أبو يوسف عبدالله الصبحي
02-Nov-2014, 04:24 PM
الحمد لله وحده كما يحب ربنا ويرضى والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وسلم .
وبعد:
قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28].
قال العلامة السعدي رحمه الله - في تفسيرها (1/764){وَجَعَلَهَا} أي: هذه الخصلة الحميدة، التي هي أم الخصال وأساسها، وهي إخلاص العبادة لله وحده، والتبرِّي من عبادة ما سواه.{كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} أي: ذريته {لَعَلَّهُمْ} إليها {يَرْجِعُونَ} لشهرتها عنه، وتوصيته لذريته، وتوصية بعض بنيه -كإسحاق ويعقوب- لبعض، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} إلى آخر الآيات.
وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - في تفسيرها من أضواء البيان (7/102) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ.الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي (جَعَلَهَا) عَلَى التَّحْقِيقِ رَاجِعٌ إِلَى كَلِمَةِ الْإِيمَانِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [43 \ 26 - 27] .
لِأَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ، فَمَعْنَى النَّفْيِ مِنْهَا هُوَ الْبَرَاءَةُ مِنْ جَمِيعِ الْمَعْبُودَاتِ غَيْرَ اللَّهِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ.وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُوَضَّحًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ.وَمَعْنَى الْإِثْبَاتِ مِنْهَا هُوَ إِفْرَادُ اللَّهِ وَحْدَهُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شَرَعَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُوَضَّحًا فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ.وَضَمِيرُ الْفَاعِلِ الْمُسْتَتِرُ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَهَا.
قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ.وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى -.
فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَالْمَعْنَى صَيَّرَ إِبْرَاهِيمَ تِلْكَ الْكَلِمَةَ (بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) أَيْ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ.وَإِنَّمَا جَعَلَهَا إِبْرَاهِيمُ بَاقِيَةً فِيهِمْ، لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ لِذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَصَّيْتُهُ لِأَوْلَادِهِ بِذَلِكَ، وَصَارُوا يَتَوَارَثُونَ الْوَصِيَّةَ بِذَلِكَ عَنْهُ، فَيُوصِي بِهِ السَّلَفُ مِنْهُمُ الْخَلْفَ، كَمَا أَشَارَ - تَعَالَى - إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} الْآيَةَ [2 \ 130 - 132].
وَالْأَمْرُ الثَّانِي هُوَ سُؤَالُهُ رَبَّهُ - تَعَالَى - لِذُرِّيَّتِهِ الْإِيمَانَ وَالصَّلَاحَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى –{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي }[2 \ 124] . أَيْ وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي أَيْضًا أَئِمَّةً، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْهُ:{ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي }[14 \ 40] .
وَقَوْلِهِ عَنْهُ:{ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ }[14 \ 35] . وَقَوْلِهِ عَنْهُ هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} إِلَى قَوْلِهِ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [2 \ 129] .
وَقَدْ أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فِي بَعْثِ الرَّسُولِ الْمَذْكُورِ بِبَعْثِهِ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَلِذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ» .وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الْعَنْكَبُوتِ» : {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [29 \ 27] .
وَقَالَ عَنْهُ وَعَنْ نُوحٍ فِي سُورَةِ «الْحَدِيدِ» : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ }الْآيَةَ [57 \ 26] .
وهكذا كل جيل كان يوصي الآتي من عقب إبراهيم بأن لا إله إلا الله، ولذلك عندما نراجع وصايا العلماء نجد فيها: أن هذه وصية فلان الفلاني؛ أوصي بأني أشهد أن لا إله إلا الله، يعني: كأنها وصية لمن يأتي بعده من ذريته بأن يثبتوا على التوحيد، قال تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ} [البقرة:133] يعني: وحده بلا شريك، وقال تبارك وتعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132].
وقال بعض العلماء (وجعلها) أي: شهادة التوحيد، (كلمة باقية في عقبه) أي: موصىً بها موروثة متداولة محفوظة، فإبراهيم عليه السلام قبل أن يموت كان يوصي بنيه بأن يتمسكوا بلا إله إلا الله، وأن يتبرءوا من المشركين، وبنوه كذلك فيما بعد كانوا يوصون أبناءهم.وَجَعَلَها أي شهادة التوحيد كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ أي موصي بها، موروثة متداولة محفوظة. كقوله تعالى :{وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ }[البقرة: 132] ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي لكي يرجعوا إلى عبادته، ويلجئوا إلى توحيده في سائر شؤونهم. أو لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحّد منهم.
