المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تفسير سورة آل عمران-المجلد الثاني -من الآيه 104 إلى نهاية السورة العلامة صالح العثيمين -رحمه الله-



أبو عبد المصور مصطفى الجزائري
31-Mar-2015, 04:25 PM
تفسير سورة آل عمران-المجلد الثاني -من الآيه 104 إلى نهاية السورة







بسم الله الرحمن الرحيم


ثم قال الله تعالى: { {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} } [آل عمران: 104 ـ 105] : قوله تعالى: { {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} } اللام في قوله: { {وَلْتَكُنْ} } لام الأمر، ودليل ذلك جزم الفعل بها { {وَلْتَكُنْ} } ولام الأمر تجزم الفعل المضارع { {أُمَةٌ} } طائفة يدعون إلى الخير، والأمة في القرآن الكريم وردت على معان متعددة، منها الطائفة، ومنها الزمن، ومنها الإمامة، ومنها الملة، فمثالها في الطائفة هذه الآية { {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَةٌ} }، ومثالها في الملة قوله: {{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}} [الزخرف: 22] ، أي على ملة، ومثالها في الإمامة {{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً}} [النحل: 120] ومثالها في الزمن: {{وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ}} [يوسف: 45] ، أي بعد زمن. { {مِنْكُمْ} } (مِنْ) يحتمل أن تكون للتبعيض، ويحتمل أن تكون لبيان الجنس، فعلى الأول يكون المعنى: وليكن بعضكم يدعو إلى الخير، وعلى الثاني: ولتكونوا جميعاً دعاة إلى الخير؛ لأننا إذا جعلناها لبيان الجنس صار المعنى أن كل الأمة يجب أن تكون من هذا الطراز، يعني: ولتكونوا أمة تدعون إلى الخير، وإذا جعلناها للتبعيض صار المعنى: وليكن بعضكم يدعو إلى الخير. قال: { {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} } كل من تتوجه الدعوة إليه، أي إنسان تتوجه الدعوة إليه فليدعوه حتى الجن، ولهذا كان المفعول محذوفاً من أجل العموم { {الْخَيْرِ} } كل ما جاء به الشرع فهو خير، ويشمل ما كان خيراً في الدين وما كان خيراً في الدنيا، أما ما كان خيراً في الدين فأمره ظاهر {{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *}} [الزلزلة: 7] وأما ما كان من أمر الدنيا فلأن ما كان من مصالح الدنيا التي لا تعارض الدين فهو من الأمور الخيرية المطلوبة، فيكون الخير هنا يشمل خير الدين وخير الدنيا، فمثلاً يدعون إلى فعل الطاعات، صَلِّ، زكِّ، صُم، حُج، بر والديك، صِلْ أرحامك، انصح في البيع والشراء، بيِّن، وما أشبه ذلك، كل هذا دعوة إلى الخير. لا تزنِ، لا تسرق، لا تشرب الخمر، لا تقتل النفس بغير حق، لا تعق والديك، لا تقطع أرحامك، لا تغش الناس، هذا أيضاً دعوة إلى الخير؛ لأن النهي طلب كفٍّ فهو في الحقيقة دعوة إلى الخير؛ لأن ترك الشر خير. { {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} }: جعل الأمر بالمعروف بعد الدعوة؛ لأن الدعوة سابقة على الأمر، فأنت تدعو أولاً ثم تأمر ثانياً ثم تغير ثالثاً، وهذا يلتبس على كثير من الطلبة، يظنون أن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتغيير المنكر شيء واحد، والأمر ليس كذلك، فالدعوة إلى الخير عامة. الخطيب إذا خطب الناس في الجمعة وأمر ونهى، يقال: داع إلى الخير، الرجل إذا قال: يا أخي صلِّ، اتق الله يا أخي، لا تغش الناس، اتق الله، فهذا أمر بمعروف ونهي عن منكر. ولي الأمر إذا رأى آلة عزف وكسرها هذا تغيير منكر، ولكلٍّ درجات. وكلمة (يأمرون) تدل على أنهم يتكلمون مع الناس على وجه الاستعلاء لا على وجه العلو، يعني على وجه أنني آمر، والآمر بالخير أعلى مرتبة من المأمور. وقوله: { {بِالْمَعْرُوفِ} } المعروف كل ما عرفه الشرع وأقره من العبادات فعلاً؛ لأنه قال: { {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} }، جمع بينهما، فصار المراد بالمعروف كل ما عرفه الشرع وأقره من العبادات المأمور بها، فالأمر بالتوحيد أمر بالمعروف، والأمر باتباع السلف في العقيدة أمر بمعروف، والأمر بالصلاة أمر