المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : [خطبة] منهج الإسلام في الوقاية من المعاصي والجرائم - خطبة لسماحة المفتي عبد العزيز آل الشيخ



أبو خالد الوليد خالد الصبحي
10-May-2010, 06:16 PM
منهج الإسلام في الوقاية من المعاصي والجرائم - خطبة لسماحة المفتي عبد العزيز آل الشيخإنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا؛ ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ؛ فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل؛ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه صلَّى اللهُ عليه، وعلى آلهِ، وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمَّا بعدُ:
فيا أيُّها الناسُ، اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ الله جلَّ وعلا شرعَ في كتابه وفي سنة رسولِه صلى اللهُ عليه وسلم من الأحكام ما تستقيمُ به أحوالُ العبادِ، وتنتظمُ به معايِشُهم، ويحصلُ لهم الأمنُ والاستقرارُ وراحةُ البالِ، ولمَّا كانت الجرائمُ والآثامُ سببًا لاختلالِ الأمنِ واضطرابِ الأحوالِ وحلولِ المصائبِ والكوارثِ؛ فإنَّ الإسلامَ حاربَها بِكُلِّ وسيلةٍ، ووضعَ من السُّبُلِ والوِقايةِ لأسبابِ الوقوعِ فيها، الأمورَ المُعِينَةَ، ووضعَ الزَّواجِرَ والعقوباتِ، ردعًا للمسلمِ من الوقوعِ فيما حرَّمَ اللهُ عليه، فمن تِلكُمُ الوقايةِ، الرَّقابةُ الذَّاتِيَةُ لدى العبدِ؛ فإنَّ المسلمَ يكونُ رقيبًا على نفسِهِ، وذلك بتحقيق تقواه لله جلَّ وعلا؛ فإذا اتَّقَى اللهَ في سِرِّهِ وعَلانِيَتِهِ، فتقواهُ لرَبِّهِ، يَقِيهِ المصائِبَ والجرائم، وتقوى اللهِ وصيَّةُ اللهِ للخليقةِ أجمعين (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]، والمؤمنُ على يقينٍ أنَّ اللهَ يعلمُ كُلَّ أحوالِهِ (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر:19]، (وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) [إبراهيم:38]، وقد وعدَ اللهُ المتقينَ بالثوابِ العظيمِ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا) [الطلاق:2]، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) [الطلاق:4]، (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً) [مريم:63].
ومن الوقايةِ من المعاصي القيامُ بعباداتِ اللهِ جلَّ وعلا؛ فإنَّ العباداتِ تَقِي العبدَ معاصيَ اللهِ وتَحُولُ بينهُ وبينَ المُخالفاتِ، الصلواتُ الخمس ُلمن حقَّقَها وأدَّاها كاملةَ الأركانِ والواجباتِ والشُّروطِ أدَّاها على الوجهِ المطلوبِ، حاضرَ القلبِ؛ لأنَّ في آدائِها؛ فإنَّها بتوفيقٍ من اللهِ، تنهاهُ عنِ المخالفاتِ (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت:45]، واسمعْ قولَ قومِ شعيبٍ لشعيبٍ عليه السلام: (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود:87]، فدَلَّ على أنَّ الصلواتِ تَنْهاهُم عن هذا كُلِّهِ، وخُذْ أَمْرَ الزَّكاةِ؛ إذْ هي تزكية القلبالمُزَكِّي، وتطهيرٌ له من خُلُقِ البُخْلِ والشُحِّ، وهي أيضًا إنقاذٌ للفقيرِ من الوُقوعِ في المخالفاتِ؛ فمتى أدى الأغنياء زكاةَ أموالِهم صانوا بها الفقراء وهدأت بها نفوس الفقراء وصلحت قلوبُهم فكفَّت أيديهم عن التطلعِ إلى ما في أيدي الناسِ، وتركوا المسألةَ المَقِيتَةَ، وأَعْرَضُوا عن ذلك؛ ففيها إغناءٌ للفقراءِ، وكفًّا لهم من الوقوعِ في جريمةِ السرقةِ، والنَّهْبِ، والاحتيالِ الباطلِ.
