المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حال العبد بعد التوبة . وهل يرجع إلى حاله الأول ؟ ابن القيم رحمه الله تعالى .



أبوبكر بن يوسف الشريف
04-Jun-2014, 02:24 PM
قال ابن القيم رحمه الله تعالى
“ فصل : المعصية تجعل صاحبها من السفلة
ومن عقوباتها : أنها تجعل صاحبها من السفلة بعد أن
كان مهيئا ﻷن يكون
من الْعِلْيَةِ، فإن الله خلق خلقه قسمين : عِلْيَةً، وَسَفَلَةً،
وجعل عِلِّيِّينَ مستقر
الْعِلْيَةِ، وأسفل سافلين مستقر السَّفَلَةِ، وجعل أهل
طاعته الْأَعْلَيْنَ في الدنيا
واﻵخرة، وأهل معصيته الْأَسْفَلِينَ في الدنيا واﻵخرة،
كما جعل أهل طاعته
أكرم خلقه عليه، وأهل معصيته أهون خلقه عليه،
وجعل العزة لهؤﻻء، والذلة
والصغار لهؤﻻء، كما في مسند أحمد من حديث عبد
الله بن عمرو عن النبي
– صلى الله عليه وسلم – أنه قال : ‏« بعثت بالسيف
بين يدي الساعة،
وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار
على من خالف أمري ‏» .
فكلما عمل العبد معصية نزل إلى أسفل، درجة، وﻻ
يزال في نزول حتى
يكون من اﻷسفلين، وكلما عمل طاعة ارتفع بها درجة،
وﻻ يزال في ارتفاع
حتى يكون من اﻷعلين .
وقد يجتمع للعبد في أيام حياته الصعود من وجه،
والنزول من وجه، وأيهما
كان أغلب عليه كان من أهله، فليس من صعد مائة
درجة ونزل درجة واحدة،
كمن كان بالعكس .
ولكن يعرض هاهنا للنفوس غلط عظيم، وهو أن العبد
قد ينزل نزوﻻً بعيداً
أبعد مما بين المشرق والمغرب، ومما بين السماء
واﻷرض، فﻼ يفي صعوده
ألف درجة بهذا النزول الواحد، كما في الصحيح عن
النبي – صلى الله عليه
وسلم – أنه قال : ‏« إن العبد ليتكلم بالكلمة الواحدة،
ﻻ يلقي لها باﻻ يهوي
بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب ‏» .
فأي صعود يوازن هذه النزلة؟ والنزول أمر ﻻزم
لﻺنسان، ولكن من الناس
من يكون نزوله إلى غفلة، فهذا متى استيقظ من غفلته
عاد إلى درجته، أو
إلى أرفع منها بحسب يقظته .
ومنهم من يكون نزوله إلى مباح ﻻ ينوي به اﻻستعانة
على الطاعة، فهذا
متى رجع إلى الطاعة فقد يعود إلى درجته، وقد ﻻ
يصل إليها، وقد يرتفع
عنها، فإنه قد يعود أعلى همة مما كان، وقد يكون
أضعف همة، وقد تعود
همته كما كانت .
ومنهم من يكون نزوله إلى معصية، إما صغيرة أو
كبيرة، فهذا يحتاج في
عوده إلى درجته إلى توبة نصوح، وإنابة صادقة .
واختلف الناس هل يعود بعد التوبة إلى درجته التي
كان فيها، بناء على أن
التوبة تمحو أثر الذنب، وتجعل وجوده كعدمه فكأنه لم
يكن، أو ﻻ يعود، بناء
على أن التوبة تأثيرها في إسقاط العقوبة، وأما الدرجة
التي فاتته فإنه ﻻ
يصل إليها .
قالوا : وتقرير ذلك : أنه كان مستعدا باشتغاله بالطاعة
في الزمن الذي عصى
فيه لصعود آخر وارتقاء تحمله أعماله السالفة، بمنزلة
كسب الرجل كل يوم
بجملة ماله الذي يملكه، وكلما تضاعف المال تضاعف
الربح، فقد راح عليه
في زمن المعصية ارتفاع وربح تحمله أعماله، فإذا
استأنف العمل استأنف
صعودا من نزول، وكان قبل ذلك صاعدا من أسفل إلى
أعلى، وبينهما بون
عظيم .
قالوا : ومثل ذلك رجﻼن يرتقيان في سلمين ﻻ نهاية
لهما، وهما سواء، فنزل
أحدهما إلى أسفل، ولو درجة واحدة، ثم استأنف
الصعود، فإن الذي لم ينزل
يعلو عليه وﻻ بد .
وحكم شيخ اﻹسﻼم ابن تيمية رحمه الله بين الطائفتين
حكما مقبوﻻ فقال :
التحقيق أن من التائبين من يعود إلى أرفع من درجته،
ومنهم من يعود إلى
مثل درجته، ومنهم من ﻻ يصل إلى درجته .
قلت : وهذا بحسب قوة التوبة وكمالها، وما أحدثته
المعصية للعبد من الذل
