أبو بكر يوسف لعويسي
08-Oct-2015, 02:10 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وسلم .
وبعد :
إن السعادة كل السعادة ، أن يبلغ العبد المؤمن مرضاة الله وأن تقبل منه أعماله فيفوز بمقعد صدق عن مليك مقتدر في جنة عرضها السموات والأرض ، وإن الخسارة كل الخسارة أن يعمل العبد أعمالا يظنها صالحة وأنها تبلغ به مرضاة الله والفوز بالجنة ، فإذا هي هباء منثورا ، لا تسمن ولا تغني من جوع لم يستفد منها إلا التعب والنصب ، قد حبطت عنه أو أحبطها هو بنفسه بسبب أفعال أخرى مضادة لها أو لم يتحقق فيها شرط من شروط قبولها قال تعالى:{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)} الكهف .
أي: قل يا محمد، للناس -على وجه التحذير والإنذار-: هل أخبركم بأخسر الناس أعمالا على الإطلاق؟
{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: بطل واضمحل كل ما عملوه من عمل، يحسبون أنهم محسنون في صنعه وفي الحقيقة هم مبطلون ، والآية عامة في كل من ضل سعيه في حياته الدنيا وهو يظن أنه محسن فيما يعمل ويعتقد ..
عَنْ ثَوْبَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا» ، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ أخرجه ابن ماجة( 4245) ، وهو في صَحِيح الْجَامِع( 7174) والصَّحِيحَة: (505).
وقَالَ الْبُخَارِيُّ (ح 4728): حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرو، عَنْ مُصْعَب قَالَ: سَأَلْتُ أَبِي -يَعْنِي سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ-: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا} أَهُمُ الحَرُورية؟ قَالَ: لَا هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَمَّا الْيَهُودُ فَكَذَّبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا النَّصَارَى كَفَرُوا بِالْجَنَّةِ، وَقَالُوا: لَا طَعَامَ فِيهَا وَلَا شَرَابَ. وَالْحَرُورِيَّةُ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ. وَكَانَ سَعْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عنه، يسميهم الفاسقين .
قال ابن كثير - رحمه الله -وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هُمُ الْحَرُورِيَّةُ.وَمَعْنَى هَذَا عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ تَشْمَلُ الْحَرُورِيَّةَ كَمَا تَشْمَلُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَغَيْرَهُمْ، لَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي هَؤُلَاءِ عَلَى الْخُصُوصِ وَلَا هَؤُلَاءِ بَلْ هِيَ أَعَمُّ مِنْ هَذَا؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ قَبْلَ خِطَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَقَبْلَ وُجُودِ الْخَوَارِجِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقَةٍ مَرْضِيَّةٍ يَحْسَبُ أَنَّهُ مُصِيبٌ فِيهَا، وَأَنَّ عَمَلَهُ مَقْبُولٌ، وَهُوَ مُخْطِئٌ، وَعَمَلُهُ مَرْدُودٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الْغَاشِيَةِ: 2-4] وَقَوْلُهُ (4) تَعَالَى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الْفُرْقَانِ: 23] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النُّورِ: 39] .
وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ} أَيْ: نُخْبِرُكُمْ {بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا} ؟ ثُمَّ فَسَّرَهُمْ فَقَالَ: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَيْ: عَمِلُوا أَعْمَالًا بَاطِلَةً عَلَى غَيْرِ شَرِيعَةٍ مَشْرُوعَةٍ مَرْضِيَّةٍ مَقْبُولَةٍ، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} أَيْ" يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَأَنَّهُمْ مَقْبُولُونَ مَحْبُوبُونَ.
وقد كان السلف رضي الله عنهم يحذرون كل الحذر ويخافون أن تحبط أعمالهم وأن ترد عليهم يوم القيامة ؛فكانوا يعدون محقرات الذنوب من المهلكات ، فكيف بالمهلكات والمحبطات ؟؟
وليعلم العبد أن هذه الدنيا سوق وكل النّاس يغدو فبائع نفسه فمعتقها ، وبائع نفسه فمهلكها والعاقل اللبيب لا يرضى أن يخسر شيئا من تجارته في بيعها فكيف إذا كانت التجارة هي الأعمال الصالحة ، وأن الربح والخسارة هو مرضاة الله وبلوغ الجنة ..
لذلك وجب عليه أن يعرف وأن يفقه ما يحبط عمله ويجعله يخسر ليس الربح فقط بل حتى رأس المال ؛ وذلك هو الخسران المبين .
