أبو بكر يوسف لعويسي
04-Jun-2014, 04:47 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل : {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } فهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ، وهو الذي أمر المؤمنين جميعا بالتوبة إليه فقال { وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون }.
وأصلي وأسلم على عبده ورسوله الذي كان يتوب ويستغفر ربه أكثر من سبعين مرة في اليوم وهو رسول مجتبى ونبي مصطفى ، معصوم من الذنوب قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، ومع ذلك يستغفر ويتوب فأين المذنبين من هذا الخلق العظيم؟
كما أصلي وأسلم على آله وصحبه سادات التائبين الأبرار الحائزين مراتب الفخار وعلى من تبعهم بإحسان إلى دار القرار .
أما بعد :
إن الرجوع للحق خير من التمادي في الباطل ،والرجوع إلى الحق فضيلة ، ومزية يحبها الله تعالى ويحبها رسوله والمؤمنون الصادقون ، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، ويفرح بتوبة عبده إذا تاب واستغفر وأناب ، فكيف لا يحرص المذنب المخطئ على هذا الفضل المحبب إلى أعظم محبوب ويرغب إليه ولا يلتفت إلى لوم اللائمين وعتاب المعاتبين فإن الرجوع للحق خير من التمادي في الباطل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (10/61) وَالْمُحِبُّ التَّامُّ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ لَوْمُ اللَّائِمِ ، وَعَذَلُ الْعَاذِلِ بَلْ ذَلِكَ يُغْرِيهِ بِمُلَازَمَةِ الْمَحَبَّةِ كَمَا قَدْ قَالَ أَكْثَرُ الشُّعَرَاءِ فِي ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْمَلَامِ الْمَحْمُودِ وَهُمْ الَّذِينَ لَا يَخَافُونَ مَنْ يَلُومُهُمْ عَلَى مَا يُحِبُّ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ جِهَادِ أَعْدَائِهِ ((والتوبة إليه )). فَإِنَّ الْمُلَامَ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ.
وَأَمَّا الْمُلَامُ عَلَى فِعْلِ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ أَوْ تَرْكِ مَا أَحَبَّهُ فَهُوَ لَوْمٌ بِحَقِّ وَلَيْسَ مِنْ الْمَحْمُودِ الصَّبْرُ عَلَى هَذَا الْمَلَامِ بَلْ الرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ. انتهى كلامه .
وكتب عمر رضي الله عنه إِلَى أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ : ((..وَلَا يمنعنك قَضَاء قَضيته راجعت فِيهِ رَأْيك وهديت فِيهِ لرشدك أَن ترجع إِلَى الْحق فَإِن الرُّجُوع إِلَى الْحق خير من التَّمَادِي فِي الْبَاطِل )) الدارقطني في سننه (4471)وتاريخ المدينة لابن شبة (2/775) .
هذه القاعدة العظيمة تبين بوضوح عَلَى أَنَّ شُؤْمَ السَّيِّئَاتِ يَجُرُّ صَاحِبَهُ إِلَى التَّمَادِي فِي السَّيِّئَاتِ ، ولا بد ، فالتمادي على الباطل يجر إلى الولوغ والإبحار في الشر ، ودليلها من القرآن َقَوْلُهُ تَعَالَى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} وقوله {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}وغيرها من الآيات .
ومن السنة ما قَالَه حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: << تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ >>.
وعكس ذلك صحيح فإنَّ فِعْلَ الْخَيْرِ يُؤَدِّي إِلَى التَّمَادِي فِي فِعْلِ الْخَيْرِ، ومن لازم التقوى ، واهتدى بخير هدى ، زاده الله هدى وتوفيقا وأتاه تقواه فكان ذلك من أكبر من المحفزات لفعل الخير والطاعات ..
وَقَدْ دلَّت عليه هَذِهِ الْآيَاتُ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
واعلم وفقني الله وإياك أن الذنوب ليست على نوع واحد بل هي على أنواع وقد أمر الله تعالى بالتوبة منها جميعا فقال عز من قائل :{ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (31)سورة النور .
