المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خمس فوائد من سورة آل عمران



أبو عبد الله بلال الجزائري
21-Jan-2013, 08:20 PM
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:

فهذه بعض الفوائد من سورة آل عمران أضعها بين يديك أخي القارئ لعل الله تبارك و تعالى ينفعك بها و قد اكتفيت بخمس فوائد لأسباب منها ضيق الوقت و قلة الزاد فنسأل الله تبارك و تعالى أن ينفعنا بما علمنا و آخر دعوانا أن الحمد لله.
الفائدة الأولى :
الرد على النصارى الذين يزعمون إلهية عيسى ابن مريم عليه السلام:
قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ *هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *) [ آل عمران :5-6]
يخبر تعالى أنه يعلم غيب السماوات والأرض، و لا يخفى عليه شيء من ذلك.
(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ) أي: يخلقكم كما يشاء في الأرحام من ذكر وأنثى، و حسن وقبيح، وشقي وسعيد ( لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) أي: هو الذي خلق، وهو المستحق للإلهية وحده لا شريك له، وله العزة التي لا ترام، والحكمة والأحكام.
وهذه الآية فيها تعريض بل تصريح بأن عيسى ابن مريم عبد مخلوق، كما خلق الله سائر البشر؛ لأن الله تعالى صوره في الرحم وخلقه، كما يشاء، فكيف يكون إلها كما زعمته النصارى -عليهم لعائن الله-وقد تقلب في الأحشاء، وتنقل من حال إلى حال، كما قال تعالى : ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) [ الزمر : 6]([1] (http://www.al-amen.com/vb/#_ftn1))
الفائدة الثانية :
الجمل بعد المعارف والنكرات :
قال تعالى: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ﴾ [آل عمران: 25]، فجملة لا ريب فيه في محل جر صفة لـ:(يوم)
قال ابن هشام: ''الجملة الخبرية بعد النكرات المحضة صفات، وبعد المعارف المحضة أحوال، وبعد غير المحض منهما محتمِل لهما''.
هذه قاعدة من قواعد النحو، لكن القاعدة تُشاب أحيانًا بنوع من التساهل فيقال: الجمل بعد النكرات صفات، وبعد المعارف أحوال، وهذه الجملة ليست دقيقة، إنما الدقيقة مثل م قال ابن هشام: الجملة بعد النكرة المحضة صفة، والجملة بعد المعرفة المحضة حال، وبعد المفرد الذي ليس هو محضًا تحتمل الحالية والوصفية.
إن من بين الجمل التي لها محل من الإعراب الجملة الواقعة صفة، وشرط الجملة الواقعة صفة أن يكون الموصوف نكرة، وهذا شرط أساسي، الجملة التي تكون صفة لا بد يكون الموصوف نكرة ومحضة أيضًا، فمثلا لو قلت: مررتُ برجلٍ يكتبُ، "رجل": نكرة، ومعنى نكرة يعني ما فيها أي شيء يقربها من المعرفة، هذا معنى محضة يعني بعيدة جدًّا من التعريف، إذن نقول: إن جملة "يكتب": صفة؛ لأنها وقعت بعد نكرة محضة. إذا قلت: (مررتُ برجلٍ جالسٍ يكتبُ)، الآن كلمة (رجل) قربت قليلا من المعرفة، لماذا؟ بوصفها ﺑ(جالس)[لأن الوصف يقلل من شيوع النكرة فتقرب من المعرفة]، إذن هل نقول: إن كلمة (رجل) هنا نكرة محضة أو فيها شائبة ورائحة تعريف؟ فيها، هذا معنى قول ابن هشام: الجمل بعد النكرات المحضة صفات، ما معنى المحضة؟ المحضة: هي النكرة التي ليس فيها شيء يقرّبها من المعرفة، ما مثال الذي يقربها من المعرفة؟ الصفة.
