المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بين حفظ الدعوة وحفظ الأشخاص ( الحلقة الثالثة )



أبو الوليد خالد الصبحي
14-Dec-2012, 06:12 PM
بين حفظ الدعوة وحفظ الأشخاص ( الحلقة الثالثة )



فهذه عودة بعد الحج كما وعدت لحلقات ( بين حفظ الدعوة وحفظ الأشخاص ) وهي الحلقة الثالثة وأرجو من الله القبول وأشكر كل الإخوة الذين راسلوني أو علقوا على الحلقتين السابقتين وحثوا على المواصلة, كما سيتم مواصلة حلقات كتاب ( الدفاع أمام العدوان الحرب المفروضة ).


العائق الثاني: السكوت عن خطأ المخطئ من أهل السنة.
فكما أن على القائمين على الدعوة وشؤونها أن يصموا آذانهم عن المديح والإطراء, فعليهم كذلك أن يرهفوا السمع للناصحين, ولاسيما إذا كانت من الألبَّاء المشهود لهم بالخير والعلم والنضج والخبرة وعليهم تنحية الظنون والتهم جانبا.
وما كلُّ ذي نصحٍ بمُؤتيكَ نُصحَـهُ وما كلُّ مُؤتٍ نُصحَهُ بلبيبِ
ولكنْ إذا ما استُجمِعَا عندَ واحـدٍ فحُقَ له مِنْ طـــــاعةٍ بنــــصيـبِ
وعليهم أن يقولوا بصدق لمن حولهم, كما قال الصديق رضي الله عنه عندما ولي الخلافة كما جاء في الموطأ « أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه خطب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال أما بعد... أيها الناس إنما أنا متبع، ولست بمبتدع، فإن أنا أحسنت فأعينوني، وإن زغت فقوموني، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ». قال مالك: « لا يكون أحد إماماً أبداً إلا على هذا الشرط » موطأ مالك ت الأعظمي (1 / 161). .
فما أعظم تعليق الإمام مالك: !! على كلام عظيم لإمام الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم الصديق الأكبر رضي الله عنه
ولا خير فيمن ولي شيئا من أمور الدعوة وغيرها من الولايات ـ صغرت أم كبرت ـ إن لم يقبل النصح, ولا خير فيمن حوله إن لم ينصحوا له. وبهذا تستقيم حال الدعوة, وتسلم من الاعوجاج والشطط, والميل عن الجادة.
وعلى هذا سنة سلفنا الصالح رضي الله عنهم يرون في النصح, وإصلاح خطأ المخطئ, والرد على المخالف, من أعظم أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, التي يتحقق بها حفظ الدين, وحفظ مسار الدعوة إلى الله, لا السكوت عنه ومدحه في مقام البيان والنصح.
بل عده العلماء من أفضل أنواع الجهاد, وكيف لا يكون كذلك وهو ميدان ورثة الأنبياء, وساحة معركتهم التي لا ينقطعون عنها, وصبوا فيها عصارة علمهم من الكتاب والسنة وهدي سلف الأمة, وخلاصة تجاربهم وخبراتهم, ومنهم من قتل أو عذب وهو يأمر بالمعروف أو ينهى عن منكر, أو يرد على بدعة أو مخالف للحق.
ومن هذا الباب يوقظون همة الأمة لإعلاء كلمة الله جل وعلا في كل مناحي الحياة فهم كما قال الإمام أحمد رحمه الله : « ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة ، وأطلقوا عقال الفتنة... » . الرد على الجهمية والزنادقة (1 / 56).
وهم في نصحهم لكل مسلم, وإصلاحهم للخطأ ممن صدر منه ـ مهما علت منزلته وسمت رتبته ـ يعتبرون الفروق بين المخطئ من أهل العلم السني, والمخطئ من أهل البدع, وإعطاء الخطأ حجمه من ميزان الشرع, فلا يبالغون ولا يقصرون ولا يؤخرون البيان عن وقت الحاجة.
