المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مذهب التفويض في الصفات من شر أقوال أهل البدع والإلحاد مقالة قصيرةكتبها:أبو عمارعلي الحذيفي حفظه الله



أبو خالد الوليد خالد الصبحي
20-May-2010, 02:34 PM
مذهب
التفويض في الصفات
من شر أقوال أهل البدع والإلحاد


مقالة قصيرة كتبها:
أبو عمار علي الحذيفي
حفظه الله
قال شيخ الإسلام في "درء تعارض العقل والنقل" (1/115) تحقيق د.محمد رشاد سالم:
(فتبين أن قول أهل التفويض - الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف - من شر أقوال أهل البدع والإلحاد).
وقال رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (108-109):
(ولا يجوز أيضا أن يكون الخالفون أعلم من السالفين كما قد يقوله بعض الأغبياء - ممن لم يقدر قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها - من أن "طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم).







مقدمة:


الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
فإن سلف الأمة اتفقوا على الإيمان بما وصف الله به نفسه لأنه أعلم بنفسه من غيره، وعلى الإيمان بما وصف به رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه أعلم الخلق به تعالى من غير تمثيل ولا تعطيل.
قال ابن عبد البر رحمه الله في "التمهيد"(6/134-135): (أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة.
وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة والخوارج كلها فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه) أ.هـ
هذا هو مذهب السلف، ثم حدث عند المتأخرين اضطراب عظيم في باب "الصفات" ولاسيما عند الأشاعرة، فمتأخروهم مضطربون ما بين التأويل والتفويض حتى قال صاحب "جوهرة التوحيد":
وكل نص أوهم التشبيها أوله أو فوضه ورم تنزيها!!
وقد اغتر بعض الناس بهذا المذهب فأحببت أن أكتب مختصرا أبين فيه حقيقة مذهب التفويض وأنه من أردى المذاهب، وأن وقوع بعض الناس فيه لا يسوغه ولا يعطيه صلاحية، وقد أسميت هذا الاختصار: (مذهب التفويض من شر أقوال أهل البدع والإلحاد) ذكرت فيه ما كان عليه مذهب سلف الأمة وأئمتها من إثبات "الأسماء والصفات" الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبيان خطأ من فوض معاني الصفات الواردة في الكتاب والسنة، فضلا عن أن ينسب القول بتفويض الصفات إلى سلف الأمة، وقد قسمته إلى فصول مختصرة، وهي كما يلي:
الفصل الأول: حقيقة التفويض.
الفصل الثاني: مذهب السلف هو إثبات الصفات.
الفصل الثالث: فساد القول بتفويض الصفات.
الفصل الرابع: أضرار القول بتفويض الصفات.
الفصل الخامس: مناقشة بعض حججهم على التفويض.
الفصل السادس: بعض من وقع في التفويض.


الفصل الأول: حقيقة التفويض:


لتفويض: لغة من فوض إليه الأمر صيره إليه وجعله الحاكم فيه، وتفويض العبد أمره إلى الله يعني اتكاله عليه تعالى ومن ذلك قوله تعالى قال الله جل وعز: (فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله)، أي أتكل عليه، وفي حديث البراء بن عازب: (ثم قل اللهم أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك)، أي رددته إليك، ويأتي بمعنى الترك، ويقال: امرأة مفوضة أي: لم يسم لها مهر، ويأتي التفويض على معاني أخرى.
وأما التفويض اصطلاحا: فيعنون به في باب "الصفات" هو الإيمان بألفاظها وترك التعرض لمعناها بنفي أو إثبات، فالإيمان بالصفات هو الإيمان بحروف لا معاني لها ولا حقائق، وهذا القول هو قول المعطلة من الجهمية وغيرهم، ولا يدفع ذلك وقوع بعض أفاضل العلماء فيه، فإن الخطأ لا يسوغه وقوع الفاضل فيه كما هو معلوم من أصول الشريعة، ولهذا أمثلة كثيرة منها القول ببطلان المجاز وفساده، وإن قوع بعض الأفاضل فيه لا يعني أنه قول صحيح.
ومن هنا نستطيع أن نقول: إن الواجب في الصفات إثبات معانيها الواردة فيها والمشتملة عليها، فالإثبات الصحيح: هو إثبات اللفظ والمعنى وليس اللفظ فقط دون المعنى، والتفويض الصحيح إنما يكون في كيفية الصفات لا في معانيها، وقد لخص الإمام مالك ذلك بقوله: (الإستواء معلوم، والكيف مجهول) فنحن نؤمن بمعاني الصفات ونرد علم كيفية هذه الصفات إلى الله تعالى.


