المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سُـمُـوُّ الـرُّوحِ



أبو الوليد خالد الصبحي
07-Oct-2013, 06:51 PM
سُـمُـوُّ الـرُّوحِ

الحمد لله وحده ،والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ،محمد صلى الله عليه ،وعلى آله وصحبه ،وسلم تسليما ،وبعد

فإذا سمت الروحُ فوق الجسدِ أدرك الإنسانُ قيمةَ الأيامِ و معنى الحياة .
فأبصرها ربيعا يملؤه الصفاء بكل معنى له وفيه ،فما أصفى نسيمَهُ ،وما أروعَ مسَّهُ على الروح والقلبِ، كجسد أحرقته شعاعاتُ الشمس فغرق في أعراقه المتدفقة من مسامِّهِ ،وإذا بنفحةٍ من هواء تحمل من العبير والعبق ما تحمل قد أدركته حتى تغلغلت جميعَ ذَرَّاته فخَلَصَتْ إلى روحه وقلبه . وما أصفى ماءَهُ الجاريَ المتدفقَ في جداولَ من أرضٍ هي الليلُ أشدَّ ما يكون ظلمةً ،كلُجَيْنٍ تتناثرُ حبَّاتُهُ على جبينِ تلك الأرضِ السوداء حاكيا السماءَ بنجومها وكواكبها وشُهُبِها ،فإذا هو بين سماءين مختلفتين ،سماءِ الشمس ،وسماءِ النجوم ،وإذا هو بين زمنين متعاقبين قد شاهدهما معا وفي آنٍ واحدٍ ،زمنِ النهار بشمسِهِ ،وزمنِ الليل مع قمرِه ونجومِهِ ،فيسْتشعِر قُرْباً في مِضْمَارِ " يا أبا بكر ،ما ظنُّكَ باثنينِ

اللهُ ثالِثُهما " ،فتتبدد المخَاوِفُ ،وتتساقط الأعْبَاءُ ،وينشرح الصدرُ ،ويطمئن القلب ،وتنجلي الرؤيةُ في ضوء ( أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ ) ،ويَنْفُذُ بصر البصيرة مخترقا الحُجُبَ في تأمل مهيب مادَّتُهُ اليقين ،ووقودُهُ الروحُ المشْتَاقَةُ ،مسافراً عبر السماوات ليدخل جناتِ النَّعِيم بروحه وقلبه ،قبل أن يدخلها ببدنه وجسده .

