المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : البيان لبعض تفاهات منكري تعدد الزوجات



أبو عبد الله بلال الجزائري
16-Nov-2014, 10:37 PM
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على مَنْ أرْسَلَهُ اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإن الله تبارك و تعالى خلق الإنسان فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى فقال :﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى﴾[الحجرات:13]. وخلقت المرأة سكنا للرجل و جعلت بينهما المودة و الرحمة فقال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾[الروم:21]. فالرجل يمسك المرأة إمساكا بمعروف ليسكن إليها و لا يتم ذلك إلا بما أباحه له الله عزوجل من النكاح المباح حفاظا على الفروج لأن الحفاظ عليها من الضروريات التي جاء الشرع بحفظها قال الله سبحانه وتعالى:﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ*﴾[المؤمنون:5-6-7] وقد رغب النبي صلى الله عليه و سلم في الزواج وحث عليه فقال : «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِيعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وَجَاءٌ»([1]) و الأدلة على هذا الأمر كثيرة و مستفيضة في كتب السنة لما فيه من مصالح عظيمة ، فإلى جانب حفظ الفرج من الضياع فهو حفاظ على النسل والإنجاب التي به تكثر الأمة، قال صلى الله عليه وسلم :« تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الأُمَمَ»([2])، وكما أباح الله جل وعلا الزواج بواحدة فقد أباح للرجل أن ينكح أربعا لقوله تعالى :﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ﴾[النساء:3]. أي إن شاء أحدكم ثنتين ، وإن شاء ثلاثا، وإن شاء أربعا، وهذه حكمة بالغة من لطيف خبير لأن التعدد سبب لتكثير الأمة ، وما يحصل من كثرة النسل من التعدد أكثر مما يحصل بزوجة واحدة، كما له فوائد كثيرة للرجل و المرأة على السواء، و لكن قد نبتت نابتة خبيثة تحارب التعدد و تحذر منه أشد التحذير في الصحف والمجالات والفضائيات حتى ظن الناس أن هذا ظلم للمرأة في حين أنه رحمة لها، و في مثل هذا يقول العلامة أحمد شاكر رحمه الله :« نبتت في عصرنا هذا الذي نحيا فيه نابتة إفرنجية العقل ، نصرانية العاطفة ، رباهم الإفرنج في ديارنا وديارهم ، وأرضعوهم عقائدهم صريحة تارة وممزوجة تارات ، حتى لبسوا عليهم تفكيرهم ، وغلبوهم على فطرتهم الإسلامية ، فصار هجيراهم ، وديدنهم أن ينكروا تعدد الزوجات ،وأن يروه عملا بشعا غير مستساغ في نظرهم ، فمنهم من يصرح ، ومنهم من يجمجم ، وجاراهم في ذلك بعض من ينتسب إلى العلم من أهل الأزهر المنتسبين للدين ، والذين كان من واجبهم أن يدافعوا عنه ، وأن يعرفوا الجاهلين حقائق الشريعة .
فقام من علماء الأزهر من يمهد لهؤلاء الإفرنجيّ العقيدة و التربية ،للحد من تعدد الزوجات زعموا ولم يدرك هؤلاء العلماء أن الذين يحاولون استرضاءهم لا يريدون إلا أن يزيلوا كل أثر لتعدد الزوجات في بلاد الإسلام ، وأنهم لا يرضون عنهم إلا أن جاروهم في تحريمه ومنعه جملة وتفصيلا ، وأنهم يأبون أن يوجد على أي وجه من الوجوه ، لأنه منكر بشع في نظر سادتهم الخواجات.
... حتى سمعنا أن حكومة من الحكومات التي تنتسب للإسلام وضعت في بلادها قانونا منعت فيه تعدد الزوجات جملة ، بل صرحت تلك الحكومة باللفظ المنكر : أن تعدد الزوجات عندهم صار حراما ، ولم يعرف رجال تلك الحكومة أنهم بهذا اللفظ الجرئ المجرم صاروا مرتدين خارجين عن دين الإسلام...»([3]).