بمعروف، والأمر ببر الوالدين أمر بالمعروف، وهلم جرا. ثالثاً : { {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} }: النهي طلب الكف على وجه الاستعلاء، يعني يطلبون من الناس أن يكفوا عن المنكر، والمنكر ما أنكره الشرع من الأعمال والأخلاق، فالزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وقتل النفس، والعدوان على الناس بأخذ أموالهم وانتهاك أعراضهم، كل هذه منكرات، فهم ينهون عن المنكر. { {لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} }: (أولئك) المشار إليه الأمة الداعية إلى الخير، الآمرة بالمعروف، الناهية عن المنكر، وهي مبتدأ، و «هم» ضمير فصل لا محل له من الإعراب، والمفلحون خبر المبتدأ، فلو قال قائل: لماذا لا تجعلون «هم» مبتدأ ثانياً، و «المفلحون» خبر المبتدأ الثاني، والجملة خبر المبتدأ الأول؟ قلنا: لا نقول ذلك، لأننا لو قلنا ذلك لفاتتنا فوائد ضمير الفصل، ويدل لهذا قوله تعالى: {{لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ *}} [الشعراء: 40] ووجه الدلالة أنه لم يجعل ضمير الفصل مبتدأ، فلو جعل مبتدأ لقال (إن كانوا هم الغالبون) حتى تكون الغالبون خبر لـ«هم». و{ {الْمُفْلِحُونَ} } هم الناجون من الكربات، الحاصلون على المطلوبات، فالفلاح هو النجاة من المكروبات أو من المكروهات والحصول على المطلوبات، ففيه أمران: 1 ـ سلامة. 2 ـ وكسب. ولهذا تعتبر كلمة الفلاح من أجمع الكلمات، فالمفلح هو الفائز بمطلوبه، الناجي من مرهوبه. ثم قال تعالى: { {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *} }: نهى الله أن نكون مثل هؤلاء الذين جمعوا بين وصفين ذميمين: التفرق والاختلاف، ورتَّب على هذا الجزاء المشين وهو قوله: { {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} }. قوله: { {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} } أي لا تصيروا مثل الذين، وعلى هذا فنعرب الكاف هنا اسماً لتكون خبر (تكون): تكونوا مثل الذين تفرقوا، قال ابن مالك: شبه بكاف وبها التعليل قد يعنى وزائداً لتوكيد ورد واستعمل اسماً. فالكاف هنا اسم بمعنى مثل، وهي خبر «تكون». وقوله: { {كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} }: أتى بها بعد قوله: { {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} } لأن الأمة إذا تركت الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا بد أن تتفرق؛ لأنه لا يكون لهم في هذه الحال كلمة جامعة، كل واحد يعمل على هواه لأنه ما يُدعى إلى الخير، والنفوس لها نزعات متباينة مختلفة، وكذلك أيضاً إذا لم يكن أمر بمعروف ولا نهي عن منكر تفرق الناس ولا بد؛ لأن هذا يريد الزنا، وهذا يريد شرب الخمر، وهذا يريد السرقة، وهذا يريد أشياء غير الأولى فيحصل التفرق، فإذا أمروا بالمعروف صاروا كلهم على المعروف، وإذا نهوا عن المنكر صاروا كلهم على ترك المنكر. قال: { {كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} } مثل من قال فيهم: {{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ *}} [البينة: 4] وأول من مثّل بهم أهل الكتاب [اليهود والنصارى] حيث اختلفوا اختلافاً عظيماً من بعد ما جاءتهم البينات، فنهانا الله تعالى أن نكون مثلهم في التفرق والاختلاف. { {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} } وإذا نُهينا عن ذلك فهو أمر بضده، يعني إذا نُهينا عن التفرق والاختلاف فهو أمر بالاجتماع والائتلاف، الاجتماع ضد التفرق، والائتلاف ضد الاختلاف، كأن الله يقول: اجتمعوا وائتلفوا، ولا يكن فيكم افتراق ولا اختلاف فتكونوا مثل اليهود والنصارى. { {تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} } تفرقوا في أبدانهم ولم يجتمعوا، وصاروا أحزاباً، واختلفوا في قلوبهم وفي مناهجهم، فصار لكل حزب منهجٌ معين يفرح به ولا يتزحزح عنه، ويرى أن من سواه على ضلال. قال تعالى: { {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} } أشار إليهم بصيغة البعد لأن أولاء اسم إشارة للبعيد، وذلك لانحطاط