والتوبة الصادقة الصحيحة الصريحة هي ما توفرت فيها شروط التوبة المعروفة ، فمن حقق هذه الشروط وتاب إلى الله قبلت توبته .
والذنب الذي يقع فيه العبد إما أن يكون بينه وبين الله تعالى وليس لأحد فيه حق ، أو يكون بينه وبين عباد الله من ظلم وعدوان أو تكون في الحق والعلم والدين والمنهج ، وضرره متعد إلى الغير ...غير مقتصر على نفسه فيما بينه وبين الله ...
فالتوبة فيما كان منه بينه وبين ربه ..عليه ..فإذا تاب العبد فيما وقع منه فيما بينه وبين الله تاب الله عليه وما عليه إلا الإقلاع والندم والعزم على عدم العود وإصلاح مستقبل عمره بالإيمان والعمل الصالح ..
وقال تعالى :{ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }(54).الأنعام .
قال ابن كثير رحمه الله – وقوله {ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ} أَيْ: رَجَعَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَاصِي، وَأَقْلَعَ وَعَزَمَ عَلَى أَلَّا يَعُودَ وَأَصْلَحَ الْعَمَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
فهذه التوبة فيما بينه وبين ربه ولا حق عليه لغيره فهذا مطالب أن يحسن فيما استقبل من عمره فإذا أصلح وأحسن فيما بقي غفر له ما تقدم إن الله غفور رحيم .والإصلاح المقصود فيها هو العمل الصالح جاء مبينا في آيات أخرى منها قوله تعالى :{ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا } (60) مريم .
ومنها :{ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }(70)الفرقان . ومنها قوله تعالى :{فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ }(67) القصص .
وأما إن كانت التوبة من حق آدمي وفيه حق لله كحد مثل سرقة ونحوها فهذا لابد أن يتوب وأن يصلح ما أفسد بظلمه وعدوانه برد الحقوق إلى أصحابها أو بدلا عنها ما استطاع إلى ذلك سبيلا..
قال تعالى :{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }(39)المائدة .
فالآية واضحة جاءت بعد ذكر جريمة السرقة وإيقاع الحد على فاعلها ، وإنه حتى لو قطعت يده فعليه التوبة وعليه أن يصلح ما أفسده وظلم به من حقوق الآخرين فإن تاب فيما بينه وبين الله فإن الله غفور رحيم .
قال ابن كثير (3/110) : قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أَيْ: مَنْ تَابَ بَعْدَ سَرِقَتِهِ وَأَنَابَ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَأَمَّا أَمْوَالُ النَّاسِ فَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّهَا إِلَيْهِمْ أَوْ بَدَلِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ، مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» مسلم (2582) والبخاري في الأدب المفرد (183).وأحمد (9333).
أما إن كانت في الدين أو حق عام أو خاص بالنبي أو أحد أصحابه أو ورثته وتعدّ ضررها إلى الغير كم يقع في شرك أو كفر أو ينشر بدعة أو خرافة أو ضلالة في الناس ، أو يخرج على أولياء الأمور أو يطعن في ورثة الأنبياء الربانيين فهذا لابد من الإصلاح والبيان فلا تكفي التوبة فيما بينه وبين الله .
وفي سورة البقرة ذكر سبحانه وتعالى زيادة على الإصلاح البيان للحق الذي كتموه في قوله تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) البقرة .