ومن هنا وجدتني أخي القارئ مضطرا لأن أبحث معك في هذا الموضوع (( محبطات الأعمال ومبطلاتها في سلسلة أرجو ان تكون موعظة نافعة ، لعلي أفقه واستدرك ما يجنبني وإياك ذلك لعله يسلم لنا قليلا من العمل الصالح الذي توفرت فيه شروط القبول من إيمان واحتساب وإخلاص ومتابعة ، يرفعنا الله به ويقبلنا في عباده الصالحين الذي فازوا برحمة الله تعالى ومرضاته بما كانوا يقدمونه لأنفسهم من جهد المقل ...ومحاسبة أنفسهم على كل تقصير وغفلة محاسبة التاجر الشحيح ..وقبل أن أشرع في ذكرها أذكر مقدمة في حال السلف الصالح من صحابة وتابعين كيف كانوا يخافون ويخشون العاقبة ...نسأل الله تعالى أن يثبت قلوبنا على طاعته وابتغاء مرضاته .
1 – خوف الصحابة – رضوان الله عليهم - ومن تبعهم بإحسان من السلف الصالح الماضين من أن يحبط عملهم وهم لا يشعرون .
فهم أعلم الخق بالله ؛ يعلمون أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ، لذلك كان الواحد منهم يخاف أن يعرض له ما يعكر عليه إخلاصه وصدق متابعته لنبيه ، وخاصة إذا سمع بعض نصوص الوعيد والترهيب من الحساب والعقاب والخسارة يوم القيامة ، لذلك كانوا يخافون أن تحبط أعمالهم .
قال تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) } المؤمنون .
وَعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذِهِ الْآيَة: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} فَقُلْتُ: أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ ، قَالَ: (( لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ , وَيُصَلُّونَ , وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ))(أخرجه الترمذي ) 3175 ، (وابن ماجة) 4198، وأحمد بصيغة الإفراد ، وقال الألباني في الصَّحِيحَة: (162)حسن ، وقال في تحقيق كتاب الإيمان لابن تيمية (1/162)في رواية أحمد : صحيح .
فمَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَجَدَهُمْ فِي غَايَةِ الْعَمَلِ مَعَ غَايَةِ الْخَوْفِ، وَنَحْنُ جَمِيعًا بَيْنَ التَّقْصِيرِ، بَلِ التَّفْرِيطِ وَالْأَمْنِ.
قَالَ الْحَسَنُ: عَمِلُوا وَاللَّهِ بِالطَّاعَاتِ، وَاجْتَهَدُوا فِيهَا، وَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِمْ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ جَمَعَ إِحْسَانًا وَخَشْيَةً، وَالْمُنَافِقَ جَمَعَ إِسَاءَةً وَأَمْنًا.انتهى كلامه .
وقال غيره : فَالْمُؤْمِنُ: جَمَعَ إِحْسَانًا فِي مَخَافَةٍ وَسُوءَ ظَنٍّ بِنَفْسِهِ. وَالْمَغْرُورُ: حَسَنُ الظَّنِّ بِنَفْسِهِ مَعَ إِسَاءَتِهِ.
وقد كان الصحابة يواظبون على العبادات أشد المواظبة ، ويحرصون على أدائها على الوجه المشروع ، فإذا فرغوا منها أصابهم الذعر والغم والهم هل قبلت منهم أو درت عليهم؟؟
يخافون على أنفسهم من أن ترد عليهم ، وهم نهارهم جهاد لأنفسهم وعدوهم ، وليلهم عبادة واجتهاد في طاعة الله يُبَالِغُونَ فِي التَّقْوَى وأسبابها وَالْحَذَرِ مِنَ الشُّبَهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ والسبل إليها، تراهم يَبْكُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي الْخَلَوَاتِ .مع رجائهم وصفائهم قد عرفوا من الله ما أراد منهم ..
