ذكر بعض الأحاديث التي ادعوا عليها التناقض أو أنها تخالف كتاب الله أو التي يدفعها النظر و حجة العقل لإبن قتيبة-رحمه الله تعالى-
قال -رحمه الله تعالى-في كتابه: تأويل مختلف الحديث

قالوا حديث يكذبه النظر والخبر
قالوا رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الشمس تطلع من بين قرني شيطان فلا تصلوا لطلوعها قالوا فجعلتم للشيطان قرونا تبلغ السماء وجعلتم الشمس التي هي مثل الأرض مرات تجري بين قرنيه وأنتم مع هذا تزعمون أن الشيطان يجري من بن آدم مجرى الدم فهو في هذه الحال ألطف من كل شيء وهو في تلك الحال أعظم من كل شيء وجعلتم علة ترك الصلاة في وقت طلوع الشمس طلوعها من بين قرنيه وما على المصلي لله تعالى إذا جرت الشمس بين قرني الشيطان وما في هذا مما يمنع من الصلاة لله تعالى.

قال أبو محمد ونحن نقول إن إنكارهم لهذا الحديث إن كان من أجل أنهم لا يؤمنون بخلق الشياطين والجن وبأن الله تعالى جعل في تركيبها أن تتحول من حال إلى حال فتتمثل مرة في صورة شيخ ومرة في صورة شاب ومرة في مثال نار ومرة في مثال كلب ومرة في مثال جان ومرة تصل إلى السماء ومرة تصل إلى القلب ومرة تجري مجرى الدم فهؤلاء مكذبون بالقرآن وبما تواطأت عليه الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء المتقدمين وكتب الله تعالى المتقدمة والأمم الخالية لأن الله تعالى قد أخبرنا في كتابه أن الشياطين يقعدون من السماء مقاعد للسمع وأنهم يرمون بالنجوم وأخبرنا الله تعالى عن الشيطان أنه قال ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله وهو لا يظهر لنا فكيف يأمرنا بهذه الأشياء لولا أنه يصل إلى القلوب بالسلطان الذي جعله الله تعالى له فيوسوس بذلك ويزين ويمني كما قال الله جل وعز وكما روي في الحديث أنه رئي مرة في صورة شيخ نجدي ومرة في صورة ضفدع ومرة في صورة جان وقد سمى الله تعالى الجن رجالا كما سمانا رجالا فقال تعالى وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن وقال في الحور العين لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فدل ذلك على أن الجن تطمث كما يطمث الإنس والطمث الوطء بالتدمية قال أبو محمد ونحن لم نرد في هذا الكتاب أن نرد على الزنادقة ولا المكذبين بآيات الله عز وجل ورسله وإنما كان غرضنا الرد على من ادعى على الحديث التناقض والاختلاف واستحالة المعنى من المنتسبين إلى المسلمين وإن كان إنكاره لهذا الحديث لأنه رآه لا يقوم في وهمه ولأنه لا معنى لترك الصلاة من أجل أن الشمس تطلع بين قرني شيطان فنحن نريه المعنى حتى يتصور في وهمه له بإذن الله تعالى ويحسن عنده ولا يمتنع على نظره وإنما أمرنا بترك الصلاة مع طلوع الشمس لأنه الوقت الذي كانت فيه عبدة الشمس يسجدون فيه للشمس وقد درج كثير من الأمم السالفة على عبادة الشمس والسجود لها فمن ذلك ما قص الله تبارك وتعالى علينا في نبأ ملكة سبأ أن الهدهد قال لسليمان عليه السلام إني وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم وكان في العرب قوم يعبدون الشمس ويعظمونها ويسمونها الإلاهة قال الأعشى فلم أذكر الرهب حتى انفتلت قبيل الإلاهة منها قريبا يعني الشمس وكان بعض القراء يقرأ أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وإلهتك يريد ويذرك والشمس التي تعبد فكره لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي في الوقت الذي يسجد فيه عبدة الشمس للشمس وأعلمنا أن الشياطين حينئذ أو أن إبليس في ذلك الوقت في جهة