المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العمليات الانتحارية كتبها: أبو عمار علي الحذيفي حفظه الله



أبو خالد الوليد خالد الصبحي
22-May-2010, 09:31 PM
العمليات الانتحارية



قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى"(25/281):

(فينبغي للمؤمن أن يفرق بين ما نهى الله عنه من قصد الإنسان قتل نفسه أو تسببه في ذلك

وبين ما شرعه الله من بيع المؤمنين أنفسهم وأموالهم له، كما قال تعالى: "إن الله اشترى من

المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة" وقال: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله"

أي يبيع نفسه.

والاعتبار في ذلك بما جاء به الكتاب والسنة لا بما يستحسنه المرء أو يجده أو يراه من الأمور

المخالفة للكتاب والسنة) أ.هـ







كتبها:

أبو عمار علي الحذيفي





مقدمة:
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فهذه مناقشة علمية مختصرة في "العمليات الانتحارية" جعلتها بين طرفين، والطرف الأول هم المانعون من العمليات الانتحارية، والطرف الثاني هم المجيزون لها، وسقتها بأسلوب سهل ليفهمها الطلاب المبتدئون، ولاسيما بعد أن وجدنا للمجيزين تجلدا عجيبا وإصرارا غريبا في التمسك بهذا الرأي الضعيف.


أدلة المانعين:

قال المانعون:
إن العمليات الانتحارية هي كاسمها لها حكم الانتحار، بل هي الانتحار بعينه، ولذلك نرى أنها محرمة لعدة أدلة منها:
1- قوله تعالى: (ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة)، وهذا عموم في اللفظ ولا عبرة بخصوص السبب، لأن النهي في الآية عام فيمن ألقى بنفسه لما فيه هلاكه فهو يشمل كل صور إهلاك النفس، وسبب نزول الآية هو الإمساك عن النفقة في سبيل الله، وإنما هو بعض العموم، فهو داخل في العموم كما هو معروف من قواعد المفسرين، ولا حجة لأحد في إخراج سائر العموم من الآية ومن أخرج سائر الأفراد فهو مطالب بالدليل.
2- ومنها قوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم)، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن قتل نفسه بحديدة عذب به في نار جهنم) رواه الشيخان عن ثابت بن الضحاك، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدا مخلدا فيها أبدا ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا) رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، فهذه الأحاديث وغيرها من الأحاديث تحرم على الإنسان أن يقتل نفسه، وهي نصوص عامة يدخل فيها كل ما يطلق عليه أنه قتل للنفس، وغيرنا متفق معنا أن هذه العمليات من قتل النفس وإنما نحن مختلفون في حكمه هل هو قاتل لنفسه له حكم المنتحر، أو قاتل لنفسه له حكم المستشهد.
3- ومن ذلك ما رواه مسلم في "صحيحه" عن سلمة بن عمرو بن الأكوع في حديث طويل وفيه قال سلمة: (فلما قدمنا خيبر قال خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه ويقول: "قد علمت خيبر أني مرحب، شاكي السلاح بطل مجرب، إذا الحروب أقبلت تلهب"، قال: "وبرز له عمي عامر فقال: "قد علمت خيبر أني عامر شاكي السلاح بطل مغامر"، قال: "فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر وذهب عامر يسفل له فرجع سيفه على نفسه فقطع أكحله فكانت فيها نفسه قال سلمة: فخرجت فإذا نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون بطل عمل عامر قتل نفسه قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقلت يا رسول الله بطل عمل عامر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال ذلك ؟" قال: قلت: ناس من أصحابك قال: "كذب من قال ذلك بل له أجره مرتين").
والشاهد في الحديث أن الصحابة أنكروا قتل النفس ولو في المعركة مع الكفار لأنهم لا يعرفون هذا الشيء في حروبهم فرأوه شيئا غريبا، فإذا كان قد أنكروا ذلك ولو عن طريق الخطأ فكيف بالمتعمد ؟!
4- ومن ذلك الإجماع على تحريم قتل الإنسان لنفسه، وقد نقل الإجماع غير واحد منهم شيخ الإسلام حيث قال رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (25/280): (وقتل الإنسان نفسه حرام بالكتاب والسنة والإجماع كما ثبت عنه في "الصحاح").