وما أبدع أشجاره في حقولها واختلاف ألوانها ،حين تتناغم أشكالها في انسجام لا حدود له ،وتتراقص أوراقها في أفنانها طربا بحركات أوتار النسيم في جنباتها ،فيستلقي القلبُ تحت ظلالِها ،وتُحلِّقُ الروحُ فوق أغصانها ،طائرةً وواقفةً على أفناها ،تناجي طيورَها وبلابلَها بالبر والتقوى ،مغرِّدةً مسبحةً بحمد ربِّها وخالقها .
وما ألذَّ ثمارَهُ وأطيبَهَا في مَذَاقِهِ حين يأكلها ،وما أبهاها في أغصانها حين ينظرها ،وما أنفَذَ ريحَها إلى أعماقِهِ حين يشَمُّها ،فتَتَّسِعُ النفسُ لِتسْتوْعِبَ العالَمين بأخلاقها ،وينشرح الصدر برؤيةِ تناغمِ الألوان وانسجامِها ،فيعلو الإيمان ويزداد لِيَهْمِسَ همسة الشوق في أعماق القلب : ما أجملَ وأروعَ الحياةَ في كنف الربِّ وجنتهِ ،حيث النظرُ إلى وجهه ،فَهَلُمَّ تلك الحياةُ ،فما أشدَّ عذابَ القلب بالبعد
عن الرب ،وما أجملَ شعورَ الروح بالنظر إلى المعبود ،وما ألذَّ طعمَ الحياةِ بطعمِ القلبِ حينَ القُرْبِ مِن الإله ذي الأسماء الحسنى والصفات العُلَى .
فما أيامُ ربيعِ روحِهِ في حِسِّهِ وشُعُورِهِ إلا مَرَاكبُ يعْتلِيها بعد أن أسْرَجَها فأحْكَم سَرْجَها ،وحمَّلَها من صنوفِ الزَّاد ما حمَّلها ،لتكون بُلْغَتَه حتى تنقضيَ حياتُهُ الأولى مُرْبِعَةً ،بُلُوغاً بها إلى حياتِهِ الآخرةِ التي هي في حِسِّ روحِه وشُهُودِ قلبِهِ أعظمُ وأروعُ ،وأكبرُ وأوسعُ من هذه الحياةِ .
فلا يزالُ آنِسا بربه حتى يلقاه ،ولا يزالُ واطِناً الجنَّةَ حتى يبلغَهَا .ويصيرَ من أهلها .
ولا يزال داعيا إليه ،مُعَرِّفا به ،دالا عليه ،ببيان جماله في أوصاف ذاته ،وجلاله في أوصاف فعله ،وكماله في اسمه ووصفه ،وربوبيته وألوهيته في أسمائه وصفاته ،وأسمائه وصفاته في ربوبيته وإلاهيته ،آمرا إياهم بتوحيده وإخلاص العبادة له ، بامتثال أوامره ،واجتناب نواهيه ،واتباع رسوله ،واقتفاء أثره .
ولا يزال محبا لنبيه –صلى الله عليه وسلم- داعيا إلى حبه ،مبينا نهجَه ،آمرا باتباعه ،متبعا هديه ،ملازما عرزه ،موافقا له ،هاجرا فيه ،واصلا به ،مواليا ومعاديا عليه .
وهكذا شأن من يحب ،ولله درُّ القائل :
أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواكا
فلو أني استطعت غضضت طرفي فلم أنظر به حتى أراكا
أحبك لا ببعضي بل بكلي وإن لم يبق حبك لي حراكا


أما إذا سما الجسدُ فوق الروحِ فلا قيمةَ للأيام و لا معنى للحياة .
فهو يراها صحراء لا أثر فيها لوجود مقومات الحياة وأسبابها ،ولا يملك إلا أن يبحث عن اللاشيء طالبا شيئا من مقوماتها وأسبابها ،يكذب على عينيه بإشعار نفسه ،أو يكذب على نفسه بإشعار عينيه أن مطلوبه على مرمى البصر ،كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ !.
يراها شاسعةً متراميةَ الأطراف ،إلا أنها على سعتها وامتدادها ضيقة في مشهد قلبه وروحه ،فلا يزال في صراع معها ،ولا يزال قلبه وروحه في مزيد من الآلام كلما كان هو في مزيد من الصراع .
يراها بعيدةَ النهايةِ فيحاول بسعيه الحثيثِ تائها في مفازتها ،ضالا في طريقها ،متحيرا في ذَهابه ،مضطربا في عقله ،معدما من زاده ،يريد أن يبلغ أطرافها فيقف على النعيم من ورائها !!،وإذا به يهلِك دون انقضائها ،فلا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع ،ولا نعيما بلغ ،ولا نجاة أدرك وحصَّل .
يراها خاليةً من كلِّ شيء(وحُقَّ له أن يراها خالية قاحلة) ،فهو يحيا في فيْفاءِ قلبه ،وصحراءِ روحه ،وما خلَت حياته عن الأشياء إلا في ظلمة نفسه !!،وما أظلمت النفس إلا في معتقل القلب ومنفى الروح .
يراها فارغةً من كلِّ معنى ....،لأنه أفرغ قلبه وروحه من معناهما ،وأفرغهما من كل معنى فيهما ،ولأنه يرى فراغهما من المعنى في حد ذاته معنى ،وما فراغ الحياة في الشهود من معانيها ،إلا حكايةً لإفراغ القلب والروح من معناهما ،ونتيجةً لإغراق النفس الأمَّارة في معانيها .
(جدباءَ) :لا ينبت معها بذر ،مثل قلبه لا تؤثر فيه طاعة ،وإن نبت فلا يينع ،بل إلى ذبول ،لسمو جسده على روحه ،فما أثقل الطاعة على نفسه !،مثل عمله :لا يكاد يبتديء به حتى ينتهي منه ،وسرعان ما ينقضي العمل قبل الأثر ،كالزرع يذبل ويجف دون الثمر ،لسمو بدنه على قلبه ،فما أشدَّ نفورَ جوارحه من قليل أعماله ،سيما مع غفلته وانشغاله .
(جرداءَ) : لا زرعَ فيها ،ولا ماءَ ،فلا رِيَّ ولا شِبَعَ ،وإنما الظمأ مع الطمع ،والجوع مع الجزع .
ولا مؤنس فيها ،ولا مصاحب ،سوى الوحوش والهوام والسباع تخيفه وتزيد من هلعه واضطراب قلبه .
إذا رآها تجمد خوفا ،وإذا أحسَّ بها فرَّ في فَرَقِهِ هاربا ،وإذا سمع أصواتها من عواء أو زئير أو نباح أو فحيح تلفت في زعره كالمجنون ،فلا يزال مضطرب الفكر ،مزعور النفس ،مصروع الخاطر ،لا تهدأ له عين ،ولا يرقأ له جفن حتى يتحررَ قلبُه من سجنه ومعتقله ،وترجع روحُه من منفاها تاركة من ورائها جسده ،لتعود إليه في نفي مؤبد ،فياله من شقي ،وما أشقى روحه بشقاء صاحبها ،يارب سلِّم سلِّم .