قال أبو جعفر بن جرير : القول في تأويل قوله تعالى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) }:يعني تعالى ذكره بذلك: أن الله واللاعنين يَلعنون الكاتمين الناس ما علموا من أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ونعته في الكتاب الذي أنزله الله وبَيَّنه للناس، إلا من أناب من كتمانه ذلك منهم؛ ورَاجع التوبة بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والإقرار به وبنبوّته، وتصديقه فيما جاء به من عند الله، وبيّن ما أنزل الله في كتبه التي أنزل إلى أنبيائه، من الأمر باتباعه؛ وأصلح حالَ نفسه بالتقرب إلى الله من صَالح الأعمال بما يُرضيه عنه؛ وبيَّن الذي عَلم من وَحي الله الذي أنزله إلى أنبيائه وعهد إليهم في كتبه فلم يكتمه، وأظهرَه فلم يُخفِه "فأولئك"، يعني: هؤلاء الذين فَعلوا هذا الذي وصفت منهم، هم الذين أتوب عليهم، فأجعلهم من أهل الإياب إلى طاعتي، والإنابة إلى مَرضَاتي.انتهى كلامه .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنَ الْحَدِيثِ وَاللَّهِ لَوْلَا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا، ثُمَّ تَلَا هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 160] أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ .فهذا أبو هريرة رضي الله عنه يتأثم بكتمان العلم ويتخوف من الوعيد المترتب على ذلك في الآيتين المذكورتين فكيف بمن وقع في زلة من شرك أو بدعة أو ضلالة أو كذب على رسول الله وورثته العلماء الربانيين فلا بد أن يبين ما أخطأ فيه خوفا من هذا الوعيد الشديد ورغبة في فضل الرجوع للحق ومزيته .
وعليه يقال ، إذا كان الأمر يتعلق ببيان الحق بالمنهج ، بالتوحيد ، بالإسلام ، وأنه كتمه في موضع لا يجوز له كتمانه ، ولا يجوز تأخير البيان فيه عن وقت الحاجة كمن نزلت فيهم الآية ومن ذلك أيضا كتمان شهادة أو نشر باطل بين الناس فيما يتعلق بإعراضهم من غير موجب شرعي أو دعوة إلى بدعة أو إلى ضلالة من خرافة أو شرك أو كفر تعدى ضررها إلى الغير ..أو خروج على ولاة الأمر فهذا لا يكف في حقه التوبة من ذلك حتى يبين بوضوح ويصلح ما أفسده من ذلك ؛ لِأَن من نشر بَاطِلا بَين النَّاس وَنسبه إلى الدّين لم تصح تَوْبَته مِنْهُ إِلَّا بإعلانها وإظهارها حَتَّى يعلم النَّاس رُجُوعه عَن كذبه وتكذيبه لنَفسِهِ لقَوْل الله عز وَجل الآية السابقة { إِلَّا الَّذين تَابُوا وَأَصْلحُوا وبينوا }.
قال الشيخ العلامة والورع الزاهد ابن باز في التحذير من البدع (1/57)فأوضح الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أن من كتم شيئا من الحق لم تصح توبته من ذلك إلا بعد الإصلاح والتبيين، والله سبحانه قد أكمل لعباده الدين، وأتم عليهم النعمة ببعث رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما أوحى الله إليه من الشرع الكامل، ولم يقبضه إليه إلا بعد الإكمال والتبيين، كما قال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة/ 3].
وقال الشيخ العلامة صالح الفوزان في شرحه مسائل الجاهلية (1/282)عند آية البقرة المذكورة آنفا : شَرط في قبول توبتهم: البيان لما كتموه، فلا تكفي التوبة المجملة، ولكن لا بد من البيان، فيجب على من علم الحق أن يبيّنه للناس، ولا يشتري به ثمناً قليلاً، فيكتمه من أجل أن يحصل على مصلحة من مصالح الدنيا، أو من أجل أن يرضي الناس، فالله أحق أن يخشاه -عز وجل - وأن يرضيه، فلا يجوز كتمان الحق لمن قدر على بيانه وإظهاره، أما من لم يقدر، أو خاف بالبيان فتنة أكبر، فإنه معذور، لكن من لم يكن عنده مانع من البيان، وإنما كتم الحق من أجل رغبته هو ومصلحته هو، فهذا يلعنه الله ويلعنه اللاعنون.فهذه صفة اليهود، وهي منطبقة على كل من كتم الحق، من أجل اتباع الهوى، ولم يبينه للناس، وإذا سئل عن حكم مسألة أجاب بغير الحق وهو يعرف الجواب الصحيح، فهذا من كتمان الحق، والله جل وعلا أمر بقول الحق ولو على النفس: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] ، فيجب بيان الحق في الشهادات وفي غيرها.
