركين يحبون الله، ولكنهم لمّا أحبوا معه غيره صاروا مشركين، وأن التّوحيد لا يصح إلاَّ بإخلاص المحبة لله عزّ وجلّ.
فدلّت الآية الكريمة على: أن من تفسير لا إله إلاَّ الله وتفسير التّوحيد إفراد الله بالمحبّة، وأن لا يُحَبَّ معه غيره محبة عبادة بل يُفرد الله جل وعلا بالمحبّة، ولا يُحَبَّ معه غيره، محبة العبادة." اهـ

قال الشيخ صالح آل الشيخ في كفاية المستزيد شرح كتاب التوحيد:
وجه الاستدلال بالآية ومناسبتها للباب ظاهرة في أن التشريك في المحبة منافٍ لكلمة التوحيد، مناف للتوحيد من أصله؛ بل حَكَم الله عليهم بأنهم اتخذوا أندادا من دون الله، ووصفهم بأنهم اتخذوا الأنداد في المحبة، والمحبة محركة وهي تبعث على التصرفات.
فإذن هنا فيه ذكر للمحبة. والمحبة نوع من أنواع العبادة ولما لم يفردوا الله بهذه العبادة صاروا متخذين أندادا من دون الله، وهذا معنى التوحيد ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله."اهـ

المحبة التي هي من العبادة:

قال الشيخ صالح آل الشيخ في كفاية المستزيد شرح كتاب التوحيد:
العبد يجب أن يكون الله جل وعلا أحب إليه من كل شيء حتى من نفسه، وهذه المحبة المراد منها محبة العبادة، وهي المحبة التي فيها تعلُّقٌ بالمحبوب بما يكون معه امتثال للأمر رغبة واختيارا، ورغب إلى المحبوب، واجتناب النهي رغبة واختيارا، فمحبة العبادة هي المحبة التي تكون في القلب، يكون معها الرغب والرهب، يكون معها الطاعة، يكون معها السعي في مراضي المحبوب والبعد عما لا يحب المحبوب، والموحد ما أتى للتوحيد إلا بشيء وقر في قلبه من محبة الله جل وعلا لأنه دلته ربوبية الله جل وعلا وأنه الخالق وحده وأنه ذو الملكوت وحده وأنه ذو الفضل والنعمة على عباده وحده من أنه محبوب، وأنه يجب أن يُحب، وإذا أحب العبد ربه فإنه يجب عليه أن يوحده بأفعال العبد، أن يوحد الله بأفعاله -يعني أفعال العبد- حتى يكون محبا له على الحقيقة.
لذلك نقول: المحبة التي هي من العبادة هي المحبة التي يكون فيها إتباع للأمر والنهي ورغب ورهب.
ولهذا قال طائفة من أهل العلم المحبة المتعلقة بالله ثلاثة أنواع:
( محبة الله على النحو الذي وصفنا، هذا نوع من العبادات الجليلة، ويجب إفراد الله جل وعلا بها.
( والنوع الثاني: محبة في الله وهو أن يحب الرسل في الله عليهم الصلاة والسلام، وأن يحب الصالحين في الله, يحب في الله وأن يبغض في الله.
( والنوع الثالث محبة مع الله وهذه محبة المشركين لآلهتهم؛ فإنهم يحبونها مع الله جل وعلا، فيتقربون إلى الله رغبا ورهبا نتيجة محبة الله، ويتقربون إلى الآلهة رغبا ورهبا نتيجة لمحبتهم لتلك الآلهة.
ويتضح المقام بتأمل حال المشركين وعبدة الأوثان وعبدة القبور في مثل هذه الأزمنة، فإنك تجد المتوجه لقبر الولي في قلبه من محبة ذلك الولي وتعظيمه ومحبة سدنة ذلك القبر ما يجعله في رغب ورهب وفي خوف وفي طمع وفي إجلال حين يعبد ذلك الولي أو يتوجه إليه بأنواع العبادة؛ لأجل تحصيل مطلوبه، فهذه هي محبة العبادة التي صرفها لغير الله جل وعلا شرك أكبر به؛ بل هي عماد الدين؛ بل هي عماد صلاح القلب، فإن القلب لا يصلح إلا بأن يكون محبا لله جل وعلا، وأن تكون محبته لله جل وعلا أعظم من كل شيء.
فالمحبة؛ محبة الله وحده هذه -يعني محبة العبادة- هذه من أعظم أنواع العبادات، وإفراد الله بها واجب.
والمحبة مع الله محبة العبادة هذه شركية، من أحب غير الله جل وعلا معه محبة العبادة فإنه مشرك الشرك الأكبر بالله جل وعلا.
هذه الأنواع الثلاثة هي المحبة المتعلقة بالله.
أما النوع الثاني من أنواع المحبة، وهي المحبة المتعلقة بغير الله من جهة المحبة الطبيعية، وهذا أذن فيه الشرع وجائز؛ لأن المحبة فيها ليست محبة العبادة والرغب والرهب الذي هو من العبادة، وإنما هي محبة للدنيا، وذلك كمحبة الوالد لولده والولد لوالده والرجل لزوجته والأقارب لأقربائهم والتلميذ لشيخه والمعلم لأبنائه ونحو ذلك من الأحوال، هذه محبة طبيعية لا بأس بها؛ بل الله جل وعلا جعلها غريزة." اهـ