أدلة المجيزين:

قال المجيزون:
إن مثل هذه العمليات الاستشهادية المذكورة تعتبر من النوازل المعاصرة التي لم تكن معروفة في السابق بنفس طريقتها اليوم، فيجتهد العلماء في تنزيل النصوص عليها وإلحاقها بالعمومات، ونحن نرى أن الأدلة قد دلت على جواز هذه العمليات، بل وورد عن سلفنا ما يدل على مشروعية هذا العمل، فمن هذه الأدلة:
1- قصة غلام الساحر الذي دل الملك على قتله وحديثه مشهور بغلام الساحر، فقد روى مسلم في "صحيحه" عن صهيب مرفوعا وفيه: (فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به قال: وما هو؟ قال تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهما من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل: باسم الله رب الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات فقال: الناس آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام).
2- ومن الأدلة على مشروعية العمليات الاستشهادية ما ذكره أهل العلم من جواز الانغماس في العدو وهذا باتفاق المذاهب الأربعة وغيرها، ولهذا أدلة كثيرة من الكتاب والسنة ذكرها شيخ الإسلام في رسالة خاصة أسماها: "الانغماس في العدو" بين فيها أدلة الجواز وذكر لها أدلة كثيرة، بل وذكر بعض المعاصرين آثارا كثيرة عن سلفنا الصالح تدل على الانغماس في العدو.
قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى"(28/540): (وقد روى مسلم في "صحيحه" عن النبي صلى الله عليه وسلم قصة أصحاب الأخدود وفيها: "أن الغلام أمر بقتل نفسه لأجل مصلحة ظهور الدين" ولهذا جوز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صف الكفار وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه، إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين).


مناقشة المجيزين لأدلة المانعين:

قال المجيزون:
وأما استدلالكم يا معاشر المانعين بقوله تعالى: (ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة) فاستدلال غير صحيح لأن المنغمس في العدو ليس مهلكا لنفسه، ومعاذ الله أن يفتي الأئمة الأربعة وغيرهم بما يفضي إلى هلاك الإنسان وإتلافه.
ثم إنه قد أنكر عمر بن الخطاب وأبو أيوب الأنصاري وغيرهما من الصحابة على من نزل هذه الآية على من انغمس في العدو.
قال المجيزون:
وأما الاستدلال بقوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم) وقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن قتل نفسه بحديدة عذب به في نار جهنم)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدا مخلدا فيها أبدا ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا) وغيرها من النصوص التي تحرم قتل الإنسان لنفسه، فالاستدلال بها هنا غير صحيح أيضا، فإن هذه النصوص فيمن قتل نفسه جزعا وتسخطا على القدر أو اعتراضا على المقدور واستعجالا للموت أو تخلصا من الآلام والجروح والعذاب أو يأسا من الشفاء، أما من بذل نفسه مجاهدا فرحا مستبشرا متطلعا للشهادة والجنة، يريد نصرة الدين والنكاية بالعدو والجهاد في سبيله فهذا أمر آخر، فقياس هذه الحالة على هذه الحالة قياس مع الفارق.
قال المجيزون: ويجاب عما رواه مسلم في "صحيحه" عن سلمة بن عمرو بن الأكوع في قصة عمه عامر بن الأكوع بأن يقال: إنما حكموا بأنه قتل نفسه لأنه لم يحصل منه ضرر على العدو، وأما العمليات الاستشهادية فلا يشك أن فيها إضرارا بالعدو ونكاية تامة به.


رد المانعين على استدلالات المجيزين:

