المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تحذير السلفي النبيه إلى أسباب رد الحق وعدم الاعتراف به (( متجدد ))



أبو بكر يوسف لعويسي
22-Jul-2014, 01:42 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمدا يليق بجلاله وكماله ، هو الحق لا إله إلا هو سبحانه ، الذي تقرب إلى عباده بالحق ، وأوصاهم أن يتواصوا به ففي التواصي به الفوز والفلاح والسعادة والنجاح ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد الذي جاء بالحق وصدّق المرسلين ، وعلى آله وصحبه الذين تمسكوا بالحق وضحوا في سبيله بالغالي والنفيس ولم يقدموا عليه شيئا ، وعلى من تبعهم بالحق وإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد رأيت موضوعا في بعض المنتديات بعنوان أسباب عدم الاعتراف بالحق ، وهو كلام جيد مستل من كتاب (( القائد في تصحيح العقائد)) للعلامة المعلمي – رحمه الله – أنزله الأخ أبو حاتم سفيان العلاوي في - شبكة سحاب الخير - فلما اطلعت عليه أعجبني إلا أنه غير واف بالموضوع من جميع جوانبه فأسباب عدم الاعتراف بالحق ورده كثيرة كما قال الإمام القدوة الرباني من شيخه المجدد الحراني .. كما سيأتي كلامه .
فمن أسباب رد الحق وعدم الاعتراف به الجحود والعناد ، والاستكبار، والعلو في الأرض بغير حق ، وكذلك الإعراض والتكذيب ، والنفاق والشك ، والخوف من السادة والقادة ، والخوف من ملامة الناس ، وحب المحبوب والأنداد ،أكثر من حب رب العباد ، والتقليد للآباء والأجداد ، وحب الانتقام للنفس وللمحبوب المألوه ، والتعصب المقيت من كل معتوه ، والطائفية والحزبية ، والتقديس لأشياخ الطرقية والولاء والبراء ، والغلو والجفاء ، والجهل والتعالم ، وجحد الحق عند التخاصم ، وحب الذات والانتقام لها ، واتباع الهوى الذي يجمعها ، وبعضها كفر مخرج من الملة وبعضها ضلال والعياذ بالله .
ولقد فطر الله القلوب على محبة الحق والاطمئنان والسكون إليه ومحبته والانقياد له وبغض الباطل والكذب وعدم الاطمئنان إليه والنفور عنه وعدم محبته .فلما انحرفت الفطر بأصحابها ذات اليمين وذات الشمال رُد الحق ولم يُعترف به واختلفت الأسباب من شخص إلى آخر ومن طائفة إلى أخرى في رد الحق وعدم الاعتراف به ابتداء يعني قبل مجيء الرسول الناطق بالحق صلى الله عليه وسلم وبعد مجيئه وتباينت مواقف أمة الدعوة وأمة الإجابة من الحق الذي جاء به ، فنقسم الناس إلى مؤمنين به وكفار ؛ وأتقياء عدول ومنافقين فجار ..ولكن بعد حصول الافتراق على منهج الرسول وسبيل المؤمنين أخذت تلك الفرق المختلفة والمخالفة كل منها بحظ وافر من أسباب رد الحق وعدم الاعتراف به من أمة الدعوة ، وفي مقدمتها اليهود والنصارى الذين لهم اليد الطولى فيما يجري بين المسلمين على مر التاريخ ، فلا يهدأ لهم بال حتى يروا هذه الأمة ممزقة ضعيفة تنخر فيها الغثائية حتى لا تقم لها قائمة ، وليس العجب أن يحصل هذا من فرق كثيرة سلكت غير سبيل المؤمنين ، فهذا قد أخبر به المصطفى صلى الله عليه وسلم وتنبأ به وإنما العجب كل العجب أن يحصل رد الحق وعدم الاعتراف به ممن يدعي التمسك بالسنة والسير على سبيل المؤمنين ولزوم منهج السلف الصالح وفهمهم تارة بالتأويل الفاسد والفهم السقيم ، وأخرى بالتحريف للآثار وليّ أعناقها لتوافق هوى النفس ، وقراءتها على احتمالات ضعيفة أو مرجوحة انتصارا للهوى والنفس .
وثالثة بالكذب والافتراء على السلف وأتباعهم ، ورابعة بالتكبر والاستكبار ، وطلب الجاه والعلو في الأرض من أجل عرض من الدنيا قليل ،وخامسة بالجهل والتعالم والجدال في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير .. بل منهم من يتبع كل شيطان مريد.
وسادسة بالتعصب للطائفيات والحزبيات والجهالات والغلو في الانتصار للنفس بالتكفير تارة وأخرى بالجفاء والتمييع ..
وسابعة بالتقليد والتقديس ... لكل مبتدع مفلس أو شيخ مهوس بالعلم متلبس .. فرُد الحق باسم السنة لهدم السنة ، ورد الحق باسم منهج السلف لهدم منهج السلف ، فأين يكمن الداء يا ترى وما هو سبيل العلاج ؟؟ لقبول الحق والاعتراف به حيث كان وممن كان مادام الكل ينشد الحق على منهج الحق وسبيل المؤمنين من أجل نصرة الحق ..؟؟
والجواب على هذا السؤال بسيط وسهل وهو أن الداء يكمن في النفس من سلامة الفطرة ومدى انحرافها وما تعلق بها من أوصاف وأسباب رد الحق المذكورة آنفا ليس إلا ..
ولكن علاجه صعب جدا إلا عند من رحم الله ممن صفت نفوسهم وصحت عقائدهم وسلم منهجهم واتصفوا بالعدل والإنصاف والإذعان والانقياد للحق والاعتراف به والتواضع له والفرح بظهوره على يد من كان ممن جاء به .