مطلع الشمس فهم يسجدون له بسجودهم للشمس ويؤمونه ولم يرد بالقرن ما تصوروا في أنفسهم من قرون البقر وقرون الشاء وإنما القرن ههنا حرف الرأس وللرأس قرنان أي حرفان وجانبان ولا أرى القرن الذي يطلع في ذلك الموضع سمي قرنا إلا باسم موضعه كما تسمي العرب الشيء باسم ما كان له موضعا أو سببا فيقولون رفع عقيرته يريدون صوته لأن رجلا قطعت رجله فرفعها واستغاث من أجلها فقيل لمن رفع صوته رفع عقيرته ومثل هذا كثير في كلام العرب وكذلك قوله في المشرق من ههنا يطلع قرن الشيطان لا يريد به ما يسبق إلى وهم السامع من قرون البقر وإنما يريد من ههنا يطلع رأس الشيطان وكان وهب بن منبه يقول في ذي القرنين إنه رجل من أهل الإسكندرية واسمه الإسكندروس وأنه كان حلم حلما رأى فيه أنه دنا من الشمس حتى أخذ بقرنيها في شرقها وغربها فقص رؤياه على قومه فسموه ذي القرنين وأراد بأخذه بقرنيها أنه أخذ بجانبيها والقرون أيضا خصل الشعر كل خصلة قرن ولذلك قيل للروم ذات القرون يراد أنهم يطولون الشعور فأراد صلى الله عليه وسلم أن يعلمنا أن الشيطان في وقت طلوع الشمس وعند سجود عبدتها لها مائل مع الشمس فالشمس تجري من قبل رأسه فأمرنا أن لا نصلي في هذا الوقت الذي يكفر فيه هؤلاء ويصلون للشمس وللشيطان وهذا أمر مغيب عنا لا نعلم منه إلا ما علمنا والذي أخبرتك به شيء يحتمله التأويل ويباعده عن الشناعة والله أعلم ولم يأت أهل التكذيب بهذا وأشباهه إلا لردهم الغائب عنهم إلى الحاضر عندهم وحملهم الأشياء على ما يعرفون من أنفسهم ومن الحيوان والموات واستعمالهم حكم ذوي الجثث في الروحانيين فإذا سمعوا بملائكة على كواهلها العرش وأقدامها في الأرض السفلى استوحشوا من ذلك لمخالفته ما شاهدوا وقالوا كيف تخرق جثث هؤلاء السماوات وما بينهما والأرضين وما فوقها من غير أن نرى لذلك أثرا وكيف يكون خلق له هذه العظمة وكيف تكون أرواحا ولها كواهل وأقدار وإذا سمعوا بأن جبريل عليه السلام مرة أتى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة أعرابي ومرة في صورة دحية الكلبي ومرة في صورة شاب ومرة سد بجناحيه ما بين المشرق والمغرب قالوا كيف يتحول من صورة إلى صورة وكيف يكون مرة في غاية الصغر ومرة في غاية الكبر من غير أن يزاد في جسمه ولا جثته وأعراضه لأنهم لا يعاينون إلا ما كان كذلك وإذا سمعوا بأن الشيطان يصل إلى قلب بن آدم حتى يوسوس له ويخنس قالوا من أين يدخل وهل يجتمع روحان في جسم وكيف يجري مجرى الدم قال أبو محمد ولو اعتبروا ما غاب عنهم بما رأوه من قدرة الله جل وعز لعلموا أن الذي قدر على أن يفجر مياه الأرض كلها إلى البحر منذ خلق الله الأرض وما عليها فهي تفضي إليه من غير أن يزيد فيه أو ينقص منه ولو جعل لنهر منها مثل دجلة أو الفرات أو النيل سبيل إلى ما على وجه الأرض من المدائن والقرى والعمارات والخراب شهرا لم يبق على ظهرها شيء إلا هلك هو الذي قدر على ما أنكروا وأن الذي قدر أن يحرك هذه الأرض على عظمها وكثافتها وبحارها وأطوادها وأنهارها حتى تتصدع الجبال وحتى تغيض المياه وحتى ينتقل جبل من مكان إلى مكان هو الذي لطف لما قدر وأن الذي وسع إنسان العين مع صغره وضعفه لإدراك نصف الفلك على عظمه حتى رأى النجم من المشرق ورقيبه من المغرب وما بينهما وحتى خرق من الجو مسيرة خمسمائة عام هو الذي خلق ملكا ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة خمسمائة عام فهل ما أنكر إلا بمنزلة ما عرف وهل ما رأى إلا بمنزلة ما لم يره فتعالى الله أحسن الخالقين.