صيامُ رَمَضَانَ أخبرَ اللهُ أنَّهُ يُحَقِّقُ التقوى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183]، فهو يُحَقِّقُ جانبَ التقوى؛ لأنهُ عبادةٌ بين العبدِ وبين ربِّهِ، لا يعلمُه إلا اللهُ جلَّ وعلا، وأيضًا يَرْدَعُهُ عن الجرائمِ، يقولُ صلى اللهُ عليه وسلم: "مَنْ لم يَدَعْ قولَ الزُّورِ والعملَ به، والجَهْلَ؛ فليسَ للهِ حاجةٌ في أن يَدَعَ طعامَه وشرابَه"، والحَجُّ إلى بيتِ اللهِ إنفاقٌ للأموالِ وإتعابٌ للأبدانِ، تربيةٌ على الصَّبْرِ، وتّحَمُّلِ المَشاقِّ، وتهذيبٌ للسانِ والجوارِحِ من المعاصي (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) [البقرة:197]، وفي الحديث: "مَنْ حَجَّ ولم يَرْفُثْ، ولم يَفْسُقْ، رجعَ من ذنوبِه كيومَ ولدتهُ أمُّهُ"، وهكذا سائرُ العباداتِ من ماليةٍ وقوليةٍ وبدنيةٍ، كُلُّها تَقِي العبدَ الاستمرارَ في المعاصِي، وتُقَوِّي جانبَ الإيمانِ، وخوفِهُ من الله.
أيُُّها المسلمونَ، وفي القرآنِ ترغيبٌ وترهيبٌ، ووعدٌ ووعيدٌ، تُذَكِّرُ المسلمَ، وتَقِيهِ الشَّرَ، تُرَغِبُّهُ بالخيرِ، وتنهاهُ عن المُنكرِ (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة:98]، (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ) [الحجر:49].
ومما يوقي من الجريمةِ الانتظامُ الأُسَرِي، وقيامُ رَبِّ الأسرةِ بتربيةِ أبنائِه، وبناتِهِ على الإيمانِ باللهِ، وعلى الأخلاقِ الكريمةِ، وأَمْرِهِم بالخيرِ، وتربِيَتِهم على كُلِّ خُلُقٍ حميدٍ؛ فإنَّ اللهَ أوجبَ على الأبوينِ، التربيةَ الصَّادقةَ الصَّالحةَ؛ ليَنْشَأَ النشءُ على الخير والتُّقَى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً) [التحريم:6]، اسمعِ اللهَ يقولُ عن لقمانَ -عليه السلام- في نصيحته لأبنه: (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ* يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [لقمان:16-17]، وهذا نوحٌ يُنادِي اِبْنَهُ: (يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ) [هود:42]، وإبراهيمُ يُجادِلُ أباهُ ويُرَغِّبُهُ في الخير، ويُرَهِّبُهُ من الشَّرِ، كُلُّ ذلك لأنَّ انتظامَ الأسرةِ، وقيامَ ربِّها بواجبِه ممَّا يُصلِحُ الأسرةَ، ويَقِيها شرورَ البلاءِ، ولذا قال النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: "مُرُوا أولادَكم بالصلاة وهم أبناءُ سبعٍ، واضرِبوهم عليها وهم أبناءُ عَشْرٍ، وفَرِّقوا بينهم في المضاجعِ".
