المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : منهج أهل السنة في معاملة كتب أهل البدع



أبو عبد الله المعتز بالله الجيلالي السلفي
22-May-2013, 07:24 PM
منهج أهل السنة في معاملة كتب أهل البدع




إنّ من المصـائب التي انتشرت في هذا الزمان، وطار شررها وضررها، تلك الكتب التي امتلأت بالبدع والخرافات، والدعوة إلى مناهج جديدة محدثة، فهذه الكتب البدعيّة كانت سبيلاً قوياً لكل مبتدع أن يبثّ بدعته وضلالته بين الناس، ويزوقها ويزينها بأحسن أسلوب، لكي يسهل رواجها، وتنطلي على جهال المسلمين.

ولكن بقي سؤال يحتاج إلى جواب، وهو: ما السبيل إلى النجاة من هذه الكتب، ووقاية أهل السنّة منها؟

فالسبيل هو اتباع طريقة السلف الصالح في معاملتهم لكتب أهل الأهواء والبدع، فطريقتهم هي التحذير من تلك الكتب، وترك النظر فيها، والتحذير من أصحابها، بل أفتوا بوجوب إتلاف تلك الكتب وإحراقها وإزالة أعيانها.

وليس ذلك أخي في الله من الظلم، بل هو عين العدل، إذ الظلم ترك تلك الكتب المليئة بالبدع والضلالات من غير تحذير أو تبيين لما فيها من باطل، فيضل بسبب ذلك كثير من الناس وينهجون مناهج بدعيّة مخالفة للكتاب والسنّة.

وسأورد لك – أخي في الله – عدداً من النقول عن السلف تبين لك بوضوح تلك الطريقة، وترد على دعاة الضلالة الذين يحثون الشباب على قراءة كتب ساداتهم، حتى يوقعوهم في شباكهم فلا يستطيعوا الخلاص([1])، وإذا قيل لهـم: تلك الكتب فيها الطعـن في بعض الأنبياء، وتكفير بعض الصحابة، والقول بخلق القرآن، وفيها كذا وكذا، قال - وبكل وقاحة -: خذ الحق واترك الباطل.

فنقول له: نعم الحق يؤخذ من كل من قاله، والسلف الصالح لا يتوقفون عن قبول الحق، مع ذلك لم يقولوا خذ الحق من كتب أهل البدع واترك الباطل، بل نادوا بأعلى أصواتهم بتركها كلياً، بل وأوجبوا إتلافها، وذلك لأنّ الحق الموجود في كتب أهل البدع إنما هو مأخـوذ من الكتاب والسنّة، فوجب أن نأخذ الحق من مصادره الأصلية، التي لا يشوبها كدر ولا بدعة، إذ هي المعين الصافي والماء العذب.

ومثال ذلك: عينا ماءٍ إحداهما صافية نقية، والأخرى عكرة مليئة بالطين والكدر والوسخ والقذر، فهل يقول عاقل: اذهب إلى العين الثانية وخذ منها الماء، لا يقول ذلك عاقل.

فكيف إذا وُجد من يصد الناس عن العيون العذبة الصافية ويدعوهم إلى أن ينهلوا من العيون الكدرة المليئة بالأقذار والأوساخ.

قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن - رحمه الله - : (( ومن له نهمة في طلب الأدلة على الحق، ففي كتاب الله، وسنّة رسوله، ما يكفي ويشفي؛ وهما سلاح كل موحد ومثبت، لكن كتب أهل السنّة تزيد الراغب وتعينه على الفهم وعندكم من مصنفات شيخنا - رحمه الله - ما يكفي مع التأمل؛ فيجب عليكم هجر أهل البدع، والإنكار عليهم))([2])

وقد حذّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قراءة كتب أهل الكتاب مع أنها لا تخلو من حق، فعـن جابـر بن عبد الله - رضي الله عنه -: أنّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أتى النبي -صلى الله عليه وسلم - بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فغضب، وقال: (( أمتهوكون يا ابن الخطاب؟! والذي نفسي بيده؛ لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده؛ لو أنّ موسى عليه السلام كان حياً ما وسعه إلا أن يتّبعني )) ([3]).

بل قـد نقل بعض الأئمة الإجماع على ترك النظر في كتب أهل البدع، ولم يقولوا خذ الحق واترك الباطل.

كما قال الإمام ابن خزيمة – رحمه الله – ( ت: 311 ) لما سئل عن الكلام في الأسماء والصفات فقال:

(( بدعة ابتدعوها، لم يكن أئمة المسلمين وأرباب المذاهب وأئمة الدين، مثل مالك، وسفيان، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحـاق، ويحيى بن يحيى، وابن المبارك، ومحمد بن يحيى، وأبي حنيفة، ومحمد بن الحسن، وأبي يوسف: يتكلمون في ذلك، وينهون عن الخوض فيه، ويدلّون أصحابهم على الكتاب والسنّة، فإياك والخوض فيه والنظر في كتبهم بحال )) ([4]).

وكما في قول الإمام أبي منصور معمر بن أحمد ( ت: 418 ) الذي رواه أبو القاسم الأصفهاني – رحمه الله – في كتابه ( الحجة في بيان المحجة ([5]) فقال:

أخبرنـا أحمد بن عبد الغفار بن أشتة، أنا أبو منصور معمر بن أحمد قال:

(( ولما رأيت غربة السنة، وكثرة الحوادث، واتباع الأهواء، أحببت أن أوصي أصحابي وسائر المسلمين بوصية من السنة وموعظة من الحكمة وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر، وأهل المعرفة والتصوف([6]) من السلـف المتقدمين والبقية من المتأخرين.