وَأَمَّا في هذه العصور فترى أهل معصية الله الغافلين فضلا عن المغرورين من أهل الطاعة آمنين مسرورين مطمئنين غَيْرَ خَائِفِينَ مَعَ تلطخهم بالْمَعَاصِي والمهلكات وَانْهِمَاكِهِمْ فِي الدُّنْيَا وإقبالهم عليها وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى زَاعِمِينَ أنهم واثقون بكرم الله تعالى وفضله راجون لعفوه ومغفرته ،كأنهم حازوا صكوك الغفران أو أَنَّهُمْ عَرَفُوا مِنْ فَضْلِ الله وَكَرَمِهِ مَا لَمْ يَعْرِفْهُ الرسل وَالصَّحَابَةُ وَالسَّلَفُ الصَّالِحُونَ الذين طال بكاؤهم ونحيبهم خوفا من القدوم على الله ، فَإِنْ كَانَ علم هؤلاء أن رضا الله يُدْرَكُ بِالْمُنَى وأن الفوز بالجنة يُنَالُ بالتقصير والغفلة فلماذا خاف الصحابة وطال إذن بكاؤهم ؟؟
لقد كانوا - رضوان الله عليهم أجمعين - يخافون أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون ، وذلك من تمام علمهم بالله ، وكمال إيمانهم بما عنده ،فقد قرءوا قوله تعالى :{ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) } الأعراف .
فانظر يا رعاك الله إلى خوفهم في هذا الأثر العظيم فعن ابن أبي مليكة قال : أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النّفاق على نفسه ، ما منهم أحد يقول :إنه على إيمان جبريل وميكائيل .
قال الحافظ في الفتح (1/109- 111)قَالَ بن أبي مليكَة الخ ...هَذَا التَّعْلِيق وَصله بن أَبِي خَيْثَمَةَ فِي تَارِيخِهِ لَكِنْ أَبْهَمَ الْعَدَدَ وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ مُطَوَّلًا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ لَهُ وَعَيَّنَهُ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ فِي تَارِيخِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُخْتَصَرًا كَمَا هُنَا .
وَالصَّحَابَة الَّذين أدركهم بن أَبِي مُلَيْكَةَ مِنْ أَجَلِّهِمْ عَائِشَةُ وَأُخْتُهَا أَسْمَاءُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَالْعَبَادِلَةُ الْأَرْبَعَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَهَؤُلَاءِ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُمْ وَقَدْ أَدْرَكَ بِالسِّنِّ جَمَاعَةً أَجَلَّ مِنْ هَؤُلَاءِ كَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَقَدْ جَزَمَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَخَافُونَ النِّفَاقَ فِي الْأَعْمَالِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ إِجْمَاعٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يَعْرِضُ عَلَيْهِ فِي عَمَلِهِ مَا يَشُوبُهُ مِمَّا يُخَالِفُ الْإِخْلَاصَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ خَوْفِهِمْ مِنْ ذَلِكَ وُقُوعُهُ مِنْهُمْ بَلْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ مِنْهُمْ فِي الْوَرَعِ وَالتَّقْوَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
قال ابن رجب في لطائف المعارف (1/209): كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده وهؤلاء الذين: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] .
روي عن علي رضي الله عنه قال: كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].
وعن فضالة بن عبيد قال: لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من خردل أحب إلي من الدنيا وما فيها لأن الله يقول:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة: 27] .
قال ابن دينار: الخوف على العمل أن لا يتقبل أشد من العمل .
وقال عطاء السلمي: الحذر الاتقاء على العمل أن لا يكون لله .
وقال عبد العزيز بن أبي رواد: أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوه وقع عليهم الهم أيقبل منهم أم لا.
فالتشمير التشمير النجاة ، النجاة فهذه هي السبيل الوحيد لإدراك منازل القوم والنجاة بنجاتهم والفوز بما فازوا به ، فإذا شمرت عن ساعد الجد ، وأقبلت على ربك تعمل بإخلاص وتذرف الدمع بين يديه فاحسب لقبول عملك ذلك ألف حساب ،واجعل في حسبانك وبين عينك وأنت تعمل الحسنة خوفك الشديد من أربعة أمور مهمة جدا ذكرها بعض الفقهاء.
أَوَّلُهَا: خَوْفُ الْقَبُولِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] .
وَالثَّانِي: خَوْفُ الرِّيَاءِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] الْآيَةَ.
وَالثَّالِثُ: خَوْفُ التَّسْلِيمِ وَالْحِفْظِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] ، فَاشْتَرَطَ الْمَجِيءَ بِهَا إِلَى دَارِ الْآخِرَةِ.
وَالرَّابِعُ: خَوْفُ الْخِذْلَانِ فِي الطَّاعَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّهُ هَلْ يُوَفَّقُ لَهَا أَمْ لَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].
أسأل الله تعالى أن يمن علينا بتوبة نصوح ، وأن يصرف قلوبنا لطاعته وان يبصرنا بعيوبنا وأن يعيننا على محاسبة أنفسنا إن سميع قريب مجيب.