ومن الأمثلة: قول الله تعالى: ﴿أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة : 254] من: حرف جر، و( قبل ): اسم مجرور ﺑ( من )، والجار والمجرور متعلق بالفعل بأول الآية "أن": حرف مصدري ونصب، و( يأتي ): فعل مضارع منصوب وعلامة نصبه الفتحة، ( يوم ): فاعل مرفوع بالضمة، أي يأتي يومٌ، ( لا ): نافية عاملة عمل ليس ترفع الاسم وتنصب الخبر، ( بيع ): اسم لا، ( فيه )، خبر ( لا )، والجملة من لا واسمها وخبرها في محل رفع صفة لـ(يوم).
ومنه قول الله تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾[البقرة: 281] ، (ترجعون) في محل جر صفة لـ( يوم )، وهو من قبيل النكرة المحضة.
وقوله تعالى:﴿ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ ﴾[الإسراء: 93] (حتى): حرف غاية ونصب، و(تُنَزِّلَ): فعل مضارع منصوب وعلامة نصبه الفتحة، والفاعل ضمير مستتر وجوبًا تقديره أنت، و(علينا): جار ومجرور متعلق بـ(تنزّل )، (كتابًا): مفعول به منصوب، (نقرؤه): فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة، والهاء مفعول، والفاعل ضمير مستتر وجوبًا تقديره نحن، والجملة في محل نصب صفة لـ(كتابًا (
قال: وبعد المعارف أحوال يعني بعد المعارف المحضة، ما المراد بالمعرفة المحضة؟ اعكس الكلام الأول، ما قلته لك النكرة المحضة التي ليس فيها رائحة تعريف، المعرفة المحضة التي ليس فيها رائحة تنكير، مثل العلم، لو قلت: (رأيتُ زيدًا يكتبُ)، جملة حال من زيد، وزيد معرفة محضة.
قال: وبعد غير المحض منهما محتمل لهما، الضمير الأول منهما يعود على المعرفة والنكرة وقوله: محتمل لهما، يعني للحالية والوصفية، مثاله: (مررتُ برجلٍ صالحٍ يصلي)، ( يصلي ) الجملة هل هي صفة أو حال؟ محتمل؛ لأنك إن نظرت لكلمة (رجل) أصله فهي نكرة والجمل بعد النكرات صفات، وإن نظرت إلى الصفة التي بعدها، وأنها قربت من المعرفة فجملة (يصلي) حال؛ ولهذا من يعربها صفة إعرابه صحيح، ومن يعربها حال إعرابه صحيح،لأن لكل منهما وجهة نظر،هذا مثال للنكرة غير المحضة.
المعرفة غير المحضة كما في قول الله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُو التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً﴾[الجمعة: 5] كلمة (الحمار) "أل" في أصلها تفيد التعريف، إذن تصير جملة (يحمل) حالا؛ لأنه دخلت عليه (أل) قرب من المعرفة، لكن إن نظرنا إلى أن ( الحمار ) لا يُراد به حمارً معينًا؛ فهو إذن نكرة فتصير جملة (يحمل) صفة.
﴿وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ﴾[يس: 37] جملة ( نسلخ ) إما صفة للّيل أو حال، لماذا؟ الليل إن نظرت إلى أل الداخلة عليه يمكن أن تقول: إنه معرفة الآن؛ لأن الأصل في "أل" أنها للتعريف، فتصير جملة ( نسلخ ) وقعت بعد معرفة، والجمل بعد المعارف أحوال، لكن هل هي معرفة محضة؟ غير محضة لماذا؟ لأنه قد يقول قائل "أل" هنا ما أفادت كلمة الليل تعريفًا، يسمونها (ال) الجنسية و(ال) الجنسية لا تفيد التعريف، فيبقى ( الليل ) على تنكيره.
وعلى هذا نقول: الجملة إن وقعت بعد معرفة غير محضة أو بعد نكرة غير محضة، فلك أن تعربها حالا ولك أن تعربها صفة؛ لأنك إن أعربتها حالا فباعتبار، وإن أعربتها صفة فباعتبار آخر، والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد.''([2] (http://www.al-amen.com/vb/#_ftn2))
الفائدة الثالثة :
سر تقديم السجود على الركوع :
قال أبو القاسم السُّهَيْلِيُّ: ''... وممَّا قُدِّم بالفضل قولُه: ﴿وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [آل عمران: 43]، لأنَّ السجود أفضل، وَأَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ.''
