المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : [مقال] تذكير الأتقياء والأشقياء بمراتب العمل مع الإخلاص والرياء



أبو بكر يوسف لعويسي
20-Feb-2016, 11:09 PM
بسم الله الرحمن الرحيم





الحمد لله رب العالمين ، حما يحب ربنا ويرضى ، وأشهد أن لا غله إلا الله ولي المتقين ، وأشهد أن محمد عبد ورسوله سيد الأولين والآخرين وعلى آله المحبوبين وصحبه الميامين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد:
اعلم - يرحمني الله وإياك ، ويوفقني وإياك - إلى ابتغاء مرضاته والعمل بتوحيده دون الالتفات إلى مخلوقاته ، ولا التطلع إلى حمد الحامدين ولا ثناء المثنين ، رغبة أن نكون من المتقين المقبولين ، ومن عباده الصالحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
واعلم أخي أننا نعمل أعمالا - نزعم - أننا أخلصنا فيها التوجه والنية لرب العالمين ، وفي الحقيقة لا ندري هل قبلت منّا أم ردت علينا وضرب بها على وجوهنا ..
أخي يا من تريد النجاة ، وتكره خسارة الآخرة ، إن شروط العمل الصالح هي ثلاثة ، الإيمان ، والإخلاص ، والمتابعة .الإيمان الخالي من شوائب الشرك والنفاق ، والإخلاص الخالي من شوائب الرياء والسمعة والعجب وابتغاء مرضاة الخلق ، والمتابعة الصادقة الخالية من زيغ الهوى ، واستحسان الابتداع وزينة البدع وزخرفة القول الخالي من الدليل والأثر، وأن نجعل كل هذه الأمور في بوتقة الخشوع والخضوع والتذلل والانقياد بيقين ومحبة ورجاء ، وأن يكون همنا بذلك الفوز بالدار الآخرة وشعارنا في اليد اليمنى :{ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)..} الحاقة .
وفي اليسرى :{ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) } الانشقاق .
قارن بين هذه الآية وبين السرور الذي تحسه في أهلك وأنت في غاية السعادة هل يمكن أن يقارن بسرور الآخرة، لا والله ... وليتحقق لنا ذلك فلابد من تحقيق الإخلاص في كل ما نقوم به فهو عمدة قبول العمل وأصعبه تحقيقا أما تحقيق الإيمان والمتابعة فهما يسيران على من يسرهما الله عليه ..
أما الإخلاص فهو الذي جفت لأجله العيون من البكاء خوفا على عدم تحقيقه ، واحترقت النفوس ألما خوفا أن لا تكون قد أخلصت فيما قامت وقدمت من أعمال ، وهو الذي كادت قلوب رجال مؤمنين من السلف الصالح أن تتفطر خوفا ألا يكونوا من أهله ، فقد كانوا يتفانون في تحقيقه وتحصيله ومع ذلك نقرأ ونسمع عنهم أنهم كانوا يقولون أن تحقيق الإخلاص وصدق النية هو أشد وأصعب أمر عالجناه ..
وهنا أجدني واقفا وقفة مصارحة مع نفسي ونفسك هل نحن حقا فتنا السلف بمراحل فجلسنا نضحك ونكثر اللغو والكلام ، أو وبلغنا إلى ما كانوا عليه ؛ فاطمأنت قلوبنا لهذا البلاغ ، أم ترانا في مؤخرة ركب الصالحين منهم أولئك القوم لا يشقى بهم جليسهم ، أم لم نعرف بعد مبتدأ طريقهم الذي انطلقوا منه : {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)} الأنعام ؟.
أي فتعرف سبيل المجرمين من سبيل المؤمنين ، فهل عرفت ذلك إنهم قد وصلوا وهاهم قد حطوا رحالهم فأين نحن منهم ؟؟
أخي إن الرياء لدقة أمرة وخطورة شأنه لم يترك للصالحين متنفسا يتذوقون معه طعم الراحة ، فقد أتعبهم وأعياهم خوفا على أن ترد عليهم أعمالهم ولا تقبل منهم ..لذلك تجدهم يفرون من أسبابه وتدعياته أشد من فرارهم من الجذام ، ومن أعظم تلك الأسباب التسميع من أجل العجب والافتخار ، والمدح من أجل التعاظم والاغترار ، فكان أحدهم يهضم نفسه وهو أمة وحده يزن الجبال ، ويزدريها وهو أقرب من الكمال ، ويتمنى لو خرج من الدنيا لا له ولا عليه خوفا من ذي الجلال .
أخي الكريم إن الإخلاص عزيز وتحقيقه أعز ، وإن العمل على مراتب بين الإخلاص والرياء .