قلت : يوصي بها بنيه وأهله من حوله من أقاربه وأرحامه وأصدقائه لأنها هي المنجية يوم القيامة فمن حققها وحقق شروطها ومضمونها وقالها يبتغي بها وجه الله ومات عليها ، ولم يأت بناقض من نواقضها فهو المبشر بالجنة كما في حديث معاذ رضي الله عنه في الصحيحين ، ولأنها أثقل عمل في ميزان العبد كما في حديث البطاقة ، وكذلك أثر موسى الذي رواه الحاكم وابن حبان وصححه وذكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد أن موسى سأل الله أن يعلمه شيئا يذكره ويدعوه به فقال له : قل لا إله إلا الله ، فقال يا رب كل عبادك يقولون هذا . قال يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن والأراضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله .
فمن عاش عليها وجاهد نفسه من أجلها متيقنا بها صادقا في قولها واعتقادها مخلصا في النظق بها والعمل بما دلت عليه ، محبا لها معظما لشعائرها ، وكانت آخر كلامه وهو يخرج من الدنيا فهو المبشر بالجنة ..
ولذلك كان الأنبياء كنوح وإبراهيم واسماعيل ويعقوب وموسى كلهم يوصي بها عقبه إلا محمد سيد الخلق يوصي بها أمته
وكذلك الصحابة وعلماء السلف من بعدهم .
حدثنا الحسينُ بن إسحاقَ التُّسْتَري، ثنا عبد الله بن عامر بن زُرارَة، ثنا عبد الرَّحيم بن سُلَيمان، عن محمَّد بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن عَمرو، قال: قال رسولُ الله ﷺ: «كَانَ في وصِيَّةِ نُوحٍ لاِبْنِهِ: يَا بُنَيَّ، أُوصِيكَ بِخَصْلَتَيْنِ، وأَنْهَاكَ عَنْ خَصْلَتَيْنِ: أُوصِيكَ بِشَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ؛ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتِ السَّمَوَاتُ والأَرْضُ في كَـفَّةٍ وهِيَ في كَــفَّةٍ لَوَزَنَتْهَا،وأُوصِيكَ بِالتَّسْبِيحِ؛ فَإِنَّهَا عِبَادَةُ الخَلْقِ، وبِالتَّكْبِيرِ. وأَنْهَاكَ عَنْ خَصْلَتَيْنِ: عَنِ الكِبْرِ، والخُيَلاَءِ » .قلتُ: يا رسولَ الله، أمِنَ الكِبْر أن أركبَ الدَّابةَ النجيبةَ؟ قال: «لاَ» . قلتُ: فمن الكِبْر أن ألبَسَ الثوبَ الحَسَن؟ قال: «لاَ» . قلتُ: يا رسولَ الله، فما الكِبْرُ؟ قال: «أَنْ تَسْفَهَ الحَقَّ، وتُغْمِضَ (4) النَّاسَ» . [14326] ذكره ابن كثير في "البداية والنهاية" (1/280). وذكره المتقي الهندي في "كنز العمال" (7766) ورواه البزار (3069/كشف الأستار) ، وابن زَبْر الربعي في "وصايا العلماء" (13) من طريق أبي معاوية محمد بن خازم، عن محمَّد بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن عمر، به؛ هكذا بجعله عن ابن عمر بدل ابن عمرو.
وعن العلاء بن الفضل عن أبيه قال لما قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه فتشوا خزائنه فوجدوا فيها صندوقا مقفلا ففتحوه فوجدوا فيه حقة فيها ورقة مكتوب فيها هذه وصية عثمان بن عفان .بسم الله الرحمن الرحيم عثمان بن عفان يشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة حق وأن النار حق وأن الله يبعث من في القبور ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد عليها يحيى وعليها يموت وعليها يبعث إن شاء الله عز و جل .وصايا العلماء عند حضور الموت - (1/ 39).