فلا يزال على تلك الحال معرضا عن ربه ،مقبلا على شيطانه ،معظما نفسه ،غافلا عن عمره ،مغترا بحياته ،فرحا بطول أمله ،خائفا من لقاء ربه ،يترقب في دهشة وذهول ،حتى إذا جاءه الموت قال :" رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)[المؤمنون] .

فيالها من حياة !،ما أشقاها! ،وياله من عمر ! ما أبشع سنينَه وأعوامَه ،وشهورَه وأيامَه !،ويالها من غفلة تعقبها النار !،وياله من اغترار آخره الخسران .
فالحذر الحذر ،والبدار البدار ،واعلموا عباد الله ،"أن سموَّ الروحِ إنما هو في اعتزازها بإسلامها , و حرصها على أمر ربها , و استرسالها خلف مشاعرها الجميلة الرقراقة ,و سكونها إلى حبيبِها ربِّها خالِقها ومعبودِها ,وإن كان ذلك كذلك فلا تزال الروح ساميةً و تسمو حتى تسجد تحت عرشه , فتأنسَ بقربه و جواره ،ولا تزال في قربه وجواره حتى تدخل جنته ،وتنعم بالنظر إليه ،فاحرصوا عليه ،واعملوا له .
و ليس سموها في في جريها لاهثة خلف شهوات الجسد و رغباته من مأكل و مشرب و منكح و ملبس ..., إذ تلك حياة الحيوان وأخلاقه .
أما حياة الإنسان وأخلاقه ,ففي سموِّهِ بروحه المحبة الطاهرة النقية فوق كل قبيحة وسيئة ورذيلة , وفوق حياة الآدمي الحيوان " .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ،وعلى آله وأصحابه والتابعين له ولهم بإحسان إلى يوم الدين .

وكتب
أبو عبدالله قرةِ العين
صلاح عبدالوهاب أمين
السلفي المصري


اتق الله ولا تحذف رابط المصدر ! الموضوع الأصلي من منتديات مصر السلفية: سـمـو الـروح (http://misrs.net/forums/t532#1421#ixzz2h3HCFixV)