المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : في شرط إقامة الحجَّة/للشيخ العلامة محمد علي فركوس الجزائري -حفظه الله-



أبو محمد هشام الجزائري
27-Jun-2013, 11:07 AM
الفتوى رقم: 1156
الصنف: فتاوى منهجية
السؤال:
بم تقامُ الحجّة ؟ وهل هناك شروطٌ أو ضوابطُ تقوم عليها الحجَّة عند إرادة إقامتها ؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فإقامة الحُجَّة تتحقَّق بخبر الواحد العدل أو بما زاد عليه وإن قلَّ العدد، لأنَّ العبرة ببيان الحقِّ بدليله لا بكثرة العدد، غير أنَّ القائم بالحجَّة يُشترط فيه أن لا يكون معروفًا بالكذب والفسق أو الجهل، ذلك لأنَّ الله أرسل رُسُلَه واحدًا واحدًا، وأوجب الإيمان بهم، وكان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يرسل صحابتَه لدعوة الملوك الكفَّار، وأقام عليهم الحجَّةَ بخبر الواحد المبلِّغ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، غيرَ أنَّ هذا الواحد العدل يجب أن يُحسن إقامتَها، بحيث يُزيل عمَّن تقام عليه أيَّةَ شبهةٍ أو تأويلٍ، وصفةُ قيام الحجَّة أن تبلغه فلا يكون عنده شيءٌ يقاومها. ويُشترط فيمن تُقام عليه الحجَّة أن تجتمع فيه القدرة على العلم والعمل، فالعاجز يرتفع عنه التكليف، لأنه لا يفهم الخطابَ ولا يتصوَّر ما طُلب منه، وفقدان العلم يؤدِّي إلى فقدان القدرة على قصد الامتثال، وكذلك من اعترى عقلَه خلَلٌ يؤثِّر في كماله وسلامته، كالصبيِّ والمجنون، أو طرأ عليه عارضٌ يمنعه من فهم الخطاب وإدراكه، كالناسي والنائم والسكران، فالتكليف في هذه الحال ساقطٌ عن هؤلاء، إذ لزوم التكليف يستوجب صحَّةَ العقل وسلامتَه، وانتفاءَ العوارض المانعة من فهم الخطاب لحصول قصد الامتثال والطاعة.
فمن هنا يتجلَّى واضحًا أنَّ فهم الخطاب يستدعي قدرةً على الفهم، ولا يتأتَّى إلاَّ بسلامة العقل وكماله، وارتفاع العوارض المانعة من إدراكه، وقصدُ الامتثال والطاعة يستدعي القدرةَ على القصد، ولا يتأتَّى إلاَّ بالفهم والعلم.
ولذلك أصَّل العلماء هذه القواعدَ التي تفيد هذا المعنى، منها: «لاَ تَكْلِيفَ إِلاَّ بِمَقْدُورٍ»، و«لاَ تَكْلِيفَ إِلاَّ بِمَعْلُومٍ»، و«لاَ يَثْبُتُ الخِطَابُ إِلاَّ بَعْدَ البَلاَغِ»، و«لاَ يَقُومُ التَّكْلِيفُ مَعَ الجَهْلِ أَوْ عَدَمِ العِلْمِ».
ولو أمكن المكلَّفَ العلمُ دون العمل لم يكن العمل مأمورًا به لعجزه عنه، لأنَّ اشتراط العمل يعود -أيضًا- إلى القدرة التي هي شرط التكليف.
فإذا تبيَّن أنَّ شروط التكليف اجتمعت في القدرة والاستطاعة ظهر جليًّا أنَّ الجاهل عاجزٌ، والعاجز لا قدرة له على الفعل لفقدانه للعلم الذي يقوم به التكليفُ، إذ لا تكليف مع عدم العلم، قال ابن تيمية: «فمن استقرأ ما جاء به الكتاب والسنَّة تبيَّن له أنَّ التكليف مشروطٌ بالقدرة على العلم والعمل، فمن كان عاجزًا عن أحدهما سقط عنه ما يُعجزه، ولا يكلِّف الله نفسًا إلاَّ وسعها»(1).
وقال -رحمه الله- في مَعْرِضٍ آخَرَ: «وإذا تبيَّن هذا؛ فمن ترك بعضَ الإيمان الواجب لعجزه عنه، إمَّا لعدم تمكُّنه من العلم، مثل أن لا تبلغه الرسالة، أو لعدم تمكُّنه من العمل؛ لم يكن مأمورًا بما يعجز عنه، ولم يكن ذلك من الإيمان والدين الواجب في حقِّه، وإن كان من الدين والإيمان الواجب في الأصل، بِمَنْزِلة صلاة المريض والخائف والمستحاضة وسائر أهل الأعذار الذين يعجزون عن إتمام الصلاة، فإنَّ صلاتهم صحيحةٌ بحسب ما قدروا عليه، وبه أُمِروا إذ ذاك»(2)، ثمَّ قال: «ولو أمكنه العلم به دون العمل لوجب الإيمان به علمًا واعتقادًا دون العمل»(3).
هذا؛ والعلماء يفرِّقون بين «قيام الحجَّة» و«فهم الحجَّة»، ف «قيام الحجَّة» يقتضي العلمَ والإدراك وفهْمَ الدلالة والإرشاد، و«فهم الحجَّة» يقتضي الانتفاعَ والاهتداء والتوفيق، ويدلُّ عليه قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فصِّلت: 17]، ولا تلازُمَ بينهما، أي: أنه لا يَلزم من قيام الحجَّة فهمُها، فقيام الحجَّة وبلوغُها أمرٌ غيرُ فهمه لها، وكفرُه ببلوغها -وإن لم يفهمها- أمرٌ آخَرُ، إذ إنَّ الكفَّار والمنافقين قامت عليهم الحجَّة بالقرآن، مع أنهم لم يفهموها، قال تعالى: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾[الفرقان: 44]، كما أخبر الله تعالى أنَّ الكفَّار مع قيام الحجَّة عليهم لم يفهموها، حيث جعل الله على قلوبهم أَكِنَّةً أن يفقهوه، في قوله جلَّ وعلا:﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ [الأنفال]، وفي قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ﴾ [الأنعام: 25؛ الإسراء: 46](4).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.

(1) (http://ferkous.com/site/rep/Bq150.php#_ftnref1)«مجموع الفتاوى» (21/ 634).

(2) (http://ferkous.com/site/rep/Bq150.php#_ftnref2)«مجموع الفتاوى» (12/ 478-479)، وتمامه: «وإن كانت صلاة القادر على الإتمام أكمل وأفضل».

(3) (http://ferkous.com/site/rep/Bq150.php#_ftnref3)«مجموع الفتاوى» (12/ 479).

(4) (http://ferkous.com/site/rep/Bq150.php#_ftnref4)«الدرر السنيَّة» (8/ 79).