قال الذهبي في ترجمة الحافظ ابن عبد البر من سير أعلام النبلاء: «وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن إذا أخطأ إمام في اجتهاده، لا ينبغي لنا أن ننسى محاسنه، ونغطي معارفه، بل نستغفر له، ونعتذر عنه » سير أعلام النبلاء (18 / 157)..
وهم في هذا الباب وغيره متبعون خطى الأنبياء الذين وصفهم الله سبحانه بقوله ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ) [ الأحزاب: 39 ]. هذا الوصف العظيم ( يخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله ) وهكذا ينبغي أن يكون ورثة الأنبياء ( يخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله ).
وهم في هذا المقام وغيره على ما وصفهم شيخ الإسلام: حيث قال: « وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْفَخْرِ، وَالْخُيَلاءِ، وَالْبَغْيِ، وَالاسْتِطَالَةِ عَلَى الْخَلْقِ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَيَأْمُرُونَ بِمَعَالِي الأَخْلاَقِ، وَيَنْهَوْنَ عَنْ سَفْسَافِهَا. وَكُلُّ مَا يَقُولُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّمَا هُمْ فِيهِ مُتَّبِعُونَ ». ما بين القوسين من كلام شيخ الإسلام في الواسطية, انظره مع شرح العقيدة الواسطية لشيخ مشايخنا الهراس (1/ 258).
ولم يقل أحد منهم يوما من الدهر: إن السكوت عن الخطأ, وتأخير البيان عن وقت الحاجة فيه حفظ للدعوة, أو من مصلحة الدعوة, فضلا أن يزكوا المخطئ أو المنحرف!.
ولا يزال أتباع السلف يرد المفضول منهم على الفاضل, ومن لا مكانة له وجاه على من له ذلك, بل ربما من لا يُعرف على مشهور, ولا يرون في ذلك غضاضة ما دام أنه جاء بالحق والبيان المحتج له بالبراهين.
وأذكر بهذا الخصوص ـ أي تصحيح من لا يُعرف لمن اشتهر ـ ما حكاه القاضي الكبير ابن العربي المالكي: في كتابه أحكام القرآن, وكنت قد ذكرته في محاضرة لي في مدينة الحوطة اليمنية عاصمة محافظة لحج بجامع الخطيب, وكان لهذه المحاضرة أثر طيب في نفوس الناس, حيث كنا نعاني من دعاوى البعض من أن الذين يردون على أبي الحسن مجاهيل وأغمار لا يقبل منهم.
وما أشبـه الليلة بالبارحة ! وها نحن نحتاج اليوم إلى ذكر هذا الموقف؛ لأننا لم نستفد مما مضى, والأخطاء تتكرر, فإليك ما قاله القاضي ابن العربي: قال: « أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قَاسِمٍ الْعُثْمَانِيُّ غَيْرَ مَرَّةٍ: وَصَلْت الْفُسْطَاطَ مَرَّةً، فَجِئْت مَجْلِسَ الشَّيْخِ أَبِي الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيِّ، وَحَضَرْت كَلَامَهُ عَلَى النَّاسِ، فَكَانَ مِمَّا قَالَ فِي أَوَّلِ مَجْلِسٍ جَلَسْت إلَيْهِ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَّقَ وَظَاهَرَ وَآلَى، فَلَمَّا خَرَجَ تَبِعْته حَتَّى بَلَغْت مَعَهُ إلَى مَنْزِلِهِ فِي جَمَاعَةٍ، فَجَلَسَ مَعَنَا فِي الدِّهْلِيزِ، وَعَرَّفَهُمْ أَمْرِي، فَإِنَّهُ رَأَى إشَارَةَ الْغُرْبَةِ وَلَمْ يَعْرِفْ الشَّخْصَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْوَارِدِينَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا انْفَضَّ عَنْهُ أَكْثَرُهُمْ قَالَ لِي: أَرَاك غَرِيبًا، هَلْ لَك مِنْ كَلَامٍ؟ قُلْت: نَعَمْ. قَالَ لِجُلَسَائِهِ: أَفْرِجُوا لَهُ عَنْ كَلَامِهِ. فَقَامُوا وَبَقِيت وَحْدِي مَعَهُ. فَقُلْت لَهُ: حَضَرْت الْمَجْلِسَ الْيَوْمَ مُتَبَرِّكًا بِك ( هذا لا يستقيم؛ لأن طلب البركة لا يكون إلا من الله جل وعلا, أو ما نص عليه أنه مبارك من الله, إلا إن أراد بركة العلم ومجالس العلم, وحينها نقدر الكلام ( متبركا بمجلس العلم ). ) ، وَسَمِعْتُك تَقُولُ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَدَقْت، وَطَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَصَدَقْت. وَقُلْت: وَظَاهَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا لَمْ يَكُنْ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ؛ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَضَمَّنِي إلَى نَفْسِهِ وَقَبَّلَ رَأْسِي، وَقَالَ لِي: أَنَا تَائِبٌ مِنْ ذَلِكَ، جَزَاك اللَّهُ عَنِّي مِنْ مُعَلِّمٍ خَيْرًا. ثُمَّ انْقَلَبْت عَنْهُ، وَبَكَّرْت إلَى مَجْلِسِهِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، فَأَلْفَيْته قَدْ سَبَقَنِي إلَى الْجَامِعِ، وَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمَّا دَخَلْت مِنْ بَابِ الْجَامِعِ وَرَآنِي نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: مَرْحَبًا بِمُعَلِّمِي؛ أَفْسِحُوا لِمُعَلِّمِي، فَتَطَاوَلَتْ الْأَعْنَاقُ إلَيَّ، وَحَدَّقَتْ الْأَبْصَارُ نَحْوِي، وَتَعْرِفنِي: يَا أَبَا بَكْرٍ ـ يخاطب القاضي ابن العربي ـ رحمه الله ـ ناقل القصة عنه. يُشِيرُ إلَى عَظِيمِ حَيَائِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ إذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ أَوْ فَاجَأَهُ خَجِلَ لِعَظِيمِ حَيَائِهِ، وَاحْمَرَّ حَتَّى كَأَنَّ وَجْهَهُ طُلِيَ بِجُلَّنَارٍ قَالَ: وَتَبَادَرَ النَّاسُ إلَيَّ يَرْفَعُونَنِي عَلَى الْأَيْدِي وَيَتَدَافَعُونِي حَتَّى بَلَغْت الْمِنْبَرَ، وَأَنَا لِعَظْمِ الْحَيَاءِ لَا أَعْرِفُ فِي أَيْ بُقْعَةٍ أَنَا مِنْ الْأَرْضِ، وَالْجَامِعُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ، وَأَسَالَ الْحَيَاءُ بَدَنِي عَرَقًا، وَأَقْبَلَ الشَّيْخُ عَلَى الْخَلْقِ، فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا مُعَلِّمُكُمْ، وَهَذَا مُعَلِّمِي؛ لَمَّا كَانَ بِالْأَمْسِ قُلْت لَكُمْ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَلَّقَ، وَظَاهَرَ؛ فَمَا كَانَ أَحَدٌ مِنْكُمْ فَقُهَ عَنِّي وَلَا رَدَّ عَلَيَّ، فَاتَّبَعَنِي إلَى مَنْزِلِي، وَقَالَ لِي كَذَا وَكَذَا؛ وَأَعَادَ مَا جَرَى بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَأَنَا تَائِبٌ عَنْ قَوْلِي بِالْأَمْسِ، وَرَاجِعٌ عَنْهُ إلَى الْحَقِّ؛ فَمَنْ سَمِعَهُ مِمَّنْ حَضَرَ فَلَا يُعَوِّلْ عَلَيْهِ. وَمَنْ غَابَ فَلْيُبَلِّغْهُ مَنْ حَضَرَ؛ فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا؛ وَجَعَلَ يَحْفُلُ فِي الدُّعَاءِ، وَالْخَلْقُ يُؤَمِّنُونَ ». قال القاضي ابن العربي: « فَانْظُرُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ إلَى هَذَا الدِّينِ الْمَتِينِ، وَالِاعْتِرَافِ بِالْعِلْمِ لِأَهْلِهِ عَلَى رُءُوسِ الْمَلَإِ مِنْ رَجُلٍ ظَهَرَتْ رِيَاسَتُهُ، وَاشْتُهِرَتْ نَفَاسَتُهُ، لِغَرِيبٍ مَجْهُولِ الْعَيْنِ لَا يُعْرَفُ مَنْ وَلَا مِنْ أَيْنَ، فَاقْتَدُوا بِهِ تَرْشُدُوا » ( أحكام القرآن لابن العربي (1 / 248).)