قال المانعون:
1- قد أطلعنا على ما ذكرتموه أيها المجيزون، ورأينا أن مثل هذه العمليات عندكم تعتبر من النوازل المعاصرة التي لم تكن معروفة في السابق بنفس طريقتها اليوم، فيجتهد العلماء على تنزيلها على النصوص، هكذا تقولون !! وكأنكم تشيرون إلى أنها مسألة اجتهادية لا إنكار على من قال: "بأنها عمليات استشهادية".
ويقال في الجواب عن ذلك: إن كنتم تعنون أنها من المسائل الاجتهادية التي اختلفت فيها أنظار العلماء، وللمفتي فيها أجر على كل حال وبإطلاق فهذا غير صحيح، وإنما يؤجر فيها من اجتهد من أهل العلم المعروفين بالتحري للصواب والباحثين عنه والمولين وجوههم شطره، والذين بذلوا فيه ما بوسعهم من النظر في الأدلة، فمثل هؤلاء يرجى لهم أن لا يكونوا آثمين إن شاء الله في فتواهم، وهذا الصنف اليوم أندر من الكبريت الأحمر.
وأما من تصدر لها وهو ليس من أهلها أو تكلف في الاستدلال لشيء في نفسه أو انتصارا لمتبوعه أو تبريرا لأئمة الحزب أو الاتجاه التي ينتمي إليه كما قد عهدناهم في كل مرة يبررون أخطاء اتجاهاتهم ويبحثون لها عن أدلة، فقد وجدناهم تكلفوا في الاستدلال لمسألة التمثيليات والمسرحيات، ومسألة الانتخابات الحكومية ومسألة التعدد الحزبي ومسائل أخرى لا وقت لذكرها هنا، فهذا لا نرى أنه داخل في عموم المجتهد المأجور كيف يكون كذلك وهو يتكلف في تطويع النصوص لصالح مذهبه، بل نخشى عليه من مغبة التسرع في الفتوى وإثم من اتبعه على هذا الغلط.
على أن بعضهم قد يرى أنها حق وأن المخالف فيها مستأجر للغرب كما ذكر ذلك الدكتور إبراهيم عوض حيث قال في "مقالاته": (يحاول الغربيون عبثا، عن طريق فتاوى المذلة والضلال، إيهامهم بأنها عمليات انتحارية كي يبثوا روح التخذيل فى نفوسهم وينزعوا من أيديهم هذا السلاح العبقري الذى لا قبل لهم ولا لأمثالهم به ممن يحبون الحياة حبا جما!) أ.هـ ولا شك أن هذا قول رديء، وصاحبه أعماه الحماس عن التدقيق والتحقيق.


ضوابط مهمة في قتل النفس:

قال المانعون:
وعندنا هنا ضوابط مهمة ينبغي أن يكون الطرفان على بينة منها لأنها تفرق بين أمور متشابهة التبست على كثير من الناس، فإليك هذه الضوابط:


الضابط الأول:
هناك فرق بين تعمد الإنسان أن يقتل نفسه ولو لغرض الإضرار بالعدو، وبين سلوك سبب شرعي ينتهي فيها بقتل نفسه، والفرق بينهما أن في النوع الأول من مباشرة الإنسان لقتل نفسه ما ليس في الثاني.
قال شيخ الإسلام رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى"(25/281): (فينبغي للمؤمن أن يفرق بين ما نهى الله عنه من قصد الإنسان قتل نفسه أو تسببه في ذلك وبين ما شرعه الله من بيع المؤمنين أنفسهم وأموالهم له، كما قال تعالى: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة" وقال: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله" أي يبيع نفسه) أ.هـ