وقال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله تعالى:
والمحبة- كما ذكر العلماء- تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: محبة العبودية، وهذه يجب أن تكون خالصةً لله عزّ وجلّ، ومحبة العبودية هي التي يكون معها ذل للمحبوب. وهذه لا يجوز صرفها لغير الله، كما لا يجوز السجود لغير الله والذبح لغير الله والنذر لغير الله، فإنه لا تجوز محبة غير الله محبة عبودية يصحبها ذلٌّ وخضوع وطاعةٌ للمحبوب، وإنما هذه حقٌّ لله سبحانه وتعالى.
ولهذا يقول العلامة ابن القيم رحمه الله في "النونية":
وعبادة الرحمن غاية حبه ........ مع ذلُّ عابده هما قطبان
وعليك فَلَك العبادة دائر .... وما دار حتى قامت القطبان
ومداره بالأمر أمر رسوله ... لا بالهوى والنفس والشيطان
ويقول العلماء في تعريف العبادة هي: غاية الذل مع غاية الحب.
فالعبادة تترّكز على ثلاثة أشياء: على المحبة، وعلى الخوف، وعلى الرجاء.
فالمحبة والخوف والرجاء هي ركائز العبادة وأساسها، فإذا اجتمعتْ تحقّقت العبادة ونفعت كالصلاة والحج وسائر العبادات، أما إذا اختلّتْ هذه الثلاثة فإن الإنسان وإن صام وإن صلى وإن حج فإنها لا تكون عبادته صحيحة.
ويقول العلماء: "من عبد الله بالمحبة فقط فهو صوفي"، لأن الصوفية يزعمون أنهم يعبدون الله لأنهم يحبونه فقط، ويقولون: لا نعبده نخاف من ناره ولا نرجو جنته، وإنما نعبده لأننا نحبه. وهذا ضلال.
"ومن عبد الله بالرجاء فقط فهو مرجئ" لأن المرجئة يخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان.
"ومن عبد الله بالخوف فقط فهو خارجي" لأن الخوارج يكفرون المؤمنين بالمعاصي.
فالمرجئة أخذوا جانب الرجاء فقط، والصوفية أخذوا جانب المحبة فقط، والخوارج أخذوا جانب الخوف فقط.
وأهل السنّة والجماعة جمعوا بين الأمور الثلاثة -ولله الحمد-: المحبة مع الخوف والرجاء والذل والانقياد والطاعة، وبنوا على ذلك سائر أنواع التعبُّد والتقرُّب إلى الله سبحانه وتعالى.
النوع الثاني: محبة ليستْ محبة عبودية وهي أربعة أقسام:
القسم الأول: محبة طبيعية كمحبة الإنسان للطعام والشراب والمشتهيات المباحة، كالزوجة والملذات.
القسم الثاني: محبة إجلال، كمحبة الولد لوالده غير المشرك والكافر، فالولد يحب والده محبة إجلال وتكريم واحترام لأنه والده المحسن إليه والمربِّي له. وهذه محمودة ومأمور بها.
القسم الثالث: محبة إشفاق، كمحبة الوالد لولده، فالوالد يحب ولده محبة إشفاق.
القسم الرابع: محبة مصاحبة، كأن تحب شخصاً من أجل مصاحبتك له، إما لكونه زميلاً لك في العمل، أو شريكاً في تجارة، أو صاحباً لك في سفر، فأحببته من أجل المشاركة في شيء من الأشياء.
هذه الأقسام ليستْ من أنواع العبادة، لأنها ليس معها ذلّ، وليس معها خضوع." اهـ