قالوا حديث يدفعه النظر وحجة العقل
قالوا رويتم عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أنا أحق بالشك من أبي إبراهيم ورحم الله لوطا إن كان ليأوي إلى ركن شديد ولو دعيت إلى ما دعي إليه يوسف لأجبت قالوا وهذا طعن على إبراهيم وطعن على لوط وطعن على نفسه عليهم السلام.

قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس فيه شيء مما ذكروا بحمد الله تعالى ونعمته فأما قوله أنا أحق بالشك من أبي إبراهيم عليه السلام فإنه لما نزل عليه وإذا قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال قوم سمعوا الآية شك إبراهيم صلى الله عليه وسلم ولم يشك نبينا صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أحق بالشك من أبي إبراهيم عليه السلام تواضعا منه وتقديما لإبراهيم على نفسه يريد أنا لم نشك ونحن دونه فكيف يشك هو وتأويل قول إبراهيم عليه السلام ولكن ليطمئن قلبي أي يطمئن بيقين النظر واليقين جنسان أحدهما يقين السمع والاخر يقين البصر ويقين البصر أعلى اليقينين ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس المخبر كالمعاين حين ذكر قوم موسى وعكوفهم على العجل قال أعلمه الله تعالى أن قومه عبدوا العجل فلم يلق الألواح فلما عاينهم عاكفين غضب وألقى الألواح حتى انكسرت وكذلك المؤمنون بالقيامة والبعث والجنة والنار مستيقنون أن ذلك كله حق وهم في القيامة عند النظر والعيان أعلى يقينا فأراد إبراهيم عليه السلام أن يطمئن قلبه بالنظر الذي هو أعلى اليقينين وأما قوله رحم الله لوطا إن كان ليأوي إلى ركن شديد فإنه أراد قوله لقومه لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد يريد سهوه في هذا الوقت الذي ضاق فيه صدره واشتد جزعه بما دهمه من قومه حتى قال أو آوي إلى ركن شديد وهو يأوي إلى الله تعالى أشد الأركان قالوا فما بعث الله نبيا بعد لوط إلا في ثروة من قومه وأما قوله لو دعيت إلى ما دعي إليه يوسف لأجبت يعني حين دعى للاطلاق من الحبس بعد الغم الطويل فقال للرسول ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ولم يخرج من الحبس في وقته يصفه بالأناة والصبر وقال لو كنت مكانه ثم دعيت إلى ما دعي إليه من الخروج إلى الحبس لأجبت ولم أتلبث وهذا أيضا جنس من تواضعه لا أنه كان عليه لو كان مكان يوسف فبادر وخرج أو على يوسف لو خرج من الحبس مع الرسول نقص ولا إثم وإنما أراد أنه لم يكن يستثقل محنة الله عز وجل له فيبادر ويتعجل ولكنه كان صابرا محتسبا.

قالوا حديث يدفعه النظر وحجة النظر
قالوا رويتم عن عبد العزيز بن المختار الأنصاري عن عبد الله الداناج قال شهدت أبا سلمة بن عبد الرحمن في مسجد البصرة وجاء الحسن فجلس إليه فحدث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الشمس والقمر ثوران مكوران في النار يوم القيامة فقال الحسن وما ذنبهما قال إني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت قالوا قد صدق الحسن ما ذنبهما وهذا من قول الحسن رد عليه أو على أبي هريرة .