وأشد من كتمان الشهادة: كتمان العلم، الذي هو حياة الناس وهدايتهم إلى الصراط المستقيم، فالواجب بيان الحق، وعدم المداهنة، ومن ذلك: إذا رأى الناس على باطل أو خرافات أو شرك، فإنه لا يسكت، بل يجب عليه أن يبين، ولا يترك الناس يقعون في عبادة القبور، وعبادة الأضرحة، ومزاولة البدع المضلة، ويسكت ويقول: ليس لي شأن بالناس، أو يرى الناس يتعاملون بالمعاملات المحرّمة ويسكت، فهذا كتمان للعلم وخيانة للنصيحة، فالله لم يعطك هذا العلم من أجل أن تسكت عليه، وإنما حمّلك إياه من أجل أن تبينه للناس، وأن تدعو إلى الله على بصيرة، وأن تحاول إخراج الناس من الظلمات إلى النور.انتهى كلامه .
وإذا كان الله تعالى شرط في توبة الكاتمين لما أنزله من البينات والهدى- بيان ما كتموه وإصلاح ما أفسدوه لأن ذنبهم لما كان بالكتمان، كانت توبتهم منه بالبيان.فليعلم أن ذنب المبتدع غير ذنب الكاتم لأن هذا كتم الحق، وذاك كتمه ودعا إلى خلافه مما يكرهه الله ورسوله ، ويضر بغيره في دينه ضررا بالغا ، إذا فلا بد للمبتدع أولا أن يعلم أن ما يفعله بدعة ، وأن عليه أن يعلم السنة ويعمل بها، ثم عليه أن يبين للناس فساد ما كان عليه من بدعة حسب الاستطاعة وأن يستقيم على ملازمة السنة ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه حتى تزول عنه حجب البدعة وتشرق عليه شمس السنة . انظر: مدارج السالكين (1 / 370)بتصرف يسير .
وكتب :
أبو بكر يوسف لعويسي
الجزائر 6 /8/1435 هـ الموافق ل/4/6/2014م
الحمد لله القائل : {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } فهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ، وهو الذي أمر المؤمنين جميعا بالتوبة إليه فقال { وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون }.
وأصلي وأسلم على عبده ورسوله الذي كان يتوب ويستغفر ربه أكثر من سبعين مرة في اليوم وهو رسول مجتبى ونبي مصطفى ، معصوم من الذنوب قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، ومع ذلك يستغفر ويتوب فأين المذنبين من هذا الخلق العظيم؟
كما أصلي وأسلم على آله وصحبه سادات التائبين الأبرار الحائزين مراتب الفخار وعلى من تبعهم بإحسان إلى دار القرار .
أما بعد :
إن الرجوع للحق خير من التمادي في الباطل ،والرجوع إلى الحق فضيلة ، ومزية يحبها الله تعالى ويحبها رسوله والمؤمنون الصادقون ، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، ويفرح بتوبة عبده إذا تاب واستغفر وأناب ، فكيف لا يحرص المذنب المخطئ على هذا الفضل المحبب إلى أعظم محبوب ويرغب إليه ولا يلتفت إلى لوم اللائمين وعتاب المعاتبين فإن الرجوع للحق خير من التمادي في الباطل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (10/61) وَالْمُحِبُّ التَّامُّ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ لَوْمُ اللَّائِمِ ، وَعَذَلُ الْعَاذِلِ بَلْ ذَلِكَ يُغْرِيهِ بِمُلَازَمَةِ الْمَحَبَّةِ كَمَا قَدْ قَالَ أَكْثَرُ الشُّعَرَاءِ فِي ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْمَلَامِ الْمَحْمُودِ وَهُمْ الَّذِينَ لَا يَخَافُونَ مَنْ يَلُومُهُمْ عَلَى مَا يُحِبُّ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ جِهَادِ أَعْدَائِهِ ((والتوبة إليه )). فَإِنَّ الْمُلَامَ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ.