الضابط الثاني:
الطريقة التي يتسبب الإنسان بها في قتل نفسه يجب أن تكون توقيفية، أي: متوقفة على ما ورد في الشريعة لا بما يراه هو حسنا، فهو توقيفية لا اجتهادية فلا يحل أن ينصب لموته سببا لم ينصبه الشارع، وإلا فإنه يدخل في عمومات تحريم قتل النفس.
وبعد الذي سمعنا به من أن البعض قد يقتل نفسه للإضرار بالعدو، فإننا نخشى أن تأتي علينا أيام يخرج علينا فيها جيل يرون أن من شرط التوبة أو من كمالها أن يقتل الإنسان نفسه قربة إلى الله، فمن هنا نقول: إنها توقيفية.
قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى"(25/281): (فينبغي للمؤمن أن يفرق بين ما نهى الله عنه من قصد الإنسان قتل نفسه أو تسببه في ذلك وبين ما شرعه الله من بيع المؤمنين أنفسهم وأموالهم له، كما قال تعالى: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة" وقال: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله" أي يبيع نفسه.
والاعتبار في ذلك بما جاء به الكتاب والسنة لا بما يستحسنه المرء أو يجده أو يراه من الأمور المخالفة للكتاب والسنة) أ.هـ
قال المانعون:
وأما قولكم أيها المجيزون: (إن إلحاق المستشهد بالمنتحر قياس مع الفارق)، فيقال: إن هذا ليس قياسا وإنما هو أخذ بعموم النصوص التي تحرم قتل النفس، فمستندنا هو عموم النصوص لا القياس، إذ المنع في هذه النصوص عام وليس فيها ما يشير إلى أي تفريق بين من قتل نفسه جزعا وتسخطا على القدر أو اعتراضا على المقدور واستعجالا للموت، وبين من بذل نفسه مجاهدا متطلعا للشهادة والجنة، يريد النكاية بالعدو والجهاد في سبيله، فدعوى أن الأخذ بالعموم هو إلحاق فرع بأصل غير صحيح.
وهذا عمرو بن العاص قد فهم عموم النهي من مثل قوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم)، ففي غزوة ذات السلاسل أصابته الجنابة وكانت ليلة باردة فتيمم وصلى بأصحابه بالتيمم ولما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عمرو أصليت بأصحابك وأنت جنب ؟" فقال: "يا رسول الله إني سمعت الله يقول: "ولا تقتلوا أنفسكم" فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا)، فهل كان عمرو سيقتل نفسه جزعا وتسخطا على القدر أو اعتراضا على المقدور واستعجالا للموت ؟!
قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" (25/280): (فهذا عمرو قد ذكر أن العبادة المفضية إلى قتل النفس بلا مصلحة مأمور بها هي من قتل النفس المنهي عنه وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك) أ.هـ
قال المانعون:
وأما قولكم: (إن لشيخ الإسلام رسالة في الانغماس في العدو ذكر فيها الأدلة على جواز ذلك)، يقال: نحن لا نناقش في المنغمس في العدو، وإنما نناقش في قياس من قتل نفسه بعملية انتحارية وبينهما فرق كبير وواضح، وبيان ذلك أن شيخ الإسلام استدل لجواز الانغماس في العدو بعدة أدلة منها قوله: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) وقوله: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) وغيرها من الأدلة، ولكن هذه الأدلة تدل على ما ذكره شيخ الإسلام من جواز الانغماس بين العدو، ونحن لا نناقش في هذا، وإنما نقول: إن هؤلاء الآيات لا تنزل على من قتل نفسه، فقد قال رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى"(25/281):
(فينبغي للمؤمن أن يفرق بين ما نهى الله عنه من قصد الإنسان قتل نفسه أو تسببه في ذلك وبين ما شرعه الله من بيع المؤمنين أنفسهم وأموالهم له، كما قال تعالى: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة" وقال: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله" أي يبيع نفسه) أ.هـ
فشيخ الإسلام يفرق بين تعمد قتل الإنسان نفسه وبين سلوك سبب شرعي ينتهي بقتل نفسه، فسقط استدلالكم بما يقوله شيخ الإسلام لأن قياس من قتل نفسه على المنغمس في العدو قياس مع الفارق، فالمنغمس في العدو يريد النكاية بالعدو أصلا فيحصل له الموت تبعا وقد لا يحصل له الموت، وأما قاتل نفسه فيقتل نفسه أصلا فتحصل النكاية بالعدو وغيره تبعا وقد لا تحصل النكاية، فعرف أن بينهما فرقا عظيما.
ثم إن قياس من قتل نفسه على المنغمس في العدو أيضا قياس مع الفارق لأمور:
1- الانغماس في العدو يعني الدخول في العدو، وهذا لا يكون إلا لمن كان ماهرا في الكر والفر وليس لكل أحد، ويكون بحسب قدرة الإنسان وقوته، فهو يدخل في العدو ويخرج منهم بسرعة فائقة، والسلامة متوقعة ومحتملة فيه وتكون الثمرة لمصلحة الجيش الإسلامي في قتال جماعي لا قتل فردي، وأما العمليات الانتحارية فالهلاك فيها محقق.
2- أيضا الانغماس في العدو لا يكون بالتحريق بالنار، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التعذيب بالنار، فإلحاق هذا بهذا غير صحيح بل هو قياس مع الفارق.
3- ثم إن الانغماس في العدو لا يكون مشروعا في كل حالة وفي كل وضع، فإن الله جل وعلا لم يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم به في مكة ولا أمر به صلى الله عليه وسلم أصحابه، مع توفر الأسباب والدواعي، وتهيئ المقاتلين المتمرسين على الكر والفر، وإذا علمت الفرق بين الأمرين فيسقط قولك: (وذكر بعض المعاصرين آثارا كثيرة عن سلفنا الصالح تدل على الانغماس في العدو) فكل هذه الآثار التي أشرت إليها إنما تنزل على حالات غير الانتحار.
هذا وقد ضبط لنا شيخ الإسلام قضية متى يكون من تسبب في قتل نفسه محسنا ومتى يكون مسيئا فقال رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (25/275):
(فإنه إذا فعل ما أمره الله به فأفضى ذلك إلى قتل نفسه فهذا محسن في ذلك كالذي يحمل على الصف وحده حملا فيه منفعة للمسلمين وقد اعتقد أنه يقتل فهذا حسن...
وأما إذا فعل ما لم يؤمر به حتى أهلك نفسه فهذا ظالم متعد بذلك، مثل أن يغتسل من الجنابة في البرد الشديد بماء بارد يغلب على ظنه أنه يقتله أو يصوم في رمضان صوما يفضي إلى هلاكه فهذا لا يجوز) أ.هـ مختصرا على موضع الشاهد.
وهذا ضابط نافع إن شاء الله من شيخ الإسلام كما عودنا رحمه الله، فمن فعل شيئا جائزا فكان ذلك سبب موته لم يكن ممن قتل نفسه كأن يحج البيت ثم مات في الزحام أو سافر للهجرة أو لطلب العلم فمات في الطريق أو ركب البحر لطلب الرزق فغرق أو دافع عن عرضه وماله فقتل أو غير ذلك، فمثل هؤلاء لا يعتبرون ممن قتلوا أنفسهم لأنهم فعلوا ما يؤمرون به.
وأما من سلك سبيلا معوجا وباشر قتل نفسه بشيء لم يأمره الله به فهذا ذم الشرع طريقته ففعله حرام، فالفرق إذا هو سلوك الطريقة المشروعة في أول الأمر وسلوك ما لم يأمر الله به.
قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى"(25/281):
(فينبغي للمؤمن أن يفرق بين ما نهى الله عنه من قصد الإنسان قتل نفسه أو تسببه في ذلك وبين ما شرعه الله من بيع المؤمنين أنفسهم وأموالهم له، كما قال تعالى: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة" وقال: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله" أي يبيع نفسه.
والاعتبار في ذلك بما جاء به الكتاب والسنة لا بما يستحسنه المرء أو يجده أو يراه من الأمور المخالفة للكتاب والسنة).
وأما إنكار أبي أيوب الأنصاري وغيره من الصحابة فإنما هو على من نزل الآية على المنغمس في العدو ونحن معهم في هذا ولا ننكر أن هذا تنزيل في غير محله، ونحن إنما نحتج بعموم الآية وشمول لفظها لمن أهلك نفسه وأتلفها وهذا غير الانغماس في العدو، فهو عموم لا تخصيص فيه إلا ببينة.
وأما استدلالكم بما قاله شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى"(28/540): (وقد روى مسلم في "صحيحه" عن النبي صلى الله عليه وسلم قصة أصحاب الأخدود وفيها: "أن الغلام أمر بقتل نفسه لأجل مصلحة ظهور الدين")
فهذا فيه رد عليكم لأن شيخ الإسلام يجيز مثل هذا العمل استدلالا بقصة الغلام فيما لو كانت المصلحة عائدة على ظهور الدين ودخول الناس فيه وخروجهم من الكفر كما قصة غلام الساحر، والعمليات الانتحارية فائدتها عندكم تعود عليكم من جهة النكاية بالعدو، فهي لا تعود على ظهور الدين، بل هي إلى التنفير من الدين أقرب منها إلى ظهوره.
على أنه يمكن لقائل أن يقول: إن الاستدلال بقصة غلام الساحر غير صحيح لأنه شرع من قبلنا ليس شرعا لنا إذا جاء شرعنا بخلافه كما في هذه الحالة، أو يقول: إن قصة الغلام تدل على أنه محدث ملهم فليس كل شخص يحق له أن يفعل ذلك.