فإنْ قيل: فالركوعُ قبله بالطبع والزمان والعادة؛ لأنه انتقالٌ من علوٍّ إلى انخفاضٍ، والعلوُّ بالطبع قبل الانخفاض، فهلاَّ قُدِّم الركوعُ؟
الجوابُ أن يقال: انتبهْ لمعنى الآية من قوله: ﴿وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾، ولم يقلْ: (اسجدي مع الساجدين)، فإنما عبَّر بالسجود عن الصلاة وأراد صلاتَه في بيتها؛ لأنَّ صلاة المرأة في بيتها أفضلُ من صلاتِها مع قومها، ثمَّ قال لها: (اركعي مع الراكعين)، أي: (صلِّي مع المصلِّين في بيت المقدس)، ولم يُرِدْ أيضًا الركوعَ وحْدَه دون أجزاء الصلاة، ولكنَّه عبَّر بالركوع عن الصلاة كما تقول: (ركعتُ ركعتين وأربعَ ركعاتٍ)، يريد الصلاةَ لا الركوعَ بمجرَّده، فصارت الآيةُ متضمِّنةً لصلاتين: صلاتِها وحْدَها عبَّر عنه بالسجود؛ لأنَّ السجودَ أفضلُ حالات العبد، وكذلك صلاة المرأة في بيته أفضلُ لها، ثمَّ صلاتُها في المسجد عبَّر عنها بالركوع؛ لأنه في الفضل دون السجود، وكذلك صلاتُها مع المصلِّين دون صلاتها وحْدَها في بيته ومحرابها، وهذا نظمٌ بديعٌ وفقهٌ دقيقٌ ...''([3] (http://www.al-amen.com/vb/#_ftn3))
الفائدة الرابعة :
شرف البيت الحرام :
قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 96-97].
قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى : '' وفي الحجِّ أتى بهذا اللفظ الدالِّ على تأكُّد الوجوب من عشرة أوجهٍ:
أحدها: أنه قدَّم اسمَه تعالى وأدخل عليه لام الاستحقاق والاختصاص ثمَّ ذكر من أوجبه عليهم بصيغة العموم الداخلة عليها حرف (على) أبدل منه أهل الاستطاعة، ثمَّ نكَّر السبيلَ في سياق الشرط إيذانًا بأنه يجب الحجُّ على أيِّ سبيلٍ تيسَّرت من قوتٍ أو مالٍ، فعلَّق الوجوبَ بحصول ما يسمَّى سبيلاً، ثمَّ أتبع ذلك بأعظم التهديد بالكفر فقال: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ أي: لعدم التزامه هذا الواجبَ وتركه، ثمَّ عظَّم الشأنَ وأكَّد الوعيدَ بإخباره ما يُستغنى به عنه، والله تعالى هو الغنيُّ الحميد ولا حاجة به إلى حجِّ أحدٍ، وإنما في ذكر استغنائه عنه هنا من الإعلام بمقته له وسخطه عليه وإعراضه بوجهه عنه ما هو أعظم التهديد وأبلغه، ثمَّ أكَّد ذلك بذكر اسم (العالمين) عمومًا، ولم يقل: (فإنَّ الله غنيٌّ عنه)، لأنه إذا كان غنيًّا عن العالمين كلِّهم فله الغنى الكامل التامُّ من كلِّ وجهٍ بكلِّ اعتبارٍ، فكان أدلَّ لعِظَمِ مقته لتارك حقِّه الذي أوجبه عليه، ثمَّ أكَّد هذا المعنى بأداة (إنَّ) الدالَّةِ على التأكيد، فهذه عشرة أوجهٍ تقتضي تأكُّدَ هذا الفرض العظيم.