قال ابن القيم في مدارج السالكين (3/437) إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَطَرَ الْقُلُوبَ عَلَى قَبُولِ الْحَقِّ وَالِانْقِيَادِ لَهُ، وَالطُّمَأْنِينَةِ بِهِ، وَالسُّكُونِ إِلَيْهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَفَطَرَهَا عَلَى بُغْضِ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ، وَالنُّفُورِ عَنْهُ، وَالرِّيبَةِ بِهِ، وَعَدَمِ السُّكُونِ إِلَيْهِ، وَلَوْ بَقِيَتِ الْفِطَرُ عَلَى حَالِهَا لَمَا آثَرَتْ عَلَى الْحَقِّ سِوَاهُ، وَلَمَا سَكَنَتْ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا اطْمَأَنَّتْ إِلَّا بِهِ، وَلَا أَحَبَّتْ غَيْرَهُ، وَلِهَذَا نَدَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادَهُ إِلَى تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ تَدَبَّرَهُ أَوْجَبَ لَهُ تَدَبُّرُهُ عِلْمًا ضَرُورِيًا وَيَقِينًا جَازِمًا: أَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ، بَلْ أَحَقُّ كُلَّ الْحَقِّ، وَأَصْدَقُ كُلَّ صِدْقٍ، وَأَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ أَصْدَقُ خَلْقِ اللَّهِ، وَأَبَرُّهُمْ، وَأَكْمَلُهُمْ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَمَعْرِفَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]
وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] .فَلَوْ رُفِعَتِ الْأَقْفَالُ عَنِ الْقُلُوبِ لَبَاشَرَتْهَا حَقَائِقُ الْقُرْآنِ، وَاسْتَنَارَتْ فِيهَا مَصَابِيحُ الْإِيمَانِ، وَعَلِمْتَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا يَكُونُ عِنْدَهَا كَسَائِرِ الْأُمُورِ الْوِجْدَانِيَّةِ - مِنَ الْفَرَحِ، وَالْأَلَمِ، وَالْحُبِّ، وَالْخَوْفِ - أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، تَكَلَّمَ بِهِ حَقًّا، وَبَلَّغَهُ رَسُولُهُ جِبْرِيلُ عَنْهُ إِلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ، فَهَذَا الشَّاهِدُ فِي الْقَلْبِ مِنْ أَعْظَمِ الشَّوَاهِدِ.
وَبِهِ احْتَجَّ هِرَقْلُ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ حَيْثُ قَالَ لَهُ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ، بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ لَهُ: وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إِذَا خَالَطَتْ حَلَاوَتُهُ بِشَاشَةَ الْقُلُوبِ لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ، وَقَدْ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49] .
وَقَوْلِهِ:{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ}[الحج: 54]. وَقَوْلِهِ تعالى {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ}[سبأ: 6]. وَقَوْلِهِ سبحانه : {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 19].
وَقَوْلِهِ: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد: 27]. يَعْنِي: أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي يَقْتَرِحُونَهَا لَا تُوجِبُ هِدَايَةً، بَلِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَهْدِي وَيُضِلُّ، ثُمَّ نَبَّهَهُمْ عَلَى أَعْظَمِ آيَةٍ وَأَجَلِّهَا، وَهِيَ: طُمَأْنِينَةُ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بِذِكْرِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ. فَقَالَ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد: 28] أَيْ بِكِتَابِهِ وَكَلَامِهِ: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] فَطُمَأْنِينَةُ الْقُلُوبِ الصَّحِيحَةِ، وَالْفِطَرِ السَّلِيمَةِ بِهِ، وَسُكُونُهَا إِلَيْهِ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ؛ إِذْ يَسْتَحِيلُ فِي الْعَادَةِ أَنْ تَطْمَئِنَّ الْقُلُوبُ وَتَسْكُنَ إِلَى الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ وَالْبَاطِلِ.
أسباب رد الحق وعدم الاعتراف به :
وقال - رحمه الله - في هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى (1/244) وَالْأَسْبَابُ الْمَانِعَةُ مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ كَثِيرَةٌ جِدًّا:
1- فَمِنْهَا: الْجَهْلُ بِهِ، وَهَذَا السَّبَبُ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَكْثَرِ النُّفُوسِ، فَإِنَّ مَنْ جَهِلَ شَيْئًا عَادَاهُ وَعَادَى أَهْلَهُ، فَإِنِ أنْضَافَ إِلَى هَذَا السَّبَبِ بُغْضُ مَنْ أَمَرَهُ بِالْحَقِّ وَمُعَادَاتُهُ لَهُ وَحَسَدُهُ كَانَ الْمَانِعُ مِنَ الْقَبُولِ أَقْوَى، فَإِنِ أنْضَافَ إِلَى ذَلِكَ إِلْفُهُ وَعَادَتُهُ وَمُرَبَّاهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُ وَمَنْ يُحِبُّهُ وَيُعَظِّمُهُ قَوِيَ الْمَانِعُ، فَإِنِ أنْضَافَ إِلَى ذَلِكَ تَوَهُّمُهُ أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي دُعِيَ إِلَيْهِ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَاهِهِ وَعِزِّهِ وَشَهَوَاتِهِ وَأَغْرَاضِهِ قَوِيَ الْمَانِعُ مِنَ الْقَبُولِ جِدًّا ( والاعتراف به ).
فَإِنِ أنْضَافَ إِلَى ذَلِكَ خَوْفُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَعَشِيرَتِهِ وَقَوْمِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَجَاهِهِ كَمَا وَقَعَ لِهِرَقْلَ مَلِكِ النَّصَارَى بِالشَّامِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ازْدَادَ الْمَانِعُ مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ قُوَّةً، فَإِنَّ هِرَقْلَ عَرَفَ الْحَقَّ وَهَمَّ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُطَاوِعْهُ قَوْمُهُ وَخَافَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ فَاخْتَارَ الْكُفْرَ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى، كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُ قِصَّتِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
2- وَمِنْ أَعْظَمِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ: " الْحَسَدُ " فَإِنَّهُ دَاءٌ كَامِنٌ فِي النَّفْسِ، وَيَرَى الْحَاسِدُ الْمَحْسُودَ قَدْ فُضِّلَ عَلَيْهِ، وَأُوتِيَ مَا لَمْ يُؤْتَ نَظِيرُهُ، فَلَا يَدَعُهُ الْحَسَدُ أَنْ يَنْقَادَ لَهُ وَيَكُونَ مِنْ أَتْبَاعِهِ. وَهَلْ مَنَعَ إِبْلِيسَ مِنَ السُّجُودِ لِآدَمَ إِلَّا الْحَسَدُ؟! فَإِنَّهُ لَمَّا رَآهُ قَدْ فُضِّلَ عَلَيْهِ وَرُفِعَ فَوْقَهُ، غُصَّ بِرِيقِهِ وَاخْتَارَ الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ بَعْدَ أَنْ كَانَ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ.وَهَذَا الدَّاءُ هُوَ الَّذِي مَنَعَ الْيَهُودَ مِنَ الْإِيمَانِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَقَدْ عَلِمُوا عِلْمًا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ جَاءَ بِالْبَيِّنَاتِ، وَالْهُدَى فَحَمَلَهُمُ الْحَسَدُ عَلَى أَنِ اخْتَارُوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَأَطْبَقُوا عَلَيْهِ، وَهُمْ أُمَّةٌ فِيهِمُ الْأَحْبَارُ وَالْعُلَمَاءُ وَالزُّهَّادُ وَالْقُضَاةُ وَالْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ.