هذا و إن هذه الحملة الشعواء التي ترمي الإسلام و المسلمين بالداهية النَّكراء والصّيْلم الصّلعاء يقودها بعض الجهال المتأثرين بمحمد عبده المصري الذي كان زعيمها و حامل لوائها و المدافع عنها، فانظر إليه وهو يقول : «فَمَنْ تَأَمَّلَ الْآيَتَيْنِ عَلِمَ أَنَّ إِبَاحَةَ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ فِي الْإِسْلَامِ أَمْرٌ مُضَيَّقٌ فِيهِ أَشَدَّ التَّضْيِيقِ كَأَنَّهُ ضَرُورَةٌ مِنَ الضَّرُورَاتِ الَّتِي تُبَاحُ لِمُحْتَاجِهَا بِشَرْطِ الثِّقَةِ بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ، وَالْأَمْنِ مِنَ الْجَوْرِ. وَإِذَا تَأَمَّلَ الْمُتَأَمِّلُ مَعَ هَذَا التَّضْيِيقِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّعَدُّدِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنَ الْمَفَاسِدِ جَزَمَ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يُرَبِّيَ أُمَّةً فَشَا فِيهَا تَعَدُّدُ الزَّوْجَاتِ، فَإِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ زَوْجَتَانِ لِزَوْجٍ وَاحِدٍ لَا تَسْتَقِيمُ لَهُ حَالٌ، وَلَا يَقُومُ فِيهِ نِظَامٌ، بَلْ يَتَعَاوَنُ الرَّجُلُ مَعَ زَوْجَاتِهِ عَلَى إِفْسَادِ الْبَيْتِ كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَدُوٌّ لِلْآخَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ الْأَوْلَادُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، فَمَفْسَدَةُ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ تَنْتَقِلُ مِنَ الْأَفْرَادِ إِلَى الْبُيُوتِ، وَمِنَ الْبُيُوتِ إِلَى الْأُمَّةِ.
قَالَ: كَانَ لِلتَّعَدُّدِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ فَوَائِدُ أَهَمُّهَا صِلَةُ النَّسَبِ، وَالصِّهْرِ الَّذِي تَقْوَى بِهِ الْعَصَبِيَّةُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الضَّرَرِ مِثْلُ مَا لَهُ الْآنَ ; لِأَنَّ الدِّينَ كَانَ مُتَمَكِّنًا فِي نُفُوسِ النِّسَاءِ، وَالرِّجَالِ، وَكَانَ أَذَى الضَّرَّةِ لَا يَتَجَاوَزُ ضَرَّتَهَا. أَمَّا الْيَوْمَ فَإِنَّ الضَّرَرَ يَنْتَقِلُ مِنْ كُلِّ ضَرَّةٍ إِلَى وَلَدِهَا إِلَى وَالِدِهِ إِلَى سَائِرِ أَقَارِبِهِ، فَهِيَ تُغْرِي بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ، وَالْبَغْضَاءَ: تُغْرِي وَلَدَهَا بِعَدَاوَةِ إِخْوَتِهِ، وَتُغْرِي زَوْجَهَا بِهَضْمِ حُقُوقِ وَلَدِهِ مِنْ غَيْرِهَا، وَهُوَ بِحَمَاقَتِهِ يُطِيعُ أَحَبَّ نِسَائِهِ إِلَيْهِ، فَيَدِبُّ الْفَسَادُ فِي الْعَائِلَةِ كُلِّهَا، وَلَوْ شِئْتَ تَفْصِيلَ الرَّزَايَا وَالْمَصَائِبِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ لَأَتَيْتُ بِمَا تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الْمُؤْمِنِينَ، فَمِنْهَا: السَّرِقَةُ، وَالزِّنَا، وَالْكَذِبُ، وَالْخِيَانَةُ، وَالْجُبْنُ، وَالتَّزْوِيرُ، بَلْ مِنْهَا الْقَتْلُ، حَتَّى قَتَلَ الْوَلَدُ وَالِدَهُ، وَالْوَالِدُ وَلَدَهُ، وَالزَّوْجَةُ زَوْجَهَا، وَالزَّوْجُ زَوْجَتَهُ، كُلُّ ذَلِكَ وَاقِعٌ ثَابِتٌ فِي الْمَحَاكِمِ ; وَنَاهِيكَ بِتَرْبِيَةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا تَعْرِفُ قِيمَةَ الزَّوْجِ وَلَا قِيمَةَ الْوَلَدِ، وَهِيَ جَاهِلَةٌ بِنَفْسِهَا، وَجَاهِلَةٌ بِدِينِهَا، لَا تَعْرِفُ مِنْهُ إِلَّا خُرَافَاتٍ وَضَلَالَاتٍ تَلَقَّفَتْهَا مِنْ أَمْثَالِهَا يَتَبَرَّأُ مِنْهَا كُلُّ كِتَابٍ مُنَزَّلٍ، وَكُلُّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، فَلَوْ تَرَبَّى النِّسَاءُ تَرْبِيَةً دِينِيَّةً صَحِيحَةً يَكُونُ بِهَا الدِّينُ هُوَ صَاحِبَ السُّلْطَانِ الْأَعْلَى، عَلَى قُلُوبِهِنَّ بِحَيْثُ يَكُونُ هُوَ الْحَاكِمَ عَلَى الْغَيْرَةِ لَمَا كَانَ هُنَالِكَ ضَرَرٌ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ ضَرَرُهُ قَاصِرًا عَلَيْهِنَّ فِي الْغَالِبِ. أَمَّا وَالْأَمْرُ عَلَى مَا نَرَى، وَنَسْمَعُ فَلَا سَبِيلَ إِلَى تَرْبِيَةِ الْأُمَّةِ مَعَ فُشُوِّ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ فِيهَا، فَيَجِبُ عَلَى الْعُلَمَاءِ النَّظَرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خُصُوصًا الْحَنَفِيَّةَ مِنْهُمُ الَّذِينَ بِيَدِهِمُ الْأَمْرُ، وَعَلَى مَذْهَبِهِمُ
الْحُكْمُ، فَهُمْ لَا يُنْكِرُونَ أَنَّ الدِّينَ أُنْزِلَ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ، وَخَيْرِهِمْ، وَأَنَّ مِنْ أُصُولِهِ مَنْعَ الضَّرَرِ، وَالضِّرَارِ، فَإِذَا تَرَتَّبَ عَلَى شَيْءٍ مَفْسَدَةٌ فِي زَمَنٍ لَمْ تَكُنْ تَلْحَقُهُ فِيمَا قَبْلَهُ فَشَكَّ فِي وُجُوبِ تَغَيُّرِ الْحُكْمِ، وَتَطْبِيقِهِ عَلَى الْحَالِ الْحَاضِرَةِ: يَعْنِي عَلَى قَاعِدَةِ (دَرْءُ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ) . قَالَ: وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ مُحَرَّمٌ قَطْعًا عِنْدَ الْخَوْفِ مِنْ عَدَمِ الْعَدْلِ»([4]).
فما نراه من كلام محمد عبده هو الإنكار الشديد لتعدد الزوجات فقد جعل من إباحته في الإسلام«أَمْرٌ مُضَيَّقٌ فِيهِ أَشَدَّ التَّضْيِيقِ كَأَنَّهُ ضَرُورَةٌ مِنَ الضَّرُورَاتِ الَّتِي تُبَاحُ لِمُحْتَاجِهَا بِشَرْطِ الثِّقَةِ بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ»،كما ربطه بفساد أحوال التعدد في ذلك العصر بين المصريين الذين تزوجوا أكثر من واحدة.
وكما لا يخفى على الكثير أن محمد عبده انبرى لتفسير كتاب الله عزوجل و لكن تفسيره لم يكن لخدمة الإسلام بل لغاية أخرى ليس لمثلي أن يتكلم فيها لأن الرد إنما يكون للعلماء فهم الذين يردون الشبهات و يدكونها و ما لنا إلا الجمع و الترتيب و الله المستعان.