يتبع - إن شاء الله -
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وسلم .
وبعد :
إن السعادة كل السعادة ، أن يبلغ العبد المؤمن مرضاة الله وأن تقبل منه أعماله فيفوز بمقعد صدق عن مليك مقتدر في جنة عرضها السموات والأرض ، وإن الخسارة كل الخسارة أن يعمل العبد أعمالا يظنها صالحة وأنها تبلغ به مرضاة الله والفوز بالجنة ، فإذا هي هباء منثورا ، لا تسمن ولا تغني من جوع لم يستفد منها إلا التعب والنصب ، قد حبطت عنه أو أحبطها هو بنفسه بسبب أفعال أخرى مضادة لها أو لم يتحقق فيها شرط من شروط قبولها قال تعالى:{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)} الكهف .
أي: قل يا محمد، للناس -على وجه التحذير والإنذار-: هل أخبركم بأخسر الناس أعمالا على الإطلاق؟
{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: بطل واضمحل كل ما عملوه من عمل، يحسبون أنهم محسنون في صنعه وفي الحقيقة هم مبطلون ، والآية عامة في كل من ضل سعيه في حياته الدنيا وهو يظن أنه محسن فيما يعمل ويعتقد ..
عَنْ ثَوْبَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا» ، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ أخرجه ابن ماجة( 4245) ، وهو في صَحِيح الْجَامِع( 7174) والصَّحِيحَة: (505).
وقَالَ الْبُخَارِيُّ (ح 4728): حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرو، عَنْ مُصْعَب قَالَ: سَأَلْتُ أَبِي -يَعْنِي سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ-: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا} أَهُمُ الحَرُورية؟ قَالَ: لَا هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَمَّا الْيَهُودُ فَكَذَّبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا النَّصَارَى كَفَرُوا بِالْجَنَّةِ، وَقَالُوا: لَا طَعَامَ فِيهَا وَلَا شَرَابَ. وَالْحَرُورِيَّةُ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ. وَكَانَ سَعْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عنه، يسميهم الفاسقين .
قال ابن كثير - رحمه الله -وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هُمُ الْحَرُورِيَّةُ.وَمَعْنَى هَذَا عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ تَشْمَلُ الْحَرُورِيَّةَ كَمَا تَشْمَلُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَغَيْرَهُمْ، لَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي هَؤُلَاءِ عَلَى الْخُصُوصِ وَلَا هَؤُلَاءِ بَلْ هِيَ أَعَمُّ مِنْ هَذَا؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ قَبْلَ خِطَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَقَبْلَ وُجُودِ الْخَوَارِجِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقَةٍ مَرْضِيَّةٍ يَحْسَبُ أَنَّهُ مُصِيبٌ فِيهَا، وَأَنَّ عَمَلَهُ مَقْبُولٌ، وَهُوَ مُخْطِئٌ، وَعَمَلُهُ مَرْدُودٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الْغَاشِيَةِ: 2-4] وَقَوْلُهُ (4) تَعَالَى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الْفُرْقَانِ: 23] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النُّورِ: 39] .
وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ} أَيْ: نُخْبِرُكُمْ {بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا} ؟ ثُمَّ فَسَّرَهُمْ فَقَالَ: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَيْ: عَمِلُوا أَعْمَالًا بَاطِلَةً عَلَى غَيْرِ شَرِيعَةٍ مَشْرُوعَةٍ مَرْضِيَّةٍ مَقْبُولَةٍ، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} أَيْ" يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَأَنَّهُمْ مَقْبُولُونَ مَحْبُوبُونَ.
وقد كان السلف رضي الله عنهم يحذرون كل الحذر ويخافون أن تحبط أعمالهم وأن ترد عليهم يوم القيامة ؛فكانوا يعدون محقرات الذنوب من المهلكات ، فكيف بالمهلكات والمحبطات ؟؟
وليعلم العبد أن هذه الدنيا سوق وكل النّاس يغدو فبائع نفسه فمعتقها ، وبائع نفسه فمهلكها والعاقل اللبيب لا يرضى أن يخسر شيئا من تجارته في بيعها فكيف إذا كانت التجارة هي الأعمال الصالحة ، وأن الربح والخسارة هو مرضاة الله وبلوغ الجنة ..
لذلك وجب عليه أن يعرف وأن يفقه ما يحبط عمله ويجعله يخسر ليس الربح فقط بل حتى رأس المال ؛ وذلك هو الخسران المبين .