الفصل الثاني: مذهب السلف هو إثبات الصفات:



1- مذهب السلف بالإجماع هو إثبات الصفات:


سار سلفنا الصالح جميعا من الصحابة والتابعين وأتباعهم ومن بعدهم من أئمة الإسلام كلهم على إثبات الأسماء والصفات والإيمان بمعانيها وحقائقها، فهذا هو نهجهم القويم وطريقهم المستقيم.
1- قال الترمذي رحمه الله في "السنن" بعد حديث النزول:
(وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات في الصفات، ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، قالوا: قد تثبت الروايات في هذا، ويؤمن بها ولا يتوهم، ولا يقال كيف، هكذا روي عن مالك وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث: "أمروها بلا كيف"، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة).
2- قال ابن عبد البر رحمه الله في "التمهيد"(6/134-135): (أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة.
وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة والخوارج كلها فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه) أ.هـ
تأمل في قوله رحمه الله: (أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة...وحملها على الحقيقة).
وتأمل في قوله: (وأما أهل البدع فكلهم لا يحمل شيئاً منها على الحقيقة).
3- وقال الخطيب البغدادي كما في "سير أعلام النبلاء": (وأما الكلام في الصفات فإن ما روي منها في "السنن" "الصحاح" مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها) أ.هـ
4- قال أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي رحمه الله: (أما ما سألت عنه من الكلام في الصفات وما جاء منها في الكتاب والسنة الصحيحة فإن مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظاهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها).
قال الذهبي بعد نقله قول الخطابي هذا:
(وكذا نقل الاتفاق عن السلف في هذا الحافظ أبو بكر الخطيب ثم الحافظ أبو القاسم التيمي الإصبهاني).
5- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" (5 / 195):
(ومذهب سلف الأمة وأئمتها: أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، فلا يجوز نفي صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه، ولا يجوز تمثيلها بصفات المخلوقين، بل هو سبحانه: "ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير" ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله) أ.هـ
6- وقال ابن القيم كما في "مختصر الصواعق المرسلة": (تنازع الناس في كثير من الأحكام ولم يتنازعوا في آيات الصفات، وأخبارها في موضع واحد، بل اتفق الصحابة والتابعون على إقرارها وإمرارها مع فهم معانيها، وإثبات حقائقها أعني فهم أصل المعنى، لا فهم الكنه والكيفية).
7- قال الذهبي في "العلو للعلي الغفار": (وقولنا في هذه الأحاديث أننا نؤمن بما صح منها وبما اتفق السلف على إمراره وإقراره) أ.هـ
وقال في الكتاب نفسه معلقا على قول مالك "الاستواء معلوم": (هذا ثابت عن مالك، وتقدم نحوه عن ربيعة شيخ مالك وهو قول أهل السنة قاطبة أن كيفية الإستواء لا نعقلها، بل نجهلها وأن إستواءه معلوم كما أخبر في كتابه وأنه كما يليق به) أ.هـ
وقال رحمه الله في "سير أعلام النبلاء":
(قلت: قد فسر علماء السلف المهم من الألفاظ وغير المهم وما أبقوا ممكنا، وآيات الصفات وأحاديثها لم يتعرضوا لتأويلها، ألا وهم أهل الدين فلو كان تأويلها سائغا أو حتما لبادروا إليه، فعلم قطعا أن قراءتها وإمرارها على ما جاءت هو الحق لا تفسير لها غير ذلك، فنؤمن بذلك، ونسكت اقتداء بالسلف، معتقدين أنها لا تشبه صفات المخلوقين) أ.هـ
8- وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في "تفسيره":
(وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل) أ.هـ


2- تصريح سلفنا الصالح بإثبات معاني الصفات:


1- قال الأوزاعي رحمه الله : (سئل الزهري ومكحول عن آيات الصفات فقالا: "أمروها كما جاءت").
وسيأتي بيان ما معنى كما جاءت إن شاء الله تعالى.
وقال الأوزاعي رحمه الله: (كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله سبحانه على عرشه، ونؤمن بما ورد في السنة من الصفات).
2- قال الذهبي في (العلو/ مختصره) عن سفيان الثوري: (وقد بث هذا الإمام الذي لا نظير له في عصره شيئا كثيرا من أحاديث الصفات ومذهبه فيها الإقرار والإمرار والكف عن تأويلها).
3- وروى الآجري في "الشريعة" عن الوليد بن مسلم رحمه الله أنه قال: (سئل مالك والأوزاعي والليث بن سعد وسفيان الثوري رحمهم الله عن الأخبار الواردة في الصفات فقالوا جميعا: "أمروها كما جاءت بلا كيف").
4- وذكر ابن قدامة في "ذم التأويل" عن أحمد بن نصر أنه سأل سفيان بن عيينة فقال: حديث عبد الله: (إن الله يجعل السماء على إصبع) وحديث: (إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن)، (وإن الله يعجب أو يضحك ممن يذكره في الأسواق)، (وإنه عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة ) ونحو هذه الأحاديث فقال: "هذه الأحاديث نرويها ونقر بها كما جاءت بلا كيف"). قلت: وقوله: (ونقر بها) أي: نقر بمعناها الذي جاءت به.
5- وقال يزيد بن هارون: (من زعم أن "الرحمن على العرش استوى" على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي). قلت: وما في القلوب إنما هي معنى الاستواء وهو العلو والارتفاع.
قال الذهبي في (العلو/ مختصره): ("والعامة" مراده بهم جمهور الأمة وأهل العلم) أ.هـ
6- روى اللالكائي في "أصول الاعتقاد" عن أبي عبيد أنه قال: (هذه الأحاديث عندنا حق يرويها الثقات بعضهم عن بعض إلا أنا إذا سئلنا عن تفسيرها قلنا ما أدركنا أحدا يفسر منها شيئا ونحن لا نفسر منها شيئا نصدق بها ونسكت).
7- قال أبو جعفر الطحاوي في "عقيدته": (ذكر بيان السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة وأبي يوسف وأبي محمد رضي الله عنهم ...) ثم ذكر في هذه العقيدة بنحو ما تقدم عن السلف من الإيمان بنصوص الصفات.
8- قال الإمام مالك: (الاستواء معلوم والكيف مجهول – وفي لفظ: غير معقول – والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة) رواه اللالكائي وغيره، وله ألفاظ مختلفة أكثرها صحيحة، وقد خرجها بعض المعاصرين برسالة مستقلة.
وقوله: "معلوم" أي معروف المعنى، والإيمان به واجب أي: الإيمان بمعنى الاستواء واجب، والسؤال عنه بدعة أي: السؤال عن كيف الاستواء.
وما قاله الإمام مالك في صفة الاستواء ينسحب على جميع معاني الصفات لأنه يتكلم عن منهج السلف في الصفات كلها لا في صفة واحدة، بل ينسحب على جميع الأمور الغيبية فنؤمن بحقائقها وإن جهلنا كيفيتها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (13/309) معقبا على قول مالك في الاستواء:
(وقد تلقى الناس هذا الكلام بالقبول، فليس في أهل السنة من ينكره، وقد بين أن الاستواء معلوم، كما أن سائر ما أخبر به معلوم، ولكن الكيفية لا تعلم ولا يجوز السؤال عنها، لا يقال: كيف استوى ؟ ولم يقل مالك رحمه الله الكيف معدوم، وإنما قال: "الكيف مجهول").
وقد يحرف كلام الإمام مالك عن المعنى الحقيقي فيحمل على أن الاستواء معلوم من حيث اللفظ لا المعنى، وقد أجاب شيخ الإسلام عن ذلك فقال كما في "مجموع الفتاوى" (13/309):
(فإن قيل: معنى قوله: "الاستواء معلوم" أن ورود هذا اللفظ في القرآن معلوم كما قاله بعض أصحابنا الذين يجعلون معرفة معانيها من التأويل الذي استأثر الله بعلمه، قيل: هذا ضعيف، فإن هذا من باب تحصيل الحاصل فإن السائل قد علم أن هذا موجود في القرآن وقد تلا الآية.
وأيضا فلم يقل: ذكر الاستواء في القرآن ولا إخبار الله بالاستواء، وإنما قال: "الاستواء معلوم". فأخبر عن الاسم المفرد أنه معلوم لم يخبر عن الجملة. وأيضا فإنه قال: "والكيف مجهول" ولو أراد ذلك لقال معنى الاستواء مجهول أو تفسير الاستواء مجهول أو بيان الاستواء غير معلوم، فلم ينف إلا العلم بكيفية الاستواء لا العلم بنفس الاستواء).
وقال الذهبي رحمه الله في "العلو" تعليقا على كلام مالك:
(وهو قول أهل السنة قاطبة أن كيفية الاستواء لا نعقلها بل نجهلها، وأن استواءه معلوم كما أخبر في كتابه، وأنه كما يليق به) أ.هـ
9- ونقل شيخ الإسلام في "تلبيس الجهمية" عن القاضي أبي يعلى أنه قال: (لا يجوز رد هذه الأخبار، ولا التشاغل بتأويلها والواجب حملها على ظاهرها، وأنها من صفات الله، لا تشبه بسائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها، لكن على ما روي عن الإمام أحمد وسائر الأئمة).
10- قال شيخ الإسلام رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (5/109): (مثل أن الله تعالى فوق العرش فإن من تأمل كلام السلف المنقول عنهم - الذي لم يحك هنا عشره - علم بالاضطرار أن القوم كانوا مصرحين بأن الله فوق العرش حقيقة وأنهم ما اعتقدوا خلاف هذا قط وكثير منهم قد صرح في كثير من الصفات بمثل ذلك).
11- قال العلامة ابن القيم في "الصواعق المرسلة":
(ولم يتنازعوا في تأويل آيات الصفات وأخبارها في موضع واحد بل اتفقت كلمتهم وكلمة التابعين بعدهم على إقرارها وإمرارها مع فهم معانيها وإثبات حقائقها وهذا يدل على أنها أعظم النوعين بيانا وأن العناية ببيانها أهم لأنها من تمام تحقيق الشهادتين وإثباتها من لوازم التوحيد فبينها الله ورسوله بيانا شافيا لا يقع فيه لبس ولا إشكال يوقع الراسخين في العلم في منازعة ولا اشتباه ومن شرح الله لها صدره ونور لها قلبه يعلم أن دلالتها على معانيها أظهر من دلالة كثير من آيات الأحكام على معانيها، ولهذا آيات الأحكام لا يكاد يفهم معانيها إلا الخاصة من الناس، وأما آيات الأسماء والصفات فيشترك في فهمها الخاص والعام).
12- وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" عند كلامه على قول الله عز وجل: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش):
(للناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدا ليس هذا موضع بسطها وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل).
13- قال سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله:
(ومن الإيمان بالله أيضا الإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العلى الواردة في كتابه العزيز، والثابتة عن رسوله الأمين من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، بل يجب أن تمر كما جاءت بلا كيف مع الإيمان بما دلت عليه من المعاني العظيمة التي هي أوصاف لله عز وجل يجب وصفه بها على الوجه اللائق به من غير أن يشابه خلقه في شيء من صفاته ، كما قال تعالى: "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"، وقال تعالى: "فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون").
وقال سماحة الشيخ عبد العزيز في رده على محمد علي الصابوني وهو من أشاعرة "الإخوان المسلمين":
(ذكر الصابوني في مقاله الثاني أن أهل السنة اشتهروا بمذهبين اثنين أحدهما مذهب السلف والآخر مذهب الخلف... إلخ.
والجواب أن يقال: هذا غلط بين لم يسبقه إليه أحد فيما أعلم، فإن مذهب أهل السنة واحد فقط وهو ما درج عليه أصحاب رسول الله وأتباعهم بإحسان وهو إثبات أسماء الله وصفاته وإمرارها كما جاءت, والإيمان بأنها حق وأن الله سبحانه موصوف بها على الوجه الذي يليق بجلاله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ولا تأويل لها عن ظاهرها ولا تفويض، بل يؤمنون بأن معانيها معلومة وأنها حقا لائقة بالله سبحانه وتعالى لا يشابه خلقه في شيء منها, ومذهب الخلف بخلاف ذلك كما يعلم ذلك من قرأ كلام هؤلاء وكلام هؤلاء، ثم ذكر أن أهل السنة يفوضون علم معاني الصفات إلى الله وكرر ذلك في غير موضع وقد أخطأ في ذلك ونسب إليهم ما هم براء منه كما تقدم بيان ذلك فيما نقلناه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن جمع من أهل السنة رحمة الله عليهم وإنما يفوض أهل السنة إلى الله سبحانه علم الكيفية لا علم المعاني كما سبق إيضاح ذلك).
14- وزعم المستشار أحد "الإخوان المسلمين" وهو سالم البهنساوي أن مذهب التفويض الذي سلكه حسن البنا هو مذهب السلف، فرد عليه الشيخ صالح الفوزان قائلا: (وهذا مذهب باطل لا تجوز نسبته إلى السلف كما توهمه الكاتب حين قال: ("والشيخ حسن البنا عندما أشار إلى التفويض، قال: إنه عقيدة السلف). فقد أخطأ حسن البنا وأخطأ الكاتب في نسبته هذا المذهب الباطل إلى السلف) أ.هـ كلام الفوزان.
15- وقال الشيخ عبد المحسن العباد في "شرح مقدمة القيرواني":
(وما جاء في كلام الجويني من أن السلف يفوضون معاني الصفات ... غير صحيح، فإنهم يفوضون في الكيف ولا يفوضون في المعنى، كما جاء عن مالك رحمه الله، فقد سئل عن كيفية الاستواء؟ فقال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة").
وقال: (ومن زعم أن طريقة السلف من الصحابة ومن تبعهم التفويض في معاني الصفات، فقد وقع في محاذير ثلاثة هي: جهله بمذهب السلف، وتجهيله لهم، والكذب عليهم).