مرتبتهم، يعني كأنهم لانحطاط مرتبتهم أنزلهم المتكلم منزلة البعيد منه لأنه يتبرأ منهم ومن أعمالهم. { {لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} } العذاب هو العقوبة ـ والعياذ بالله ـ لأنه يؤلم صاحبه ويعذبه، والعظيم هو الشيء المستعظم في كيفيته وفي كميته؛ لأن عذابهم ـ نسأل الله العافية ـ شديد متنوع، يسقون من ماء حميم ـ والعياذ بالله ـ إلى برودة كذلك، كما أنه عظيم في دوامه مستمر أبدي، نسأل الله العافية. من فوائد الآيتين الكريمتين: 1 ـ في الأولى وجوب الدعوة إلى الخير، تؤخذ من لام الأمر { {وَلْتَكُنْ} } والأصل في الأمر الوجوب. 2 ـ أن ذلك على الكفاية؛ لقوله: { {مِنْكُمْ} } وهذا على القول بأن (مِن) للتبعيض، أما إذا قيل إن (مِن) لبيان الجنس فإنه يدل على أنه يجب على الأمة كلها أن تكون أمة داعية إلى الخير، بمعنى أنه لا ينتظر بعضهم بعضاً هل يأمر أو لا يأمر، بل كلهم يكونون مستعدين لذلك. كلهم دعاة، فمثلاً: إذا قيل لشخص: قُم وادع إلى الخير قال: فلان يدعو إلى الخير وفيه كفاية، هذا لا ينبغي، بل ينبغي أن يدعو إلى الخير ما استطاع؛ لأنه قال: { {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَةٌ} } تكن أمة بمجموعها تدعو إلى الخير. 3 ـ ملاحظة الإخلاص؛ لقوله { {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} } لا إلى أنفسهم؛ لأن بعض الناس يدعو إلى نفسه، وبعض الناس يدعو إلى الخير، وعلامة الداعي إلى نفسه أنه لا يريد من الناس أن يخالفوه ولو كان على خطأ، وهذا لا شك أنه داع إلى نفسه، ثانياً: من علامة ذلك أنه يكره أن يقوم غيره بذلك، أي بالدعوة إلى الخير يريد أن يستبدَّ به من بين سائر الناس، هذا أيضاً داع إلى نفسه ليصرف وجوه الناس إليه، نسأل الله الحماية والعافية. أما إذا كان يودُّ أن يقوم هو بالأمر لينال الأجر لا ليحرم غيره أو ليصرف الناس إلى نفسه فهذا ليس عليه شيء، يعني كل واحد يحب أن يكون داعية إلى الخير. 4 ـ أن اتباع الخير في كل شيء مطلوب للشرع. والخير قسمان: خير بنفسه وخير لغيره، يعني خير يكون وسيلة لغيره، فمثلاً: لو أنك سألت شخصاً عن المجريات اليومية من أجل إدخال السرور عليه، وأنت ما تستفيد من هذا، فهذا من الخير لغيره؛ لأنك ما تستفيد من هذا وهو ربما لا يستفيد لكن تريد أن تدخل السرور عليه، ومن ثَمَّ صار الناس يتساءلون: هل يسن للإنسان أن يتحدث على الأكل أو لا يسن؟ نقول: يُنظر إن كان الإنسان يتحدث ليشغلهم عن الأكل فهذا غير حسن، وإن كان يتحدث من أجل أن يشحذ نفوسهم على الأكل حتى ينبسطوا ويستأنسوا ويأكلوا، فهذا خير لغيره بشرط أن يكون الأكل بالقدر الشرعي. والقدر الشرعي بيَّنه الرسول صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه» [(1)]. لكن الخير لغيره يختلف، فلو أراد الإنسان أن يتوصل إلى خير بشرٍّ كأن يصانع إنساناً بمعصية يقول لعله يهتدي، مثل أن يغتاب زيداً أو عمراً ليتقرب إلى هذا الرجل، فهذا ليس بجائز، لا يمكن أن تكون الدعوة إلى الخير بوسيلة محرمة إطلاقاً؛ لأن الوسيلة المحرمة خبث في ذاتها، كيف تكون وسيلة إلى خير، لكن إذا كان من المباح صار خيراً لغيره، وإن كان هو بنفسه خيراً صار خيراً على خير. 5 ـ وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لقوله: { {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} } وهل هو فرض كفاية أو فرض عين؟ ينبني على الخلاف في (مِنْ) هل هي تبعيضية أو لا؟ ولا شك أننا إذا رأينا منكراً وجب علينا أن ننكره وننهى عنه، لكن لا يجب على كل واحد أن ينهى عن منكر معين، مثلاً لو أن شخصاً اغتاب عندنا ونحن عشرة هل نقول: كلنا ننهى عنه أو إذا نهى واحد وحصلت به الكفاية كفى؟ لكن لو أنه نهاه ولم ينته وجب على الآخرين أن يكونوا معه، وهذا عكس ما يفعله بعض الناس الآن ـ نسأل الله العافية ـ إذا نهى الناهي عن المنكر قاموا ضده، هؤلاء يخشى عليهم أن يطبع الله على قلوبهم؛ لأنهم خذلوا من يجب نصره، وهذا خطر عظيم جدًّا. 6 ـ أنه لا بد من العلم يعني الحث على العلم؛ لأنه لا يمكن أن يدعو إلى الخير من لا يعلم الخير، ولا يمكن أن يأمر بالمعروف من لا يعرف المعروف، ولا يمكن أن ينهى عن المنكر من لا يعرف المنكر، فلا بد من العلم، فيستفاد من هذه الآية الكريمة الحث على العلم؛ لأنه ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ويشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يلي: ـ الشرط الأول: العلم بالشرع، والعلم بالحال ، العلم بالشرع بأن أعرف أن هذا مما أمر الله به حتى آمر به، أما إذا كنت لا أدري هل هو مأمور به أو لا؛ فلا يحل لي أن آمر به؛ لأن الله يقول: {{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *}} [الأعراف: 33] ، ويقول عزّ وجل: {{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً *}} [الإسراء: 36] . والعلم بالحال بأن أعلم أن هذا الرجل ترك المعروف أو فعل المنكر، أما أن آمره بالمعروف وأنا لا أدري هل فعله أو لا، فهذا لا يجوز؛ لأن هذا من قَفْوِ ما ليس لي به علم، وكذلك لو نهيته عن منكر وأنا لا أدري هل ارتكب المنكر أو لا، فإن ذلك لا يجوز؛ لأنه من قَفْوِ ما ليس لي به علم، مثال ذلك: دخل المسجد رجل فجلس وأنا لم أره من حين دخل، فهل أقول له: قُمْ فصلِّ ركعتين أو أسأله هل صلَّى أو لم يصلِ؟ الثاني لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يخطب الناس يوم الجمعة فدخل رجل فجلس، فقال: «أصليت؟» قال: لا، قال: «قُمْ فصلِّ» [(2)] ولم يأمره: قم صلِّ، لماذا تجلس حتى استفهمَ، وهذا مثال على الأمر بالمعروف، أما المثال عن النهي عن المنكر: وجدت شخصاً يمشي وإلى جانبه امرأة قلت: يا أخي اتق الله كيف تمشي مع المرأة؟ هذا لا يجوز؛ لأنه من الممكن أن تكون هذه المرأة من محارمه، فكيف تنهى عن شيء على أنه منكر وأنت لا تعلم أنه منكر. إذن لابد من العلم بالحال حال المأمور وحال المنهي، كما أنه لا بد من العلم بالشرع: أن أعلم بأن هذا من المعروف الذي أمر به الشرع أو من المنكر الذي نهى عنه الشرع. أما ما ينتشر عند بعض الناس من قولهم: يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، ويعين بعضنا بعضاً فيما اتفقنا فيه، هل لهذه الكلمة أصل في الشرع؟ هذا غلط في الجملتين جميعاً، الجملة الأولى (يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه) فهي كقول بعض الفقهاء: لا إنكار في مسائل الاجتهاد؛ لأن هذه العبارة معروفة عند الفقهاء، وهذا على إطلاقه ليس بصحيح، فما اختلفنا فيه إن كان الحق لم يتبيَّن فيه تبيناً لا يعذر فيه المخالف فهنا نعم نعذره لأنه له رأي ولنا رأي، أما إذا كان الحق واضحاً فإن من خالفنا لا نعذره في ذلك، فهي على إطلاقها غير صحيحة. وأما الثانية وهي قوله: (يعين بعضنا بعضاً فيما اتفقنا فيه) فهذا غير صحيح أيضاً؛ لأننا لو اتفقنا على باطل لم يحلّ أن يعين بعضنا بعضاً بل وجب أن ينهى بعضنا بعضاً عن هذا الباطل، فهو أيضاً على إطلاقه لا يصح، ولعلَّ الذي قاله يقصد ما ليس بباطل ولا يخالف الشريعة، لكن الجملة الأولى دخل فيها أناس عندهم انحراف في العقيدة وفي المنهج والإسلام يسعهم وقالوا: نحن يجب أن نستظل بظل الإسلام وإن اختلفنا، ولذلك تجدهم يُدخلون في حزبهم الفاسق حالق اللحية، شارب الدخان، المتهاون بالصلاة وما أشبه ذلك، وهذا خطأ، وفي المقابل الذي يريد من الناس أن يكونوا صلاّحاً في كل دقيق وجليل وإلا فليسوا إخواناً لنا، وهذا أيضاً خطأ. على كل حال: {{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ}} [النحل: 125] فانظر للحكمة، أحياناً يكون الإنسان المدعو غضبان بسبب مؤثرات خارجية، فلا تتحمل نفسه أن يقبل منك حتى ولو كان كلاماً عادياً، وأحياناً يكون راضياً ومنبسطاً تقدر أن تضرب له الأمثلة حتى يهديه الله، ولهذا يخطئ بعض الناس ـ مثلاً ـ إذا قابل شخصاً ولم يعامله المعاملة اللائقة به، نفر منه، فمثل هذه الأمور لا ينبغي للإنسان أن يحكم على الشخص بمجرد أنه دعاه مرة ونفر. انظر للوقت الذي تراه فيه متقبلاً وادعه إلى الحق. فإن قيل : أيهما أولى، دعوة العاصين في هذه البلاد أو دعوة الكفار في الخارج؟ فالجواب : يقول الله عزّ وجل: {{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ *وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ *}} [الشعراء: 214، 215] فالواجب أن تصلح الأحوال التي عندك، ثم بعد ذلك تحاول إصلاح الخارج، لكن إذا كان في الداخل من يقوم بالدعوة وأردت أن تخرج للدعوة في الخارج فلا مانع من ذلك. الشرط الثاني : أن لا يتغير المنكر إلى ما هو أنكر منه ؛ لأن النهي عن المنكر يراد به تقليل المنكر، فإذا كان يترتب عليه أن يقع المنهي عن المنكر في منكر أعظم؛ فإنه لا ينهى عنه، فلو فرضنا أن شخصاً يشرب الدخان. ولا شك أن شربه منكر لكن لو نهيناه لذهب يشرب الخمر؛ فلا ننهاه عن هذا، لأننا نعلم أنه سينتقل إلى منكر أكبر نكارة مما هو عليه، ومن ذلك ما يذكر عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه مرَّ ومعه صاحب له بطائفة من التتار يشربون الخمر فلم يقل لهم شيئاً. فسأله صاحبه: لماذا لا ننكر عليهم؟ قال: هؤلاء لو أنكرنا عليهم لذهبوا ينهبون أموال الناس ويستحلون حرماتهم فيتعدى ضررهم، أما شربهم الخمر فهو على أنفسهم، ودليل هذا الشرط قوله تعالى: {{وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}} [الأنعام: 108] فهنا نهى الله المسلمين أن يسبوا أصنام الكفار مع أن هذه الأصنام جديرة بأن تسبّ وسبّها قربة، لكن لما كان يترتب على سبِّها مفسدة أكبر نهى الله عن سبِّها، مع أن السكوت عن سب آلهة المشركين حُكمهُ أنه منكر. لكن نسكت على هذا المنكر الأخف درءاً لمنكر أعظم، إذن لا بد من هذا الشرط. الشرط الثالث : أن يعلم أن هذا مفيد ، بمعنى أنه يحتمل عنده أن هذا الفاعل للمنكر أو التارك للواجب كان على جهل، وأنه قريب الرجوع إلى الحق، فإن كان يعلم أن صاحبه عالم بالحكم لكنه متمرد مستكبر فإنه لا يجب حينئذٍ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مثلاً حلق اللحية اليوم معروف عند عامة الناس وأكثر الناس أنه حرام، لكنه يمرّ بك عشرة قد حلقوا لحاهم وعشرة قد أعفوا لحاهم، يعني نصف الناس تقريباً قد حلقوا لحاهم، فهل يلزمك كلما رأيت شخصاً حالقاً لحيته في الشارع أن توقفه وتقول له: اتق الله لا تحلق لحيتك؟ نقول : ننظر قد يكون هذا الرجل تتراءى فيه الخير، وأنك إذا نصحته امتثل، وقد يغلب على ظنك أنه رجل عارف بالحكم لكنه مستكبر عنه أو متهاون به، المهم أن بعض أهل العلم يرى أن هذا من شرط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وربما يستدل لذلك بقوله تعالى: {{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى *}} [الأعلى: 9] ذكّر إن نفعت يعني فإن لم تنفع فلا تذكّر، قال: فإذا كان التذكير وهو دعوة للخير لا يجب إلا إذا نفع؛ فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من باب أولى؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أشد من الدعوة إلى الخير، فكل إنسان يستطيع أن يدعو وليس فيه شيء عليه، لكن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر هو الذي قد يجد أذية من المأمور أو المنهي. وهذه المسألة في النفس منها شيء، قد نقول: إن عليه أن يأمر وينهى وأن ذلك لا يخلو من فائدة لو لم يكن من فائدته إلا علم الناس بأنه معروف أو بأنه منكر لكفى، لأننا إذا سكتنا بحجة أن الأمر لا ينفع أو أن النهي لا ينفع؛ بقيت المنكرات على ما هي عليه، وبقي التهاون بالواجبات على ما هو عليه، وصار الشباب الذين يخرجون من جديد يظنون أن هذا المنكر معروف، وأن المعروف ليس بمعروف، ولهذا في هذا الشرط نظر، بل نقول: يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سواء ظننت أنه مفيد أم لم يفد. لكن في حدود الاستطاعة؛ لأن جميع الواجبات إنما تجب بالاستطاعة {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] فإذا كان يشق على الإنسان أن يمسك كل واحد يمرّ به في السوق على منكر من حلق لحية أو غيره فإنه لا يلزمه، لا يلزمه إلا ما يقدر عليه؛ لأن الله يقول: {{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}} [الحج: 78] . الشرط الرابع : أن يكون الآمر بالمعروف فاعلاً له، والناهي عن المنكر تاركاً له . يعني لا تأمر بالمعروف وأنت لا تفعله، ولا تنه عن منكر وأنت تفعله. فإذا كان هذا الرجل مثلاً يتعامل بالربا ووجد إنساناً يتعامل بالربا فإنه لا يلزمه ولا يجب عليه أن يقول للثاني: يا فلان اترك الربا، فإن الربا حرام ملعون فاعله، لأنه هو يفعله، فكيف ينهى عن شيء يفعله هو؟ مثال آخر: شخص رأى رجلاً يمشي بعد الأذان عند المسجد، وقد ترك المسجد، فقال: يا فلان حرام عليك أن تترك صلاة الجماعة، ثم إنَّ هذا الآمر فتح بابه وذهب إلى أهله بعد أن أمر الرجل أن يصلي، أما هو فلم يصلِّ، فينبغي عليك إذا كنت قد نويت أن تدخل بيتك عند أهلك ولو فاتتك الجماعة، فلا تأمر غيرك أن يصلي مع الجماعة، واستُدل لذلك بقوله تعالى: {{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ *}} [البقرة: 44] فوبّخ الله هؤلاء على أمرهم بالبر، ونسيان أنفسهم. وبيَّن أن هذا خلاف العقل، كيف تأمر الناس وتترك نفسك؟ هذا ليس بمعقول! فأنتم خالفتم الشرع وأنكرتم العقل، واستُدل أيضاً بما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار حتى تندلق أقتاب بطنه (يعني أمعاءَه) فيدور عليها كما يدور الحمار على رحاه، فيجتمع عليه أهل النار ويقولون: ما لك يا فلان؟ ألست تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه» [(3)]. قالوا: وهذا يدل على شدة عقابه إذا أمر بالمعروف ولم يأته أو نهى عن منكر وأتاه. فلا يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على من لا يفعل المعروف ولا يترك المنكر، وأبى هذا أكثر أهل العلم وقالوا: إن هذا خلاف الأدب لكنه محرم، يعني كونه يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله، وخلاف العقل لكنه حرام عليه، فيجب أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويبدأ بنفسه، فإذا فَرَّط في حق نفسه فليس له الحق في أن يُفَرِّط في حق غيره. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب عليه ولو كان هو لا يفعل المعروف ولا ينتهي عن المنكر، لأنه لو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع كونه لا يفعل المعروف ولا ينتهي عن منكر فقد أتى محذورين: ترك الواجب على نفسه لنفسه، وترك الواجب على نفسه لغيره، الواجب عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولو كان هو لا يأتمر بالمعروف ولا ينتهي عن المنكر، وهذا القول هو الصحيح، وعليه أن يوبخ نفسه ويقول: كيف آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه؟ هذا خلاف المعقول والمنقول، وخلاف الأدب مع الله، وخلاف الأدب عند عباد الله، ولهذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام من أوصافه الذي وصفه بها ملك غسان قال: (إنه ما أمر بشيء إلا كان أول فاعل له، ولا نهى عن شيء إلا كان أول تارك له) عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال الله له: {{قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ *}} [الأنعام: 162، 163] ، ليس معنى (أول المسلمين) زمناً لأن هناك أمماً مسلمة قبله لكن أول المسلمين فعلاً، يعني أنا أول المستسلمين لله والمنقادين لأمره، فهي أولية مرتبة وليست أولية زمن، ويذكر عن عبد الرحمن بن الجوزي رحمه الله الواعظ المشهور صاحب كتاب التبصرة، وكان له مجلس كل يوم جمعة وفيه يعظ الناس ويحضره آلاف، حتى إنه لا ينفك يوم من الأيام إلا وقد مات في مجلسه عدد من الناس من شدة وقع الموعظة في نفوسهم، فأتاه يوماً من الأيام رجلٌ عبد فقال له: يا سيدي إن لي سيداً يؤذيني ويتعبني ويحملني ما لا أطيق، ويضربني عليه، فأرجو منك أن تحث الناس على العتق لعل الله أن يهديه فيعتقني، فلما جاءت الجمعة انتظر هذا العبد كلام الشيخ فلم يتكلم عن العتق، ثم جاءت الجمعة الثانية والثالثة ولم يتكلم، وبعد عدة جُمَعٍ تكلم عن العتق وإذا سيد العبد حاضر فأعتقه فوراً، فذهب العبد إلى عبد الرحمن بن الجوزي رحمه الله وقال: لماذا تأخرت؟ قال: لم يكن عندي دراهم أشتري بها عبداً فأعتقه قبل أن آمر الناس بالعتق. سبحان الله يقول: لا أحث الناس على العتق وأنا لم أعتق، إذا أعتقت مملوكاً أمرت الناس أو حثثت الناس على العتق، وهذا أمر مشاهد أن فاعل المعروف ينقاد الناس لأمره، وتارك المنكر ينقاد الناس لنهيه؛ لأن الناس يبصرون بأعينهم وبصائرهم ويقولون للذي يأمر بالمعروف وهو لا يفعله: هذا يضحك علينا، وهذا يلعب بعقولنا لو كان الأمر معروفاً عنده لماذا لا يكون هو أول فاعل له، ولو كان المنكر عنده منكراً لماذا لا يكون أول تاركٍ له، فلذلك لا شك أنه من الأدب أن يكون الآمر فاعلاً لما أمر به، والناهي تاركاً لما نهى عنه، أما أن يُجعل ذلك شرطاً في الوجوب ونقول لهذا الذي لا يفعل المعروف ولا ينتهي عن المنكر: لا يجب عليك الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر، ولا تأثم بتركه، فهذا بعيد جدًّا؛ لأن الذين يقولون: من شرط الوجوب أن يكون فاعلاً لما أمر به تاركاً لما نهى عنه يقولون: إنه إذا لم يأمر بالمعروف ولم ينهَ عن المنكر في هذه الحال فإنه لا إثم عليه؛ لأن من شرط الوجوب أن يكون هو ممتثلاً. وبهذا يتبين ضعف هذا القول، وأن الواجب عليه أن يأمر بالمعروف ولو كان لا يفعله، وأن ينهى عن المنكر ولو كان يفعله، لكن يجب أن يوبخ نفسه أيضاً وتكون نفسه هي أول من يأمره بالمعروف وأول من ينهاه عن المنكر، فالشروط إذن خمسة. ومن آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا الواجب، أن يكون ليناً في أمره ليناً في نهيه؛ لأن اللين خلق كريم يعطي الله سبحانه وتعالى به ما لا يعطي على العنف كما قال النبي عليه الصلاة والسلام ذلك[(4)]، وكما أرشد الله إليه موسى وهارون حين أرسلهما إلى فرعون، فقال: {{فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى *}} [طه: 44] يتذكر فيما تأمرانه به، أو يخشى فيما تنهيانه عنه. مع أنه مِن أعتى أهل الأرض، إن لم يكن أعتى أهل الأرض، فعلى كل حال من الآداب أن يكون الإنسان ليناً في أمره ونهيه. ومن الآداب أيضاً أن يكون مقنعاً في حجته؛ لأنه إذا أمر بالمعروف قد يقول المأمور: ما دليلك على هذا؟ وإذا نهى عن منكر قد يقول: ما دليلك على هذا؟ فلا بد أن يكون عنده إقناع، وليعلم أن مسألة الإقناع غير مسألة العلم، بعض الناس يكون عنده علم لكن لا يستطيع أن يقنع غيره، ليس عنده قوة حجة وبيان، وبعض الناس يكون أقل علماً منه لكن عنده قوة إقناع، فلا بد أن تتمرن على قوة الإقناع ولو بضرب الأمثال؛ لأن ضرب الأمثال يقرّب. يوجد الآن مثلاً طائفة معروفة تدعو إلى الله وتخرج للدعوة إلى الله، وعندهم من الإقناع للعامة ما لا يوجد عند بعض أكابر العلماء، ولهذا تجدونهم يؤثرون تأثيراً عظيماً؛ لأن عندهم أسلوب في الإقناع، والإنسان إذا كان عنده أسلوب وأمر غيره وقال له: ما دليلك؟ قال: هذا الدليل ثم ضرب له أمثلة معقولة، فهذا لا شك أنه من آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويذكر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حديث رواه الإمام أحمد أن رجلاً استأذن النبي صلّى الله عليه وسلّم في الزنا، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: «أترضى أن يفعل هذا بأمك وأختك وذات رحمك؟ قال: لا ما أرضى، قال: إذا كنت لا ترضى أن يفعل ذلك بمحارمك ، فكيف ترضى أن تفعله أنت بمحارم الناس» [(5)]. هذا أسلوب مقنع، يعني مجرد أن يتصور الإنسان هذه المسألة يبتعد، أنت لو ترى شخصاً يغازل أختك أو زوجتك أو بنتك ماذا تفعل؟ لا شك أنك لا ترضى بذلك. فكيف أنت ترضى لنفسك أن تغازل بنات الناس، أو أشد من ذلك تزني والعياذ بالله. هذه من الأساليب التي ينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون على دراية بها وإجادة. ومن الآداب أيضاً أن يصبر على الأذى والمحاجة والمخاصمة لا سيما إذا كثر الجدل في الناس فليصبر؛ لأن الله تعالى حكى عن لقمان أنه قال لابنه وهو يعظه: {{يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ *}} [لقمان: 17] لا بد لكل آمر من أن يصاب بأذى، وبعض الناس ربما يثقل عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن لم يصب