ونقول لهؤلاء القوم الذين اتبعوا محمد عبده في إنكاره للتعدد [إن قوله تعالى : ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ﴾[النساء:3] تحديد عدد الزوجات بأربع، وكانوا في الجاهلية يزيدون على الأربع. وهذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه و سلم في السنة الثامنة للهجرة، وكان نزولها لتحديد عدد الزوجات بأربع، وقد كان إلى حين نزولها لا حد له. ومعنى الآية : تزوجوا ما لذ لكم وطاب من النساء اثنين و ثلاثا و أربعا. و الآية تبيح تعدد الزوجات وتحدده بأربع، و لكنها تأمر بالعدل بينهن، و ترغب في الاقتصار على الواحدة في حالة الخوف من عدم العدل، لأن الاقتصار على الواحدة في حالة الخوف من عدم العدل أقرب إلى عدم الجور وهو ما يجب أن يتصف به المسلم.
إلا أنه يجب أن يعلم أن العدل هنا ليس شرطا في إباحة تعدد الزوجات، وإنما هو حكم لوضع الرجل الذي يتزوج عددا من النساء فيما يجب أن يكون عليه في حالة التعدد، و ترغيب في الاقتصار على الواحدة في حالة الخوف من عدم العدل، وذلك أن معنى الجملة قد تم في الآية في قوله : ﴿فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ﴾ وهذا معناه جواز حصول التعدد مطلقا، وقد انتهى معنى الجملة، ثم استأنف جملة أخرى وكلاما آخر فقال : ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾، و لا يتأتى أن تكون ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ شرطا لأنها لم تتصل بالجملة الأولى اتصال الشرط، بل هي كلام مستأنف، و لو أراد أن تكون شرطا لقال : ﴿فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ إِنْ عَدَلْتُمْ﴾. وذلك لم يكن ، فثبت أن العدل ليس شرطا، و إنما هو حكم شرعي آخر غير الحكم الأول. فإنه أولا أباح تعدد الزوجات بأربع، ثم جاء بحكم آخر وهو أن الأولى الاقتصار على واحدة إذا رأى أن تزوجه بأكثر من واحدة يجعله لا يعدل بينهن. ومن ذلك يتبين أن الله تعالى أباح التعدد دون قيد و لا شرط ودون أي تعليل، بل لكل مسلم أن يتزوج اثنتين و ثلاثا و أربعا مما يطيب له من النساء، ولهذا تجد الله تعالى يقول ﴿مَا طَابَ لَكُمْ﴾ أي ما وجدتموه من الطيبات لكم، و يتبين أن الله قد أمرنا بالعدل بين النساء ورغبنا في حالة خوف الوقوع في الجور بين النساء أن تقتصر على واحدة، لأن الاقتصار على واحدة أقرب إلى عدم الجور] ([5]).
ويقول العلامة أحمد شاكر : «فزعموا أن إباحة التعدد مشروطة بشرط العدل، و أن الله سبحانه أخبر بأن العدل غير مستطاع، فهذه أمارة تحريمه عندهم إذ قصروا استدلالهم على بعض الآية وتركوا باقيها ﴿وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ وتركوا ما فيها ﴿فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾[النساء:129] فكانوا يؤمنون ببعض الكتاب و يكفرون ببعض...
وشرط العدل في هذه الآية ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً﴾ شرط شخصي لا تشريعي، أعني: أنه شرط مرجعه لشخص مكلف، لا يدخل تحت سلطان التشريع و القضاء. فإن الله قد أذن للرجل بصيغة الأمر أن يتزوج ما طاب له من النساء، دون قيد بإذن القاضي أو بإذن القانون أو بإذن ولي الأمر أو غيره، وأمره أنه إذا خاف في نفسه أن لا يعدل بين الزوجات أن يقتصر على واحدة و بالبداهة أن ليس لأحد سلطان على قلب المريد الزواج حتى يستطيع أن يعرف ما في دخيلة نفسه من خوف الجور أو عدم خوفه بل ترك الله ذلك لتقديره في ضميره وحده ثم علمه الله سبحانه أنه على الحقيقة لا يستطيع إقامة ميزان العدل بين الزوجات إقامة تامة لا يدخلها ميل ، فأمه أن لا يميل (كل الميل فيذر بعض زوجاته كالمعلقة) فاكتفى ربه منه في طاعة أمره بالعدل أن يعمل منه بما استطاع ، و رفع عنه ما لم يستطع.
