أبو بكر يوسف لعويسي
19-Sep-2016, 04:16 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، أحمده سبحانه حمدا يليق بجلاله وكماله وجماله ، حتى يحب ربنا ويرضى ، وأحمده كذلك على عظيم نعمه وجزيل آلائه وأصلي وأسلم تسليما كثيرا طيبا على المبعوث رحمة للعالمين وصفوة الخلق أجمعين وعلى آله وصحبه السابقين منهم واللاحقين وعلى التابعين لهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
وبعد : فالمؤمن طاهر اللسان من الفحش واللعن والعصيان ، سليم القلب من الدنس والبغضاء والطغيان ، يتنزه عن كل ما يشوب خُلُقه وأدبه من القبائح ورذائل الأخلاق ، وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بذلك بقوله : (لَيسَ المُؤمِنُ بالطَّعَان وَلَا اللعَان، وَلَا الفَاحِشِ، ولا البَذِيء ) (1).
ولقد كثر اللعن (2) والسب والشتم بين المسلمين ، وخاصة الشباب والنساء ، فتسمع الرجل بمجرد ما يغضب يقول : يلعن أبوك ، أو يعلن أمك ، والله يلعنك ، اللهم أعلن فلان ، وفلان ملعون وفلانة ملعونة أو من الملاعين في جمل كثيرة تصب كلها في اللعن ولا فرق عند هؤلاء بين المؤمن التقي ، وبين الفاجر ، بين الكبير والصغير وبين
العموم والتعيين وبين الإطلاق والتقييد كل ذلك عندهم سواء ، وهذا ليس من أخلاق المؤمنين .
وقبل أن أتطرق إلى حكم لعن المعين أي كان أذكر تعريف اللعن في اللغة والشرع ثم أتي على أقوال العلماء في حكمه والله تعالى أسأل التوفيق والسداد .
اللعن في اللغة: في كتاب العين (2/141): لعن: اللّعن: التّعذيب، والمُلَعّنُ: المعذّب، واللَّعِينُ المشتوم المسبوب . لَعَنْتُه: سَبَبْتُه. ولَعَنَهُ اللهُ: باعده. واللَّعْنَةُ في القرآن: العذابُ، واللّعنة: الدّعاء عليه. واللُّعَنَةُ: الكثيرُ اللّعن، واللُّعْنَةُ: الذي يلعنه النّاس.
وفي تهذيب اللغة (2/240): اللَّعْن: الطَّرْد والإبعاد. وَمن أبعده الله لم تلْحقهُ رَحمته وخُلّد فِي الْعَذَاب.
و اللعن في الشرع : هو الإبعاد والطرد من الخير، وقيل: الطرد والإبعاد من الله ، ومن الخلق السب والدعاء (3).
قال النووي في شرحه على مسلم ( 2/67) وفي الشرع: الإبعاد من رحمة الله تعالى . وبهذا يتبين أن معناه في اللغة والشرع متقارب بل هو متطابق .
حكم اللعن :
اتفق أهل العلم على جواز اللعن المطلق أي بالوصف أو الجنس لمرتكبي بعض المحرمات التي ورد في الشرع لعن مرتكبيها (4).
مثل قوله صلى الله عليه وسلم : ((لعن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده)) (5).
وقوله عليه الصلاة والسلام (( لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من آوى محدثاً ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من غير منار الأرض )) (6).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((لَعَنِ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ تُخُومَ الْأَرْضِ وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ كَمَّه الْأَعْمَى عَنِ السَّبِيلِ وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ سَبَّ وَالِدَيْهِ وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ وَلَعَنَ اللَّهُ عن عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ) ـ قَالَهَا ثَلَاثًا فِي عَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ ))ـ (7).
وقال جابر بن عبد الله- رضي الله عنه - (( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء))(8). ونحو ذلك من الأحاديث.
وعن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه: أنه اشترى غلاما حجاما، فقال: (( إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم، وثمن الكلب، وكسب البغي، ولعن آكل الربا وموكله، والواشمة والمستوشمة والمصور))(9) .
ونقل الاتفاق على ذلك أبو بكر بن العربي ، قال القرطبي في تفسيره (1/190): قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَأَمَّا لَعْنُ الْعَاصِي مُطْلَقًا فَيَجُوزُ إِجْمَاعًا، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ).
واختلف العلماء في لعن المعين من مرتكبي الكبائر وما يسمى عند العلماء الملي الفاسق ، هل يجوز لعنه أم لا؟ اختلفوا في ذلك على أربعة أقوال .
القول الأول: جواز لعن الفاسق العاصي المعين مطلقاً، وذهب إلى هذا القول ابن الجوزي ، وطائفة من أصحاب الإمام أحمد (10) والسراج البلقيني (11) وابن الوزير العواصم والقواصم (8/83-94) وغيرهم ..