الفصل الثالث: فساد القول بتفويض الصفات:


والقول بمذهب التفويض فاسد في نفسه فكيف بنسبته إلى مذهب السلف، وفساده معلوم من عدة وجوه ذكرها أئمة الإسلام ومنهم شيخ الإسلام رحمه الله وغيره، ولكني أقتصر على بعض الأجوبة، فمن ذلك:


الوجه الأول:


أن القول بتفويض معاني الصفات مخالف لما أمرنا الله به من تدبر القرآن وتأمل معانيه والبحث عن أسراره، إذ كيف يكون ذلك مطلوبا ثم يكون القرآن لا معاني له !!، فإن الله تعالى أنزل القرآن بألفاظ ومعاني، ومن قال: بأن كلمات القرآن ألفاظ فقط لا معاني لها فكأنه يقول: إنها أحرف أعجمية لا نفهم المراد منها وهذا من أبعد الأقوال، فإن القرآن كلام عربي والكلام عند العرب وغيرهم له ألفاظ ومعاني والألفاظ هي قوالب المعاني لأن الألفاظ لا تراد لذاتها بل تراد لما تحمله من المعاني الذي يريدها المتكلم، وإذا كان هذا في كلام الناس بكيف بكلام رب العالمين الذي أنزله الله لهداية الناس به ويصدرون عنه ويرجعون إليه.
قال شيخ الإسلام في "درء تعارض العقل والنقل" (1/115):
(فإن من المعلوم أن الله تعالي أمرنا أن نتدبر القرآن وحضنا على عقله وفهمه فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله).


الوجه الثاني:


أن القول بتفويض معاني الصفات يفتح الباب للزنادقة والملحدين والمنكرين للبعث النشور وغير ذلك، فإن تفويض معاني الصفات دفع هؤلاء الملاحدة لتفويض معاني البعث والنشور وغيرها، فإذا قال أهل الحق: إن الله تعالى قد أخبر عن أمور البعث والنشور وحشر الخلائق في يوم لا ريب فيه، قال أهل الإلحاد: هذا شيء لا حقيقة له ولا معنى له وإنما هي ألفاظ لا حقائق تحتها ولا معاني وراءها، فإذا قيل: كيف يكون لا حقيقة له وقد أخبر الله عنه ودعت إليه الرسل واتفقت على الإيمان به كل الأمم ؟ قيل: وكيف تفوضون معاني الصفات وهي مما أخبر الله عنها في كتابه ودعا إليها الرسل واتفقت عليها الأمم ؟.
قال شيخ الإسلام في "درء تعارض العقل والنقل" (1/115):
(وبهذا احتج الملاحدة كابن سينا وغيره علي مثبتي المعاد وقالوا: القول في نصوص المعاد كالقول في نصوص التشبيه والتجسيم، وزعموا أن الرسول صلي الله عليه وسلم لم يبين ما الأمر عليه في نفسه لا في العلم بالله تعالي ولا باليوم الآخر فكان الذي استطالوا به علي هؤلاء هو موافقتهم لهم علي نفي الصفات وإلا فلو آمنوا بالكتاب كله حق الإيمان لبطلت معارضتهم ودحضت حجتهم).