هَذَا وَقَدْ جَاءَ الْمَسِيحُ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ وَلَمْ يَأْتِ بِشَرِيعَةٍ تُخَالِفُهَا وَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ، وَإِنَّمَا أَتَى بِتَحْلِيلِ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ تَخْفِيفًا وَرَحْمَةً وَإِحْسَانًا، وَجَاءَ مُكَمِّلًا لِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، وَمَعَ هَذَا فَاخْتَارُوا الْكُفْرَ كُلُّهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ مَعَ نَبِيٍّ جَاءَ بِشَرِيعَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ نَاسِخَةٍ لِجَمِيعِ الشَّرَائِعِ، مُبَكِّتًا لَهُمْ بِقَبَائِحِهِمْ، وَمُنَادِيًا عَلَى فَضَائِحِهِمْ، وَمُخْرِجًا لَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَقَدْ قَاتَلُوهُ وَحَارَبُوهُ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يَنْصُرُ عَلَيْهِمْ، وَيَظْفَرُ بِهِمْ، وَيَعْلُو هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَهُمْ مَعَهُ دَائِمًا فِي سَفَالٍ، فَكَيْفَ لَا يَمْلِكُ الْحَسَدُ وَالْبَغْيُ قُلُوبَهُمْ؟ وَأَيْنَ يَقَعُ حَالُهُمْ مَعَهُ مِنْ حَالِهِمْ مَعَ الْمَسِيحِ، وَقَدْ أَطْبَقُوا عَلَى الْكُفْرِ بِهِ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى؟ وَهَذَا السَّبَبُ وَحْدَهُ كَافٍ فِي رَدِّ الْحَقِّ، فَكَيْفَ إِذَا أنْضَافَ إِلَيْهِ زَوَالُ الرِّئَاسَاتِ وَالْمَأْكَلِ كَمَا تَقَدَّمَ؟ وَقَدْ قَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ - وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ أَبِي جَهْلٍ - يَا خَالُ، هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَ مُحَمَّدًا قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ أُخْتِي! وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ مُحَمَّدٌ فِينَا صَادِقًا وَهُوَ شَابٌّ، يُدْعَى الْأَمِينَ، فَمَا جَرَّبْنَا عَلَيْهِ كَذِبًا قَطُّ، قَالَ: يَا خَالُ! فَمَا لَكُمْ لَا تَتْبَعُونَهُ؟! قَالَ: يَا ابْنَ أُخْتِي تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو هَاشِمٍ الشَّرَفَ، فَأَطْعَمُوا وَأَطْعَمْنَا، وَسَقَوْا وَسَقَيْنَا، وَأَجَارُوا وَأَجَرْنَا، حَتَّى إِذَا تَجَاثَيْنَا عَلَى الرُّكَبِ وَكُنَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ فَمَتَى نُدْرِكُ مِثْلَ هَذِهِ؟وَقَالَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ يَوْمَ بَدْرٍ لِأَبِي جَهْلٍ: يَا أَبَا الْحَكَمِ! أَخْبِرْنِي عَنْ مُحَمَّدٍ أَصَادِقٌ هُوَ أَمْ كَاذِبٌ؟ فَإِنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا مِنْ قُرَيْشٍ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُكَ يَسْمَعُ كَلَامَنَا؟ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَيْحَكَ! وَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَصَادِقٌ، وَمَا كَذَبَ مُحَمَّدٌ قَطُّ، وَلَكِنْ إِذَا ذَهَبَتْ بَنُو قُصَيٍّ بِاللِّوَاءِ وَالْحِجَابَةِ وَالسِّقَايَةِ وَالنُّبُوَّةِ فَمَاذَا يَكُونُ لِسَائِرِ قُرَيْشٍ؟.
وَهَذَا الْمَانِعُ هُوَ الَّذِي مَنَعَ فِرْعَوْنَ مِنِ اتِّبَاعِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَإِنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى عَزَمَ اتِّبَاعَ مُوسَى، فَقَالَ لَهُ وَزِيرُهُ هَامَانُ: بَيْنَا أَنْتَ إِلَهٌ تُعْبَدُ تُصْبِحُ تَعْبُدُ رَبًّا، تَعْبُدُ غَيْرَكَ، قَالَ: صَدَقْتَ.