فالمرتبة الأولى : أن يكون أصل العمل الرياء ، وهذا لا يشك مسلم عاقل أن هذا العمل حبط وأن صاحبه قد خسر الخسران المبين . أرأيت لو فاتك القطار وكنت من أهل هذه المرتبة ، يا الله ، يا ألله !!!
المرتبة الثانية : أن يكون أصل العمل الإخلاص والرياء في آن واحد بمعنى أنه إذا دخل في العمل يريد الله والدنيا ، أو المخلوقين ، فهذه الشراكة إذا استمرت مع العمل إلى نهايته فإنها تحبطه ويلحق بالنوع الأول ، فيخرج صاحبه من عمله لا له ولا عليه ، ولم يحصل ثمرة عمله إلا الكد والتعب والجوع والعطش والسهر ،ويوم القيامة يقال له اذهب إلى الشريك الذي جعلته مع الإخلاص لله. فالله أغنى الشركاء عن الشريك ، وأنت نفسك لا ترضى لنفسك هذا فلو كان لك خادم يكد ويتعب طوال اليوم في ملكك وفي نهاية اليوم يعطي ما حصل إلى جارك ، فلا شك أن لا ترضى بذلك فكيف رضيت ربك بما لم ترضاه لنفسك ؟؟
أما إذا دفعه وعالجه ورده بقوة وتغلب الإخلاص على الرياء فهذا ينقص من أجره بقدر ما نقص منه الإخلاص ، وبعض أهل العلم قال مادام بقي شيئا من الرياء معه فإنه لا ينفعه ، والصحيح أن الله لا يظلم العبد مثقال ذرة . كما جاء ذلك عن نبينا صلى الله عليه وسلم .
المرتبة الثالثة : أما إذا كان الرياء متأخرا عن الإخلاص بمعنى أن أصل العمل الإخلاص ثم طرأ عليه الرياء فهذا إذا لم يدفعه ولم يرده حتى تساوى معه أو تغلب الرياء على الإخلاص فيلحق بالقسمين الأولين .
المرتبة الرابعة : أما إذا دافعه بقوة حيث تغلب الإخلاص ولم يبق معه إلا وسواس النفس وخواطرها فلا يبطله – إن شاء الله –ولكن ينقصه بقدر ذلك . لحديث: ((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ)) أخرجاه .
وقد فصل الحافظ ابن رجب هذه المراتب في كتابه الفذ الماتع جامع العلوم والحكم (1/79) فقال :
وَاعْلَمْ أَنَّ مراتب الْعَمَل بين الإخلاص والرياء أَقْسَامٌ :
1 - فَتَارَةً يَكُونُ رِيَاءً مَحْضًا، بِحَيْثُ لَا يُرَادُ بِهِ سِوَى مُرَاءاتِ الْمَخْلُوقِينَ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ، كَحَالِ الْمُنَافِقِينَ فِي صَلَاتِهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ - الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ - الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون: 4 – 6). وَكَذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَفَّارَ بِالرِّيَاءِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال: 47] . وَهَذَا الرِّيَاءُ الْمَحْضُ لَا يَكَادُ يَصْدُرُ مِنْ مُؤْمِنٍ فِي فَرْضِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَقَدْ يَصْدُرُ فِي الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ أَوِ الْحَجِّ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ، أَوِ الَّتِي يَتَعَدَّى نَفْعُهَا، فَإِنَّ الْإِخْلَاصَ فِيهَا عَزِيزٌ.. وَهَذَا الْعَمَلُ لَا يَشُكُّ مُسْلِمٌ أَنَّهُ حَابِطٌ وَأَنَّ صَاحِبَهُ يَسْتَحِقُّ الْمَقْتَ مِنَ اللَّهِ وَالْعُقُوبَةَ.2
2- وَتَارَةً يَكُونُ الْعَمَلُ لِلَّهِ، وَيُشَارِكُهُ الرِّيَاءُ، فَإِنْ شَارَكَهُ مِنْ أَصْلِهِ فَالنُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ وَحُبُوطِهِ أَيْضًا.وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشَرِيكَهُ» وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَلَفْظُهُ: فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، وَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ.وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ،، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَلَّى يُرَائِي، فَقَدْ أَشْرَكَ وَمَنْ صَامَ يُرَائِي، فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَصَدَّقَ يُرَائِي، فَقَدْ أَشْرَكَ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: أَنَا خَيْرُ قَسِيمٍ لِمَنْ أَشْرَكَ بِي شَيْئًا، فَإِنَّ جُدَّةَ عَمَلِهِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ لِشَرِيكِهِ الَّذِي أَشْرَكَ بِهِ أَنَا عَنْهُ غَنِيٌّ» .
وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي فُضَالَةَ - وَكَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ» .