فأقول - وبالله التوفيق -: ))

فذكر من جملة ذلك:

(( ثم من السنة ترك الرأي والقياس في الدين وترك الجدال والخصومات وترك مفاتحة القدرية وأصحاب الكلام، وترك النظر في كتب الكلام وكتب النجوم، فهذه السنة التي اجتمعت عليها الأئمة وهي مأخوذة عن رسول الله -r - بأمر الله تبارك وتعالى. ))

وإليك - أيضاً - بعض أقوال ومواقف أهل العلم من أهل السنّة، حتى يتبين لك بوضوح صدق ما أقول.

قال الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول:

(( سلام بن أبي مطيـع من الثقات، حدثنا عنه ابن مهدي، ثم قال أبي: كان أبو عوانة وضع كتاباً فيه معايب أصحاب رسول الله - ضلى الله عليه وسلم - وفيه بلايا، فجـاء سلام بن أبي مطيع فقال: يا أبا عوانة، أعطني ذاك الكتاب فأعطاه، فأخذه سلام فأحرقه. قـال أبي: وكـان سلام من أصحاب أيوب وكان رجلاً صالحاً )) ([7]).

وعن الفضل بن زياد أن رجلاً سأله عن فعل سلام بن أبي مطيع، فقال لأبي عبد الله: أرجو أن لا يضرّه ذاك شيئاً إن شاء الله؟ فقال أبو عبد الله: يضره!! بل يؤجر عليه إن شاء الله ([8]).

وقال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عن الكرابيسي وما أظهره؟ فكلح وجهه ثم قال : (( إنما جاء بلاؤهم من هذه الكتب التي وضعوها تركوا آثار رسول الله - r - وأصحابه، وأقبلوا على هذه الكتب )) )[9]) .

وقال المروذي : قلت لأبي عبد الله: استعرت كتاباً فيه أشياء رديئة، ترى أن أخرقه أو أحرقه؟ قال: نعم. قال المروذي: قال أبو عبد الله: يضعون البدع في كتبهم، إنما أحذر منها أشد التحذير ([10]).

وقال الإمام أحمد -أيضاً-: إياكم أن تكتبوا عن أحد من أصحاب الأهواء قليلاً ولا كثيراً، عليكم بأصحاب الآثار والسنن ([11]).

وعن حرب بن إسماعيل قال: سألت إسحاق بن راهوية، قلت: رجل سرق كتاباً من رجل فيه رأي جهم أو رأي القدر؟ قال: يرمي به. قلت: إنّه أخذ قبل أن يحرقه أو يرمي به هل عليه قطع؟ قال: لا قطع عليه، قلت لإسحاق: رجل عنده كتاب فيه رأي الإرجاء أو القدر أو بدعة فاستعرته منه فلما صار في يدي أحرقته أو مزقته؟ قال: ليس عليك شيء([12]).

وقال الإمام مالك – رحمه الله -:

(( لا تجوز الإجـارات في شيء من كتـب الأهـواء والبدع والتنجيم)) ([13]).

وقال أبو محمد ابن أبي حاتم:

(( وسمعت أبي وأبا زرعة: يأمران بهجران أهل الزيغ والبدع، يغلظان في ذلك أشد التغليظ، وينكران وضع الكتب برأي في غير آثـار، وينهيان عن مجالسة أهل الكلام والنظر في كتب المتكلمين، ويقولان لا يفلح صاحب كلام أبداً )) ([14]).

وقال أيضاً:

(( ووجدت في كتب أبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي الرازي - رحمه الله - مما سمع منه يقول: مذهبنا واختيارنا اتباع رسول الله r وأصحابه والتابعين ومن بعدهم بإحسان، وترك النظر في موضع بدعهم([15]) والتمسك بمذهب أهل الأثر... وترك رأي الملبّسين المموهين المزخرفين الممخرقين الكذابين.

وتـرك النظـر في كتب الكرابيسي ومجانبة من يناضل عنه من أصحابه))([16]).

وقال نعيم بن حماد :

(( أنفقت على كتبه - يعني إبراهيم بن أبي يحيى - خمسة دنانير ثم أخرج إلينا يوماً كتاباً فيه القدر وكتاباً فيه رأي جهم، فقرأته فعرفت، فقلت: هذا رأيُك؟! قال: نعم. فحرقتُ بعض كتبه فطرحتها )))[17])

وقد عقد الإمام أبو نصر عبيد الله بن سعيد السِّجزي في رسالته إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت فصلاً في ذلك فقال :

(( الفصل الحادي عشر في الحذر من الركون إلى كل أحد، والأخذ من كل كتاب؛ لأن التلبيس قد كثر والكذب على المذاهب قد انتشر .

اعلموا رحمنا وإياكم الله سبحانه، أن هذا الفصل من أولى هذه الفصول بالضبط لعموم البلاء، وما يدخل على الناس بإهماله، وذلك أن أحوال أهل الزمان قد اضطربت، والمعتمد فيهم قد عز، ومن يبيع دينه بعرض يسير، أو تحبباً إلى من يراه قد كثر، والكذب على المذاهب قد انتشر فالواجب على كل مسلم يحب الخلاص أن لا يركن إلى كل أحد ولا يعتمد على كل كتاب، ولا يسلّم عنانه إلى من أظهر له الموافقة ... .

فمن رام النجاة من هؤلاء، والسلامة من الأهواء فليكن ميزانه الكتاب، والأثر - في كل ما يسمع ويرى؛ فإن كان عالماً بهما عرضه عليهما - واتباعه للسلف .