3 - ومن أسباب رد الحق وعدم الاعتراف به التقليد والتعصب الذميم :
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين(2/173) [أَخْبَرَ الرَّسُولُ أَنَّهُ سَيَحْدُثُ اخْتِلَافُ كَثِيرٌ]يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي نَفْسِ هَذَا الْحَدِيثِ: «فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا» وَهَذَا ذَمٌّ لِلْمُخْتَلِفِينَ، وَتَحْذِيرٌ مِنْ سُلُوكِ سَبِيلِهِمْ، وَإِنَّمَا كَثُرَ الِاخْتِلَافُ وَتَفَاقَمَ أَمْرُهُ بِسَبَبِ التَّقْلِيدِ وَأَهْلِهِ، وَهُمْ الَّذِينَ فَرَّقُوا الدِّينَ وَصَيَّرُوا أَهْلَهُ شِيَعًا، كُلُّ فِرْقَةٍ تَنْصُرُ مَتْبُوعَهَا، وَتَدْعُو إلَيْهِ، وَتَذُمُّ مَنْ خَالَفَهَا، وَلَا يَرَوْنَ الْعَمَلَ بِقَوْلِهِمْ حَتَّى كَأَنَّهُمْ مِلَّةٌ أُخْرَى سِوَاهُمْ، يَدْأَبُونَ وَيَكْدَحُونَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَيَقُولُونَ: كُتُبُهُمْ، وَكُتُبُنَا وَأَئِمَّتُهُمْ وَأَئِمَّتُنَا، وَمَذْهَبُهُمْ وَمَذْهَبُنَا.هَذَا وَالنَّبِيُّ وَاحِدٌ وَالْقُرْآنُ وَاحِدٌ وَالدِّينُ وَاحِدٌ وَالرَّبُّ وَاحِدٌ؛ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْجَمِيعِ أَنْ يَنْقَادُوا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَهُمْ كُلِّهِمْ، وَأَنْ لَا يُطِيعُوا إلَّا الرَّسُولَ، وَلَا يَجْعَلُوا مَعَهُ مَنْ يَكُونُ أَقْوَالُهُ كَنُصُوصِهِ، وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ؛ فَلَوْ اتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَانْقَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِمَنْ دَعَاهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَحَاكَمُوا كُلُّهُمْ إلَى السُّنَّةِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ لَقَلَّ الِاخْتِلَافُ وَإِنْ لَمْ يَعْدَمْ مِنْ الْأَرْضِ؛ وَلِهَذَا تَجِدُ أَقَلَّ النَّاسِ اخْتِلَافًا أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ؛ فَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ طَائِفَةٌ أَكْثَرَ اتِّفَاقًا وَأَقَلَّ اخْتِلَافًا مِنْهُمْ لِمَا بَنَوْا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَكُلَّمَا كَانَتْ الْفُرْقَةُ عَنْ الْحَدِيثِ أَبْعَدَ كَانَ اخْتِلَافُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَشَدَّ وَأَكْثَرَ، فَإِنَّ مَنْ رَدَّ الْحَقَّ مَرَجَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَاخْتَلَطَ عَلَيْهِ وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ وَجْهُ الصَّوَابِ فَلَمْ يَدْرِ أَيْنَ يَذْهَبُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5] .وسأعود مرة أخرى للتعصب في كلامه وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية لما فيه من الفوائد .
4- ومن أسباب رد الحق وعدم الاعتراف به اتباع الهوى ..قال تعالى : {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ }(71)المؤمنون وقال عز من قائل {... فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا }(135) النساء.قال ابن كثير (2/433)وَقَوْلُهُ {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} أَيْ: فَلَا يَحْمِلْنَّكُمُ الْهَوَى وَالْعَصَبِيَّةُ وبغْضَة النَّاسِ إِلَيْكُمْ، عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فِي أُمُورِكُمْ وَشُؤُونِكُمْ، بَلِ الْزَمُوا الْعَدْلَ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [الْمَائِدَةِ: 8].
وقال في بدائع الفوائد (3/180) حذار، حذار من أمرين لهما عواقب سوء:أحدهما: رد الحق لمخالفته هواك فإنك تعاقب بتقليب القلب ورد ما يرد عليك من الحق رأسا ولا تقبله إلا إذا برز في قالب هواك قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فعاقبهم على رد الحق أول مرة بأن قلب أفئدتهم وأبصارهم بعد ذلك.انتهى كلامه .
5- ومن أسباب رد الحق : اتباع ملة الآباء والأجداد وطرائق الأشياخ ..
وقال تعالى مخبرا عمن رد الحق بسبب اتباع ما كان عليه الآباء : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ }(170) البقرة .وقال تعالى :{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ }(104) المائدة.قال الشيخ السعدي في تفسيرها (1/246)فإذا دعوا {إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} أعرضوا فلم يقبلوا، و {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} من الدين، ولو كان غير سديد، ولا دينًا ينجي من عذاب الله.ولو كان في آبائهم كفاية ومعرفة ودراية لهان الأمر. ولكن آباءهم لا يعقلون شيئا، أي: ليس عندهم من المعقول شيء، ولا من العلم والهدى شيء. فتبا لمن قلد من لا علم عنده صحيح، ولا عقل رجيح، وترك اتباع ما أنزل الله، واتباع رسله الذي يملأ القلوب علما وإيمانا، وهدى، وإيقانا.
وقال الله تعالى :{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ }(21) لقمان.
قال العلامة السعدي رحمه الله {مِنَ النَّاسِ مَنْ} لم يشكرها؛ بل كفرها؛ وكفر بمن أنعم بها؛ وجحد الحق الذي أنزل به كتبه، وأرسل به رسله، فجعل {يُجَادِلُ فِي اللَّهِ} أي: يجادل عن الباطل؛ ليدحض به الحق؛ ويدفع به ما جاء به الرسول من الأمر بعبادة الله وحده، وهذا المجادل على غير بصيرة، فليس جداله عن علم، فيترك وشأنه، ويسمح له في الكلام {وَلا هُدًى} يقتدي به بالمهتدين {وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [غير مبين للحق فلا معقول ولا منقول ولا اقتداء بالمهتدين] وإنما جداله في الله مبني على تقليد آباء غير مهتدين، بل ضالين مضلين.
ولهذا قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ} على أيدي رسله، فإنه الحق، وبينت لهم أدلته الظاهرة {قَالُوا} معارضين ذلك: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} فلا نترك ما وجدنا عليه آباءنا لقول أحد كائنا من كان.
قال تعالى في الرد عليهم وعلى آبائهم: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} فاستجاب له آباؤهم، ومشوا خلفه، وصاروا من تلاميذ الشيطان، واستولت عليهم الحيرة.فهل هذا موجب لاتباعهم لهم ومشيهم على طريقتهم، أم ذلك يرهبهم من سلوك سبيلهم، وينادي على ضلالهم، وضلال من اتبعهم.وليس دعوة الشيطان لآبائهم ولهم، محبة لهم ومودة، وإنما ذلك عداوة لهم ومكر بهم، وبالحقيقة أتباعه من أعدائه، الذين تمكن منهم وظفر بهم، وقرت عينه باستحقاقهم عذاب السعير، بقبول دعوته.
