أقسام البيان النبوي من إعلام الموقعين عن رب العالمين


قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: "إَنَّ الْبَيَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْسَامٌ :


أَحَدُهَا : بَيَانُ نَفْسِ الْوَحْيِ بِظُهُورِهِ عَلَى لِسَانِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ خَفِيًّا.
الثَّانِي : بَيَانُ مَعْنَاهُ وَتَفْسِيرُهُ لِمَنْ احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَ أَنَّ الظُّلْمَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ : ﴿ وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ هُوَ الشِّرْكُ.
وَأَنَّ الْحِسَابَ الْيَسِيرَ هُوَ الْعَرْضُ.
وَأَنَّ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْأَسْوَدَ هُمَا بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ.
وَأَنَّ الَّذِي رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى هُوَ جِبْرِيلُ.
كَمَا فَسَّرَ قَوْلَهُ : ﴿أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّك ﴾ أَنَّهُ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا.
وَكَمَا فَسَّرَ قَوْلَهُ :﴿ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ﴾بِأَنَّهَا النَّخْلَةُ.
وَكَمَا فَسَّرَ قَوْلَهُ : ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْقَبْرِ حِينَ يُسْأَلُ مَنْ رَبُّك وَمَا دِينُك.
وَكَمَا فَسَّرَ الرَّعْدَ بِأَنَّهُ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ.
وَكَمَا فَسَّرَ اتِّخَاذَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ بِأَنَّ ذَلِكَ بِاسْتِحْلَالِ مَا أَحَلُّوهُ لَهُمْ مِنْ الْحَرَامِ وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمُوهُ مِنْ الْحَلَالِ.
وَكَمَا فَسَّرَ الْقُوَّةَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ نُعِدَّهَا لِأَعْدَائِهِ بِالرَّمْيِ.
وَكَمَا فَسَّرَ قَوْلَهُ : ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾بِأَنَّهُ مَا يُجْزَى بِهِ الْعَبْدُ فِي الدُّنْيَا مِنْ النَّصَبِ وَالْهَمِّ وَالْخَوْفِ وَاللَّأْوَاءِ.
وَكَمَا فَسَّرَ الزِّيَادَةَ بِأَنَّهَا النَّظَرُ إلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ.
وَكَمَا فَسَّرَ الدُّعَاءَ فِي قَوْلِهِ : ﴿وَقَالَ رَبُّكُمْ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ بِأَنَّهُ الْعِبَادَةُ.
وَكَمَا فَسَّرَ أَدْبَارَ النُّجُومِ بِأَنَّهُ الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَأَدْبَارَ السُّجُودِ بِالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ.
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ .
الثَّالِثُ : بَيَانُهُ بِالْفِعْلِ كَمَا بَيَّنَ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ لِلسَّائِلِ بِفِعْلِهِ .
الرَّابِعُ : بَيَانُ مَا سُئِلَ عَنْهُ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَيْسَتْ فِي الْقُرْآنِ فَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِبَيَانِهَا. كَمَا سُئِلَ عَنْ قَذْفِ الزَّوْجَةِ فَجَاءَ الْقُرْآنُ بِاللِّعَانِ وَنَظَائِرِهِ .
الْخَامِسُ : بَيَانُ مَا سُئِلَ عَنْهُ بِالْوَحْيِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا، كَمَا سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ أَحْرَمَ فِي جُبَّةٍ بَعْدَمَا تَضَمَّخَ بِالْخَلُوقِ، فَجَاءَ الْوَحْيُ بِأَنْ يَنْزِعَ عَنْهُ الْجُبَّةَ وَيَغْسِلَ أَثَرَ الْخَلُوقِ.
السَّادِسُ : بَيَانُهُ لِلْأَحْكَامِ بِالسُّنَّةِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ، كَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ لُحُومَ الْحُمُرِ وَالْمُتْعَةَ وَصَيْدَ الْمَدِينَةِ وَنِكَاحَ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا وَأَمْثَالَ ذَلِكَ.
السَّابِعُ : بَيَانُهُ لِلْأُمَّةِ جَوَازَ الشَّيْءِ بِفِعْلِهِ هُوَ لَهُ وَعَدَمِ نَهْيِهِمْ عَنْ التَّأَسِّي بِهِ .
الثَّامِنُ : بَيَانُهُ جَوَازَ الشَّيْءِ بِإِقْرَارِهِ لَهُمْ عَلَى فِعْلِهِ وَهُوَ يُشَاهِدُهُ أَوْ يُعَلِّمُهُمْ يَفْعَلُونَهُ .
التَّاسِعُ : بَيَانُهُ إبَاحَةَ الشَّيْءِ عَفْوًا بِالسُّكُوتِ عَنْ تَحْرِيمِهِ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ نُطْقًا .
الْعَاشِرُ : أَنْ يَحْكُمَ الْقُرْآنُ بِإِيجَابِ شَيْءٍ أَوْ تَحْرِيمِهِ أَوْ إبَاحَتِهِ ، وَيَكُونُ لِذَلِكَ الْحُكْمِ شُرُوطٌ وَمَوَانِعُ وَقُيُودٌ وَأَوْقَاتٌ مَخْصُوصَةٌ وَأَحْوَالٌ وَأَوْصَافٌ، فَيُحِيلُ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ فِي بَيَانِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ فَالْحِلُّ مَوْقُوفٌ عَلَى شُرُوطِ النِّكَاحِ وَانْتِقَاءِ مَوَانِعِهِ وَحُضُورِ وَقْتِهِ وَأَهْلِيَّةِ الْمَحَلِّ، فَإِذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ بِبَيَانِ ذَلِكَ كُلِّهِ لَمْ يَكُنْ الشَّيْءُ مِنْهُ زَائِدًا عَلَى النَّصِّ فَيَكُونُ نَسْخًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ رَفْعًا لِظَاهِرِ إطْلَاقِهِ، فَهَكَذَا كُلُّ حُكْمٍ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَائِدٍ عَلَى الْقُرْآنِ، هَذَا سَبِيلُهُ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾، ثُمَّ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِأَنَّ الْقَاتِلَ وَالْكَافِرَ وَالرَّقِيقَ لَا يَرِثُ، وَلَمْ يَكُنْ نَسْخًا لِلْقُرْآنِ مَعَ أَنَّهُ زَائِدٌ عَلَيْهِ قَطْعًا، أَعْنِي فِي مُوجِبَاتِ الْمِيرَاثِ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ أَوْجَبَهُ بِالْوِلَادَةِ وَحْدَهَا، فَزَادَتْ السُّنَّةُ مَعَ وَصْفِ الْوِلَادَةِ اتِّحَادَ الدِّينِ وَعَدَمَ الرِّقِّ وَالْقَتْلِ"اهـ ([1]) .



([1]) إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/478).