وَأَمَّا الْمُلَامُ عَلَى فِعْلِ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ أَوْ تَرْكِ مَا أَحَبَّهُ فَهُوَ لَوْمٌ بِحَقِّ وَلَيْسَ مِنْ الْمَحْمُودِ الصَّبْرُ عَلَى هَذَا الْمَلَامِ بَلْ الرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ. انتهى كلامه .
وكتب عمر رضي الله عنه إِلَى أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ : ((..وَلَا يمنعنك قَضَاء قَضيته راجعت فِيهِ رَأْيك وهديت فِيهِ لرشدك أَن ترجع إِلَى الْحق فَإِن الرُّجُوع إِلَى الْحق خير من التَّمَادِي فِي الْبَاطِل )) الدارقطني في سننه (4471)وتاريخ المدينة لابن شبة (2/775) .
هذه القاعدة العظيمة تبين بوضوح عَلَى أَنَّ شُؤْمَ السَّيِّئَاتِ يَجُرُّ صَاحِبَهُ إِلَى التَّمَادِي فِي السَّيِّئَاتِ ، ولا بد ، فالتمادي على الباطل يجر إلى الولوغ والإبحار في الشر ، ودليلها من القرآن َقَوْلُهُ تَعَالَى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} وقوله {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}وغيرها من الآيات .
ومن السنة ما قَالَه حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: << تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ >>.
وعكس ذلك صحيح فإنَّ فِعْلَ الْخَيْرِ يُؤَدِّي إِلَى التَّمَادِي فِي فِعْلِ الْخَيْرِ، ومن لازم التقوى ، واهتدى بخير هدى ، زاده الله هدى وتوفيقا وأتاه تقواه فكان ذلك من أكبر من المحفزات لفعل الخير والطاعات ..
وَقَدْ دلَّت عليه هَذِهِ الْآيَاتُ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
واعلم وفقني الله وإياك أن الذنوب ليست على نوع واحد بل هي على أنواع وقد أمر الله تعالى بالتوبة منها جميعا فقال عز من قائل :{ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (31)سورة النور .
والتوبة الصادقة الصحيحة الصريحة هي ما توفرت فيها شروط التوبة المعروفة ، فمن حقق هذه الشروط وتاب إلى الله قبلت توبته .
والذنب الذي يقع فيه العبد إما أن يكون بينه وبين الله تعالى وليس لأحد فيه حق ، أو يكون بينه وبين عباد الله من ظلم وعدوان أو تكون في الحق والعلم والدين والمنهج ، وضرره متعد إلى الغير ...غير مقتصر على نفسه فيما بينه وبين الله ...
فالتوبة فيما كان منه بينه وبين ربه ..عليه ..فإذا تاب العبد فيما وقع منه فيما بينه وبين الله تاب الله عليه وما عليه إلا الإقلاع والندم والعزم على عدم العود وإصلاح مستقبل عمره بالإيمان والعمل الصالح ..
وقال تعالى :{ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }(54).الأنعام .
قال ابن كثير رحمه الله – وقوله {ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ} أَيْ: رَجَعَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَاصِي، وَأَقْلَعَ وَعَزَمَ عَلَى أَلَّا يَعُودَ وَأَصْلَحَ الْعَمَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
فهذه التوبة فيما بينه وبين ربه ولا حق عليه لغيره فهذا مطالب أن يحسن فيما استقبل من عمره فإذا أصلح وأحسن فيما بقي غفر له ما تقدم إن الله غفور رحيم .والإصلاح المقصود فيها هو العمل الصالح جاء مبينا في آيات أخرى منها قوله تعالى :{ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا } (60) مريم .
ومنها :{ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }(70)الفرقان . ومنها قوله تعالى :{فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ }(67) القصص .
وأما إن كانت التوبة من حق آدمي وفيه حق لله كحد مثل سرقة ونحوها فهذا لابد أن يتوب وأن يصلح ما أفسد بظلمه وعدوانه برد الحقوق إلى أصحابها أو بدلا عنها ما استطاع إلى ذلك سبيلا..
قال تعالى :{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }(39)المائدة .