ومن هنا وجدتني أخي القارئ مضطرا لأن أبحث معك في هذا الموضوع (( محبطات الأعمال ومبطلاتها في سلسلة أرجو ان تكون موعظة نافعة ، لعلي أفقه واستدرك ما يجنبني وإياك ذلك لعله يسلم لنا قليلا من العمل الصالح الذي توفرت فيه شروط القبول من إيمان واحتساب وإخلاص ومتابعة ، يرفعنا الله به ويقبلنا في عباده الصالحين الذي فازوا برحمة الله تعالى ومرضاته بما كانوا يقدمونه لأنفسهم من جهد المقل ...ومحاسبة أنفسهم على كل تقصير وغفلة محاسبة التاجر الشحيح ..وقبل أن أشرع في ذكرها أذكر مقدمة في حال السلف الصالح من صحابة وتابعين كيف كانوا يخافون ويخشون العاقبة ...نسأل الله تعالى أن يثبت قلوبنا على طاعته وابتغاء مرضاته .
1 – خوف الصحابة – رضوان الله عليهم - ومن تبعهم بإحسان من السلف الصالح الماضين من أن يحبط عملهم وهم لا يشعرون .
فهم أعلم الخق بالله ؛ يعلمون أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ، لذلك كان الواحد منهم يخاف أن يعرض له ما يعكر عليه إخلاصه وصدق متابعته لنبيه ، وخاصة إذا سمع بعض نصوص الوعيد والترهيب من الحساب والعقاب والخسارة يوم القيامة ، لذلك كانوا يخافون أن تحبط أعمالهم .
قال تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) } المؤمنون .
وَعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذِهِ الْآيَة: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} فَقُلْتُ: أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ ، قَالَ: (( لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ , وَيُصَلُّونَ , وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ))(أخرجه الترمذي ) 3175 ، (وابن ماجة) 4198، وأحمد بصيغة الإفراد ، وقال الألباني في الصَّحِيحَة: (162)حسن ، وقال في تحقيق كتاب الإيمان لابن تيمية (1/162)في رواية أحمد : صحيح .
فمَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَجَدَهُمْ فِي غَايَةِ الْعَمَلِ مَعَ غَايَةِ الْخَوْفِ، وَنَحْنُ جَمِيعًا بَيْنَ التَّقْصِيرِ، بَلِ التَّفْرِيطِ وَالْأَمْنِ.
قَالَ الْحَسَنُ: عَمِلُوا وَاللَّهِ بِالطَّاعَاتِ، وَاجْتَهَدُوا فِيهَا، وَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِمْ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ جَمَعَ إِحْسَانًا وَخَشْيَةً، وَالْمُنَافِقَ جَمَعَ إِسَاءَةً وَأَمْنًا.انتهى كلامه .
وقال غيره : فَالْمُؤْمِنُ: جَمَعَ إِحْسَانًا فِي مَخَافَةٍ وَسُوءَ ظَنٍّ بِنَفْسِهِ. وَالْمَغْرُورُ: حَسَنُ الظَّنِّ بِنَفْسِهِ مَعَ إِسَاءَتِهِ.
وقد كان الصحابة يواظبون على العبادات أشد المواظبة ، ويحرصون على أدائها على الوجه المشروع ، فإذا فرغوا منها أصابهم الذعر والغم والهم هل قبلت منهم أو درت عليهم؟؟
يخافون على أنفسهم من أن ترد عليهم ، وهم نهارهم جهاد لأنفسهم وعدوهم ، وليلهم عبادة واجتهاد في طاعة الله يُبَالِغُونَ فِي التَّقْوَى وأسبابها وَالْحَذَرِ مِنَ الشُّبَهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ والسبل إليها، تراهم يَبْكُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي الْخَلَوَاتِ .مع رجائهم وصفائهم قد عرفوا من الله ما أراد منهم ..