وتأمَّلْ سرَّ البدل في الآية المقتضي لذكر الإسناد مرَّتين، مرَّةً بإسناده إلى عموم الناس، ومرَّةً بإسناده إلى خصوص المستطيعين، وهذا من فوائد البدل: تقوية المعنى وتأكيده بتكرُّر الإسناد، ولهذا كان في نيَّة تكرار العامل وإعادته.
ثمَّ تأمَّلْ ما في الآية من الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال، وكيف تضمَّن ذلك إيرادَ الكلام في صورتين وخلَّتين: اعتناءٍ به وتأكيدٍ لشأنه، ثمَّ تأمَّل كيف افتتح هذا الإيجابَ بذكر محاسن البيت وعِظَمِ شأنه بما تدعو النفوس إلى قصده وحجِّه وإن لم يطلب ذلك منها، فقال: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ﴾ إلخ، فوصفه بخمس صفاتٍ: أحدها: كونه أسبق بيوت العالم وُضع في الأرض، الثاني: أنه مباركٌ، والبركة كثرة الخير ودوامه، وليس في بيوت العالم أبرك منه ولا أكثر خيرًا ولا أدوم ولا أنفع للخلائق، الثالث: أنه هدًى، ووصفه بالمصدر نفسه مبالغةً، حتى كأنه نفس الهدى، الرابع: ما تضمَّن من الآيات البيِّنات التي تزيد على أربعين آية، الخامس: الأمن الحاصل لداخله، وفي وصفه بهذه الصفات دون إيجاب قصده ما يبعث النفوس على حجِّه وإن شطَّت بالزائرين الديار وتناءت بهم الأقطار، ثمَّ أتبع ذلك بصريح الوجوب المؤكَّد بتلك التأكيدات، وهذا يدلُّ على الاعتناء منه سبحانه لهذا البيت العظيم، والتنويه بذكره، والتعظيم لشأنه، والرفعة من قدره، ولو لم يكن له شرفٌ إلاَّ إضافته إيَّاه إلى نفسه بقوله: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ﴾ لكفى بهذه الإضافة فضلاً وشرفًا، وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه، وسلبت نفوسهم حياله وشوقًا إلى رؤيته، فهذه المثابة للمحبِّين يثوبون إليه ولا يقضون منه وطرًا أبدًا، كلَّما ازدادوا له زيارةً ازدادوا له حبًّا وإليه اشتياقًا، فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يسليهم، كما قيل:
أَطُوفُ بِهِ وَالنَّفْسُ بَعْدُ مَشُوقَةٌ ** إِلَيْهِ وَهَلْ بَعْدَ الطَّوَافِ تَدَانِي
وَأَلْثِمُ مِنْهُ الرُّكْنَ أَطْلُبُ بَرْدَ مَا ** بِقَلْبِيَ مِنْ شَوْقٍ وَمِنْ هَيَمَانِ
فَوَاللهِ مَا أزْدَادُ إِلاَّ صَبَابَةً ** وَلاَ القَلْبُ إِلاَّ كَثْرَةَ الخَفَقَانِ
فَيَا جَنَّةَ المَأْوَى وَيَا غَايَةَ المُنَى ** وَيَا مُنْيَتِي مِنْ دُونِ كُلِّ أَمَانِ
أَبَتْ غَلَبَاتُ الشَّوْقِ إِلاَّ تَقَرُّبًا ** إِلَيْكَ فَمَا لِي بِالبِعَادِ يَدَانِ
وَمَا كَانَ صَدِّي عَنْكَ صَدَّ مَلاَلَةٍ ** وَلِي شَاهِدٌ مِنْ مُقْلَتِي وَلِسَانِي
دَعَوْتُ اصْطِبَارِي عَنْكَ بَعْدَكَ وَالبُكَا ** فَلَبَّى البُكَا وَالصَّبْرُ عَنْكَ عَصَانِي
وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ المُحِبَّ إِذَا نَأَى ** سَيَبْلَى هَوَاهُ بَعْدَ طُولِ زَمَانِ
وَلَوْ كَانَ هَذَا الزَّعْمُ حَقًّا لَكَانَ ذَا ** دَوَاءَ الهَوَى فِي النَّاسِ كُلَّ زَمَانِ
بَلَى إِنَّهُ يَبْلَى التَّصَبُّرُ وَالهَوَى ** عَلَى حَالِهِ لَمْ يُبْلِهِ المَلَوَانِ
وَهَذَا مُحِبٌّ قَادَهُ الشَّوْقُ وَالهَوَى ** بِغَيْرِ زِمَامٍ قَائِدٍ وَعِنَانِ
أَتَاكَ عَلَى بُعْدِ المَزَارِ وَلَوْ وَنَتْ ** مَطِيَّتُهُ جَاءَتْ بِهِ القَدَمَانِ'' إنتهى كلامه رحمه الله.([4] (http://www.al-amen.com/vb/#_ftn4))
الفائدة الخامسة :
أنواع الشر و أنواع الخير :
قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
و الشر المستعاذ منه نوعان :
أحدهما : موجود يطلب رفعه .
