المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هل يطلق على العبد أنه يشتاق إلى الله وإلى لقائه / لابن القيم رحمه الله



أم عمير السنية السلفية
30-Nov-2014, 08:33 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

فصل وأما المسألة الثانية وهي هل يطلق على العبد أنه يشتاق إلى الله وإلى لقائه

من كتاب طريق الهجرتين وباب السعادتين
لابن القيم رحمه الله


فهذا غير ممتنع فقد روى الإمام أحمد في مسنده والنسائي وغيرهما من حديث حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن أبيه قال صلى بنا عمار بن ياسر صلاة فأوجز فيها فقلت خففت يا أبا اليقظان فقال وما علي من ذلك ولقد دعوت الله بدعوات سمعتها من رسول الله فلما قام تبعه رجل من القوم فسأله عن الدعوات فقال: (اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا وأسألك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيما لا ينفد وقرة عين لا تنقطع وأسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين) فهذا فيه إثبات لذة النظر إلى وجهه الكريم وشوق أحبابه إلى لقائه فإن حقيقة الشوق إليه هو الشوق إلى لقائه قال أبو القاسم القشيري سمعت الأستاذ أبا علي يقول في لقائه أسألك الشوق إلى لقائك قال كان الشوق مائة جزء فتسعة وتسعون له وجزء متفرق في الناس فأراد أن يكون ذلك الجزء له أيضا فغار أن تكون شظية من الشوق في غيره
قال وسمعته يقول في قول موسى وعجلت إليك رب لترضى قال معناه شوقا إليك فستره بلفظ الرضى وهذا أكثر مشايخ الطريق يطلقونه ولا يمتنعون منه
وقيل إن شعيبا بكى حتى عمي بصره فأوحى الله إليه إن كان هذا لأجل الجنة فقد أبحتها لك وإن كان لأجل النار فقد أجرتك منها فقال لا بل شوقا إليك
وقال بعض العارفين من اشتاق إلى الله اشتاق إليه كل شيء
وقال بعضهم قلوب العاشقين منورة بنور الله فإذا تحرك اشتياقهم أضاء النور ما بين السماء والأرض فيعرضهم الله على الملائكة فيقول هؤلاء المشتاقون إلي أشهدكم أني إليهم أشوق وإذا كان الشوق هو سفر القلب في طلب محبوبه ونزوعه إليه فهو من أشرف مقامات العبيد وأجلها وأعلاها ومن أنكر شوق العبد إلى ربه فقد أنكر محبته له لأن المحبة تستلذ الشوق فالمحب دائما مشتاق إلى لقاء محبوبه لا يهدأ قلبه ولا يقر قراره إلا بالوصول إليه.

فأما قوله إن الشوق عند الخواص علة عظيمة لأن الشوق إنما يكون إلى غائب ومذهب هذه الطائفة إنما قام على المشاهدة فيقال المشاهدة نوعان مشاهدة عرفان ومشاهدة عيان وبينهما من التفاوت ما بين اليقين والعيان ولا ريب أن مشاهدة العرفان متفاوتة بحسب تفاوت الناس بالمعرفة ورسوخهم فيها وليس للمعرفة نهاية تنتهي إليها بحيث إذا وصل إليها العارف سكن قلبه عن الطلب بل كلما وصل منها إلى معلم ومنزلة اشتد شوقه إلى ما وراءه وكلما ازداد معرفة ازداد شوقا فشوق العارف أعظم الشوق فلا يزال في مزيد من الشوق ما دام في مزيد من المعرفة فكيف يكون الشوق عنده علة عظيمة هذا من المحال البين بل من عرف الله اشتاق إليه وإذا كانت المعرفة لا نهاية لها فشوق العارف لا نهاية له هذا مع الشوق الناشىء عن طلب اللقاء والرؤية والمعرفة العيانية فإذا كان القلب حاضرا عند ربه وهو غير غائب عنه لم يوجب له هذا أن لا يكون مشتاقا إلى لقائه ورؤيته بل هذا يكون أتم لشوقه وأعظم فظهر أن قوله وإن الشوق علة عظيمة في طريق الخواص كلام باطل على كل تقدير وإن الشوق بالحقيقة إنما هو شوق الخواص العارفين بالله والعبد إذا كان له مع الله حال أو مقام وكشف له عما هو أفضل منه وأجل اشتاق إليه بالضرورة ولم يكن شوقه علة له ونقصا في حاله بل زيادة وكمالا ويكون ترك الشوق هو العلة وقد تقدم أن لا غاية للمعرفة تنتهي إليهافيبطل الشوق بنهايتها بل لا يزال العارف في مزيد من معرفته وشوقه والله المستعان.