فالآية واضحة جاءت بعد ذكر جريمة السرقة وإيقاع الحد على فاعلها ، وإنه حتى لو قطعت يده فعليه التوبة وعليه أن يصلح ما أفسده وظلم به من حقوق الآخرين فإن تاب فيما بينه وبين الله فإن الله غفور رحيم .
قال ابن كثير (3/110) : قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أَيْ: مَنْ تَابَ بَعْدَ سَرِقَتِهِ وَأَنَابَ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَأَمَّا أَمْوَالُ النَّاسِ فَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّهَا إِلَيْهِمْ أَوْ بَدَلِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ، مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» مسلم (2582) والبخاري في الأدب المفرد (183).وأحمد (9333).
أما إن كانت في الدين أو حق عام أو خاص بالنبي أو أحد أصحابه أو ورثته وتعدّ ضررها إلى الغير كم يقع في شرك أو كفر أو ينشر بدعة أو خرافة أو ضلالة في الناس ، أو يخرج على أولياء الأمور أو يطعن في ورثة الأنبياء الربانيين فهذا لابد من الإصلاح والبيان فلا تكفي التوبة فيما بينه وبين الله .
وفي سورة البقرة ذكر سبحانه وتعالى زيادة على الإصلاح البيان للحق الذي كتموه في قوله تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) البقرة .
قال أبو جعفر بن جرير : القول في تأويل قوله تعالى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) }:يعني تعالى ذكره بذلك: أن الله واللاعنين يَلعنون الكاتمين الناس ما علموا من أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ونعته في الكتاب الذي أنزله الله وبَيَّنه للناس، إلا من أناب من كتمانه ذلك منهم؛ ورَاجع التوبة بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والإقرار به وبنبوّته، وتصديقه فيما جاء به من عند الله، وبيّن ما أنزل الله في كتبه التي أنزل إلى أنبيائه، من الأمر باتباعه؛ وأصلح حالَ نفسه بالتقرب إلى الله من صَالح الأعمال بما يُرضيه عنه؛ وبيَّن الذي عَلم من وَحي الله الذي أنزله إلى أنبيائه وعهد إليهم في كتبه فلم يكتمه، وأظهرَه فلم يُخفِه "فأولئك"، يعني: هؤلاء الذين فَعلوا هذا الذي وصفت منهم، هم الذين أتوب عليهم، فأجعلهم من أهل الإياب إلى طاعتي، والإنابة إلى مَرضَاتي.انتهى كلامه .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنَ الْحَدِيثِ وَاللَّهِ لَوْلَا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا، ثُمَّ تَلَا هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 160] أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ .فهذا أبو هريرة رضي الله عنه يتأثم بكتمان العلم ويتخوف من الوعيد المترتب على ذلك في الآيتين المذكورتين فكيف بمن وقع في زلة من شرك أو بدعة أو ضلالة أو كذب على رسول الله وورثته العلماء الربانيين فلا بد أن يبين ما أخطأ فيه خوفا من هذا الوعيد الشديد ورغبة في فضل الرجوع للحق ومزيته .
وعليه يقال ، إذا كان الأمر يتعلق ببيان الحق بالمنهج ، بالتوحيد ، بالإسلام ، وأنه كتمه في موضع لا يجوز له كتمانه ، ولا يجوز تأخير البيان فيه عن وقت الحاجة كمن نزلت فيهم الآية ومن ذلك أيضا كتمان شهادة أو نشر باطل بين الناس فيما يتعلق بإعراضهم من غير موجب شرعي أو دعوة إلى بدعة أو إلى ضلالة من خرافة أو شرك أو كفر تعدى ضررها إلى الغير ..أو خروج على ولاة الأمر فهذا لا يكف في حقه التوبة من ذلك حتى يبين بوضوح ويصلح ما أفسده من ذلك ؛ لِأَن من نشر بَاطِلا بَين النَّاس وَنسبه إلى الدّين لم تصح تَوْبَته مِنْهُ إِلَّا بإعلانها وإظهارها حَتَّى يعلم النَّاس رُجُوعه عَن كذبه وتكذيبه لنَفسِهِ لقَوْل الله عز وَجل الآية السابقة { إِلَّا الَّذين تَابُوا وَأَصْلحُوا وبينوا }.