أيُّها المسلمُ، ومن الوقايةِ من المعاصِي أنَّ الإسلامَ حَرَّمَ كُلَّ ذريعةٍ، وسَدَّ كُلَّ بابٍ يُوقِعُ في الجَريمةِ؛ فأَغْلَقَ الوسائلَ والذرائِعَ المُفْضِيَةَ إليها وِقايةً للمسلمِ من اِنتِهاكِ حُرُماتِ اللهِ؛ فأولًا وقبلَ كُلِّ شيءٍ في باب العقيدةِ، نَرَاهُ صلى اللهُ عليه وسلم يقولُ لأصحابِهِ: "لا تُطْرُونِي كما أَطْرَتْ النصارى ابنَ مريمَ، إنما أنا عبدٌ فقولوا عبدُ الله ورسولِهِ"، وقال لمن قال له: "ما شاء الله وشئت": "أَجَعَلْتَنِي لله نِدًّا، بل ما شاءِ اللهُ وحدَه"، وقال: "إيَّاكم والغُلُوَّ؛ فإنَّما أهلكَ من كان قبلكُم الغُلُوُّ"، وقال: "اللَّهُمَّ لا تجعلْ قَبْري وَثَنًا يُعْبَدُ، اِشْتَدَّ غضبُ اللهِ على قومٍ اتَّخَذوا قبورَ أنبيائِهِم مساجِدُ"، وقال في آخر حياتِه: "لعنَ اللهُ اليهودَ والنصارى اِتَّخذُوا قبورَ أنبيائِهم مساجدَ"، قال الراوي: " يُحَذِّرُ ما صنعوا، ولولا ذلك لأُبْرِزَ قبرُهُ، غيرَ أنَّهُ خُشِيَ أن يُتَّخَذَ مسجدًا"،ونهى عن الصَّلاةِ النافلةِ قبلَ غُروبِ الشَّمسِ وقبلَ طلوعِها، وأخبرَ أنَّ الكُفَّارَ يسجدون لها، تطلعُ بين قرنَيْ شيطانٍ وتغربُ بين قرنَيْ شيطانٍ؛ فيسجدُ لها الكُفارُ؛ فحّذَّرنا رسولُ اللهِ من مُشابهتِهم.
وفي بابِ المُحَرَّماتِ، لمَّا كان الزنا جريمةً نَكْراءَ، يُسَبِّبُ الاضطرابَ، ويُسَبِّبُ انتهاكَ الشَّرَفِ، وحصولَ البلايا، واختلاطَ الأنسابِ، وضياعَها، وكان من الكبائرِ العظيمةِ حَرَّمَ الشارعُ كُلَّ وسيلةٍ تُفضي إليه؛ فنهى المرأةَ المُسلِمَةَ أن تَخلوَ بأجنبِيٍّ ليس من محارمها، وقال: "إيّاكم والدخولَ على النساءِ"، فقال رجل: أَرَأَيْتَ الحَمْوَ؟ [قريبُ الزَّوجِ] قال: "الحَمْوُ الموتُ"، وقال: "ما خلا رجلٌ بامرأةٍ إلا كان الشيطانُ ثالثَهُما"، وأَمَرَ الرِّجالَ والنساءَ بِغَضِّ البصرِ قبلَ حِفْظِ الفَرْجِ (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُم) [النور:30]، (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) [النور:31]، ونهى المرأةَ أن تخضعَ بالقولِ في مُخاطبةِ من ليسَ بمحرمٍ لها (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) [الأحزاب:32]، ونهى عن الاختلاطِ بالرِّجالِ، فيَروِي أبو سعيدٍ الخُدْري أنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم لمَّا صلَّى وخرج من المسجد كَثُرَ الرجالُ والنساءُ؛ فقال: "تَأَخَّرْنَ فليسَ لكن حقُّ الطريق، إنما عليكُنَّ أن تَأْخُذْنَ بِحافَّةِ الطريقِ"، كُلُّ هذا تحذيرًا للمسلمِ، وإبعادًا له عن الوقوعِ فيما حَرَّمَ اللهُ عليه.
وحّرَّمَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم ما أسكرَ كثيرُه من الخمرِ؛ فقال: "ما أسكرَ قليلًه؛ فكثيرُه حرامٌ"، حمايةً للمسلمِ من ذلك، ونهى عن البيوعِ التي تَؤولُ إلى الغَرَرِ الاِحتيالِ الاضطراب في واختصام الناسِ، وقسوةِ القلوبِ؛ فنهى عن الغَرَرِ، ونهى عن بيعِ المعدومِ، وكانوا يُسْلمُونَ في الثمار السنة والسنتين فقال: "من أسلمَ في شيءٍ؛ فليُسلِمْ في كيلٍ معلومٍ، ووَزْنٍ معلومٍ إلى أجلٍ معلومٍ"، وقال: "لا يجمعُ الرجلُ بين المرأةِ وعمَّتِها، ولا بينَ المرأةِ وخالتِها؛ فإنكم إنْ فعلتُم ذلك قَطَعْتُم أرحامَكم".