ولا يقبل من أحد قولاً إلا طالبه على صحته بآية محكمة، أو سنة ثابتة، أو قول صحابي من طريق صحيح ... .

وليحذر تصانيف من تغير حالهم فإن فيها العقارب وربما تعذّر الترياق )))[18]).

وقال الحافظ أبو عثمان سعيد بن عمرو البردعي:

(( شهدت أبا زرعة ـ وقد سئل عن الحارث المحاسـبي وكتبـه ـ فقال للسائل: إياك وهذه الكتب هذه كتب بدع وضلالات عليك بالأثر فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب.

قيل له: في هذه الكتب عبرة.

فقال: من لم يكن له في كتاب الله عبرة فليـس له في هذه الكتب عبرة، بلغكم أن مالك بن أنس وسفيان الثوري والأوزاعي والأئمة المتقدمين صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء؟! هؤلاء قوم خالفوا أهل العلم … ثم قال: ما أسرع الناس إلى البـدع)) ) [19]) .

قال الذهبي معلقاً:

(( وأين مثل الحارث؟ فكيف لو رأى أبو زرعة تصانيف المتأخرين كالقوت لأبي طالب، وأين مثل القوت ! كيف لو رأى بهجة الأسرار لابن جهضم، وحقائق التفسير للسلمي لطار لُبُّه.

كيف لو رأى تصانيف أبي حامد الطوسي في ذلك على كثرة ما في الإحياء من الموضوعات؟!.

كيف لو رأى الغنية للشيخ عبد القادر ! كيف لو رأى فصوص الحكم والفتوحات المكية؟!.

بلى لما كان الحارث لسان القوم في ذلك العصر كان معاصره ألف إمام في الحديث، فيهم مثل أحمد بن حنبـل وابن راهويه، ولما صار أئمة الحديث مثل ابن الدخميس، وابن شحانة كان قطب العارفين كصاحب الفصوص وابن سفيان. نسأل الله العفو والمسامحة آمين)) ([20]).

وقال شيخنا الفاضل ربيع بن هادي المدخلي – حفظه الله ورعاه - بعد نقله لكلام الذهبي السابق:

(( أقول: رحم الله الإمام الذهبي؛ كيف لو رأى مثل ( الطبقات ) للشعراني، وجواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض أبي العباس التيجاني لعلي ابن حرازم الفاسي؟! كيف لو رأى خزينة الأسرار لمحمد حقي النازلي؟! كيف لو رأى نور الأبصار للشلنبجي؟! كيف لو رأى شـواهد الحق في جـواز الاستغاثة بسيد الخلق وجامع الكرامات للنبهاني؟! كيف لو رأى تبليغي نصاب وأمثاله من مؤلفات أصحاب الطرق الصوفية؟! كيف لو رأى مؤلفات غزالي هذا العصر وهي تهاجم السنّة النبويّة وتسخر من حملتها والمتمسكين بها من الشباب السلفي وتقذفهم بأشنع التهم وأفظع الألقاب؟! كيف لو رأى مؤلفات المودودي وما فيها من انحراف عقدي وعقلي وسلوكي؟! كيف لو رأى مؤلفات القرضاوي وهي تدافع عن أهل البدع وتنتصر لها، بل تشـرح أصولها، والذي ينحـى منحى غزالي هذا العصر، بل هو أخطر؟! كيف لو رأى دعاة زماننا وقد أقبلوا على هذه الكتب المنحـرفة، وهم يُسيّرون شبابهم وأتباعهم على مناهج الفرق المنحرفة الضالّة، بل وينافحون عنها وعن قادتها المبتدعين؟! كيف لو رأى مصنفات الكوثري وتلاميذه أبي غدّة وإخوانه من كبار متعصبي الصوفيّة والمذهبية؟! كيف لو رأى مصنفات البوطي وأمثاله من خصوم السنّة وخصوم مدرسة التوحيد ومدرسة ابن تيميّة؟! كيف لو رأى شباب الأمة بل شباب التوحيد وقد جهلوا منهـج السلـف بل جهلوا الكتاب والسنّة وأقبلوا على هذه الكتب المهلكة؟! )) ([21]).

بـل كيف لو رأى مؤلفات سيد قطب وما فيها من سبّ بعض الأنبياء كآدم وموسى، وما فيها من سبّ الصحابة بل وتكفير بعضهم، وما فيها من القول بخلق القرآن، ووحدة الوجود، والاشتراكية الغالية، وتكفير المجتمعـات وغير ذلك من البدع الغليظة، والضلالات العظيمة ([22]).

وإليك مقولة واحدة من مقولاته في الطعن في الصحابة، ثم زن ذلك بميزان الشرع، ميزان الحق والإنصاف لا ميزان الهوى والعصبيّة.

قال سيد قطب في كتابه ( كتب وشخصيات ) ([23]):

(( إن معاوية وزميله عمراً لم يغلبا علياً لأنهما أعرف منه بدخائل النفوس، وأخبر منه بالتصرف النافع في الظرف المناسب، ولكن لأنهما طليقان في استخدام كل سلاح وهو مقيد بأخلاقه في اختيار وسائل الصراع.

وحين يركن معاوية وزميله إلى الكذب والغش والخديعة والنفاق والرشـوة وشـراء الذمم، لا يملك علي أن يتدلى إلى هذا الدرك الأسفل. فلا عجب ينجحـان ويفشل، وإنه لفشل أشرف من كـل نجاح )).