فلك أخي القارئ الكريم أن تقارن بين تعليق القاضي ابن العربي : على هذا الموقف العظيم من هذا الشيخ الجليل و المربي الكريم: والذي لم يظلمه التاريخ ودون موقفه الخالد ليكون درسا للأجيال, وبين من يقول عن كتَّاب بعض المنتديات السلفية أنهم مجاهيل لا يُعرفون, فلا يؤخذ بما جاؤوا به ! دون تفصيل بين ما كان من الحق, أو من الباطل ! ناهيك عن الإصرار في إغلاق هذا المنبر !!.

وإني لأقول والله ثم والله لو جاء بالحق عدو صريح العداوة لوجب قبول الحق منه, والانقياد له فيما جاء به من الحق, وترك ما عنده من باطل, هذا ما استقر وثبت عند أهل السنة والجماعة.

إن السكوت المطبق عن خطأ المخطئ, لا بل و تزكيته !! ممن يتعين عليهم البيان, ممن وقفوا أو أوقفوا على المخالفات والتجاوزات, بل وأنزلوا منزلة المحكمين القضاة, لم يكن يوما من الدهر من منهج السلف, و لا من المصلحة الشرعية في حفظ الدعوة في شيء, ومن ادعى أن هذا موقف شرعي على جادة السلف فليأتنا بالحجة ونحن ننقاد لها ـ إن شاء الله ـ.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أنبه على ما قد يشكل على البعض, وهو أن هناك فرقا بين كتمان العلم للمصلحة مؤقتا, وبين السكوت عن خطأ المخطئ, وعدم الاكتفاء بهذا بل وتزكيته, والمقام مقام نصح وبيان !!.
وهو أن كتمان العلم مؤقتا لأمور قد لا يعقلها البعض, مقرر لدى السلف مع عدم الكتمان المطلق؛ وذلك خشية أن يكون في ذلك البيان فتنة للبعض؛ فيرد الشرع أو ويكذب, وبعض أهل العلم خصه فيما لا يتعلق بصحة عبادة أو عقيدة, بينما السكوت عن الخطأ في الدين فيه إقرار لباطل منسوب للدين وهو ليس منه, وقد يكون مع هذا الخطأ ظلم لأناس, يجب معه الأخذ على يد الظالم وإنصاف المظلوم منه.
وإن كان هناك من يعذر شرعا لعدم بيانه لأسباب معتبرة, مكتفيا بمن بين من أهل الفرض الكفائي, و لولا هذا لتعين عليه البيان. ولكن ما لا عذر لأحد فيه أن يُلبس هذا الصمت لبوس الشرع, ويتخذ موقف, يخطأ فيه الناصح المبين للحق, ويمدح فيه المخطئ.