أيُّها المسلمُ، ثمَّ هناك القصاصُ والحدودُ الشرعيةُ؛ فإنها -بتوفيقٍ من اللهِ- إذا أُقيمتْ كفيلةٌ بشأن المجتمع، وسلامةِ أفرادِه من كُلِّ شِرِّيرٍ، ومن تَغلِبُ عليه نَزْعَةُ الإجرامِ والضلالِ؛ فأولًا شَرَعَ القصاصَ عندَ القتلِ العدوانِ وقال: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة:45]، وقال: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:179]، فإذا عَلِمَ المُجْرِمُ أنَّه سَيُقْتَلُ اِرتَدَعَ عن جَرِيمَتِه، وامتنَعَ عنها.
شرع الحدودَ الشرعيةَ على اختلافِ الجرائمِ، وكُلُّ جريمةٍ وَضَعَ لها حدًا مُناسبا؛ فَشَرَعَ جَلْدَ الزانِيَ البِكْرَ مئةَ جلدةٍ وتغريبَه عامًا، وشرعَ رجمَ الزانيَ المُحْصَنَ إذا قامتْ عليه البيِّنةُ ردعًا للناسِ من الإقدامِ على الجرائمِ، وشرعَ جلدَ شاربِ الخمرِ، وجعلَهُ عمرُ ثمانينَ جلدةً، وشرعَ قطعَ يدِ السارقِ، ولو في سرقةِ ثلاثةِ دراهمَ، كما قال: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [المائدة:38]، وشرعَ قتلَ البغاةِ الخارجينِ عن الإمامِ؛ فقال اللهُ: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) [الحجرات:9]، وقال: "أيُّها الناسُ إنها ستكونُ هناتٌ هناتٌ، فمنْ جاءكم أمركُم مجتمعٌ، يريدُ أن يُفضرِّقَ كلمتَكم؛ فاضربوهُ بالسيفِ، كائنًا من كان"، وشرعَ قتالَ المُحاربين، والمُخِلِّيَن بأمنِ الأمةِ (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) [البقرة:33]، وشرعَ جلدَ القاذِفِ الذي يَقذِفُ المسلمَ بلا بيِّنةٍ عدوانًا وظُلمًا (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ) [النور:4]، كُلُّ هذه الأمورِ حُرِّمَتْ على المسلمِ ليستقيمَ على طاعةِ ربِّهِ، ولِيَنْتَظِمَ أحوالُه وليبتعدَ عن الجريمةِ.
هذه الحدودُ الشرعِيةُ عندما يُطَبِّقٌها المسلمون؛ فإنها كفيلةٌ بتحقيقِ الأمنِ، والاستقرار لهم في كُلِّ أحوالِهم، وفي الحديث: "لَحَدُّ يُقامُ في الأرضِ خيرٌ من أن يُمطروا أربعينَ خَريفًا"، وإن الأمرَ بالمعروفِ والنهيَ عن المنكرِ خُلُقُ الأُمَّةِ؛ فإنَّ المجتمعَ المسلمَ يَجِبُ أن يراقبَ بعضُه بعضًا؛ فهو مجتمعٌ مسلمٌ (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ) [التوبة:71]، وفي الحديث: "لا يُؤمِنُ أحدُكم حتَّى يُحِّبَ لأخيه ما يُحِّبُ لنفسه"، وفي الحديث: "إذا رأى الناسُ الظالمَ؛ فلم يَأخذوا على يديْهِ أوشكَ أن يَعُمَّهُم اللهُ بعقابٍ من عندِهِ"، وقال: "لتَأخُذُنَّ على يدِ السفيهِ، ولتَأطُرُنَّهُ على الحَقِّ أطرًا، أو لَيوشِكِنَّ اللهُ أن يضربَ قلوبَ بعضِكم ببعضٍ، ثم يَلعنَكم كما لعنَ بني اسرائيل"، فَلْنَتَقِّ اللهَ في أنفسنا، إن شريعة الإسلام بوقايتِها من المعاصي بما وَضَعَتْ من أسبابٍ تَقِي عن المعاصي، وبالحدودِ الشرعيةِ، تكفُلُ للمجتمعِ أمنَه واستقرارَه، وانتظامَ حياتِه، في كُلِّ أحوالِه، وَفَقَّنِي اللهُ وإيّاكم لما يُحِبُّهُ ويرضاهُ من الأقوالِ والأعمالِ، أقولُ قولي هذا، واستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كُلِّ ذنبٍ؛ فاستغفِروه، وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا، طيِّبًا مباركًا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبِه، وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ، أما بعدُ:
فيا أيُّها الناسُ، اتَّقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ اللهِ، إذ منع الإسلامُ كُلَّ الوسائل المغوية للمعاصي، وإذ رَتَّبَ الحدودَ الشرعيةَ على مُرتكبِي المُحَرَّماتِ؛ فهناك التعزيراتُ الشرعيَّةُ على الذنوبِ، التي لا حَدَّ لها في الشريعة، تعزيراتٌ يُطَّبِقُها إمامُ المسلمين وقضاتُهم على المُجرمين والمُخالفين ردعًا لهم عن الاستمرارِ في إجرامِهم وضلالِهم؛ فهناك مُرَوِّجو المُخدِّراتِ؛ فإنَّ هذه التعزيرات سواء كانت بالمال أو بالـ بالأدب، أو بالسجنِ، أو نحوِ ذلك من الأمور، التي يُمكنُ من خلالها ردعُ المُجرمِ وتقليلُ إجرامِه والحيلولةُ بينَ استمرارِه بالجريمةِ؛ فخذُ مثلًا المُخَدِّراتِ، المُصَدِّرون لها المُرَوِّجون لها الباثُّون لها في المجتمعِ المسلمِ، إنَّهم مُجرمونَ جُرمًا عَظيمًا على الأُمَّةِ، لا بُدَّ أن يُقابَلَ إجرامُهم بتعزيرٍ يردَعُهم وأمثالَهم، حتى يَعلموا أنَّ الأمرَ جِدٌّ، وليس بالهزلِ، وأنَّ الأمرَ حقيقٌ بأن يُعتَنَى به.
فهؤلاء المُرَوِّجون، والمُصَدِّرون للمخدِّرات، الباثُّون لها، أعضاءٌ فاسدون في المجتمعِ، ودعاةُ ضلالٍ وانحرافٍ، لا بُدَّ أن يُؤخَذَ على أيدِيهم بتعزيراتٍ يراها إمامُ الأمَّةِ وقضاتِه بما يردعُهم عن مُواصلةِ إجرامِهم وفسادِهم إذْ هو جرمٌ عظيمٌ لا يمكن التساهل به.
كذلك أيُّها الإِخوةُ من أنواعِ التعزيراتِ ما يُعَزَّرُ به المُزَوِّرون للجوازاتِ، أو الوثائِقِ الرسميَّةِ، أو الصُكوكِ الشرعيَّةِ أو انتحالِ الشخصيَّةِ، أو غيرِ ذلك ممَّا يُخِّلُ بأمنِ الأُمَّةِ واستقرارها، كذلك الذين يُؤوُونَ الإرهابِيِّينَ، أو يُعِينُوهم أو يُؤَيِّدُوهم بأيِّ وسيلةٍ كانت؛ لأنَّ في إعانتِهم أو تسهيلِ مُهِمَّتِهم أو دعمِهم مادِّيًا أو مَعنوِيًا إضرارًا بالأُمَّةِ، وإفسادًا لأمنِها ودينِها، فكُلُّ هؤلاءِ لا بُدَّ لهم من تعزيرٍ رادعٍ، يَمنعُهم عن استمرارِهم في جريمَتِهم، تُسْتَأْصَلُ منهم تلك الأخلاقُ بالتوجيه والنصيحةِ والعقوبةِ الرادعةِ، التي تَمنعُ كُلَّ أولئكَ من الاستمرارِ فيما هم فيه من الغوايةِ والضلالِ؛ لأنَّ المُجتمعَ المسلمَ لا بُدَّ له أن يُحْمَى بالحُدودِ الشرعيَّةِ؛ إذ الناسُ في الغالبِ لا بُدَّ فيهم من خَطَأٍ، والخَطَأُ لا بُدَّ أن يقعَ، لكن كيفَ نُعالِجُ الأخطاءَ؟ نُعالِجُها بالعلاجِ الشرعيِّ ففيه الكفايةُ، السِّجنُ -مثلًا- عقوبةٌ من العقوباتِ، لا للإهانةِ والإِذْلالِ، ولكنْ لمنعِ هذا المُجْرِمِ من التَّمادي في جَريمَتِهِ، وأيضًا لسلامة المجتمعِ من شرِّهِ وضررِهِ؛ فكُلُّ هذه الأمورِ التي يُدَبِّرُها وليُّ أمرِ الأُمَّةِ، ويُنَظِّمُها، كُلُّ ذلك حِرْصًا على سلامةِ الأُمَّةِ، فأيُّ نظامٍ وضعهُ إمامُ الأُمَّةِ فيهِ خيرٌ لها، وصلاحٌ في معايشها، وحالاتِها كُلِّها، يَجِبُ احترامُه وتطبيقُه، ولا يجوزُ التَّحايُلُ عليه، ولا الإِخلالُ بذلك، أسألُ اللهَ أن يُوَفِّقَنا جميعًا لما يُحِبُّهُ ويَرضاهُ.