وهذا العدل المأمور به مما يتغير بتغير الظروف، ومما يذهب ويجيء بما يدخل في نفس المكلف ولذلك لا يعقل أن يكون شرطا في صحة العقد بل هو شرط نفسي متعلق بنفس المكلف و بتصرفه في كل وقت بحسبه:
فرب رجل عزم على الزواج المتعدد، و هو مصر في قلبه على عدم العدل، ثم لم ينفذ ما كان مصرا عليه، وعدل بين أزواجه فهذا لا يستطيع أحد يعقل الشرائع أن يدعي أنه خالف أمر ربه إذ أنه أطاع الله بالعدل، و عزيمته في قلبه من قبل لا أثر لها في صحة العقد أو بطلانه بداهة خصوصا و أن النصوص كلها صريحة في أن الله لا يؤاخذ العبد بما حدث به نفسه، ما لم يعمل به أو يتكلم.
ورب رجل تزوج زوجة أخرى عازما في نفسه على العدل، ثم لم يفعل، فهذا قد ارتكب الإثم بترك العدل ومخالفة أمر ربه ولكن لا يستطيع أحد يعقل الشرائع أن يدعي أن هذا الجور المحرم منه قد أثر على أصل العقد بالزوجة الأخرى، فنقله من الحل و الجواز إلى الحرمة و البطلان و إنما إثمه على نفسه فيما لم يعدل، و يجب عليه طاعة ربه في إقامة العدل وهذا شيء بديهي لا يخالف فيه من يفقه الدين و التشريع»([6]).
ومنهم من قال أن الآية نزلت لإعالة اليتامى كما نقل عن بعض الجاهلات في حصة بثتها قناة الهوقار الجزائرية حول تعدد الزوجات فقالت : «أتوجه إلى الأئمة أتوجه إلى أصحاب الفتوى عندما نفتي في تعدد الزوجات أن يقرؤوا الآية بكاملها و أن يفسروها بكاملها و أتحدى إن كان عالما واحدا في العالم الإسلامي العربي فسر هذه الآية و أعطاها حقها... الله سبحانه و تعالى واضح في هذه الآية هذه الآية نزلت بعد أن كثر اليتامى ، هذه الآية مرتبطة بمساعدة اليتامى ، مرتبطة بإعالة اليتامى ، مرتبطة بالتكفل باليتامى.... لا بد من قراءة الآية بذكاء نذهب للآية الثالثة من سورة النساء و نحللها و نتمعن فيها و الله سبحانه و تعالى لم يكن يقصد أن الرجل يجد زوجتها غير ملائمة يتزوج عليها و إنما كان يقصد إعالة اليتامى لأن الآية نزلت بعد أن كثر اليتامى و كثرت الأرامل..... قد يستطيع صاحب المال أن يعدل في المسكن و غيرها و لكن لا يستطيع أن يعدل في العواطف ....».
انظر إلى جرأة هذه السافلة المتطاولة على العلماء فما عساي أن أقول في وهج حماقاتها إلا كما قال العلامة أحمد شاكر في كتابه كلمة حق، قال رحمه الله : «واجترأ بعض من يعرف القراءة والكتابة من الرجال والنسوان فجعلوا أنفسهم مجتهدين في الدين !! يستنبطون الأحكام ، ويفتون في الحلال والحرام ، ويسبون علماء الإسلام إذا أرادوا أن يعلموهم ويقفوهم عند حدهم ، وأكثر هؤلاء الأجرياء من الرجال والنساء ، لا يعرفون كيف يتوضؤن ولا كيف يصلون ، بل لا يعرفون كيف يتطهرون ، ولكنهم في مسألة تعدد الزوجات مجتهدون !!
بل لقد رأينا بعض من يخوض منهم فيما لا يعلم يستدل بآيات القرآن بالمعنى ؛ لأنه لا يعرف اللفظ القرآني !!» ([7]).