وكتب : أبو بكر يوسف لعويسي
وبعد:
قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28].
قال العلامة السعدي رحمه الله - في تفسيرها (1/764){وَجَعَلَهَا} أي: هذه الخصلة الحميدة، التي هي أم الخصال وأساسها، وهي إخلاص العبادة لله وحده، والتبرِّي من عبادة ما سواه.{كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} أي: ذريته {لَعَلَّهُمْ} إليها {يَرْجِعُونَ} لشهرتها عنه، وتوصيته لذريته، وتوصية بعض بنيه -كإسحاق ويعقوب- لبعض، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} إلى آخر الآيات.
وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - في تفسيرها من أضواء البيان (7/102) قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ.الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي (جَعَلَهَا) عَلَى التَّحْقِيقِ رَاجِعٌ إِلَى كَلِمَةِ الْإِيمَانِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [43 \ 26 - 27] .
لِأَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ، فَمَعْنَى النَّفْيِ مِنْهَا هُوَ الْبَرَاءَةُ مِنْ جَمِيعِ الْمَعْبُودَاتِ غَيْرَ اللَّهِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ.وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُوَضَّحًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ.وَمَعْنَى الْإِثْبَاتِ مِنْهَا هُوَ إِفْرَادُ اللَّهِ وَحْدَهُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شَرَعَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُوَضَّحًا فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ.وَضَمِيرُ الْفَاعِلِ الْمُسْتَتِرُ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَهَا.
قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ.وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى -.
فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَالْمَعْنَى صَيَّرَ إِبْرَاهِيمَ تِلْكَ الْكَلِمَةَ (بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) أَيْ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ.وَإِنَّمَا جَعَلَهَا إِبْرَاهِيمُ بَاقِيَةً فِيهِمْ، لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ لِذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَصَّيْتُهُ لِأَوْلَادِهِ بِذَلِكَ، وَصَارُوا يَتَوَارَثُونَ الْوَصِيَّةَ بِذَلِكَ عَنْهُ، فَيُوصِي بِهِ السَّلَفُ مِنْهُمُ الْخَلْفَ، كَمَا أَشَارَ - تَعَالَى - إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} الْآيَةَ [2 \ 130 - 132].
وَالْأَمْرُ الثَّانِي هُوَ سُؤَالُهُ رَبَّهُ - تَعَالَى - لِذُرِّيَّتِهِ الْإِيمَانَ وَالصَّلَاحَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى –{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي }[2 \ 124] . أَيْ وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي أَيْضًا أَئِمَّةً، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْهُ:{ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي }[14 \ 40] .
وَقَوْلِهِ عَنْهُ:{ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ }[14 \ 35] . وَقَوْلِهِ عَنْهُ هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} إِلَى قَوْلِهِ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [2 \ 129] .
وَقَدْ أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فِي بَعْثِ الرَّسُولِ الْمَذْكُورِ بِبَعْثِهِ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَلِذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ» .وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الْعَنْكَبُوتِ» : {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [29 \ 27] .
وَقَالَ عَنْهُ وَعَنْ نُوحٍ فِي سُورَةِ «الْحَدِيدِ» : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ }الْآيَةَ [57 \ 26] .
وهكذا كل جيل كان يوصي الآتي من عقب إبراهيم بأن لا إله إلا الله، ولذلك عندما نراجع وصايا العلماء نجد فيها: أن هذه وصية فلان الفلاني؛ أوصي بأني أشهد أن لا إله إلا الله، يعني: كأنها وصية لمن يأتي بعده من ذريته بأن يثبتوا على التوحيد، قال تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ} [البقرة:133] يعني: وحده بلا شريك، وقال تبارك وتعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132].
وقال بعض العلماء (وجعلها) أي: شهادة التوحيد، (كلمة باقية في عقبه) أي: موصىً بها موروثة متداولة محفوظة، فإبراهيم عليه السلام قبل أن يموت كان يوصي بنيه بأن يتمسكوا بلا إله إلا الله، وأن يتبرءوا من المشركين، وبنوه كذلك فيما بعد كانوا يوصون أبناءهم.وَجَعَلَها أي شهادة التوحيد كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ أي موصي بها، موروثة متداولة محفوظة. كقوله تعالى :{وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ }[البقرة: 132] ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي لكي يرجعوا إلى عبادته، ويلجئوا إلى توحيده في سائر شؤونهم. أو لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحّد منهم.