وقد سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - عن هذه المقولة، فقـال:

(( كلام قبيح هذا، كلام قبيح لسبّه معاوية وسبه عمرو بن العاص، كل هذا كلام قبيح، وكلام منكر ومعاوية وعمرو مجتهدون أخطئوا، مجتهدون أخطئوا. والله يعفو عنهم )).

فقال سائل له: أحسن الله إليك، ما ينهى عن هذه الكتب التي فيها هذا الكلام؟

فقال: (( ينبغي أن تمزق)) ([24])

وقال ابن قدامة - رحمه الله -:

(( ومـن السنة هجران أهل البدع ومباينتهم وترك الجدال والخصومات في الدين، وترك النظر في كتب المبتدعة، والإصغاء إلى كلامهم،وكل محدثة في الدين بدعة )) ([25]).

وقال – أيضاً – في أثناء ردّه على ابن عقيل ([26]):

(( أما هو وحزبه من أهل الكلام، فما ذكرهم إلا ذمّهم والتحـذير منهم، والتنفير من مجالستهم، والأمر بمباينتهم وهجرانهم، وترك النظر في كتبهم )).

وقال العلامة ابن مفلح في كتابه " الآداب الشرعية" )[27]) :

(( وذكر الشيخ موفق الدين – رحمه الله – في المنع من النظر في كتب المبتدعة، قال: كان السلف ينهون عن مجالسة أهل البدع، والنظر في كتبهم والاستماع لكلامهم )).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - لما ذكر بأن كل ما رغّب في المعصية ونهى عن الطاعة فهو من معصية الله قال:

(( ومن هذا الباب سماع كلام أهل البدع، والنظر في كتبهم لمن يضره ذلك ويدعوه إلى سبيلهم وإلى معصية الله )) ([28]).

وقال شيخ الإسلام ابن القيم – رحمه الله – بعد ذكـره لبعض أقوال أهل البدع:

" يا من يظن بأننا حفنا عليـ ـهم كتبهم تنبيك عن ذا الشان
فانظر ترى لكن نرى لك تركها حذراً عليك مصائد الشيطان
فشباكها والله لم يَعْلَـق بهـا من ذي جناحٍ قاصر الطـيران
إلا رأيت الطير في قفص الرّدى يبكي له نوحٌ على الأغصان
ويظلّ يخبط طالباً لخلاصه فيضيق عنه فرجة العيدان
والذنب ذنب الطير خلّى أطيب الثّـ ـمرات في عالٍٍ من الأفنان
وأتـى إلى تلك المزابـل يبتغي الـ ـفضلات كالحشرات والديدان
يا قوم والله العظيم نصيحـة من مشفقٍ وأخٍ لكم معوان([29

قال الشيخ محمد خليل هراس في شرحه لنونيّة ابن القيم معلقاً على هذه الأبيات ([30]):

(( ولا يظنن أحد أننا نتجنى على القوم أو نتهمهم بغير الحق، فتلك كتبهم تخبر عنهم كل من ينظر فيها وتشهد عليهم شهادة صدق، فليقرأها من شاء ليتأكد من صحة ما نسبناه إليهم، لكنا مع ذلك ننصح كل أحد أن لا يقرأ هذه الكتب حتى لا يقع في حبائلها ويغرّه ما فيها من تزويق المنطق وتنميق الأفكار، لا سيما إذا لم يكن ممن رسخ في علوم الكتاب والسنة قدمه ولا تمكن منهما فهمه، فهذا لا يلبث أن يقع أسير شباكها، تبكيه نائحة الدوح على غصنها، وهو يجتهد في طلب الخلاص فلا يستطيع، والذنب ذنبه هو، حيث ترك أطيب الثمرات على أغصانها العالية حلوة المجتنى طيبة المأكل، وهبط إلى المزابل وأمكنة القذارة يتقمّم الفضلات كما تفعل الديدان والحشرات.

وما أروع تشبيه الشيخ – رحمه الله – حال من وقع أسير هذه الكتب وما فيها من ضلالات مزوقة قد فتن بها لُبُّه وتأثر بها عقله، بحال طير في قفص قد أحكم غلقه فهو يضرب بجناحيه طالباً للخلاص منه فلا يجد فرجة ينفذ منها لضيق ما بين العيدان من فرج.

وما أجمل – أيضاً – تشبيهه لعقائد الكتاب والسنة بثمرات شهية كريمة المذاق على أغصان عالية، بحيث لا يصل إليها فساد ولا يلحقها تلوث، وتشبيهه لعقائد هؤلاء الزائغين بفضلات قذرة وأطعمة عفنة ألقيت في أحدى المزابل، فلا يأوي إليها إلا أصحاب العقول القذرة والفطرة المنتكسة )).

وقال الذهبي – رحمه الله – بعد أن ذكر بعض كتب أهل الضلال كرسائل إخوان الصفا وأمثالها:

(( فالحذارِ الحذارِ من هذه الكتب، واهربوا بدينكم من شُبَه الأوائل، وإلا وقعتم في الحيرة، فمن رام النجاة والفوز فليلزم العبودية، وليدمن الاستغاثة بالله، وليبتهل إلى مولاه في الثبات على الإسلام وأن يتوفى على إيمان الصحابة، وسادة التابعين، والله الموفق)) ([31]).

وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في أثناء كلامه على الأشاعرة :

(( فصنف المتأخرون من هؤلاء على مذهبهم الفاسد مصنفات، كالأرجوزة التي يسمونها: جوهرة التوحيد؛ وهي إلحاد وتعطيل ، لا يجوز النظر إليها ، ولهم مصنفات أخر نفوا فيها علو الرب تعالى، وأكثر صفات كماله نفوها، ونفوا حكمة الرب تعالى)) ([32]).