و الثاني : معدوم يطلب بقاؤه على العدم و أن لا يوجد .
كما أن الخير المطلق نوعان :
أحدهما : موجود فيطلب دوامه و ثباته و أن لا يسلبه.
و الثاني : معدوم فيطلب وجوده و حصوله .
قال تعالى : ( رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ) [ آل عمران : 193].
في هذه الآية : طلب لدفع الشر الموجود ، فإن للذنوب و السيئات شر .
ثم : ( وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ) : فهذا طلب لدوام الخير الموجود ، و هو الإيمان حتى يتوفاهم عليه .
ثم قال : ( رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) [ آل عمران : 194].
ثم قال : (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ) : فهذا طلب للخير المعدوم أن يؤتيهم إياه .
ثم قال : ( وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) : فهذا طلب أن لا يوقع بهم الشر المعدوم ، و هو خزي يوم القيامة ، ، فانتظمت الآيتان للمطالب الأربعة أحسنَ انتظامٍ ، مرتَّبةً أحسنَ ترتيبٍ ، قُدِّم فيها النّوعان اللّذان في الدّنيا ، و هما المغفرة و دوام الإسلام إلى الموت ، ثمّ أُتبعا بالنّوعين اللّذين في الآخرة ، و هما أن يُعطَوا ما وُعدوه على ألسنة رسله ، و أن لا يخزيهم يوم القيامة ، فإذا عُرِف هذا ، فقوله في تشهّد الخُطبة : ( و نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا ) ([5] (http://www.al-amen.com/vb/#_ftn5)) يتناول الاستعاذةَ من شرّ النّفس الّذي هو معدومٌ ، لكنّه فيها بالقوّة ، فيسأل دفعَه و أن لا يوجدَ ، و أمّا قوله :( من سيّئات أعمالنا ) ، ففيه قولان : أحدُهما أنّه استعاذة من الأعمال السّيِّئة الّتي قد وُجدت ، فيكون الحديث قد تناول نوعي الاستعاذة من الشّرِّ المعدوم الّذي لم يوجد ، و من الشّرّ الموجود ، فطلبَ دفعَ الأوّل و رفعَ الثّاني ، و القولُ الثّاني أنّ سيّئات الأعمال هي عقوباتها و موجباتها السّيّئة الّتي تسوءُ صاحبَها ، و على هذا يكون من استعاذة الدّفع أيضًا دفعُ المسبّب ، و الأوّلُ دفعُ السّبب ، فيكون قد استعاذ من حصول الألم و أسبابه ، و على الأوّل يكون إضافة السّيّئات إلى الأعمال من باب إضافة النّوع إلى جنسه ؛ فإنّ الأعمال جنسٌ و سيّئاتها نوعٌ منها ، و على الثّاني يكونُ من باب إضافة المسبّب إلى سببه ، و المعلول إلى علّته ، كأنّه قال : من عقوبة عملي ، و القولان محتملان ، فتأمّل أيّهما أليقُ بالحديث و أولى به ؛ فإنّ مع كلّ واحدٍ منهما نوعًا من التّرجيح ، فيترجّح الأوّلُ بأنّ منشأَ الأعمال السّيّئة من شرّ النّفس ، فشرُّ النّفس يولِّد الأعمالَ السّيّئة ، فاستعاذ من صفة النّفس و من الأعمال التي تحدثُ عن