ثم يقال بعد هذا( إن هذا ما ينفع الله به, وفيه مصلحة الدعوة ) ـ أي السكوت عن خطأ المخطئ, وعدم الاكتفاء بهذا بل وتزكيته . فهذا الضيم الذي لا يطاق, ولا يقر عليه من قال به وادعاه, ولو كان قريبا حبيبا, فالحق أحب إلينا؛ لأن في ذلك أن ينسب للشرع ما ليس منه.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند
ومن هنا أمن كثير ممن يتستر بالسنة جناب بعض من أهل العلم الأفاضل, فيما إذا أظهر مخالفته, من أنهم لن يخطئوه ولن ينكروا خطأه علانية كما ظهر علانية, بل يكفيه أن يتباكى ويتظلم ممن نصح له وبين خطأه, ويذكر عن نفسه ما عرف عنه من سلفية من سابق أو يكتفي بشهرته في ذلك حتى يظفر بالتعاطف والنصرة, بل ربما يخطئون من أنكر عليه تحت مسمى مصلحة الدعوة وجمع الكلمة, دون النظر إلى المفاسد الناجمة عن هذا الموقف, والتي منها الاغترار بالمخالف من قبل دهماء الناس ومن لا يميزون, وإحراج الناصح الصادق وإظهاره مظهر من لا يقدر المصالح والمفاسد وأنه يتسبب في تفرقة الصف !!.
ولهذا نجد بعض شبابنا يقولون لماذا يرد الشيخ فلان ولم يرد غيره, لماذا الشيخ فلان كل بعد فترة يتصارع مع داعية أو شيخ من أهل السنة, إلى غير ذلك من الأقاويل التي مبناها فساد التأصيل في باب الرد على المخالف, إذ الرد على المخالف كما هو مقرر من فروض الكفايات ولا يلزم أن يرد جميع العلماء, ثم إن المحدثات والبدع وأهلها متجددون, والحي من أهل السنة لا تؤمن عليه الفتنة.
وحق أن نقول لماذا لا يكف هؤلاء عن مخالفة السنة, وعن تأصيلاتهم وتقعيداتهم التي يطلقون عليها أصول وقواعد لأهل السنة, ومنهج أهل السنة منها براء, أليس من الظلم والحيف أن نكمم أفواه الناصحين, ونسعى لكسر أقلامهم, وإراقة مدادهم, وتمزيق أوراقهم, هذا ما لا يسعد به أهل الحق, إنما يسعد به وتقر به أعين خصوم السنة.
وقد كان الحسين بن علي الكرابيسي يعد في أهل السنة بل من الكبار فلما أحدث قولا غير مسبوق ويفضي إلى الضلال رده إمام أهل السنة أحمد بن حنبل , ثم بدا للكرابيسي أن يغير في الطريقة والأسلوب فأنكر عليه الإمام أحمد كذلك فضاق الكرابيسي بذلك وقال في أحمد: ( أي شيء نعمل بهذا الصبي? وكان أحمد يقول: إنما بلاؤهم من هذه الكتب التي وضعوها ، وتركوا الآثار » أي وضعوها على غير الالتزام بالآثار, إنما هي الآراء والتقعيدات والتأصيلات التي أولع بها البعض, فما ذنب الشيخ ربيع ـ حفظه الله ـ ومن معه إذا كان الباطل لاينقطع والبدع تتجدد والسني لا تؤمن عليه الفتنة, وكأني بالمخالف المردود عليه يقول: ما عرف عني من سلفية كاف للتجاوز عن أخطائي مهما بلغت من الضرر والفساد!!. )
وأدهى من ذلك أن تجد من أهل العلم من يتعصب للمردود عليه دون النظر للمخالفة ووجه المؤاخذة, في صورة يجل عنها من التزم بمنهج السلف الصالح من عامة الناس فكيف بأهل العلم.
تلك المصلحة المتوهمة في السكوت عن الخطأ والمخطئ لحفظ الدعوة أدت إلى مفاسد عظيمة للغاية نلخصها في أمرين:
الأول: إحداث منهجية محدثة في النصح وإصلاح الخطأ العلمي المنهجي والسلوكي المتعدي المنتشر إذا صدر من منسوب لأهل السنة, وفي هذا استدراك على السلف, وهذه كافية في رد هذه الطريقة.
الثاني: تأخير البيان عن وقت حاجة الناس إليه, وهو ما ينتج عنه مفاسد عدة, الواحدة منها كافية في إبطال هذه الطريقة.