6- وأما اتباع الأشياخ والسادة الذي يمنع من قبول الحق والاعتراف به :
فقد قال الله تعالى :{ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا }(67) الأحزاب .وقال تعالى :{ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ }(21) إبراهيم .قال ابن كثير ( 4/488)يَقُولُ: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ] أَيْ: بَرَزَتِ الْخَلَائِقُ كُلُّهَا، بَرُّهَا وَفَاجِرُهَا لِلَّهِ وَحْدَهُ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، أَيِ: اجْتَمَعُوا لَهُ فِي بِرَازٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يَسْتُرُ أَحَدًا.{فَقَالَ الضُّعَفَاءُ} وَهْمُ الْأَتْبَاعُ لِقَادَتِهِمْ وَسَادَتِهِمْ وَكُبَرَائِهِمُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَعَنْ مُوَافَقَةِ الرُّسُلِ، فَقَالُوا لَهُمْ: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} أَيْ: مَهْمَا أَمَرْتُمُونَا ائْتَمَرْنَا وَفَعَلْنَا، {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} أَيْ: فَهَلْ تَدْفَعُونَ عَنَّا شَيْئًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، كَمَا كُنْتُمْ تَعِدُونَنَا وَتُمَنُّونَنَا؟ فَقَالَتِ الْقَادَةُ لَهُمْ: {لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} وَلَكِنْ حَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا، وَسَبْقَ فِينَا وَفِيكُمْ قَدَرُ اللَّهِ، وَحَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ.{سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} أَيْ: لَيْسَ لَنَا خَلاص مِمَّا نَحْنُ فِيهِ إِنْ صَبْرَنَا عَلَيْهِ أَوْ جَزِعْنَا مِنْهُ.وكذلك خبره تعالى عنهم :{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ }(48) غافر.
وتأمل هذه المحاورة بين القادة والسادة وبين التابعين لهم والمغرر بهم وذلك يوم الحسرة والندامة يوم لا ينفع متبوعٌ تابعا ولا سيدٌ مسودا ولا شيخٌ مريدا ، حيث تدور بينهم هذه المحاورة التي يكشفون فيها عن الحقائق التي كانوا عليها في الدنيا من رد الحق وعدم قبوله العصيان لله ومخالفة رسله .قال تعالى { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }(33)سبأ.
يتبع - إن شاء الله -

أبو بكر يوسف لعويسي
23-Jul-2014, 12:47 AM
تتمة للموضوع :
ومن أسباب عدم الاعتراف بالحق الاستكبار والعلو في الأرض بغير حق.
قال تعالى :{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ...}43 فاطر
وقال عز وجل :{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (76 )الأعراف
وقال تعالى { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }(33)سبأ.
وقال تعالى :{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ }(48) غافر.
ومن أسباب عدم الاعتراف بالحق الإعراض بسبب الكره له أو الحسد أو احتقار من جاء به أو عدم الخير فيمن ردوه ، وأنهم من شر الدواب عند الله ، أو أنهم يريدون أن يكون الحق حسب أهوائهم أو مفصلا حسب مقاساتهم فإذا كان لهم جاءوا يجرون مذعنين .
قال جل وعز :{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ }(23)آل عمرانوقال سبحانه :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}(23)الأنفال
وقال جلت حكمته :{ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ}(71)المؤمنون .
وقال سبحانه :{ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }(51) النور .
ومن أسباب رد الحق وعدم الاعتراف به الخوف من السادة والكبراء والطواغيت الجبابرة :
وقال تعالى { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }(33)سبأ.
فهكذا كان هؤلاء الأتباع يخافون من المتبوعين بسبب جبروتهم ومكرهم وكيدهم بالليل والنهار حتى يصدونهم عن الإيمان وقبول الحق فيأتمرون بأوامرهم مهما كانت وينتهون عن نواهيهم أي كانت .
ومن الخوف لرد الحق وعدم قبوله خوف الملامة والتعيير كأبي طالب الذي خاف ملامة الناس فمات على دين أجداده بعد ما عرف الحق بقوله :
وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ... مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا
لَوْلَا الْمَلَامَةُ أَوْ حِذَارُ مَسَبَّةٍ ... لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينَا
ومن أسباب رد الحق الغلظة والخشونة والعنف في أسلوب الدعوة إلى الله والمجادلة بغير ما أمر الله :
قال تعالى لنبيه الذي مدحه بأنه على خلق عظيم { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّاغَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }(159)آل عمران .
وقَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَائِشَةُ» :<< إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ >> مسلم (2593).وعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ اليَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ: وَعَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: << مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ>> .. البخاري (6024- 6256 )ومسلم (2165).
وفي مسلم (2592): عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: << مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ، يُحْرَمِ الْخَيْرَ>>.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله في مجموع فتواه(27/167) فالواجب على الداعي إلى الله أن يتحمل، وأن يستعمل الأسلوب الحسن الرفيق اللين في دعوته للمسلمين والكفار جميعا، لا بد من الرفق مع المسلم ومع الكافر ومع الأمير وغيره ولا سيما الأمراء والرؤساء والأعيان، فإنهم يحتاجون إلى المزيد من الرفق والأسلوب الحسن لعلهم يقبلون الحق ويؤثرونه على ما سواه..
وهكذا من تأصلت في نفسه البدعة أو المعصية ومضى عليه فيها السنون يحتاج إلى صبر حتى تقتلع البدعة وحتى تزال بالأدلة، وحتى يتبين له شر المعصية وعواقبها الوخيمة، فيقبل منك الحق ويدع المعصية.فالأسلوب الحسن من أعظم الوسائل لقبول الحق، والأسلوب السيء العنيف من أخطر الوسائل في رد الحق وعدم قبوله وإثارة القلاقل والظلم والعدوان والمضاربات.ومن الأسباب أيضا جحود الحق وعدم الاعتراف به ،والعناد والتعنت ،والغلو والتعصب والتقليد وغيرها من الأسباب التي ذكره الله سبحانه في كتابة وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم وأغلبها يرجع إلى ركوب الهوى والشهوات والشبهات .
وقال الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - رحمه الله – في كتابه القائد إلى تصحيح العقائد : ومخالفة الهوى للحق في الاعتراف بالحق من وجوه :الأول : أن يرى الإنسان أن اعترافه بالحق يستلزم الاعتراف بأنه كان على باطل ،فالإنسان ينشأ على دين أو اعتقاد أو مذهب أو رأي يتلقاه من مربيه ومعلمه على أنه حق فيكون عليه مدة ، ثم إذا تبين له أنه باطل شق عليه أن يعترف بذلك ، وهكذا إذا كان آباؤه أو أجداده أو متبوعه على شيء ، ثم تبين له بطلانه ، وذلك أنه يرى أن نقصهم مستلزم لنقصه ، فاعترافه بضلالهم أو خطأهم اعتراف بنقصه ، حتى أنك لترى المرأة في زماننا هذا إذا وقفت على بعض المسائل التي كان فيها خلاف بين أم المؤمنين عائشة وغيرها من الصحابة أخذت تحامي عن قول عائشة ، لا لشيء إلا لأن عائشة امرأة مثلها ، فتتوهم أنها إذا زعمت أن عائشة أصابت وأن من خالفها من الرجال أخطئوا ، كان في ذلك إثبات فضيلة لعائشة على أولئك الرجال ، فتكون تلك فضيلة للنساء على الرجال مطلقا ، فينالها حظ من ذلك ، وبهذا يلوح لك سر تعصب العربي للعربي ، والفارسي للفارسي ، والتركي للتركي ، وغير ذلك .حتى لقد يتعصب الأعمى في عصرنا هذا للمعري.