وقال العلامة صديق حسن خان:

(( ومن السنة هجران أهل البدع ومباينتهم وترك الجدال والخصومات في الدين والسنة، وكل محدثة في الدين بدعة، وترك النظـر في كتب المبتدعة والإصغاء إلى كلامهم في أصول الدين وفروعه، كالرافضة والخوارج والجهمية والقدرية والمرجئة والكراميّة والمعتزلة، فهذه فرق الضلالة وطرائق البدع))([33]).

أضف إلى ذلك أن السلف قالوا بوجوب إتلاف كتب أهل البدع وإفسادها كما قال شيخ الإسلام ابن القيم:

(( وكذلك لا ضمان في تحريق الكتب المضلة وإتلافها.

قال المرّوذي: قلت لأحمد: استعرت كتاباً فيه أشياء رديئة ترى أني أخرقه أو أحرقه؟ قال: نعم، وقد رأى النبي -r - بيدي عمر كتاباً اكتتبه من التوراة وأعجبه موافقته للقرآن، فتمعّر وجه النبي - r - حتى ذهب به عمر إلى التنور فألقاه فيه .

فكيف لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما صنف بعده من الكتب التي يعارض بعضها ما في القرآن والسنة؟ والله المستعان …وكل هذه الكتب المتضمنة لمخالفة السنة غير مأذون فيها بل مأذون في محقها وإتلافها وما على الأمة أضر منها. ))

إلى أن قال:

(( والمقصود: أن هذه الكتب المشتملة على الكذب والبدعة، يجب إتلافها وإعدامها، وهي أولى بذلك من إتـلاف آنية الخمر؛ فإن ضررها أعظم من ضرر هذه، ولا ضمـان فيها، كمـا لاضمان في كسـر أواني الخمر وشق زقاقها)).([34])

وقـال ابن القيم – أيضاً – عند قول كعب بن مالك: (( فتيممت بالصحيفة التنور )) -:

(( فيه المبادرة إلى إتلاف ما يخشى منه الفساد والمضرة في الدين، وأن الحازم لا ينتظر به ولا يؤخره، وهذا كالعصير إذا تخمّر، وكالكتاب الذي يخشى منه الضرر والشـرّ، فالحـزم المبـادرة إلى إتلافه وإعدامه. )) ([35])

ونقل تقي الدين الفاسي في كتـابه ( العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين ) عن الشيخ شرف الدين عيسى الزواوي المالكي ( ت: 743)، ما نصه:

(( ويجب على ولي الأمر إذا سمع بمثل هذا التصنيف ( أي مؤلفات ابن عربي " كالفصوص والفتوحات المكيّة " ) البحث عنه وجمع نسخه حيث وجدها وإحراقها، وأدّب من اتهم بهذا المذهب أو نسب إليه أو عرف به، على قدر قوّة التهمة عليه، إذا لم يثبت عليه، حتى يعرفه الناس ويحذروه، والله ولي الهداية بمنّه وفضله )))[36]).

ونقل - أيضاً – عن الشيخ أبي يزيد عبد الرحمن بن محمد المعروف بابن خلدون المالكي، مانصه:

(( وأما حكم هذه الكتب المتضمنة لتلك العقائد المضلّة، وما يوجد من نُسخها بأيدي الناس، مثل: ( الفصوص )، و( الفتوحات) لابن عربي، و(البُدّ) لابـن سبعين، و ( خلع النعلين ) لابـن قسي، و (عين اليقين ) لابن بَرَّجان، وما أجدر الكثير من شعر ابن الفارض، والعفيف التلمساني، وأمثالهما، أن تُلـحق بهذه الكتب، وكذا شرح ابن الفرغاني للقصيدة التائية من نظم ابن الفارض، فالحكم في هذه الكتب كلها وأمثالها، إذهاب أعيانها متى وُجدت بالتحريق بالنار والغسل بالماء، حتى ينمحي أثر الكتابة، لما في ذلك من المصلحة العامة في الدين، بمحو العقائد المضِلّة.

ثم قال: فيتعيّن على ولي الأمر، إحراق هذه الكتب دفعاً للمفسدة العامة، ويتعيّن على من كانت عنده التمكين منها للإحراق، وإلا فينـزعها وليّ الأمر، ويؤدبه على معارضته على منعها؛ لأن ولي الأمر لا يعارض في المصالح العامة ))([37]).

وقــال السخــاوي - رحـمه الله - في ترجمة شيخه الحافظ ابن حجر - رحمه الله - :

(( ومن الاتفاقيات الدالة على شدة غضبه لله ولرسوله: أنهم وجدوا في زمن الأشرف برسباي شخصاً من أتباع الشيخ نسيم الدين التبريزي وشيخ الخروفية المقتول على الزندقة سنة عشرين وثمانمائة ومعه كتاب فيه اعتقادات منكرةٌ فأحضروه، فأحرق صاحب الترجمة الكتاب الذي معه، وأراد تأديبه، فحلف أنه لا يعرف ما فيه، وأنّه وجده مع شخص، فظنّ أنّ فيه شيئاً من الرقائق، فأُطلق بعد أن تبرّأ مما في الكتاب المذكور، وتشهّد والتزم أحكام الإسلام)) ([38]).

وقـد أحرق علي بن يوسف بن تاشفين كتاب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، وكان ذلك بإجماع الفقهاء الذين كانوا عنده ([39]).

وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في رسالته إلى عبد الله بن معيذر([40])، وكان قد بلغ الشيخ أنه يشتغل بكتاب الإحياء للغزالي ويقرأ فيه عند العامة:

(( من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ عبد الله. سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد.