الوجه الثالث:


أنه يقال لمن اعتقد أن مذهب السلف هو تفويض المعاني: إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم معاني هذه الصفات فبلغها، أو كتمها عن أمته، أو كان لا يعلمها أصلا، والقولان الأخيران باطلان.
قال شيخ الإسلام في "درء تعارض العقل والنقل" (1/115):
(فيبقي هذا الكلام سدا لباب الهدي والبيان من جهة الأنبياء وفتحا لباب من يعارضهم ويقول: إن الهدي والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء لأنا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون: فضلا عن أن يبينوا مرادهم، فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد).
وشيخ الإسلام هنا يتكلم عن المذهب نفسه لا عمن وقع فيه من أفاضل هذه الأمة فبعض من وقع فيه له عذره فيما بينه وبين الله تعالى.


الوجه الرابع:


أن القول بأنها ألفاظ لا حقائق تحتها معناه أن طريقة السلف هي الإيمان بألفاظ من غير فقه ولا فهم لمعانيها، ولذلك فهم بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون) ونزلة الحمار يحمل أسفارا ولا يعرف ما فيها، ولا شك أنهم أرفع وأعظم من مثل هذا.
قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى"(5/8-9):
(ولا يجوز أيضا أن يكون الخالفون أعلم من السالفين كما قد يقوله بعض الأغبياء ممن لم يقدر قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها من أن "طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم" وإن كانت هذه العبارة إذا صدرت من بعض العلماء قد يعني بها معنى صحيحا، فإن هؤلاء المبتدعين الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم على طريقة السلف: إنما أتوا من حيث ظنوا: أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم: "ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني" وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات، فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السلف وضلوا في تصويب طريقة الخلف فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف) أ.هـ
عبارة: (طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم) موجودة عند الإخوان المسلمين ومشتهرة بينهم يقولونها على أنها من جوامع الكلم، وقائلها عند شيخ الإسلام من الأغبياء وممن لم يقدر قدر السلف، بل لم عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة، فهل سيعترف "الإخوان المسلمون" بهذا الخطأ ؟!.
قال شارح الطحاوية: (لأن الإيمان باللفظ بلا معنى هو من جنس إيمان أهل الكتاب كما قال تعالى: "مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا"، وقال تعالى: "ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون" أي إلا تلاوة من غير فهم معناه).


الوجه الخامس:


أن القائلين بهذا القول متناقضون في أنفسهم لم يسيروا على قواعد ثابتة، فقد قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" (3/26):
(ولهذا لا يوجد لنفاة بعض الصفات دون بعض - الذين يوجبون فيما نفوه: إما التفويض وإما التأويل المخالف لمقتضى اللفظ - قانون مستقيم، فإذا قيل لهم: لم تأولتم هذا وأقررتم هذا والسؤال فيهما واحد ؟ لم يكن لهم جواب صحيح فهذا تناقضهم في النفي وكذا تناقضهم في الإثبات) أ.هـ
الفصل الرابع: أضرار القول بتفويض الصفات:
القول بتفويض الصفات قول فاسد في نفسه وتترتب عليه مفاسد وأضرار، منها:
الأول: سد باب العلم وقطع الطريق عن تدبر كلام الله والتأمل في معانيه.
الثاني: وصف القرآن بما لا يليق به حيث زعموا أنه أحرفا لا حقائق تحتها، وألفاظا لا معاني وراءها.
الثالث: تجهيل السلف الصالح وتضليلهم لأنهم زعموا أن سلفنا كانوا يفوضون، فهذا يتضمن اتهامهم بأنهم كانوا لا يعرفون معاني القرآن ولا يفهمون مغازيه فهو مذهب قائم على التجهيل كما سماه شيخ الإسلام وتلميذه العلامة ابن القيم.


الفصل الخامس: مناقشة بعض حججهم على التفويض:



الاحتجاج الأول:


استنادهم إلى قول الإمام أحمد: (نمرها كما جاءت بلا كيف ولا معنى):
ومناقشة الاحتجاج بهذه الرواية من أوجه جمعتها من أجوبة أجاب بها بعضهم عن هذا الإشكال:
1- هذه الرواية إنما جاءت من طريق حنبل بن إسحاق بن حنبل – وهو ابن عم الإمام أحمد كما في "طبقات الحنابلة" لأبي يعلى – وقد روى عن الإمام أحمد المناظرة التي وقعت للإمام أحمد مع الجهمية، فنقل عنه أشياء أخطأ فيها من ذلك أنه قال لهم في قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل) قال: (أتى أمره) وهذه الرواية يستدل به الجهمية في هذا العصر مثل الجهمي "حسن السقاف" ولا حجة لهم فيها.
قال شيخ الاسلام كما في "مجموع الفتاوى"(16/405-406 ): (وقد اختلف أصحاب أحمد فيما نقله حنبل فإنه لا ريب أنه خلاف النصوص المتواترة عن أحمد في منعه من تأويل هذا، و تأويل النـزول والاستواء ونحو ذلك من الأفعال، ولهم ثلاثة أقوال:
قيل: هذا غلط من حنبل انفرد به دون الذين ذكروا عنه المناظرة مثل صالح وعبد الله والمروذي وغيرهم فإنهم لم يذكروا هذا، وحنبل ينفرد بروايات يغلطه فيها طائفة كالخلال وصاحبه.
قال أبو إسحاق ابن شاقلا: "هذا غلط من حنبل لا شك فيه".
وكذلك نقل عن مالك رواية أنه تأول ينـزل إلى السماء الدنيا أنه ينـزل أمره، لكن هذا من رواية حبيب كاتبه وهو كذاب باتفاقهم، و قد رويت من وجه آخر لكن الإسناد مجهول.
والقول الثاني: قال طائفة من أصحاب أحمد هذا قاله إلزاما للخصم على مذهبه لأنهم في يوم المحنة لما احتجوا عليه بقوله تأتي البقرة وآل عمران أجابهم بأن معناه يأتي ثواب البقرة وآل عمران كقوله: "أن يأتيهم الله" أي أمره وقدرته، على تأويلهم لا أنه يقول بذلك فإن مذهبه ترك التأويل.
والقول الثالث: أنهم جعلوا هذا رواية عن أحمد وقد يختلف كلام الأئمة في مسائل مثل هذه لكن الصحيح المشهور عنه رد التأويل وقد ذكر الروايتين ابن الزاغوني وغيره وذكر أن ترك التأويل هي الرواية المشهورة المعمول عليها عند عامة المشايخ من أصحابنا) أ.هـ
وحنبل يهم أحياناً، فقد قال الذهبي في "السير"(3/52): (له مسائل كثيرة عن أحمد، ويتفرد ويغرب).
وقال ابن القيم في "الصواعق/ مختصر": (وهو كثير المفاريد المخالفة للمشهور من مذهبه، وإذا تفرد بما يخالف المشهور عنه، فالخلال وصاحبه عبد العزيز لا يثبتون ذلك رواية، وأبو عبد الله بن حامد وغيره يثبتون ذلك رواية).
ونقل العليمي في "المنهج الأحمد" عن أبي بكر الخلال قوله: (قد جاء حنبل عن أحمد بمسائل أجاد فيها الرواية، وأغرب بشيء يسير).
وممن رد هذا التأويل عن أحمد جماعة منهم شيخ الاسلام كما تقدم، وابن كثير في "البداية والنهاية" وغيرهما، ومنهم شيخنا مقبل رحمه الله، فقد كان يضعف هذه الرواية عن أحمد ويقول: إن حنبل ينقل عن أحمد أشياء ويخطئ فيها، وقد أخطأ في غير ذلك أ.هـ
إذن هذه الرواية تفرد بها حنبل، ثم إن تلك الرواية نفسها رواها اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" بدون لفظة: (لا كيف ولا معنى) حيث قال اللالكائي:
(قال حنبل ابن إسحاق قال: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينزل إلى السماء الدنيا"، فقال أبو عبد الله: "نؤمن بها ونصدق بها، ولا نرد شيئا مما جاء منها إذا كانت أسانيد صحاح، ولا نرد على رسول الله قوله ونعلم أن ما جاء به الرسول حق …).
2- وإن صحت فيجاب عن هذه الرواية بأن يقال: إن أحمد رحمه الله يريد نفي معنى خاصا ابتكره وأحدثه الجهمية فالمنفي في كلام الإمام أحمد هو المعنى الفاسد الباطل المحدث الذي لا يعرف عن سلف هذه الأمة، وليس نفيا عاما لكل معنى، وإنما نقول هذا لأن الإمام أحمد من أعلم الناس بمذهب سلف الأمة وأقوالها فمثله يبعد أن يتعمد مخالفتهم كيف لا وقد قال: (لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز القرآن والحديث)، والله أعلم.
وقال الشيخ ابن عثيمين في تعليقه على عبارة الإمام أحمد في "شرح لمعة الاعتقاد":
(وقوله: (ولا معنى): أي لا نثبت لها معنى يخالف ظاهرها كما فعله أهل التأويل، وليس مراده نفي المعنى الصحيح الموافق لظاهرها الذي فسرها به السلف، فإن هذا ثابت ويدل على هذا قوله ولا نرد شيئاً منها ونصفه بما وصف به نفسه ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت ولا نعلم كيف كنه ذلك، فإن نفيه لرد شيء منها ونفيه لعلم كيفيتها دليل على إثبات المعنى المراد منها).
وقد كان نفي المعنى يعرف بأنه نفي للتأويل ومما يدل على ذلك ما نقله الذهبي في "سير أعلام النبلاء" في ترجمة الخطيب البغدادي حيث قال: (كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل) إلى أن قال: (فإذا قلنا: إن لله يدا وسمعا وبصرا، فإنما هي صفات أثبتها اللَّه لنفسه، فلا نقول: إن معنى اليد القدرة ولا نقول السمع والبصر العلم) أ.هـ
والشاهد قوله: "ولا نقول أن معنى اليد القدرة"، فجعل تسمية اليد بالقدرة معنى، فعرفنا أن نفي المعنى في اصطلاحهم يقصد به شيئان أحدهما: نفي الكيفية أي لا تكييف، أو نفي المعنى الباطل وهو التأويل.
3- وقد جاء في كتاب "تحريم النظر في كتب الكلام" لابن قدامة المقدسي رحمه الله رواية فيها تفسير لمعنى قول الإمام أحمد: "ولا معنى" حيث جاء فيها: (فنقول كما قال ونصفه كما وصف نفسه لا نتعدى ذلك ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت نؤمن بهذه الأحاديث ونقرها ونمرها كما جاءت بلا كيف ولا معنى إلا على ما وصف به نفسه تبارك وتعالى وهو كما وصف نفسه سميع بصير بلا حد ولا تقدير).
وهي أيضا موجودة في رواية عند ابن بطة رحمه الله في كتابه "الإبانة"، في جزء "الرد على الجهمية"، باب بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة: (قال أبو عبد الله: ونحن نؤمن بالأحاديث في هذا ونقرها ونمرها كما جاءت بلا كيف ولا معنى إلا على ما وصف به نفسه تعالى).
إذن يتبين لنا مما تقدم أن القول بأن رواية الإمام أحمد تدل على أنه يفوض المعنى قول غير صحيح وهو من التعلق بالمتشابهات دون حمل بيان ماذا يريد من كلامه.
بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "درء تعارض العقل والنقل" (1/207):
(وقال عبد العزيز بن الماجشون إمام أهل المدينة وأحمد بن حنبل رحمهما الله تعالى: "إنا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به عن نفسه وإن علمنا تفسيره ومعناه) أ.هـ
أي: وإن عرفنا تفسيره ومعناه.