بأذى لكن لم تتقبل دعوته أو لم يتقبل أمره أو نهيه فيضيق صدره ولا يأمر ولا ينهى، هذا ليس بصحيح، مُرْ بالمعروف، وانه عن المنكر، واصبر على ما أصابك، وانظر إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ماذا أصابهم من الأذى، أصابهم أذى عظيم، طعن في أجسادهم، وطعن في عقولهم، وطعن في أهدافهم، كل شيء طعن فيه ومع ذلك هم صابرون، أوذي موسى عليه الصلاة والسلام بأنواع من الأذى، وأوذي أول الأنبياء نوح كلما مرَّ عليه ملأ من قومه سخروا منه: {{قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ}} [هود: 38، 39] وأوذي خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، أوذي أذى عظيماً من أقرب الناس إليه، هل قريش فعلت بأي واحد من الناس دخل المسجد الحرام وجعل يصلي تحت الكعبة وسجد لله عزّ وجل، هل آذوا أحداً من الناس بأن أتوا بسلا الجزور ووضعوه عليه وهو ساجد؟ أبداً، لكن الرسول فعلوا به هذا وصبر. هل كانوا يأتون بالأذى والقذر والأنتان يضعونها على أبواب الناس في مكة؟ لا، لكن الرسول فعلوا به هذا وصبر. فالواجب أن يصبر الإنسان وأن يحتسب هذا الصبر على الله، وهذا الصبر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أعظم أجراً من الصبر على أعظم مصيبة تنال الإنسان في أقرب الناس إليه؛ لأن هذا صبر على أذى في الله ليس صبراً على أقدار الله، هذا صبر على أذى في الله عزّ وجل فاحتسب الأجر من الله واصبر على ما أصابك. ومما يصيب الإنسان الأذى بالقول، الأذى الجدلي مثل أن تأمره بالمعروف فيقول: علِّم نفسك، أو يقول: رُح أدِّب أبناءك. وما أشبه ذلك. بعض الناس يفور دمه ويغضب غضباً شديداً فنقول: يا أخي اصبر هذه مسألة بسيطة، إذا قال لك: علِّم أبناءك. قل: يا أخي لا بأس جزاك الله خيراً لكن أنا أعلّمهم وأعلمك أنت الآن. إذا احتدم هذا الرجل وأخذته العزة بالإثم فلِن أنت، لأن المشكل أن تقابل الحدة بمثلها، أما إذا قوبلت بهدوء صارت المسألة طبيعية، لذلك أقول: إنه يجب علينا أن نصبر، وإذا رأينا الناس قد شدوا الحبل أرخيناه، وإذا رأينا ليناً جذبناه. هذه إذن ثلاثة آداب ينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتأدب بها، وإذا أضفنا الشرط الخامس أن من الآداب أن يكون هو أول فاعل لما يأمر به وأول تارك لما ينهى عنه، صارت الآداب أربعة، وشروط الوجوب أربعة. 7 ـ فضيلة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففي الآية دليل على فضيلة هذه الخصال قوله: { {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} } إذا خسر الناس فهؤلاء هم المفلحون الرابحون. 8 ـ النهي عن التفرق؛ لقوله: { {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} } وقد ذكرنا في التفسير أن المراد بذلك تفرق القلوب لا الآراء؛ لأن تفرق الآراء أمر لا بد منه؛ لأن الناس يختلفون في العلم والحفظ والفهم والإيمان والعمل، وكل هذه الأمور الخمسة كلها من أسباب اختلاف الناس، لا يمكن أن يتفق الناس في الرأي لكن الواجب اتفاق القلوب. 9 ـ أن ترك الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب للتفرق؛ لأنه أعقب الآية السابقة بهذه الآية مما يدل أن ترك الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب للتفرق. 10 ـ أن التفرق بعد أن تبيّن الحق أشد قبحاً من التفرق حين خفاء الحق، يؤخذ من قوله: { {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} }. وذلك لأنه إذا جاءت البينات واتضح الحق فلا وجه للتفرق، لكن إذا كان الحق خفياً فقد يحصل التفرق، والحق ـ ولله الحمد ـ في هذه الشريعة واضح بيِّن لأنه في كتاب الله المحفوظ إلى يوم القيامة. 11 ـ الوعيد الشديد على الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات؛ لقوله تعالى: { {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} }. 12 ـ أن العقاب يختلف باختلاف الجرم؛ لأنه لما كان فعل هؤلاء عظيماً كان عذابهم عظيماً. * * *


تابع القراءة من المرفقة
http:///www.al-amen.com/up/up_down/4f8e761b46f27dd5c751d4c2487fce9c.docx