قلت : ومن هذا تعصب أصحاب المذاهب لبعضهم البعض ، وتعصب أرباب الطرق والمريدين لأشياخهم وطرقهم ، وتعصب الطوائف لطوائفهم وأرباب الأحزاب لأحزابهم ، ولمنتديات لبعضهم البعض فكل من وافقه غيره في مكمن هواه ومحبوب نفسه وشاكله في الوصف والفكر تعصب له وانتصر له ولو كان يعلم أنه على باطل، وأن الحق عند غير ..وقد أثرت كلمة عن أحد القادة الجزائريين قالها تعصبا للقومية العربية : أنا مع فلسطين ظالمة أو مظلومة .. وهذا ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم :<< أنصر أخاك ظالما أو مظلوما >>
ولكن من باب قول من حقت عليه الضلالة :
(وَمَا أَنا إِلَّا من غزيَّة إِن غوت ... غويت وَإِن ترشد غزيَّة أرشد)
يتبع - إن شاء الله -

أبو بكر يوسف لعويسي
31-Jul-2014, 09:47 PM
تتمة للموضوع :
ومن أسباب رد الحق التعصب المقيت واتباع الهوى والغلو والتقليد بغير مسوغ ...
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في القواعد النورانية (1/44)[فَصْلٌ في كَوْنِ الْبَسْمَلَةِ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ وَفِي قِرَاءَتِهَا في الصَّلَاةِ]فَصْلٌ : فَأَمَّا صِفَةُ الصَّلَاةِ: فَمِنْ شَعَائِرِهَا: مَسْأَلَةُ الْبَسْمَلَةِ.فَإِنَّ النَّاسَ اضْطَرَبُوا فِيهَا نَفْيًا وَإِثْبَاتًا: فِي كَوْنِهَا آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ وَفِي قِرَاءَتِهَا، وَصُنِّفَتْ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مُصَنَّفَاتٌ، يَظْهَرُ فِي بَعْضِ كَلَامِهَا نَوْعٌ مِنْ جَهْلٍ وَظُلْمٍ، مَعَ أَنَّ الْخَطْبَ فِيهَا يَسِيرٌ.
وَأَمَّا التَّعَصُّبُ لِهَذِهِ الْمَسَائِلِ وَنَحْوِهَا فَمِنْ شَعَائِرِ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي نُهِينَا عَنْهُ، إِذِ الدَّاعِي لِذَلِكَ هُوَ تَرْجِيحُ الشَّعَائِرِ الْمُفَرِّقَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَإِلَّا فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مِنْ أَخَفِّ مَسَائِلِ الْخِلَافِ جَدًّا، لَوْلَا مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ مِنْ إِظْهَارِ شِعَارِ الْفُرْقَةِ.
وقال في الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ( 3/178): وَصَارَ مَنْ يَطْلُبُ أَنْ يَقُولَ فِيهِ الْقَوْلَ الْعَدْلَ مِثْلَ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَعُبَّادِهِمْ، يَجْمَعُونَ لَهُ مَجْمَعًا وَيَلْعَنُونَهُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ التَّعَصُّبِ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى،وَالْغُلُوِّ فِيمَنْ يُعَظِّمُونَهُ، كَمَا يَجْرِي مِثْلُ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ، كَالْغلَاةِ فِي بَعْضِ الْمَشَايِخِ، وَبَعْضِ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَبَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَبَعْضِ الْمُلُوكِ، وَبَعْضِ الْقَبَائِلِ وَبَعْضِ الْمَذَاهِبِ، وَبَعْضِ الطَّرَائِقِ، فَإِنَّمَا كَانَ مَصْدَرُ ضَلَالِهِمْ أَهْوَاءَ نُفُوسِهِمْ، قَالَ - تَعَالَى - لِلنَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا فِي وَقْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] .
وسئل –رحمه الله - عَنْ الرُّوحِ الْمُؤْمِنَةِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَلَقَّاهَا وَتَصْعَدُ بِهَا مِنْ سَمَاءٍ إلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ. وَعَنْ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْمَشَايِخِ. وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَئِمَّةِ فَهَلْ هَذَا صَحِيحٌ أَمْ لَا؟
الْجَوَابُ: أَمَّا تَرْجِيحُ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ وَالْمَشَايِخِ عَلَى بَعْضٍ، مِثْلَ مَنْ يُرَجِّحُ إمَامَهُ الَّذِي تَفَقَّهَ عَلَى مَذْهَبِهِ، أَوْ يُرَجِّحُ شَيْخَهُ الَّذِي اقْتَدَى بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، كَمَنْ يُرَجِّحُ الشَّيْخَ عَبْدَ الْقَادِرِ، أَوْ الشَّيْخَ أَبَا مَدْيَنَ، أَوْ أَحْمَدَ، أَوْ غَيْرَهُمْ، فَهَذَا الْبَابُ أَكْثَرُ النَّاسِ يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ بِالظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ، فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ مَرَاتِبِ الْأَئِمَّةِ وَالْمَشَايِخِ، وَلَا يَقْصِدُونَ اتِّبَاعَ الْحَقِّ الْمُطْلَقِ، بَلْ كُلُّ إنْسَانٍ تَهْوَى نَفْسُهُ أَنْ يُرَجِّحَ مَتْبُوعَهُ، فَيُرَجِّحَهُ بِظَنٍّ يَظُنُّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بُرْهَانٌ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ إلَى تَحَاجِّهِمْ وَتَقَاتُلِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ.
وَهَذَا مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران :102 - 106] .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ. فَمَا دَخَلَ فِي هَذَا الْبَابِ مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ مِنْ التَّعَصُّبِ وَالتَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ التَّكَلُّمُ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَإِنَّهُ يَجِبُ النَّهْيُ عَنْهُ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَ فِيمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ..