فقد بلغني عنك ما يشغل كل من له حميّة إسلامية، وغيرة دينية على الملة الحنيفية، وذلك: أنـك اشتغلـت بالقـراءة في كتاب (الإحياء ) للغزالي، وجمعت عليه من لديك من الضعفاء والعامة الذين لا تمييز لهم بين مسائل الهداية والسعادة، ووسائل الكفر والشقاوة، وأسمعتهم ما في الإحياء من التحريفات الجائرة، والتأويلات الضالة الخاسرة، والشقاشق التي اشتملت على الداء الدفين، والفلسفة في أصل الدين.

وقد أمر الله تعالى وأوجب على عباده أن يتّبعوا الرسول، وأن يلتزموا سبيل المؤمنين، وحرم اتخاذ الولائج من دون الله ورسوله ومن دون عباده المؤمنين، وهذا الأصل المحكم لا قوام للإسلام إلا به، وقد سلك في الإحياء طريق الفلاسفة والمتكلمين، في كثير من مباحث الإلهيات وأصول الدين، وكسا الفلسفة لحاء الشريعة، حتى ظنها الأغمار والجهال بالحقائق من دين الله الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، ودخـل به الناس في الإسلام، وهي في الحقيقة محض فلسفة منتنة يعرفها أولو الأبصار، ويمجّها من سلك سبيل أهل العلم كافة في القرى والأمصار.

قد حذّر أهل العلم والبصيرة عن النظر فيها، ومطالعة خافيها وباديها، بل أفتى بتحريقها علماء المغرب ممن عُرف بالسنّة، وسماها كثير منهم: إماتة علوم الدين، وقام ابن عقيل أعظم قيام في الذم والتشنيع، وزيف ما فيه من التمويه والترقيع، وجزم بأن كثيراً من مباحثه زندقة خالصة لا يقبل لصاحبها صرف ولا عدل )).



ما أشبه الليلة بالبارحة، فهل جعل هؤلاء الأئمة ما في كتاب إحياء علوم الدين من الأدبيات والفوائد مسوّغاً لقراءة ذلك الكتاب، كلا ثـم كلا، بل أمروا بحرقه والتحذير منه.

وكتاب إحياء علوم الدين أفضل من كثير من الكتب التي يدعوا إليها دعاة هذه الحزبيات الجديدة، فهذه كتب سيد قطب التي يعظمونها بل ويقدسونها، لم تترك بدعةً لا سيما البدع الغليظة إلا وقررتها وتبنتها، ولو كانت هذه الكتب موجودة في عهد السلف الصالح أو في عهد الخليفة علي ابن يوسف الذي أحرق الإحياء، لأخّر إحراق الإحياء واتجه إلى كتب سيد قطب بالحرق والإتلاف، أو لأحرقهما معاً، وإلى الله نشكوا ضعفنا.

ومن المواقف تجاه أهل البدع التي تسطر بماء الذهب ما حصل من الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم -رحمه الله- من تعزيره لعبدالله الخنيزي مؤلف كتاب (أبو طالب مؤمن قريش) وأصدر فيه حكماً حازماً، حتى أعلن الخنيزي توبته وكتبها، وإليك نص القرار الذي اتخذه الشيخ ابن إبراهيم :

(( من محمد بن إبراهيم إلى المكرم مدير شرطة الرياض سلمه الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فبالإشارة إلى المعاملة الواردة منكم برقم 944 وتأريخ 10/11/1381 المتعلقة بمحاكمة عبدالله الخنيزي، فإنه جرى الاطلاع على المعاملة الأساسية ووجدنا بها الصك الصادر من القضاة الثلاثة المقتضي إدانته، والمتضمن تقريرهم عليه، يعزر بأمور أربعة:

(أولاً) : مصادرة نسخ الكتاب وإحراقها، كما صرّح العلماء بذلك في حكم كتب المبتدعة.

(ثانياً) : تعزير جامع الكتاب بسجنه سنة كاملة، وضربه كل شهرين عشرين جلدة في السوق مدّة السنة المشار إليها بحضور مندوب من هيئة الأمر بالمعروف مع مندوب الإمارة والمحكمة.

(ثالثاً) : استتابته؛ فإذا تاب وأعلن توبته وكتب كتابة ضد ما كتبه في كتابه المذكور ونشرت في الصحف وتمت مدّة سجنه خلي سبيله بعد ذلك، ولا يطلق سراحه وإن تمت مدّة سجنه ما لم يقم بما ذكرنا في هذه المادة.

(رابعاً) : فصله من عمله، وعدم توظيفه في جميع الوظائف الحكومية، لأن هذا من التعزير.

هذا ما يتعلق بالتعزير الذي قررته اللجنة، وبعد استكماله يبقى موضوع التوبة يجرى فيه ما يلزم إن شاء الله. والسلام عليكم)) ([41]).

فلله دره ما أشده على أهل البدع والمخالفين للسنن، وهذه كانت سيرته معهم، وهم كانوا على خوف شديد منه كما أخبرنا بذلك من عاصره، وكم من أهل البدع في عصرنا ممن يحتاجون أن يتخذ معهم مثل هذا القرار، والله المستعان.

وإنصافاً لعبدالله الخنيزي فإنه قد تاب مما خطته يداه في كتابه المذكور وأعلن توبته وكتبها، وهي مدونة بعد القرار المذكور.