قال الشيخ العلامة والورع الزاهد ابن باز في التحذير من البدع (1/57)فأوضح الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أن من كتم شيئا من الحق لم تصح توبته من ذلك إلا بعد الإصلاح والتبيين، والله سبحانه قد أكمل لعباده الدين، وأتم عليهم النعمة ببعث رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما أوحى الله إليه من الشرع الكامل، ولم يقبضه إليه إلا بعد الإكمال والتبيين، كما قال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة/ 3].
وقال الشيخ العلامة صالح الفوزان في شرحه مسائل الجاهلية (1/282)عند آية البقرة المذكورة آنفا : شَرط في قبول توبتهم: البيان لما كتموه، فلا تكفي التوبة المجملة، ولكن لا بد من البيان، فيجب على من علم الحق أن يبيّنه للناس، ولا يشتري به ثمناً قليلاً، فيكتمه من أجل أن يحصل على مصلحة من مصالح الدنيا، أو من أجل أن يرضي الناس، فالله أحق أن يخشاه -عز وجل - وأن يرضيه، فلا يجوز كتمان الحق لمن قدر على بيانه وإظهاره، أما من لم يقدر، أو خاف بالبيان فتنة أكبر، فإنه معذور، لكن من لم يكن عنده مانع من البيان، وإنما كتم الحق من أجل رغبته هو ومصلحته هو، فهذا يلعنه الله ويلعنه اللاعنون.فهذه صفة اليهود، وهي منطبقة على كل من كتم الحق، من أجل اتباع الهوى، ولم يبينه للناس، وإذا سئل عن حكم مسألة أجاب بغير الحق وهو يعرف الجواب الصحيح، فهذا من كتمان الحق، والله جل وعلا أمر بقول الحق ولو على النفس: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] ، فيجب بيان الحق في الشهادات وفي غيرها.
وأشد من كتمان الشهادة: كتمان العلم، الذي هو حياة الناس وهدايتهم إلى الصراط المستقيم، فالواجب بيان الحق، وعدم المداهنة، ومن ذلك: إذا رأى الناس على باطل أو خرافات أو شرك، فإنه لا يسكت، بل يجب عليه أن يبين، ولا يترك الناس يقعون في عبادة القبور، وعبادة الأضرحة، ومزاولة البدع المضلة، ويسكت ويقول: ليس لي شأن بالناس، أو يرى الناس يتعاملون بالمعاملات المحرّمة ويسكت، فهذا كتمان للعلم وخيانة للنصيحة، فالله لم يعطك هذا العلم من أجل أن تسكت عليه، وإنما حمّلك إياه من أجل أن تبينه للناس، وأن تدعو إلى الله على بصيرة، وأن تحاول إخراج الناس من الظلمات إلى النور.انتهى كلامه .
وإذا كان الله تعالى شرط في توبة الكاتمين لما أنزله من البينات والهدى- بيان ما كتموه وإصلاح ما أفسدوه لأن ذنبهم لما كان بالكتمان، كانت توبتهم منه بالبيان.فليعلم أن ذنب المبتدع غير ذنب الكاتم لأن هذا كتم الحق، وذاك كتمه ودعا إلى خلافه مما يكرهه الله ورسوله ، ويضر بغيره في دينه ضررا بالغا ، إذا فلا بد للمبتدع أولا أن يعلم أن ما يفعله بدعة ، وأن عليه أن يعلم السنة ويعمل بها، ثم عليه أن يبين للناس فساد ما كان عليه من بدعة حسب الاستطاعة وأن يستقيم على ملازمة السنة ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه حتى تزول عنه حجب البدعة وتشرق عليه شمس السنة . انظر: مدارج السالكين (1 / 370)بتصرف يسير .
وكتب :
أبو بكر يوسف لعويسي
الجزائر 6 /8/1435 هـ الموافق ل/4/6/2014م