من تلك المفاسد الناتجة عن تأخير البيان عن وقت الحاجة: إطالة أمد الفتن وكثرة التخوض فيها, وتمزيق الصف بالتدابر والتناحر, وإحداث الحيرة في أوساط المنشغلين بالدعوة ومن حولهم, كما جعلت المبطل يستمري الباطل, ويستخف بالدعاة والقائمين على الدعوة حتى أكابر العلماء.
وأصبح مثل نبتة صغيرة على قارعة الطريق في كل يوم تكبر ويقول الناس أمرها سهل, حتى كبرت شيئا فشيئا, وأصبح لها جذوع وفروع وتقوت جذورها, ولا ثمر لها ينتفع به, بل آذى ورقها المتناثر المارة في الشارع حتى اتسخت الطرقات بهذه الأوراق المتساقطة من تلك الشجرة, وبعض الناس يعلل بأن لها ظلا نافعا !, ذلك الظل المحدود الذي لا يقارن مع عظم الضرر الناتج عنها, وفي كل يوم يمضي يزداد ضرر الشجرة وأوراقها, حتى أصبح لا يمر في الطريق إلا بمشقة. عندها علت أصوات الجيران بأن جدران بيوتهم تصدعت ويخشون تفاقم الضرر, ومنهم أولئك الذين كانوا يعللون بالظل المحدود.
حينها فقط عقدوا العزم على أن يقتلعوا الشجرة, وهذا ما كلفهم كثيرا, واستعانوا بعمال حتى اضطروا لهدم أجزاء من أسوار البيوت المجاورة؛ ليتوصلوا لجذورها, وكان بإمكانهم أن يقتلعوها منذ البداية بإصبعين, الإبهام والسبابه لا غير.
وهذا حال كثير ممن تستر بالسنة وارتقى بسبب ثناء العلماء عليه فلما أمن أظهر أمره شيئا فشيئا, ثم أخذ يتترس ببعض علماء السنة الأفاضل؛ ليصد عنه نقد البعض الآخر من العلماء الأفاضل له الذين انكشف لهم زيف انتسابه للسنة بالحجة والدليل, وأخذ يبذر بذور الفرقة ويكتل ويحزب حوله من الشباب المحسوب على السنة, وأصبحوا كأوراق تلك الشجرة المضروب بها المثل السابق.
فكم من فتنة عظمت واستطار لهبها, وما كان لهب فتيلها يكلف زفرة ليطفأ, ولن تطفأ بعد تعاظمها حتى يحترق بها أقوام, أو يصيب لفحها البعض, والناجي من نجاه الله وكما قيل: ( ومعظم النار من مستصغر الشرر )
وهكذا لو قيلت كلمة الحق دون مجاملة ولا محاباة, ولا تعليلات غير وجيهة لتأخير البيان, وعمل بمنهج السلف في إصلاح الخطأ من أول الأمر لأمن ذلك كله, ولوئدت الفتنة في مهدها, ولا ما عظم المخالف في نفسه وأتباعه.
وسيتبين بالأمثلة النصية ـ إن شاء الله تعالى ـ من مواقف السلف مدى معارضة هذه المصلحة المتوهمة في السكوت عن الخطأ والمخطئ لمنهج السلف.
وإذا أضيف إلى السكوت عن الخطأ التزكية العظيمة للمخطئ, وإضفاء الهالة الكبيرة عليه دون التعرض لأخطائه في مقام البيان والنصح, مع تخطئة القائم على إصلاح الخطأ المبين للحق, ونعته بأنه ساعي في الفتنة, يظهر لنا بجلاء مدى الجناية, والمجازفة, والمخاطرة بمقام النصح وإصلاح الخطأ.