وَأَمَّا في هذه العصور فترى أهل معصية الله الغافلين فضلا عن المغرورين من أهل الطاعة آمنين مسرورين مطمئنين غَيْرَ خَائِفِينَ مَعَ تلطخهم بالْمَعَاصِي والمهلكات وَانْهِمَاكِهِمْ فِي الدُّنْيَا وإقبالهم عليها وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى زَاعِمِينَ أنهم واثقون بكرم الله تعالى وفضله راجون لعفوه ومغفرته ،كأنهم حازوا صكوك الغفران أو أَنَّهُمْ عَرَفُوا مِنْ فَضْلِ الله وَكَرَمِهِ مَا لَمْ يَعْرِفْهُ الرسل وَالصَّحَابَةُ وَالسَّلَفُ الصَّالِحُونَ الذين طال بكاؤهم ونحيبهم خوفا من القدوم على الله ، فَإِنْ كَانَ علم هؤلاء أن رضا الله يُدْرَكُ بِالْمُنَى وأن الفوز بالجنة يُنَالُ بالتقصير والغفلة فلماذا خاف الصحابة وطال إذن بكاؤهم ؟؟
لقد كانوا - رضوان الله عليهم أجمعين - يخافون أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون ، وذلك من تمام علمهم بالله ، وكمال إيمانهم بما عنده ،فقد قرءوا قوله تعالى :{ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) } الأعراف .
فانظر يا رعاك الله إلى خوفهم في هذا الأثر العظيم فعن ابن أبي مليكة قال : أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النّفاق على نفسه ، ما منهم أحد يقول :إنه على إيمان جبريل وميكائيل .
قال الحافظ في الفتح (1/109- 111)قَالَ بن أبي مليكَة الخ ...هَذَا التَّعْلِيق وَصله بن أَبِي خَيْثَمَةَ فِي تَارِيخِهِ لَكِنْ أَبْهَمَ الْعَدَدَ وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ مُطَوَّلًا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ لَهُ وَعَيَّنَهُ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ فِي تَارِيخِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُخْتَصَرًا كَمَا هُنَا .
وَالصَّحَابَة الَّذين أدركهم بن أَبِي مُلَيْكَةَ مِنْ أَجَلِّهِمْ عَائِشَةُ وَأُخْتُهَا أَسْمَاءُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَالْعَبَادِلَةُ الْأَرْبَعَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَهَؤُلَاءِ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُمْ وَقَدْ أَدْرَكَ بِالسِّنِّ جَمَاعَةً أَجَلَّ مِنْ هَؤُلَاءِ كَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَقَدْ جَزَمَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَخَافُونَ النِّفَاقَ فِي الْأَعْمَالِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ إِجْمَاعٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يَعْرِضُ عَلَيْهِ فِي عَمَلِهِ مَا يَشُوبُهُ مِمَّا يُخَالِفُ الْإِخْلَاصَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ خَوْفِهِمْ مِنْ ذَلِكَ وُقُوعُهُ مِنْهُمْ بَلْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ مِنْهُمْ فِي الْوَرَعِ وَالتَّقْوَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
قال ابن رجب في لطائف المعارف (1/209): كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده وهؤلاء الذين: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] .
روي عن علي رضي الله عنه قال: كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].
وعن فضالة بن عبيد قال: لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من خردل أحب إلي من الدنيا وما فيها لأن الله يقول:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة: 27] .
قال ابن دينار: الخوف على العمل أن لا يتقبل أشد من العمل .
وقال عطاء السلمي: الحذر الاتقاء على العمل أن لا يكون لله .
وقال عبد العزيز بن أبي رواد: أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوه وقع عليهم الهم أيقبل منهم أم لا.
فالتشمير التشمير النجاة ، النجاة فهذه هي السبيل الوحيد لإدراك منازل القوم والنجاة بنجاتهم والفوز بما فازوا به ، فإذا شمرت عن ساعد الجد ، وأقبلت على ربك تعمل بإخلاص وتذرف الدمع بين يديه فاحسب لقبول عملك ذلك ألف حساب ،واجعل في حسبانك وبين عينك وأنت تعمل الحسنة خوفك الشديد من أربعة أمور مهمة جدا ذكرها بعض الفقهاء.
أَوَّلُهَا: خَوْفُ الْقَبُولِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] .
وَالثَّانِي: خَوْفُ الرِّيَاءِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] الْآيَةَ.
وَالثَّالِثُ: خَوْفُ التَّسْلِيمِ وَالْحِفْظِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] ، فَاشْتَرَطَ الْمَجِيءَ بِهَا إِلَى دَارِ الْآخِرَةِ.
وَالرَّابِعُ: خَوْفُ الْخِذْلَانِ فِي الطَّاعَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّهُ هَلْ يُوَفَّقُ لَهَا أَمْ لَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].
أسأل الله تعالى أن يمن علينا بتوبة نصوح ، وأن يصرف قلوبنا لطاعته وان يبصرنا بعيوبنا وأن يعيننا على محاسبة أنفسنا إن سميع قريب مجيب.
يتبع - إن شاء الله -