وَأَمَّا مَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ فَضْلُ إمَامٍ عَلَى إمَامٍ، أَوْ شَيْخٍ عَلَى شَيْخٍ، بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ، كَمَا تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ أَيُّمَا أَفْضَلُ التَّرْجِيعُ فِي الْأَذَانِ أَوْ تَرْكُهُ، وَإِفْرَادُ الْإِقَامَةِ أَوْ إثْنَاؤُهَا وَصَلَاةُ الْفَجْرِ بِغَلَسٍ أَوْ الْإِسْفَارُ بِهَا، وَالْقُنُوتُ فِي الْفَجْرِ أَوْ تَرْكُهُ، وَالْجَهْرُ بِالتَّسْمِيَةِ أَوْ الْمُخَافَتَةُ بِهَا، أَوْ تَرْكُ قِرَاءَتِهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذِهِ مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ أَقَرَّ الْآخَرَ عَلَى اجْتِهَادِهِ مَنْ كَانَ فِيهَا أَصَابَ الْحَقَّ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَمَنْ كَانَ قَدْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ، وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ، فَمَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ تَقْلِيدُ الشَّافِعِيِّ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ تَقْلِيدُ مَالِكٍ، وَمَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ تَقْلِيدُ أَحْمَدَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ تَقْلِيدُ الشَّافِعِيِّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَلَا أَحَدَ فِي الْإِسْلَامِ يُجِيبُ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ بِجَوَابٍ عَامٍّ أَنَّ فُلَانًا أَفْضَلُ مِنْ فُلَانٍ فَيُقْبَلُ مِنْهُ هَذَا الْجَوَابُ، لِأَنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تُرَجِّحُ مَتْبُوعَهَا، فَلَا تَقْبَلُ جَوَابَ مَنْ يُجِيبُ بِمَا يُخَالِفُهَا فِيهِ، كَمَا أَنَّ مَنْ يُرَجِّحُ قَوْلًا أَوْ عَمَلًا لَا يَقْبَلُ قَوْلَ مَنْ يُفْتِي بِخِلَافِ ذَلِكَ، لَكِنْ إنْ كَانَ الرَّجُلُ مُقَلِّدًا لِمَنْ يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ أَنَّهُ أَوْلَى بِالْحَقِّ.
وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا اجْتَهَدَ وَاتَّبَعَ مَا يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ أَنَّهُ الْحَقُّ وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا.وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] . لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَّبِعَ هَوَاهُ وَلَا يَتَكَلَّمَ بِغَيْرِ عِلْمٍ. قَالَ تَعَالَى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66] . وَقَالَ تَعَالَى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} [الأنفال: 6] . وَمَا مِنْ إمَامٍ إلَّا لَهُ مَسَائِلُ يَتَرَجَّحُ فِيهَا قَوْلُهُ عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ. وَلَا يَعْرِفُ هَذَا التَّفَاضُلَ إلَّا مَنْ خَاضَ فِي تَفَاصِيلِ الْعِلْمِ.الفتاوى الكبرى (4/449).انتهى كلامه .
وقال ابن القيم : وَمِنْهَا: الدُّعَاءُ بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ، وَالتَّعَزِّي بِعَزَائِهِمْ، كَالدُّعَاءِ إِلَى الْقَبَائِلِ وَالْعَصَبِيَّةِ لَهَا وَلِلْأَنْسَابِ، وَمِثْلُهُ التَّعَصُّبُ لِلْمَذَاهِبِ، وَالطَّرَائِقِ، وَالْمَشَايِخِ، وَتَفْضِيلُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ بِالْهَوَى وَالْعَصَبِيَّةِ، وَكَوْنُهُ مُنْتَسِبًا إِلَيْهِ، فَيَدْعُو إِلَى ذَلِكَ وَيُوَالِي عَلَيْهِ، وَيُعَادِي عَلَيْهِ، وَيَزِنُ النَّاسَ بِهِ، كُلُّ هَذَا مِنْ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ. زاد المعاد في خير هدي العباد (2/431). انتهى كلامه .
وإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز لأحد التعصب مهما كانت دواعيه ؛ فعدم قبول الحق إلا من طائفتهم من أكبر التعصب ، وهو ديدن أصحاب البدع وأهواء ؛ ولأجل ذلك تراهم يعتمدون على أقوال أصحابهم ومشايخهم، أكثر من اعتمادهم على النصوص الشرعية، ويزعمون فوق ذلك أنهم أصحاب الحق وحدهم، وأن من عداهم فهم أصحاب الضلال، ويدعون أنهم هم الطائفة المنصورة والفرقة الناجية دون من سواهم، وأنهم هم أهل السنة والجماعة، أو الموحدين الحقيقيين ، وأن غيرهم أهل البدعة والإرجاء والتجهم. وعدم قبول الحق إلا من الطائفة التي يهواها الإنسان ويحبها وينتمي إليها، سبب للابتداع وترك الاتباع، وسبب للتحزب والتفرق ، وهو شعار أهل الفرقة ، وسبب للضلال ورد الحق وعدم الاعتراف به .. وقد وصف الله اليهود بهذا الوصف، ولعنهم لأجل تلبسهم به، فقال سبحانه: {ولما جاءهم كتاب ٌ من عند الله مصدق ٌ لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} . أي عرفوا الحق وأنه هو الذي وصف لهم ، حتى أنهم يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم ولكنهم حسدوا ولم يعترفوا به بل كذبوه وردوا الحق الذي دعاهم إليه .
قال شيخ الإسلام بعد ذكره لهذه الآية: (فوصف اليهود: أنهم كانوا يعرفون الحق قبل ظهور الناطق به والدعي إليه، فلما جاءهم الناطق به من غير طائفتهم التي يهوونها لم ينقادوا له، وأنهم لا يقبلون الحق إلا من الطائفة التي هم منتسبون إليها.
وقال أيضا - وهذا يبتلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة معينة في العلم أو الدين من المتفقهة أو المتصوفة أو غيرهم، أو إلى رئيس معظم عندهم في الدين غير النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم لا يقبلون من الدين رأيا ً ورواية ً إلا ما جاءت به طائفتهم ... ) .
فهذا هو حال أهل الابتداع، وهذه أظهر الأسباب التي حملتهم على الوقوع في البدع، ولا يخلو مبتدع من سبب من هذه الأسباب إن لم تكن كلها أو معظمها فيه، فهو يتبع دينا ً مبدلا ً أو منسوخا ً.