تلك الصّفة ، و هذان جماع الشّرِّ وأسبابُ كلّ ألمٍ ، فمتى عوفي منها عوفي من الشّرّ بحذافيره ، و يترجّح الثّاني بأنّ سيّئات الأعمال هي العقوباتُ الّتي تسوء العاملَ ، و أسبابها شرُّ النّفس ، فاستعاذ من العقوباتِ والآلامِ و أسبابها ، والقولان في الحقيقة متلازمان والاستعاذةُ من أحدهما تستلزم الاستعاذةَ من الآخر " . ثمّ قال : " و لمّا كان الشّرّ له سببٌ هو مصدرُه ، و له موردٌ و منتهى ، و كان السّبب إمّا من ذات العبد ، و إمّا من خارجه ، و موردُه و منتهاهُ إمّا نفسه ، و إمّا غيرُه ، كان هنا أربعةُ أمورٍ:
شرٌّ مصدره من نفسه ، و يعود على نفسه تارةً ، و على غيره أخرى ، و شرٌّ مصدره من غيره ، و هو السّببُ فيه و يعود على نفسه تارة ، و على غيره أخرى ، جمع النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم هذه المقامات الأربعة في الدّعاء الّذي علّمه الصّديقَ أن يقوله إذا أصبح و إذا أمسى و إذا أخذ مضجعه : ( اللهمّ فاطرَ السّموات و الأرض ، عالمَ الغيب و الشّهادة ، ربَّ كلِّ شيءٍ و مليكَه أشهد أن لا إله إلاّ أنتَ ، أعوذ بك من شرّ نفسي و شرّ الشّيطان و شِركه ، و أن أقترف على نفسي سوءًا أو أجرّه إلى مسلم )([6] (http://www.al-amen.com/vb/#_ftn6))، فذكر مصدري الشّرّ و هما النّفس و الشّيطان ، و ذكر مورديه و نهايتيه ، و هما عَودُه على النّفس أو على أخيه المسلم ، فجمع الحديثُ مصادر الشّرّ و موارده في أوجز لفظٍ و أخصره و أجمعه و أبينه " . ([7] (http://www.al-amen.com/vb/#_ftn7))
هذا ما استطعت جمعه فالله أسال أن يغفر لي و لوالدي و أن يصحح نيتي و أن يرزقني الإخلاص في العمل و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين.

أبوعبد الله بلال الجزائري
قسنطينة
الجزائر


[1] (http://www.al-amen.com/vb/#_ftnref1) : انظر تفسير ابن كثير و تفسير السعدي.

[2] (http://www.al-amen.com/vb/#_ftnref2) : شرح مختصر قواعد الإعراب لعبد الله الفوزان: (37).بواسطة موقع الشيخ فركوس.رحاب الأدب.

[3] (http://www.al-amen.com/vb/#_ftnref3) : بدائع الفوائد (1/ 63)


[4] (http://www.al-amen.com/vb/#_ftnref4) : تفسير السعدي (134-135)ط. الرسالة.

[5] (http://www.al-amen.com/vb/#_ftnref5) : أخرجه أهل السّنن ، وصحّحه الألباني في خطبة الحاجة .

[6] (http://www.al-amen.com/vb/#_ftnref6) : أخرجه التّرمذي ( 3529 ) و الحاكم ( 1/513 ) و صحّحاه ، وانظر السّلسلة الصّحيحة للألباني (2763) .

[7] (http://www.al-amen.com/vb/#_ftnref7) : بدائع الفوائد (2/434/435).بواسطة من كل سورة فائدة لعبد المالك رمضاني رده الله إلى الحق ردا جميلا.