واعلموارحِمكم اللهُ أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ؛ ومن شذَّ شذَّ في النار،وصَلُّوا رحِمكم اللهُ على محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:٥٦].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللَّهُمَّ عن خلفائِه الراشدين، الأئمة المهديين، أبي بكر وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ، وعن سائر أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التابعين، وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوِك، وكرمِك، وجودِك، وإحسانِكَ، يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّرْ أعداءَ الدين، وانصُر عبادَك المُوَحِّدين، واجعلِ اللَّهُمَّ هذا البلدَ آمنًا مُطمئِنًا، وسائرَ بلاد المسلمين، يا ربَّ العالمين، اللَّهمَّ آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلحْ أئمتََََّنا وولاةَََ أمرِنا، اللهمَّ وفِّقْهُم لما فيه صلاحُ الإسلامِ والمسلمين، اللَّهمّ وفِّقْ إمامَنا إمامَ المسلمينَ، عبدَ الله بنَ عبدِ العزيزِ لكلِّ خير، اللَّهمَّ أَمِدَّهُ بعونِك، وتوفيقِك، وتأييدِك، وكُنْ له عونًا ونصيرًا في كلِّ ما أهمَّه؛ إنك على كل شيء قدير، اللهم اجمعْ به كلمةَ الأمةِّ، ووحِّدْ به صُفوفَها على الخير والتقوى، اللّهُمَّ شُدَّ عَضُدَهُ بوليِّ عهدِه سلطانَ بنِِ عبدِ العزيزِ، وبارِك له في عُمُرِه وعملِه وألجمه أمِّده بالصحة، والسلامةِ والعافيةِ، اللَّهُمَّ وفِّقْ النائبَ الثانيَ لكلِّ خيرٍ، واجعلهم أئمةَ هدًى وقادة خير؛ إنك على كُلِّ شيءٍ قديرٌ، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الأحزاب: ٥٦] (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف : 23].
اللهم اجعل ما منحتنا من الخير المبارك قوة لنا على طاعتك وسببًا للقيام ما أوجبت علينا؛ إنك على كل شيء قدير، اللهم ارزقنا شكرَ نعمتِك وحسنَ عبادتِك؛ إنك على كُلِّ شيءٍ قديرٌ، ربَّنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذابَ النار.
عبادَ الله، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90]، فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُرْكم، واشكروه على عمومِ نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبرُ، والله يعلمُ ما تصنعون.



استمـاع (http://af.org.sa/archive/menbar_daawah/al-shiek/1431-05-23.ram) – حفـظ (http://af.org.sa/page.php?pg=media_desc&media_id=1109&cat_id=57)