ومن أقوال أهل العلم -أيضاً- في طريقة معاملة كتب أهل البدع، ما قاله العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - :

(( ومن هجران أهل البدع ترك النظر في كتبهم خوفاً من الفتنة بها، أو ترويجها بين الناس، فالابتعاد عن مواطن الضلال واجب؛ لقوله - r - في الدجّال : (( من سمع به فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنّه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات )) رواه أبو داود)[42])، وقال الألباني: وإسناده صحيح .

لكن إذا كان الغرض من النظر في كتبهم معرفة بدعتهم للرد عليها فلا بأس بذلك لمن كان عنده من العقيدة الصحيحة ما يتحصن به، وكان قادراً على الرد عليهم، بل ربما كان واجباً؛ لأن رد البدعة واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)) ([43]).

وسئل الشيخ صالح الفوزان – حفظه الله -: ما هو القول الحق في قراءة كتب المبتدعة، وسماع أشرطتهم؟

فأجاب: (( لا يجوز قراءة كتب المبتدعة ولا سماع أشرطتهم إلا لمن يريد أن يرد عليهم ويبين ضلالهم )) ([44])

فهكذا كان أهل السنة يعاملون أهل البدع ومؤلفاتهم، فقف حيث وقفوا فإنه يسعك ما وسعهم.

ومن لم يسعه ما وسع رسول الله - r - ووسع السلف والأئمة بعده فلا وسّع الله عليه، ومن لم يكتف بما اكتفوا به ويرضى بما رضوا به ويسلك سبيلهم؛ فهو من حزب الشيطان و{ إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير }.

ومن لم يرض الصراط المستقيم سلك إلى صراط الجحيم، ومن سلك غير طريق سلفه أفضت به إلى تلفه، ومن مال عن السنّة فقد انحرف عن طـريق الجنّة.

فاتقـوا الله تعـالى وخافوا على أنفسكم، فإن الأمر صعب، وما بعــد الجنّــة إلا النـار وما بعـد الحـق إلا الضلال، ولا بعد السنّة إلا البدعة )[45](.

مع العلم أن السلف كانوا يفرقون بين أهل البدع الدعاة إلى بدعهم وغير الدعاة، فألجأتهم الضرورة للاستفادة من هؤلاء لدينهم وصدقهم وأمانتهم وعدم دعوتهم إلى ما وقعوا فيه من البدع.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

(( وسبب الفرق بين أهل العلم وأهل الأهواء – ومع وجود الاختلاف في قول كل منهما -:

أنّ العالم قد فعل ما أمر به من حسن القصد والاجتهاد، وهو مأمور في الظاهر باعتقاد ما قام عنده دليله، وإن لم يكن مطابقاً، لكن اعتقاداً ليس بيقيني، كما يؤمر الحاكم بتصديق الشاهدين ذوي العدل، وإن كانا في الباطن قد أخطآ أو كذبا، وكما يؤمر المفتي بتصديق المخبر العدل الضابط، أو باتباع الظاهر، فيعتقد ما يدل عليه ذلك، وإن لم يكن ذلك الاعتقاد مطابقاً.

فالاعتقاد المطلوب هو الذي يغلب على الظن مما يؤمر به العباد، وإن كان قد يكون غير مطابق، وإن لم يكونوا مأمورين في الباطن باعتقاد غير مطابق قط.

فإذا اعتقد العالم اعتقادين متناقضين في قضية أو قضيتين، مع قصده للحق واتباعه لما أمر باتباعه من الكتاب والحكمة: عذر بما لم يعلمه وهو الخطأ المرفوع عنا.

بخلاف أصحاب الأهواء، فإنهم إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس، ويجزمون بما يقولونه بالظن والهوى جزماً لا يقبل النقيض، مع عدم العلم بجزمه، فيعتقدون ما لم يؤمروا باعتقاده لا باطناً ولا ظاهراً، ويقصدون ما لم يؤمروا بقصده، ويجتهدون اجتهاداً لم يؤمروا به، فلم يصدر عنهم من الاجتهاد والقصد ما يقتضي مغفرة ما لم يعلموه، فكانوا ظالمين، شبيهاً بالمغضوب عليهم، أو جاهلين، شبيها بالضالين.

فالمجتهد الاجتهاد العلمي المحض ليس له غرض سوى الحق، وقد سـلك طريقه، وأما متبع الهوى المحض فهو من يعلم الحق ويعاند عنه))([46]).

ولذلك كان أهل العلم يفرقون حتى في الرواية بين الدعاة إلى البدع وبين غـير الدعاة فهذه المسألة قد اختلف فيها أهل العلم على ثلاثة أقوال:

القول الأول: المنع مطلقاً، وهو قول ابن سيرين ومالك وابن عيينة والحميدي ويونس بن أبي إسحاق وعلي بن حرب وغيرهم.

ولهؤلاء مأخذان:

أحدهما: تكفير أهل الأهواء أو تفسيقهم وفيه خلاف مشهور.

والثاني: الإهـانة لهم والهجران والعقوبة بترك الرواية عنهم، وإن لم نحكم بكفرهم أو تفسيقهم.

القول الثاني: تجوز الرواية عنهم إذا لم يتهموا بالكذب، وهو قول أبي حنيفة والشافعي ويحيى بن سعيد وعلي بن المديني.

القـول الثالث: وهو التفريق بين الداعية وغيره فمنعوا الرواية عـن الداعية إلى البدعة دون غيره.

وهذا هو الأظهر الأعدل وهو قول الأكثر، كابن المبارك وابن مهدي وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وروي عن مالك وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابـن حجر.

ولكنهم قيدوا قبول غير الداعية بما إذا لم يرو ما يقوي بدعته )[47]).