و ما تدندن حوله هذه المتفلسفة أن الآية نزلت لإعالة اليتامى دعوة باطلة ليس لها دليل، فالمعروف أنه كان بعض الصحابة رضوان الله عليهم يتكفلون برعاية الأيتام والولاية على أموالهم وكانوا يحسنون إليهم أيما إحسان فوقع أن أحدهم تزوج يتيمة كانت تحت وصايته، وظن أن رعايته لها تغنيها عن مهرها فلم يدفعه لها، فنهى الله عز وجل عن ذلك، كما ستبينه القصية الآتية:
فَعَنْ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَ لَهَا : « يَا أُمَّتَاهْ ، ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾[النساء:3] ، قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا ابْنَ أُخْتِي ، هَذِهِ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِي جَمَالِهَا وَمَالِهَا وَيُرِيدُ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ صَدَاقِهَا ، فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِي إِكْمَالِ الصَّدَاقِ ، وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنَ النِّسَاءِ ، قَالَتْ عَائِشَةُ : اسْتَفْتَى النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : ﴿ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ﴾[ النساء: 127] ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : أَنَّ الْيَتِيمَةَ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ مَالٍ وَجَمَالٍ رَغِبُوا فِي نِكَاحِهَا وَنَسَبِهَا وَالصَّدَاقِ ، وَإِذَا كَانَتْ مَرْغُوبًا عَنْهَا فِي قِلَّةِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ تَرَكُوهَا وَأَخَذُوا غَيْرَهَا مِنَ النِّسَاءِ ، قَالَتْ : فَكَمَا يَتْرُكُونَهَا حِينَ يَرْغَبُونَ عَنْهَا ، فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْكِحُوهَا إِذَا رَغِبُوا فِيهَا إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهَا وَيُعْطُوهَا حَقَّهَا الْأَوْفَى مِنَ الصَّدَاقِ»([8]).
و قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : « وقوله : ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى﴾أي : إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة ، وخاف ألا يعطيها مهر مثلها ، فليعدل إلى ما سواها من النساء فإنهن كثير ، ولم يضيق الله عليه»([9]).
وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله : «قوله تعالى : ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَاءِ﴾.
لا يخفى ما يسبق إلى الذهن في هذه الآية الكريمة من عدم ظهور وجه الربط بين هذا الشرط وهذا الجزاء ، وعليه ففي الآية نوع إجمال .
والمعنى كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : أنه كان الرجل تكون عنده اليتيمة في حجره . فإن كانت جميلة ، تزوجها من غير أن يقسط في صداقها ، وإن كانت دميمة رغب عن نكاحها وعضلها أن تنكح غيره : لئلا يشاركه في مالها . فنهُوا أن ينكحوهنَّ إلا أن يقسطوا إليهن ويبلغوا بهن أعلى سُنَّتهن في الصداق ، وأُمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهنَّ .
أي : كما أنه يرغب عن نكاحها إن كانت قليلة المال ، والجمال ، فلا يحل له أن يتزوجها إن كانت ذات مال وجمال إلا بالإقساط إليها ، والقيام بحقوقها كاملة غير منقوصة .
وهذا المعنى الذي ذهبت إليه أم المؤمنين ، عائشة ، رضي الله عنها ، يبينه ويشهد له قوله تعالى : ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ﴾[ النساء: 127].
وقالت رضي الله عنها : إن المراد بما يُتلَى عليكم في الكتاب هو قوله تعالى : ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى﴾ ، فتبين أنها يتامى النساء ، بدليل تصريحه بذلك في قوله : ﴿فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾ فظهر من هذا أن المعنى : و إن خفتم ألا تقسطوا في زواج اليتيمات : فدَعُوهُنَّ ، وانكحوا ما طاب لكم من النساء سواهن .
وجواب الشرط دليل واضح على ذلك ؛ لأن الربط بين الشرط والجزاء يقتضيه ، وهذا هو أظهر الأقوال لدلالة القرآن عليه»([10]).