أشياء تسبق العمليات الانتحارية وأشياء تلحقها:

هذا وتتقدم العمليات الانتحارية عجائب تكون قبلها وأخرى مثلها تكون بعدها:
أما التي قبلها فمنها:
1- أنهم لا يستطيعون القيام بعملية مثل هذه العملية الانتحارية إلا بأموال طائلة تشترى بها المواد المتفجرة، وأموال أخرى تكون للسيارة التي يتم التفجير بها، وأموال أخرى تصرف في غير ذلك، تقدر كلها أحيانا بستة آلاف دولار أو أكثر، أي ما يقارب المليون ومائتين ريال يمني وأكثر من ذلك، يتم جمعها من مساجد المسلمين باسم "إخواننا في فلسطين" وكأنها ستذهب للمشردين من البيوت أو للمترملات من النساء أو للأيتام من الأطفال ولكنها تذهب في غير ذلك، دون إشعار الكثير من المسلمين أين ستذهب أموالهم، ثم ينزلون عليها نصوص النفقة في سبيل الله والبذل ابتغاء مرضاته، مع أن نصوص إضاعة الأموال أقرب إليها من النصوص الأولى.
2- وهذا غير الجلسات الوعظية المكثفة على القادم على العملية، وقد يستخدم له شيء من المواد المخدرة التي تعطيه الجرأة على الإقدام كما اشتهر حتى في وسائل الإعلام اليوم من مواقع النت والصحف وغيرها، وقد نشرت عندنا صحف محلية تؤكد هذا الخبر وزعمت أن المختبرات كشفت عن وجود مواد مخدرة في دماء المنتحر المنتشرة في كل مكان والتي يجدونها بعد التفجير، وكنت أتوقف في هذا الخبر حتى حدثني أخ صومالي أن التكفيريين عندهم في الصومال يستخدمون نحو هذا التخدير في العمليات الانتحارية عندهم فتأكد لي الخبر.


الخلاصة مما تقدم ذكره:

والخلاصة أن هذه العمليات انتحارية وليست استشهادية، وهي غير مشروعة لعدة أمور:
الأول: أنها محرمة للأدلة التي ذكرناها، وكلامنا هنا عن العمل نفسه أما من وقع فيها فالله أعلم بحالهم وتأولهم.
الثاني: أن هذه العمليات مأخوذة أصلا من أعداء الإسلام بل هي من عمل العصابات عندهم، فقد أجمعت المجتمعات على حربها وملاحقة أهلها لأن فيها من المكر والخديعة والإضرار بالآخرين ما ليس في غيرها، فليست من عمل المسلمين أولاً فإنها غير معروفة عند المسلمين.
الثالث: أن هذه العمليات تطورت تطورا ملحوظا، فقد توسع المجيزون للعمليات الانتحارية كثيرا، ولم يقفوا عند الشيء الذين يرونه مشروعا وجائزا وإن كنا نخطئهم فيه، ففي بداية الأمر أباحوه لقتل جنود اليهود، ثم توسعوا قليلا فأباحوا قتل المدنيين من اليهود في تل أبيب بحجة أنهم حربيون، ثم توسعوا فقتلوا هذا المستأمنين ولو بين أناس من المسلمين من مجتمعاتنا العربية كاليمن وغيرها، وقد حصل هذا ورأينا بأم أعيننا وسمعنا بآذاننا، ثم توسعوا فقتلوا المسلمين باسم أنهم مرتدون ومغيرون للشرائع، ثم توسعوا حتى أفتوا "شبابا صغارا" بل و"نساءا" وإن شئت فقل: استعملوا لهذه العمليات "صبية" و"أطفالا" حتى اشتهر في وسائل الإعلام أن النساء الانتحاريات هي إحدى وسائل "القاعدة"، حتى قال قائلهم: (ألا يستحي هؤلاء الناس وفي النساء من الغيرة ما لا يوجد في كثير من الرجال). ونحن نقول لهم: (ألا تستحيون من استخدام النساء وقد عذرهن الله وأعفاهن من الجهاد) ؟!!
الرابع: أن في هذه العمليات تعذيبا بالنار للمنتحر وغيره وهذا لا يشرع، فالتعذيب بالنار لا ينبغي إلا من رب النار كما جاء في الحديث.
الخامس: أن هذه العمليات احتفت بها أشياء قبلها وبعدها زادت من ضررها وفسادها، من مثل ضياع الكثير من المبالغ في مثل هذه العملية، واستعمال وتناول المخدرات قبل العمليات.
السادس: أن العدو غير محدد عند من يفجر نفسه في هذه العمليات الانتحارية، ولذلك فإن هذه الضربات تأتي طائشة في كثير من الأوقات فقد يقتل البريء وقد يدمر البناء وقد يخرب العمران والمنشئات وغيرها.
السابع: إدخال الأسى والحزن والحسرة على أسر الكثير من الشباب الذين ذهبوا في هذه العمليات وقدموا أنفسهم على أنه استشهاد وهو في الحقيقة ضحايا للفتاوى المنحرفة، وهؤلاء الأسر لم يعلموا بمثل هذا إلا مع الناس من وسائل الإعلام كالقنوات الفضائية، وإن قلنا إن هذا من الجهاد في سبيل الله فهل هو فرض عين حتى يتجاوز الولد أبويه ويتركهما بحسرتهما، فإن لهما حقا في ولديهما في الجهاد الصحيح فكيف بغيره ؟! فإن أذنوا فقد سقطت مفسدة وبقيت مفاسدها الأخرى.
السادس: تحصل الكثير من المعاصي قبل هذا التفجير والعمليات الانتحارية من حلق اللحى وتزوير الجوازات وإخلاف العهود والغدر بالآمنين والكذب على النقاط في المعاملات وغيرها، ومنها الدخول في الدول الغربية بحجة قتل الكفار مع أنه لم يدخل بلادهم إلا بعد عهود شفهية أو مكتوبة أو على الأقل عرفية تعارف عليها الناس، فيدخل ثم يفسد في الأرض باسم الدين والجهاد في سبيل الله، فلهذه العمليات الانتحارية أمور تحصل قبلها وأضرار عظيمة تحصل بعدها ولا يصل الرجل في الغالب إليها إلا بعد تحقق مثل هذه الأمور أو تحقق غالبها.
السابع: أن هذه العمليات إن كانت عندهم من الجهاد فالجهاد له شروطه وقواعده وضوابطه عند أهل العلم فلا يعرف عند أهل العلم إلا بصورة "الجهاد الجماعي" الذي يكون منظما تحت راية واحدة ويصدرون عن قول واحد يقدر فيها الأمير المصلحة من المفسدة، ومن هنا أفتى من أفتى بجواز هذه العمليات بإذن الأمير، وهذا قول بعض أفاضل العلماء ممن لا نشك في ديانتهم وعلمهم بل وإمامتهم، وإن كنا نرى أنه قول مرجوح.
والحاصل أنه لا يعرف في الإسلام جهاد فردي يقوم به بعض الناس دون مراجعة لأهل الحل والعقد من أهل العلم وولاة أمور المسلمين.
الثامن: ما يذكرونه من أن هذه العمليات تحققت بسببها بعض المصالح مثل تضرر العدو وتوقف الانتقال إلى المستوطنات وهجرة الكثير ممن كان في أطراف الأراضي إلى عمق الأراضي المحتلة كما ذكره أو أشار إليه صاحب كتاب: "أحكام الجهاد عند ابن تيمية" وهو للمؤلف حسن وهدان/ بتقديم مشهور حسن سلمان، فما ذكروه من هذا الكلام وغيره ليس كافيا لأن يكون حجة مقنعة بعد أن رأينا مفاسدها العظيمة، فهذه المصالح المذكورة منغمرة في مفاسد أخرى أعظم منها بكثير، فماذا عسى أن تأتي هذه الأشياء مع غيرها من المفاسد العظيمة مثل:
1- هدم الكثير من البيوت وقتل الكثير من الأبرياء وتشريد الكثير من الأسر والذي ينشأ عن ردة فعل من هؤلاء المجرمين، لأن العمليات الانتحارية تثير حفيظة الظالم فيبطش بغيره أكثر من السابق.
2- خسر الفلسطينيون تعاطف الكثير من الناس من غير المسلمين معهم، حيث تعاطفوا مع خصومهم وهم اليهود، فنتج عن هذا تضيق كبير على الفلسطينيين في ديارهم وأراضيهم بل وخارج أراضيهم.
3- ما حصل من التضييق في أنحاء البلاد والتي تثمر في الغالب التضييق على الدعوة والدعاة إلى الله بل وغير الدعاة من المسلمين لأن الجميع يبقى متهما بتهمة الإرهاب، واسألوا ما هي الأضرار التي حصلت على المسلمين في العالم بسبب تدمير البرجين في أمريكا تعرفوا صدق ما أقول لكم.
هذا شيء مختصر وعسى الله أن ييسر فرصة أوسع من هذه نتوسع في هذا البحث.


كتبه: أبو عمار علي الحذيفي.

7/ جمادى آخرة/1431 هـ

أبو الوليد خالد الصبحي
23-Apr-2013, 05:41 AM
جزيت خيرا