ومن ذلك ظهر بطلان قول من يساوي بين ابن أبي عروبة وقتادة وغيرهما – رحمهما الله -، وبين سيد قطب أو حسن البنا أو الغزالي المعاصر وغيرهم من أهل البـدع الذين هم على شاكلة هـؤلاء.

ذكرت هذا الكلام ليبين الفرق بين دعاة المنهج السلفي الحق وبين فئة انتمت إلى هذا المنهج ظاهراً واتخذت من بعض من وقع في شيء من البدع كابن حجر والنووي منطلقاً إلى الطعن في أهل السنّة من مثل ابن أبي العز الذي طعنوا في كتابه شرح الطحاوية، وتشددهم على الشوكاني وأمثاله ممن رفع راية التوحيد والسنّة ووقعوا في بعض الأخطاء .

نسـأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتّباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه. والله تعالى أعلم.

([1]) وقد عرفنا كثيراً من أهل السنّة الذين كانوا على المنهج السلفي لكنهم انهمكوا في قراءة كتب أهل البدع والضلالات بحجة أنها لا تخلو من الحق ، فضاعوا وضلوا وأصبحـوا من خصوم الدعوة السلفيّة وأهلها والمحذرين منهم ومن كتبهم، نسأل الله السلامة والعافية والثبات على السنة .

([2]) الدرر السنيّة ( 3/211 ).

([3]) أخرجه الإمـام أحمـد ( 3/387 ) ، والدارمي ( 1/115) ،وهو حديث حسن، انظر الإرواء ( 6/338-340 ).

([4]) الاستقامة لشيخ الإسلام ابن تيمية ( 1/108 ) .

([5]) (242-231/1)

([6]) كان الصوفية في وقته على طريقة السلف ، وتصوفهم كان الزهد والعبادة والورع ، وهذا واضح في عقيدته التي أوردها صاحب كتاب الحجة في بيان المحجة ، ولو كان على غير هذا لما كان له أي قيمة عند أهل السنّة .

([7]) العلل ومعرفة الرجال ( 1/253-254 ) .

([8]) السنّة للخلال ( 3/511).

(9 ( المعرفة والتاريخ للفسوي ( 3/494 ) .

([10]) هداية الأريب الأمجد لسليمان بن حمدان ( ص : 38 ) .

([11]) السير (11/231).

([12]) السنّة ( 3/511 ).

([13]) جامع بيان العلم ( 2/942 ) .

([14]) شرح أصول اعتقاد أهل السنّة للالكائي ( 1/197-202 ) .

([15]) أي أهل البدع والأهواء كتمثيله بكتب الكرابيسي.

([16]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي ( 1/180 ) .

([17]) الميزان ( 1/61 ) .

([18]) (ص : 231-234 ).

([19]) كتاب الضعفـاء لأبي زرعـة ،ضمـن كتـاب ( أبو زرعة الرازي وجهوده في السنة النبوية ) ( 2 / 561-562 ) .

([20]) ميزان الاعتدال ( 1/431 ) .

([21]) منهج أهل السنة والجماعة في نقد الرجال والكتب والطوائف(ص:135-136)

([22]) وانظر في بيان ضلالاته وبدعه مؤلفات الشيخ ربيع بن هادي المدخلي _حفظه الله، ككتاب أضواء إسلامية ، ومطاعن سيد قطب في أصحاب رسول الله، والعواصم مما في كتب سيد قطب من القواصم ، والحد الفاصل ، ونظرات في كتاب التصوير الفني، ونظرة سيد قطب إلى أصحاب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- فجزاه الله تعالى خير الجزاء .

([23]) ( ص : 242 ) .

([24]) من شريط بعنوان ( رياض الصالحين ) .

([25]) لمعة الاعتقاد ( ص : 33 ) .

([26]) تحريم النظر في كتب الكلام ( ص : 41 ) .

([27]) (232/1) .

([28]) الفتاوى ( 15/336 ) .

([29]) نونية ابن القيم ( ص : 180 ) .

([30]) (361-360/1) .

([31]) سير أعلام النبلاء ( 19 / 328-329 ) .

([32]) الدرر السنية ( 3/209-210 ).

([33]) قطف الثمر في عقيدة أهل الأثر ( ص : 157 ) .

([34]) الطرق الحكميّة ( ص : 233-235 ) .

([35]) زاد المعاد ( 3 / 581 ) .

([36]) (176-177/2) .

([37]) العقد الثمين ( 2/ 180-181 ) .

([38]) الجواهر والدرر ( 2/637-638 ) .

([39]) انظر المعيار المعرب (12/185) .

([40]) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية ( 3 / 130-131 ) .

([41]) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم (12/187-189).

([42]) سيأتي تخريجه .

([43]) مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ( 5/89 ) .

([44]) الأجوبة المفيدة عن أسئلة المناهج الجديدة ( ص : 70 ) .

([45]) مأخوذ من كلام سهـل التستري ، انظر تحريم النظر لابن قـدامة ( ص:70-71 ) .

([46]) القواعد النورانية ( ص : 151-152 ) .

([47]) وانظر تفصيل هذه المسألة في ،نزهة النظر لابن حجر (ص:136)،وتدريب الراوي (1/275)،وشرح علل الترمذي (1/53)،ومنهـاج السنة(3/60-62)،وغيرها .
منقول http://www.albaidha.net/vb/showthread.php?t=33566

أبو الوليد خالد الصبحي
24-May-2013, 11:18 PM
جزاك الله خيرا

أبو عبد الله المعتز بالله الجيلالي السلفي
25-May-2013, 08:01 PM
وإياك أخي