هذا ونقول لهذه المسكينة : «إن الشريعة كل لا يجوز للمسلم تجزئته فتقبل كلها أو ترد كلها»([11])،[ألا فلتعلمن أن كل من حاول تحريم تعدد الزوجات أو منعه، أو تقييده بقيود لم ترد في الكتاب ولا في السنة، فإنما يفتري على الله الكذب] ([12])، فيا قوم إنها لمكيدة مدبرة و فتنة محضرة ، يا قوم إن الأمر لمدبَّر ؛ إن الأمر لَمدبر عِلمه مَن علمه منكم وجهِله من جهله ؛ و ما نحن بمتزيدين ولا متخرصين، فإن هؤلاء [الذين يدعونكم إلى منع تعدد الزوجات لا يتورع أكثرهم عن اتخاذ العدد الجم من العشيقات و الأخذان، و أمرهم معروف مشهور] ([13]) ، فدعوتهم غير مقبولة، وبان أن رحمهم بالعلم غير موصولة، ونقول لهذه المتاطولة: اعط القوس باريها، وخلِّ المطايا لحاديها، ريثما تراجعين نفسك، وتتهيئين لما تحسنين؛ فإن قيمة المرء ما يحسن. والحمد لله رب العالمين.



==========


([1]): رواه البخاري (5066) ومسلم (1400) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
([2]): رواه أبو داود (2050) و النسائي (3229) وصححه الألباني في إرواء الغليل( 1784).
([3]): كلمة حق. ت : عبد السلام هارون (ص:303-304).
([4]): تفسير المنار (4/348-350).
([5]):اتجاهات التفسير في العصر الراهن (ص:186-187).
([6]):كلمة حق. ت : عبد السلام هارون (ص:306-309).
([7]):كلمة حق. ت : عبد السلام هارون (ص:304-305).
([8]): رواه البخاري في كتاب النكاح : باب تزويج اليتيمة، رقم (5140).
([9]): تفسير ابن كثير. ط: طيبة (2/208).
([10]): مختصر أضواء البيان. ط: دار الفضيلة (ص:101).
([11]): من كلام للشيخ عبد الحميد ابن باديس رحمه الله في جواب عن سؤال وجهه له أحد الفرنسيين. انظر الآثار (3/357).
([12]): من كلام أحمد شاكر من كلمة حق. (ص:314).
([13]): من كلام أحمد شاكر من كلمة حق. (ص:312).

عبدالله بن العيد عدونة
18-Nov-2014, 02:30 PM
بارك الله فيك أخي بلال على هذا المقال الطيب , والذي كان فيه رد على تلك الجاهلة المتفلسفة التي أتت بقيود في هذا الباب ما انزل الله بها من سلطان , وكما قال العلامة أحمد شاكر :" وأكثر هؤلاء الأجرياء من الرجال والنساء ، لا يعرفون كيف يتوضؤن ولا كيف يصلون ، بل لا يعرفون كيف يتطهرون ، ولكنهم في مسألة تعدد الزوجات مجتهدون !! ... " , ولو نظرنا في صلاة هذه الجاهلة ــ هذا إن كانت تصلي ــ , أو في طهارتها لعلنا نتأسف كيف لمن هذه صلاتها وطهارتها تتكلم في هذه الأمور العظام من شرع الله . وإن مما قالته ــ وهي تخاطب أئمة المساجد والشيوخ ــ : " من قال لكم أن الأرامل والمطلقات يبحثن عن الأزواج !!!!!! " , لما سمعت كلامها قلت : اقلبي السؤال على نفسك " من قال لكِ أن الأرامل والمطلقات لا يبحثن عن الأزواج ؟؟؟ " .
الحرب على هذه العبادة قديم عند هؤلاء , وما هاته المرأة ومن على شاكلتها إلا أذناب وأفراخ لدعاة ( تحرير المرأة وتمزيق الحجاب ) أمثال : قاسم أمين , ومحمد عبده ... وغيرهم , وهؤلاء بدورهم أذناب للغرب الكافر , والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله .

أبو عبد الله بلال الجزائري
18-Nov-2014, 09:25 PM
وفيك بارك أخي الحبيب و قد وقعت في تناقضات منها أنها قالت أن الآية نزلت لما كثر الأرامل و الأيتام و بعدها ترد وتقول من قال أن التعدد فيه فائدة للأرامل؟؟؟؟؟؟؟