وَخَرَّجَ الْبَزَّارُ فِي " مُسْنَدِهِ " مِنْ حَدِيثِ الضَّحَاكِ بْنِ قَيْسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: أَنَا خَيْرُ شَرِيكٍ، فَمَنْ أَشْرَكَ مَعِي شَرِيكًا، فَهُوَ لِشَرِيكِهِ.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَخْلِصُوا أَعْمَالَكُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَّا مَا أُخْلِصَ لَهُ، وَلَا تَقُولُوا: هَذَا لِلَّهِ وَلِلرَّحِمِ، فَإِنَّهَا لِلرَّحِمِ، وَلَيْسَ لِلَّهِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَلَا تَقُولُوا هَذَا لِلَّهِ وَلِوُجُوهِكُمْ، فَإِنَّهَا لِوُجُوهِكُمْ، وَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهَا شَيْءٌ».
وَخَرَّجَ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا شَيْءَ لَهُ فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا شَيْءَ لَهُ ثُمَّ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ» .
وَخَرَّجَ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّى أَقِفُ الْمَوْقِفَ أُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ، وَأُرِيدُ أَنْ يُرَى مَوْطِنِي، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] .
وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْمَعْنَى، وَأَنَّ الْعَمَلَ إِذَا خَالَطَهُ شَيْءٌ مِنَ الرِّيَاءِ من أصله كَانَ بَاطِلًا: طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمْ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَالْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَغَيْرُهُمْ.
وَفِي مَرَاسِيلِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ عَمَلًا فِيهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ رِيَاءٍ» .
وَلَا نَعْرِفُ عَنِ السَّلَفِ فِي هَذَا خِلَافًا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ. فَإِنْ خَالَطَ نِيَّةَ الْجِهَادِ مَثَلًا نِيَّةٌ غَيْرُ الرِّيَاءِ، مِثْلُ أَخْذِهِ أُجْرَةً لِلْخِدْمَةِ، أَوْ أَخْذِ شَيْءٍ مِنَ الْغَنِيمَةِ، أَوِ التِّجَارَةَ، نَقَصَ بِذَلِكَ أَجْرُ جِهَادِهِمْ، وَلَمْ يُبْطَلْ بِالْكُلِّيَّةِ،
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو،، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ الْغُزَاةَ إِذَا غَنِمُوا غَنِيمَةً، تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَغْنَمُوا شَيْئًا، تَمَّ لَهُمْ أَجْرُهُمْ» .
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى أَحَادِيثَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ بِجِهَادِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا أَنَّهُ لَا أَجْرَ لَهُ، وَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ فِي الْجِهَادِ إِلَّا الدُّنْيَا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: التَّاجِرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ وَالْمُكَارِيُّ أَجْرُهُمْ عَلَى قَدْرِ مَا يَخْلُصُ مِنْ نِيَّتِهِمْ فِي غُزَاتِهِمْ، وَلَا يَكُونُ مِثْلَ مَنْ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ لَا يَخْلِطُ بِهِ غَيْرَهُ. وَقَالَ أَيْضًا فِيمَنْ يَأْخُذُ جُعْلًا عَلَى الْجِهَادِ: إِذَا لَمْ يَخْرُجْ لِأَجْلِ الدَّرَاهِمِ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ، كَأَنَّهُ خَرَجَ لِدِينِهِ، فَإِنْ أُعْطِيَ شَيْئًا، أَخَذَهُ.
وَكَذَا رُوِيَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: إِذَا أَجْمَعَ أَحَدُكُمْ عَلَى الْغَزْوِ، فَعَوَّضَهُ اللَّهُ رِزْقًا، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَأَمَّا إِنْ أَحَدُكُمْ إِنْ أُعْطِيَ دِرْهَمًا غَزَا، وَإِنْ مُنِعَ دِرْهَمًا مَكَثَ، فَلَا خَيْرَ فِي ذَلِكَ. وَكَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِذَا كَانَتْ نِيَّةُ الْغَازِي عَلَى الْغَزْوِ، فَلَا أَرَى بَأْسًا.
وَهَكَذَا يُقَالُ فِيمَنْ أَخَذَ شَيْئًا فِي الْحَجِّ لِيَحُجَّ بِهِ: إِمَّا عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ عَنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي حَجِّ الْجَمَّالِ وَحَجِّ الْأَجِيرِ وَحَجِّ التَّاجِرِ:هُوَ تَمَامٌ لَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ قَصْدَهُمُ الْأَصْلِيَّ كَانَ هُوَ الْحَجَّ دُونَ التَّكَسُّبِ.