والخضوع واﻹنابة، والحذر والخوف من الله، والبكاء
من خشية الله، فقد
تقوى هذه اﻷمور، حتى يعود التائب إلى أرفع من
درجته، ويصير بعد التوبة
خيرا منه قبل الخطيئة، فهذا قد تكون الخطيئة في حقه
رحمة، فإنها نفت عنه
داء العجب، وخلصته من ثقته بنفسه وإدﻻله بأعماله،
ووضعت خد ضراعته
وذله وانكساره على عتبة باب سيده وموﻻه، وعرفته
قدره، وأشهدته فقره
وضرورته إلى حفظ موﻻه له، وإلى عفوه عنه ومغفرته
له، وأخرجت من قلبه
صولة الطاعة، وكسرت أنفه من أن يشمخ بها أو يتكبر
بها، أو يرى نفسه
بها خيرا من غيره، وأوقفته بين يدي ربه موقف
الخطائين المذنبين، ناكس
الرأس بين يدي ربه، مستحيا خائفا منه وجﻼ، محتقرا
لطاعته مستعظما
لمعصيته، عرف نفسه بالنقص والذم . وربه متفرد
بالكمال والحمد والوفاء كما
قيل :
استأثر الله بالوفاء وبالحم … د وولى المﻼمة الرجﻼ
فأي نعمة وصلت من الله إليه استكثرها على نفسه
ورأى نفسه دونها ولم
يرها أهﻼ، وأي نقمة أو بلية وصلت إليه رأى نفسه
أهﻼ لما هو أكبر منها،
ورأى موﻻه قد أحسن إليه، إذ لم يعاقبه على قدر
جرمه وﻻ شطره، وﻻ
أدنى جزء منه .
فإن ما يستحقه من العقوبة ﻻ تحمله الجبال الراسيات،
فضﻼ عن هذا العبد
الضعيف العاجز، فإن الذنب وإن صغر، فإن مقابلة
العظيم الذي ﻻ شيء
أعظم منه، الكبير الذي ﻻ شيء أكبر منه، الجليل الذي
ﻻ أجل منه وﻻ أجمل،
المنعم بجميع أصناف النعم دقيقها وجلها – من أقبح
اﻷمور وأفظعها
وأشنعها، فإن مقابلة العظماء واﻷجﻼء وسادات الناس
بمثل ذلك يستقبحه كل
أحد مؤمن وكافر . وأرذل الناس وأسقطهم مروءة من
قابلهم بالرذائل، فكيف
بعظيم السماوات واﻷرض، وملك السماوات واﻷرض،
وإله أهل السماوات
واﻷرض؟ ولوﻻ أن رحمته سبقت غضبه، ومغفرته
سبقت عقوبته، وإﻻ
لتدكدكت اﻷرض بمن قابله بما ﻻ يليق مقابلته به، ولوﻻ
حلمه ومغفرته
لزلزلت السماوات واﻷرض من معاصي العباد، قال
تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ
أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ
حَلِيمًا غَفُورًا } ‏[ سورة فاطر 41 : ‏] .
فتأمل ختم هذه اﻵية باسمين من أسمائه، وهما : ”
الحليم، والغفور ” كيف
تجد تحت ذلك أنه لوﻻ حلمه عن الجناة ومغفرته للعصاة
لما استقرت
السماوات واﻷرض؟
وقد أخبر سبحانه عن كفر بعض عباده أنه { : تَكَادُ
السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ
وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا } ‏[ سورة مريم :
90 ‏] .
وقد أخرج الله سبحانه اﻷبوين من الجنة بذنب واحد
ارتكباه وخالفا فيه نهيه،
ولعن إبليس وطرده وأخرجه من ملكوت السماوات
واﻷرض بذنب واحد ارتكبه
وخالف فيه أمره، ونحن معاشر الحمقى كما قيل :
نصل الذنوب إلى الذنوب ونرتجي … درج الجنان لذي
النعيم الخالد
ولقد علمنا أخرج اﻷبوين من … ملكوته اﻷعلى بذنب
واحد
والمقصود أن العبد قد يكون بعد التوبة خيرا مما كان
قبل الخطيئة وأرفع
درجة، وقد تضعف الخطيئة همته وتوهن عزمه،
وتمرض قلبه، فﻼ يقوى دواء
التوبة على إعادته إلى الصحة اﻷولى، فﻼ يعود إلى
درجته، وقد يزول
المرض بحيث تعود الصحة كما كانت ويعود إلى مثل
عمله، فيعود إلى
درجته .
هذا كله إذا كان نزوله إلى معصية، فإن كان نزوله إلى
أمر يقدح في أصل
إيمانه، مثل الشكوك والريب والنفاق، فذاك نزول ﻻ
يرجى لصاحبه صعود إﻻ
بتجديد إسﻼمه ”. اهـ
‏[ المصدر : الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء
الشافي، ص 86- 88
رابط الصفحة من هنا !

http://www.sahab.net/home/?p=981

أبو عبد المصور مصطفى الجزائري
05-Jun-2014, 11:07 AM
جزاك الله خيرا