وقد بدت مفاسد هذا المسلك في أقبح صورها في عتو بعض المسكوت عنهم, واستخفافه بالمادحين له الساكتين عنه ممن يظنون تلك المصلحة, وما أحسن قول الشاعر:

وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْرُوفَ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ يَكُنْ حَمْدُهُ ذَماً عَلَيْهِ وَيَنْدَمِ

وبعد هذا لا أجد حرجا في أن أقول: إن صدور هذا الاجتهاد من بعض الفضلاء ممن نكن لهم الود والاحترام, ونحفظ لهم فضلهم وسابقتهم في الدعوة ـ ولا نزكي على الله أحدا ـ لا يسوغه أنه صادر منهم, ولا نبل مقصدهم, وصدق قصدهم؛ لما أسلفنا من المخالفة للسلف في هذا الباب.
مع عدم الموقف الشرعي من الظالم والمظلوم والذي قوامه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « انْصُرْ أخَاكَ ظالماً أو مظلوماً، فقال رجل: يا رسولَ الله أنصرُه إِذا كان مظلوماً، أَفرأيتَ إِن كان ظالماً: كيف أنصُرُهُ؟ قال: تحجزُه أو تمنعُه عن الظلم، فإن ذلك نَصْرُهُ» وفي رواية قالوا: « كيف ننصره ظالماً؟ قال: تأخذُ فوقَ يديه » رواه البخاري 5 / 70 في المظالم، باب أعن أخاك ظالماً أو مظلوماً، وفي الإكراه، باب يمين الرجل لصاحبه أنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه، والترمذي رقم (2256) في الفتن، باب رقم (68)..
ولا ضير أن نقول إن هذه الطريقة هي نتاج اجتهاد شخصي في غير محـله, وإن صدوره من أفاضل لا يمنع من تخطئته, والوقوف معه وقفة نقد وعرض على منهج السلف الذي نلتزمه جميعا قولا وعملا ـ إن شاء الله تعالى ـ ولا أظن أن مناقشة كهذه تزعج أحدا ممن يحترم منهج السلف ويلتزمه.
هذه المنهجية المتبعة في معاملة المخالف من شأنها المحافظة على الأشخاص, مهما صدر منهم من انحراف, وبعد عن السنة, تحت مسمى المحافظة على مصلحة الدعوة !.
وقد يكون بحجة أنهم مزكون من علماء كبار, ونحن نعلم أن تزكية كبار العلماء للدعاة وطلبة العلم مقيـدة باستقامتــهم علــى السنــة, وهذا الظن بالعلماء؛ لأنـهم لا يـربطون النـاس إلا بالكتاب وبالسنــة.
وسلفنا الصالح رضي الله عنهم قد بينوا أن الحي لا تؤمن عليه الفتنة وأن الاستنان بمن مات عليها وثبت, فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: « مَن كانَ مُسْتَنًّا، فَلْيَسْتَنَّ بمن قد ماتَ، فإنَّ الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفِتْنَةُ، أولئك أصحابُ محمد - صلى الله عليه وسلم -، كانوا أفضلَ هذه الأمة: أبرَّها قلوبًا، وأعمقَها علمًا، وأقلَّها تكلُّفًا، اختارهم الله لصحبة نبيِّه، ولإقامة دِينه، فاعرِفوا لهم فضلَهم، واتبعُوهم على أثرهم، وتمسَّكوا بما استَطَعْتُم من أخلاقِهم وسيَرِهم، فإنهم كانوا على الهُدَى المستقيم » أخرجه أبو عمر بن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/97 وفيه انقطاع, وكثيرا ما يستأنس به العلماء .
ومصلحة الدعوة تكمن في المحافظة على أصول الدين وثوابته, وذلك بتقريرها, من الأدلة الشرعية, والذب عنها, ونفي ما ينسب لها وهو ليس منها, والنصح لمن خالفها, وبيان مخالفته حتى لا يقتدى به.
مع التزام قوله تعالى ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )
بل إن من أهل العلم من رد على علماء أخطؤوا في مسائل قد رجعوا عنها وتابوا منها, وذلك حتى لا يتابعوا على هذه الأخطاء, ويعتقد أنها من الدين, كما صنع ذلك العلامة ابن قدامة ـ رحمه الله ـ مع العلامة أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي ـ رحمه الله ـ صاحب كتاب الفنون ـ في كتابه توبة ابن عقيل ( إلا أنه ـ رحمه الله ـ وقع له في رده هذا ما يوهم عقيدة المفوضة في الصفات فليتنبه لذلك ) ., فهذا ميت قد تاب, فما الحامل على التعرض لتلك الأخطاء إنه النصح لا غير حتى لا يتابع على الخطأ.