الاحتجاج الثاني:


استدلالهم بقول بعض سلفنا: (بلا تفسير ولا معنى)، وهذا ليس فيه دليل على ما ذكروه فقد بين معناها شيخ الإسلام في "درء تعارض العقل والنقل" (2/31) فقال: (أي: لا نكيفها ولا نحرفها بتأويل) أي: أن معنى قولهم: "بلا تفسير ولا معنى" إنما هو تفسير خاص يشابه قول الجهمية وليس تفسير نصوص الصفات على مقتضى اللغة العربية.
ويشهد لكلام شيخ الإسلام ما جاء عن أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله وهو من كبار الأئمة حيث قال: (ولكن إذا قيل: كيف وضع قدمه ؟ وكيف ضحك ؟ قلنا لا يفسر هذا ولا سمعنا أحدا يفسره) أ.هـ فعرف أنهم يعنون بالتفسير هنا التكييف فقط، ولا يعنون إثبات الصفة.
ومثله ما جاء عن الإمام إسحاق بن راهويه رحمه الله وهو شيخ البخاري ومن أئمة المحدثين حيث قال: (فتأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسر أهل العلم وقالوا: "إن الله لم يخلق آدم بيده"، وقالوا: "إن معنى اليد هنا القوة") وهذا الكلام صريح من إسحاق في أن التفسير المذموم هو إنكار الصفة أو نفيها وتعطيلها.


الاحتجاج الثالث:


استدلالهم بقول السلف: (أمروها كما جاءت):
قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى"(5/39):
(فقولهم رضي الله عنهم: "أمروها كما جاءت" رد على المعطلة وقولهم: "بلا كيف" رد على الممثلة) أ.هـ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" (5/42): (فقولهم: "أمروها كما جاءت" يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظا دالة على معان فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد).
قلت: فهذا يدل على أن معنى قولهم "أمروها كما جاءت" هو إثبات معاني الصفات، وعليه فمن الخطأ أن يفهم قولهم: "أمروها كما جاءت" على أنه لا نعلم معناها كما أراده الله ولا ندري بمحتواها.


الاحتجاج الرابع:


هو استدلالهم بقول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" رحمه الله: (وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظاهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الله تعالى)، وقول السيوطي رحمه الله في "الإتقان": (وجمهور أهل السنة - منهم السلف وأهل الحديث - على الإيمان بها، وتفويض معناها المراد منها إلى الله تعالى، ولا نفسرها مع تنزيهنا له عن حقيقتها)، والشيخ مرعي الكرمي الحنبلي في رسالته "أقاويل الثقات": (وجمهور أهل السنة - منهم السلف وأهل الحديث - على الإيمان بها وتفويض معناها المراد منها إلى الله تعالى ولا نفسرها مع تنزيهنا له عن حقيقتها).
أقول كل ما ذكروه فإنما هو دعوى فقط وليس عليها برهان، وهناك دعوى أخرى مثلها فقد صرح بعض المتأخرين بأن السلف والخلف متفقون على تأويل الصفات أي: صرف نصوص الصفات عن ظواهرها والخروج عن المعاني الذي اشتملت عليه، وزعموا أن مذهب السلف كان هو التأويل إجماليا، أي: أنهم يقطعون بأن ظاهر النصوص غير مراد، إلا أنهم لم يعينوا المراد، أما الخلف فقد عينوه كذا قالوا ! وهذان القولان المنسوبان إلى سلف هذه الأمة كلاهما باطل فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية ينفي هذا وهو من أعلم الناس بمذهب سلف الأمة في "الأسماء والصفات" كما هو معلوم حيث يقول رحمه الله في "مجموع الفتاوى" (5/109):
(وهذا القول على الإطلاق كذب صريح على السلف، أما في كثير من الصفات فقطعا، مثل: إن الله فوق العرش، فإن من تأمل كلام السلف المنقول عنهم...علم بالاضطرار أن القوم كانوا مصرحين بأن الله فوق العرش حقيقة، وأنهم ما قصدوا خلاف هذا قط، وكثير منها قد صرح في كثير من الصفات بمثل ذلك).