3 - وَأَمَّا إِنْ كَانَ أَصْلُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، ثُمَّ طَرَأَتْ عَلَيْهِ نِيَّةُ الرِّيَاءِ، فَإِنْ كَانَ خَاطِرًا وَدَفَعَهُ، فَلَا يَضُرُّهُ بِغَيْرِ خِلَافٍ.. وَإِنِ اسْتَرْسَلَ مَعَهُ، فَهَلْ يُحْبَطُ بِهِ عَمَلُهُ أَمْ لَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ وَيُجَازَى عَلَى أَصْلِ نِيَّتِهِ؟
فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ قَدْ حَكَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَرَجَّحَا أَنَّ عَمَلَهُ لَا يَبْطُلُ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ يُجَازَى بِنِيَّتِهِ الْأُولَى وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ.
وَيُسْتَدَلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي " مَرَاسِيلِهِ " عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بَنِي سَلَمَةَ كُلَّهُمْ يُقَاتِلُ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ لِلدُّنْيَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ نَجْدَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، فَأَيُّهُمُ الشَّهِيدُ؟ قَالَ: كُلُّهُمْ إِذَا كَانَ أَصْلُ أَمْرِهِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا» .
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ إِنَّمَا هُوَ فِي عَمَلٍ يَرْتَبِطُ آخِرُهُ بِأَوَّلِهِ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، فَأَمَّا مَا لَا ارْتِبَاطَ فِيهِ كَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَإِنْفَاقِ الْمَالِ وَنَشْرِ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ بِنِيَّةِ الرِّيَاءِ الطَّارِئَةِ عَلَيْهِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ نِيَّةٍ.
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الْهَاشِمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: رُبَّمَا أُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ وَلِي نِيَّةٌ، فَإِذَا أَتَيْتُ عَلَى بَعْضِهِ، تَغَيَّرَتْ نِيَّتِي، فَإِذَا الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّاتٍ. وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا الْجِهَادُ، كَمَا فِي مُرْسَلِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، فَإِنَّ الْجِهَادَ يَلْزَمُ بِحُضُورِ الصَّفِّ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ حِينَئِذٍ، فَيَصِيرُ كَالْحَجِّ.
4 - فَأَمَّا إِذَا عَمِلَ الْعَمَلَ لِلَّهِ خَالِصًا، ثُمَّ أَلْقَى اللَّهُ لَهُ الثَّنَاءَ الْحَسَنَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ، فَفَرِحَ بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، وَاسْتَبْشَرَ بِذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ.وَفِي هَذَا الْمَعْنَى جَاءَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ «سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَعْمَلُ الْعَمَلَ لِلَّهِ مِنَ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ.
فَقَالَ: « تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَعِنْدَهُ: «الرَّجُلُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ لِلَّهِ فَيُحِبُّهُ النَّاسُ عَلَيْهِ» . وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَسَّرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرَّجُلُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ، فَيَسُرُّهُ، فَإِذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ، أَعْجَبَهُ، فَقَالَ: لَهُ أَجْرَانِ: أَجْرُ السِّرِّ، وَأَجْرُ الْعَلَانِيَةِ» .
وَلْنَقْتَصِرَ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى الْإِخْلَاصِ وَالرِّيَاءِ، فَإِنَّ فِيهِ كِفَايَةً. وَبِالْجُمْلَةِ، فَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيِّ: لَيْسَ عَلَى النَّفْسِ شَيْءٌ أَشَقَّ مِنَ الْإِخْلَاصِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا فِيهِ نَصِيبٌ.
وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ الْحُسَيْنِ الرَّازِيُّ: أَعَزُّ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا الْإِخْلَاصُ، وَكَمْ أَجْتَهِدُ فِي إِسْقَاطِ الرِّيَاءِ عَنْ قَلْبِي، وَكَأَنَّهُ يَنْبُتُ فِيهِ عَلَى لَوْنٍ آخَرَ.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَ مِنْ دُعَاءِ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا تُبْتُ إِلَيْكَ مِنْهُ، ثُمَّ عُدْتُ فِيهِ، وَأَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا جَعَلْتُهُ لَكَ عَلَى نَفْسِي، ثُمَّ لَمْ أَفِ لَكَ بِهِ، وَأَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا زَعَمْتُ أَنِّي أَرَدْتُ بِهِ وَجْهَكَ، فَخَالَطَ قَلْبِي مِنْهُ مَا قَدْ عَلِمْتَ.
فانظر أخي في نفسك بينك وبين ربك بصدق وصراحة من أي الأصناف هي ومن أي المراتب ، واحذر أن تجرك إلى الغرور والاتكال على رحمة الله وسعة مغفرته ، فإن الأمر جد خطير ، وإن العاقل من أدرك العواقب فعد لها عدتها ..
استغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه من كل ذنب اقترفته أو عمل زعمت أني فيه لربي مخلصا وهو لي مخلصا إنّ ربي سميع قريب مجيب .
وكتب محبكم :
أبو بكر يوسف لعويسي .

أبو عبد المصور مصطفى الجزائري
14-Mar-2021, 07:57 PM
بارك الله فيك شيخنا