قال أبو محمد ونحن نقول إن الشمس والقمر لم يعذبا بالنار حين أدخلاها فيقال ما ذنبهما ولكنهما خلقا منها ثم ردا إليها وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشمس حين غربت في نار الله الحامية لولا ما يزعها من أمر الله تعالى لأهلكت ما على الأرض وقال ما ترتفع في السماء قصمة إلا فتح لها باب من أبواب النار فإذا قامت الظهيرة فتحت الأبواب كلها وهذا يدلك على أن شدة حرها من فوح جهنم ولذلك قال أبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فوح جهنم فما كان من النار ثم رد إلى النار لم يقل إنه يعذب وما كان من المسخر المقصور على فعل واحد كالنار والفلك المسخر الدوار والبحر المسجور وأشباه ذلك لا يقع به تعذيب ولا يكون له ثواب وما مثل هذا إلا مثل رجل سمع بقول الله تعالى فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة فقال ما ذنب الحجارة.


قالوا حديثان متناقضان
قالوا رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ثم رويتم من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق والزنا والسرق أعظم عند الله من مثقال حبة من خردل من كبر قالوا وهذا اختلاف .

قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا اختلاف وهذا الكلام خرج مخرج الحكم يريد ليس حكم من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان أن يدخل النار ولا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر أن يدخل الجنة لأن الكبرياء لله تعالى ولا تكون لغيره فإذا نازعها الله تعالى لم يكن حكمه أن يدخل الجنة والله تعالى يفعل بعد ذلك ما يشاء ومثل هذا من الكلام قولك في دار رأيتها صغيرة لا ينزل في هذا الدار أمير تريد حكمها وحكم أمثالها أن لا ينزلها الأمراء وقد يجوز أن ينزلوها وقولك هذا بلد لا ينزله حر تريد ليس حكمه أن ينزله الأحرار وقد يجوز أن ينزلوه وكذلك قوله من صام الدهر ضيقت عليه جهنم لأنه رغب عن هدية الله تعالى وصدقته ولم يعمل برخصته ويسره والراغب عن الرخصة كالراغب عن العزم وكلاهما مستحق للعقوبة إن عاقبه الله عز وجل وكذلك قوله ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم أي حكمه أن يجزيه بذلك والله يفعل ما يشاء وهو على حديث أبي هريرة من وعده الله تعالى على عمل ثوابا فهو منجزه له ومن أوعده على عمل عقابا فهو فيه بالخيار وحدثني إسحاق بن إبراهيم الشهيدي قال نا قريش بن أنس قال سمعت عمرو بن عبيد يقول يؤتى بي يوم القيامة فأقام بين يدي الله عز وجل فيقول لي لم قلت إن القاتل في النار فأقول أنت قلته يا رب ثم تلا هذه الآية ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها فقلت له وما في البيت أصغر مني أرأيت إن قال لك فإني قد قلت إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء من أين علمت أني لا أشاء أن أغفر له قال فما استطاع أن يرد علي شيئا.

قالوا حديثان مختلفان
قالوا رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة واحدة ومن عملها كتبت له عشرا ثم رويتم نية المرء خير من عمله فصارت النية في الحديث الأول دون العمل وصارت في الحديث الثاني خيرا من العمل وهذا تناقض واختلاف.

قال أبو محمد ونحن نقول إنه ليس ههنا تناقض بحمد الله تعالى والهام بالحسنة إذا لم يعملها خلاف العامل لها لأن الهام لم يعمل والعامل لم يعمل حتى هم ثم عمل وأما قوله صلى الله عليه وسلم نية المرء خير من عمله فإن الله تعالى تخلد المؤمن في الجنة بنيته لا بعمله ولو جوزي بعمله لم يستوجب التخليد لأنه عمل في سنين معدودة والجزاء عليها يقع بمثلها وبأضعافها وإنما يخلده الله تعالى بنيته لأنه كان ناويا أن يطيع الله تعالى أبدا لو أبقاه ابدا فلما اخترمه دون نيته جزاه عليها وكذلك الكافر نيته شر من عمله لأنه كان ناويا أن يقيم على الكفر لو أبقاه أبدا فلما اخترمه الله تعالى دون نيته جزاه عليها.