الاحتجاج الخامس:


دعواهم أن آيات الصفات من المتشابه:
قال شيخ الإسلام رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (13/294-295 ):
(وأما إدخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، أو اعتقاد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله كما يقول كل واحد من القولين طوائف من أصحابنا وغيرهم، فإنهم وإن أصابوا في كثير مما يقولونه ونجوا من بدع وقع فيها غيرهم فالكلام على هذا من وجهين: الأول: من قال: إن هذا من المتشابه وأنه لا يفهم معناه فنقول أما الدليل على بطلان ذلك فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة لا أحمد بن حنبل ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية، ونفى أن يعلم أحد معناه، وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم ولا قالوا: إن الله ينزل كلاما لا يفهم أحد معناه وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة، قالوا في أحاديث الصفات: "تمر كما جاءت"، ونهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها التي مضمونها تعطيل النصوص عما دلت عليه، ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "درء تعارض العقل والنقل" (1/204): (وأما على قول أكابرهم: إن معاني هذه النصوص المشكلة المتشابهة لا يعلمها إلا الله، وأن معناها الذي أراده الله بها فهو ما يوجب صرفها عن ظواهرها، فعلى قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ولا الملائكة ولا السابقون الأولون، وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن، أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه، بل يقولون كلاما لا يعقلون معناه).
إلى أن قال: (ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء، إذا كان الله أنزل القرآن، وأخبر أنه جعله هدى وبيانا للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزل إليهم، وأمر بتدبر القرآن وعقله، ومع هذا فأشرف ما فيه - وهو ما أخبر به الرب عن صفاته، أو عن كونه خالقا لكل شيء، وهو بكل شيء عليم، أو عن كونه أمرا ونهيا ووعدا وتوعدا، أو عما أخبر به عن اليوم الآخر- لا يعلم أحد معناه، فلا يعقل ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين) أ.هـ


الفصل السادس: بعض من وقع في التفويض:


هذا وليعلم أن هناك من وقع في القول بتفويض الصفات الواردة في الكتاب والسنة، وبعض هؤلاء هو من أهل العلم المشتغلين به، والداعين إليه، فوقوع مثله لا يستلزم وقوع الحكم عليه، وهذه قاعدة عامة أهل السنة والجماعة فيمن وقع كفر أو وقع في بدعة.
وقع في مثل هذا القول بعض من له قدم صدق في العلم، من أمثال البيهقي في "الأسماء والصفات" وأبي إسحاق الشيرازي "صاحب المهذب" في فقه الشافعية، والشاطبي والشوكاني وغيرهم، وقد ذكر بعضهم أن ابن قدامة ممن وقع في هذا المذهب في أول رسالته: "لمعة الاعتقاد" وبعض الرسائل الأخرى وممن ذكر هذا الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي في "مجموع فتاواه" وغيره، وهو عالم معروف فهو نائب الشيخ عبد العزيز بن باز في "اللجنة الدائمة في الافتاء"، وظاهر عبارات ابن قدامة تؤيد ما ذهبوا إليه، ودافع بعضهم عن ابن قدامة وأجابوا عن المواضع المشكلة في رسائله والله أعلم.


خاتمة هذا الاختصار:


وفي الأخير نلخص ما خرجنا به في هذا البحث المختصر في نقاط، وهي كما يلي:
النقطة الأولى: أن طريق السلف هو إثبات نصوص الصفات الواردة في الكتاب والسنة، إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل، إثباتا لحقائق الصفات ومعانيها، وتنزيها عن المماثلة أو تكييف الصفات.
النقطة الثانية: يجب علينا سلوك طريقهم لأنه الطريق الذي كان عليه خيار الأمة الذين أثنى الله عليهم ورسوله.
النقطة الثالثة: وقوع بعض الأفاضل أو غير الأفاضل في تفويض الصفات لا يسوغ لنا أن نتبعهم، ولا أن نبرر خطأهم، ولاسيما بعد أن عرفنا أن هذا المذهب قبيح في نفسه لما يترتب عليه من تجهيل الصحابة والتابعين وأتباعهم.
النقطة الرابعة: كل ما ورد من ألفاظ موهمة عن سلفنا فينبغي حملها على الوجه الصحيح لثبوت ألفاظ صحيحة عنهم توافق ما ذكرناه عنهم، ولأن أهل الأهواء يتمسكون بالمتشابه من الكلام ويتركون المحكم كما قال تعالى: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله).


وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
كتبه: أبو عمار علي الحذيفي
عدن/ اليمن، جمادي أولى/1431 هـ