ولمعترض أن يقول ألم يكن السلف يذبون عن الأشخاص الحاملين لمنهج الحق المنتسبين له. فالجواب بلى, لكن فرق بين الدفاع عنهم والسكوت عن الخطأ الصادر منهم, وأظن أن البلية جاءت من هنا, إذ أن البعض ظن أن بيان خطأ السني يستلزم الطعن والقدح فيه, وهذا ما لا يلزم أبدا.
وتاريخ السلف شاهد فكم من خطأ رُد على بعض أهل السنة وكرامتهم موفورة محفوظة, هذا ما لم يكن الخطأ مخرجا عن السنة.
ثم إن الذب عن حملة السنة إنما كان لأنهم أدلاء عليها وحملة لها, ومعظمون لها, أما إذا تخلوا عن ذلك وتنكبوا الطريق فلا كرامة عين, وإنما عرفوا بالحق, والحق قديم, والله يخلف من هو خير ممن تنكب الطريق, وزاغ واتبع هواه, وما تملي عليه الشياطين. ومن غير المنطق السلفي أن نظل نحاجج عن المخالفين لدعوة الحق لمجرد أنهم كانوا على السنة.
ويزداد العجب عندما نسمع من يقول إن هذه الطريقة نفع الله بها ـ أي طريقة السكوت عن خطأ المخطئ وتزكيته دون بيان للخطأ ـ كما تقدم, فأقول لا يجنى من الشوك العنب, وأزيد وبمرارة وبكل أسف إن هذا من ذر الرماد في العيون. كيف و الواقع خير شاهد على بطلان ذلك, فأين نحن من حيرة الكثير, وكم من مغرر به بسبب المدح للمخالف والغض عن أخطائه.
والأعجب الرفض التام لقبول مناقشة المخالفات أو النظر فيها والحكم عليها بمقتضى الشرع, والنظر لمن قام بالواجب الشرعي في النصح والبيان نظرة ازدراء وتعالي, في بادرة غريبة على السلفيين !!
فليعد هؤلاء جوابا أمام الله جل وعلا عندما يلتقوا بالمغرر بهم والحيارى ممن يقول:( لم يتكلم الشيخ فلان والشيخ فلان, بل زكوا, ومدحوا, وأثنوا, إلى آخر ما يتعللون به من تعلقهم بالأشياخ, ثم يقول وأنا تبعتهم )!.
ولا يشفع لهم أنهم زكوا الطرف الآخر؛ لأن الشرع لا يعرف هذا النوع من المجاملات السياسية والدبلوماسية, وليس هذا من المدارة الشرعية, مع فساد أحد الطرفين, فإن الأمر دين والمقام مقام نصح وبيان, وهو لا يحتمل تزكية المخطئ مع إغفال خطئه.
وإنما الواجب إن كان المخطئ سنيا أن يقال له: هذا خطأ والرجوع للحق فضيلة, وهذا لا ينقص من قدرك, بل يرفعك ويعلي شأنك, ويقبل بقلوب الناس إليك, وأنت أخونا وما منا إلا راد ومردود عليه, إلى غير هذا من المجاملات الشرعية الحقة, ويدافع عنه إذا تعدي عليه ويتم إنصافه, فإن رجع وبين فذاك, وإلا وجب بيان الخطأ للناس, والتحذير من متابعته فيما أخطأ فيه, وإن كان الخطأ يستلزم أحكاما أخرى كأن يكون مفسقا, أو مبدعا, أو مكفرا, فينبغي لأهل العلم إنزال هذه الأحكام والناس لهم تبع.



ويتبع إن شاء الله الحلقة الرابعة