قلت : يوصي بها بنيه وأهله من حوله من أقاربه وأرحامه وأصدقائه لأنها هي المنجية يوم القيامة فمن حققها وحقق شروطها ومضمونها وقالها يبتغي بها وجه الله ومات عليها ، ولم يأت بناقض من نواقضها فهو المبشر بالجنة كما في حديث معاذ رضي الله عنه في الصحيحين ، ولأنها أثقل عمل في ميزان العبد كما في حديث البطاقة ، وكذلك أثر موسى الذي رواه الحاكم وابن حبان وصححه وذكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد أن موسى سأل الله أن يعلمه شيئا يذكره ويدعوه به فقال له : قل لا إله إلا الله ، فقال يا رب كل عبادك يقولون هذا . قال يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن والأراضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله .
فمن عاش عليها وجاهد نفسه من أجلها متيقنا بها صادقا في قولها واعتقادها مخلصا في النظق بها والعمل بما دلت عليه ، محبا لها معظما لشعائرها ، وكانت آخر كلامه وهو يخرج من الدنيا فهو المبشر بالجنة ..
ولذلك كان الأنبياء كنوح وإبراهيم واسماعيل ويعقوب وموسى كلهم يوصي بها عقبه إلا محمد سيد الخلق يوصي بها أمته
وكذلك الصحابة وعلماء السلف من بعدهم .
حدثنا الحسينُ بن إسحاقَ التُّسْتَري، ثنا عبد الله بن عامر بن زُرارَة، ثنا عبد الرَّحيم بن سُلَيمان، عن محمَّد بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن عَمرو، قال: قال رسولُ الله ﷺ: «كَانَ في وصِيَّةِ نُوحٍ لاِبْنِهِ: يَا بُنَيَّ، أُوصِيكَ بِخَصْلَتَيْنِ، وأَنْهَاكَ عَنْ خَصْلَتَيْنِ: أُوصِيكَ بِشَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ؛ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتِ السَّمَوَاتُ والأَرْضُ في كَـفَّةٍ وهِيَ في كَــفَّةٍ لَوَزَنَتْهَا،وأُوصِيكَ بِالتَّسْبِيحِ؛ فَإِنَّهَا عِبَادَةُ الخَلْقِ، وبِالتَّكْبِيرِ. وأَنْهَاكَ عَنْ خَصْلَتَيْنِ: عَنِ الكِبْرِ، والخُيَلاَءِ » .قلتُ: يا رسولَ الله، أمِنَ الكِبْر أن أركبَ الدَّابةَ النجيبةَ؟ قال: «لاَ» . قلتُ: فمن الكِبْر أن ألبَسَ الثوبَ الحَسَن؟ قال: «لاَ» . قلتُ: يا رسولَ الله، فما الكِبْرُ؟ قال: «أَنْ تَسْفَهَ الحَقَّ، وتُغْمِضَ (4) النَّاسَ» . [14326] ذكره ابن كثير في "البداية والنهاية" (1/280). وذكره المتقي الهندي في "كنز العمال" (7766) ورواه البزار (3069/كشف الأستار) ، وابن زَبْر الربعي في "وصايا العلماء" (13) من طريق أبي معاوية محمد بن خازم، عن محمَّد بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن عمر، به؛ هكذا بجعله عن ابن عمر بدل ابن عمرو.
وعن العلاء بن الفضل عن أبيه قال لما قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه فتشوا خزائنه فوجدوا فيها صندوقا مقفلا ففتحوه فوجدوا فيه حقة فيها ورقة مكتوب فيها هذه وصية عثمان بن عفان .بسم الله الرحمن الرحيم عثمان بن عفان يشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة حق وأن النار حق وأن الله يبعث من في القبور ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد عليها يحيى وعليها يموت وعليها يبعث إن شاء الله عز و جل .وصايا العلماء عند حضور الموت - (1/ 39).
وكتب : أبو بكر يوسف لعويسي