قال الشيخ المعلمي : الوجه الثاني : أن يكون قد صار له في الباطل جاه وشهرة ومعيشة ، فيشق عليه أن يعترف بأنه باطل فتذهب تلك الفوائد .الوجه الثالث : الكبر ، يكون الإنسان على جهالة أو باطل ، فيجئ آخر فيبين له الحجة، فيرى أنه إن اعترف كان معنى ذلك اعترافه بأنه ناقص ,وأن ذلك الرجل هو الذي هداه ، و لهذا ترى من المنتسبين إلى العلم من لا يشق عليه الاعتراف بالخطأ إذا تبين له ببحثه ونظره ,ويشق عليه ذلك إذا كان غيره هو الذي بين له.
الوجه الرابع : الحسد ، وذلك إذا كان غيره هو الذي بين الحق فيرى أن اعترافه بذلك الحق يكون اعترافا لذلك المبين بالفضل والعلم والإصابة ، فيعظم ذاك في عيون الناس ، ولعله يتبعه كثير منهم ، وإنك لتجد من المنتسبين إلى العلم من يحرص على تخطئة غيره من العلماء و لو بالباطل حسدا منه لهم ، ومحاولة لحط منزلتهم عند الناس .
"وقال الشيخ العثيمين في شرح رياض الصالحين (3/537) الإنسان يؤتى إليه بالأدلة من الكتاب والسنة، ويُقال: هذا كتاب الله، هذه سنة رسول الله، ولكنه لا يقبل؛ بل يستمر على رأيه، فهذا ردٌّ الحق والعياذ بالله.
وكثيرٌ من الناس ينتصر لنفسه، فإذا قال قولاً لا يمكن أن يتزحزح عنه، ولو رأى الصواب في خلافه، ولكن هذا خلاف العقل وخلاف الشرع.والواجب أن يرجع الإنسان للحق حيثما وجده، حتى لو خالف قوله فليرجع إليه، فإن هذا أعز له عند الله، وأعز له عند الناس، وأسلم لذمته وأبرأ ولا يضره.
فلا تظن أنك إذا رجعت عن قولك إلى الصواب أن ذلك يضع منزلتك عند الناس؛ بل هذا يرفع منزلتك، ويعرف الناس أنك لا تتبع إلى الحق، أما الذي يعاند ويبقى على ما هو عليه ويرد الحق، فهذا متكبر والعياذ بالله.
وهذا الثاني يقع من بعض الناس والعياذ بالله حتى من طلبة العلم، يتبين له بعد المناقشة وجه الصواب وأن الصواب خلاف ما قاله بالأمس، ولكنه يبقى على رأيه، يملي عليه الشيطان أنه إذا رجع استهان الناس به، وقالوا هذا إنسان إمعة كل يوم له قول، وهذا لا يضر إذا رجعت إلى الصواب، فليكن قولك اليوم خلاف قولك بالأمس، فالأئمة الأجلة كان لهم في المسألة الواحدة أقوال متعددة.وها هو الإمام أحمد رحمه الله إمام أهل السنة، وأرفع الأئمة من حيث اتباع الدليل وسعة الاطلاع، نجد أن له في المسألة الواحدة في بعض الأحيان أكثر من أربعة أقوال، لماذا؟ لأنه إذا تبين له الدليل رجع إليه، وهكذا شأن كل إنسان منصف عليه أن يتبع الدليل حيثما كان.قلت وكذلك الإمام مالك والشافعي وغيرهما رحم الله الجميع أنهم لهم في المسألة الواحدة أقوال وذلك أنهم إذا تبين لهم الصواب في المسألة رجعوا عن قولهم وخطئهم إلى الحق واعترفوا به فرفع الله من شانهم وقدرهم ولم ينقص ذلك من مكانتهم عند الناس فضلا عن العلماء وطلاب العلم .
وأختم هذه السلسلة المباركة بدرة من درر ابن القيم رحمه الله من الكافية الشافية في عقد الفرقة الناجية حيث قال :
وتعر من ثوبين من يلبسهما ... يلقى الردى بمذمة وهوان
ثوب من الجهل المركب فوقه ... ثوب التعصب بئست الثوبان
وتحل بالإنصاف أفخر حلة ... زينت بها الأعطاف والكتفان
نسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقا ويرزقنا ابتاعه ويرينا الباطل باطلا ويجنبنا اتباعه ، كما نسأله سبحانه أن يجنبنا الهوى وحظوظ النفس وأن يرزقنا الإخلاص والإنصاف إنه سميع مجيب قريب ..

أبو عبد المصور مصطفى الجزائري
08-Aug-2014, 04:47 PM
جزاك الله خيرا شيخنا

أبو عبد المصور مصطفى الجزائري
02-Oct-2016, 11:16 PM
جزاكم الله خيرا

أبو الوليد خالد الصبحي
16-Jul-2017, 05:43 AM
جربتم خيرا شيخنا وبارك الله في جهودكم

أبو يوسف عبدالله الصبحي
17-Jul-2017, 04:47 PM
جزاك الله خيرا شيخنا

أبو ريحانة عصام الليبي
19-Nov-2017, 09:17 AM
جزاكم الله خيراً وأحسن إليكم يا شيخ. حبذا لو أفردتم هذا الموضوع المهم في رسالة مطبوعة لمسيس الحاجة إاليه.
وهذه إضافة للموضوع
قال العلَّامة الشوكاني -كما في «أدب الطلب» (ص 66): «ومن الآفات المانعة عن الرجوع إلى الحق أن يكون المتكلم بالحق حدث السن بالنسبة إلى من يناظره، أو قليل العلم والشهرة في الناس، والآخر بعكس ذلك؛ فإنه قد تحمله حمية الجاهلية والعصبية الشيطانية على التمسك بالباطل أنفة منه عن الرجوع إلى قول من هو أصغر منه سنًّا، أو أقل منه علما أو أخفى منه شهرة؛ ظنا منه أن في ذلك عليه ما يحطّ منه وينقص ما هو فيه. وهذا الظن فاسد؛ فإن الحط والنقص إنما هو في التصميم على الباطل، والعلو والشرف في الرجوع إلى الحق، بِيَدِ من كان، وعلى أيّ وجه حصل».

أبو عبد المصور مصطفى الجزائري
02-Dec-2017, 06:35 PM
نفع الله بكم جميعا

أبو عبد المصور مصطفى الجزائري
12-Oct-2018, 09:00 PM
يرفع للفائدة