واحتج أصحاب هذا القول بالأحاديث التي ورد فيها لعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل بعض المحرمات ومنها الأحاديث الآنفة الذكر ، ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح))( 12).
وفي الأدب المفرد (175 ) عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَابَّةٍ قَدْ وِسِمَ يُدَخن مَنْخِراه، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَعن اللَّهُ مَنْ فَعَل هَذَا، لَا يَسِمَنَّ أحدٌ الوَجْهَ وَلَا يَضْربنَّه) .قال الشيخ الألباني صحيح - «الصحيحة» (2149) : والحديث رواه مسلم.
وفي صحيح مسلم (2117) عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَيْهِ حِمَارٌ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ: ((لَعَنَ اللهُ الَّذِي وَسَمَهُ)) وغيرها كثير .
قال أصحاب هذا القول : إن النبي صلى الله عليه وسلم لعن وذكر كذلك لعن الملائكة لمن يستحق اللعن فيستوي فيه المعين وغيره (13).
وقال ابن الوزير (8/94) أن الأدلة العامة من الإيمان والأحاديث التي قدمناها وردت معلَّلَةً بتلك المعاصي المذكوره، والتعليل يقتضي جواز اللعنة حيث وجدت المعصية. مثاله قوله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] معلل بالظلم وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لعن الله من لعن والديه " معلل بلعن الوالدين، وكذا سائر ما ورد تعليق اللعن به من الأوصاف المذمومة.
واللفظ، وإن كان عاماً، فهو يتناول الآحاد ظاهراً ولو لم يتناول شيئاً منها، لم يكن له معنى وتعيين بعضها من غير دليلٍ تحكُّم، فثبت بمجموع هذه الأدلة أن لعن أهل الكبائر جائزٌ، بل قد وقع من أرحم الخلق وأشفقهم، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شفيع الخلائق وسيد ولد آدم، وذلك لِمَا فيه من زجر الناس أن يرتكبوا ما ارتكب أولئك الذين استحقوا اللعنة .
وقال الذهبي في المنتقى من منهاج الاعتدال (1/290) وَمن جوز لعنة الْمعِين لفسقه يَقُول ألعنه وأصلي عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مُسْتَحقّ للعقاب فيلعن ومستحق للثَّواب من وَجه الْإِسْلَام فَيصَلي عَلَيْهِ وَهَذَا مَذْهَب الصَّحَابَة وَسَائِر أهل السّنة والكرامية والمرجئة . انتهى كلامه .
تنبيه مهم : قوله وهذا مذهب الصحابة ... ليسق قصده جواز اللعن ، وإنما يقصد أنه يجتمع في العبد الثواب والعقاب ، والمعصية والطاعة ، يعني أنه يعاقب العبد من جهة المعصية ، ويثاب من جهة الطاعة .
القول الثاني: أنه يجوز لعن المعين ما لم يقم عليه الحد، فإذا أقيم عليه الحد فلا يجوز لعنه ، وقال بهذا ابن بطال. فتح الباري (12/81) .
قال القرطبي في تفسيره (2/189) : وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا فِي لَعْنِ الْعَاصِي الْمُعَيَّنِ، قَالَ: وَإِنَّمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ) فِي حَقِّ نُعَيْمَانَ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَمَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَنْبَغِي لَعْنُهُ، وَمَنْ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَلَعْنَتُهُ جَائِزَةٌ سَوَاءً سُمِّيَ أَوْ عُيِّنَ أَمْ لَا، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَلْعَنُ إِلَّا مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ مَا دَامَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِلَّعْنِ،
فَإِذَا تَابَ مِنْهَا وَأَقْلَعَ وَطَهَّرَهُ الْحَدُّ فَلَا لَعْنَةَ تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ. وَبَيَّنَ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يثرب.فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ صِحَّتِهِ عَلَى أَنَّ التَّثْرِيبَ وَاللَّعْنَ إِنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ أَخْذِ الْحَدِّ وَقَبْلَ التَّوْبَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وقد استدل من قال ذلك بحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم اسمه عبد الله وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوماً فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تلعنوه، فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله )). البخاري 6780).
قال الحافظ في الفتح(12/75): وفي رواية "فوالله ما علمت أنه ليحب الله ورسوله" وتكون ما زائدة . المصدر السابق .
فقالوا: إن النهي هنا إنما كان بعد إقامة الحد لا قبله. ولم يثبت عن أحد من الصحابة اللعن قبل إقامة الحد مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن في الخمر عشرة ومنهم شاربها .
وفي شرح النووي على مسلم (11/185): قَالَ الْقَاضِي وأجاز بعضهم لعن المعين ما لم يُحَدَّ فَإِذَا حُدَّ لَمْ يَجُزْ لَعْنُهُ فَإِنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا.قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا التَّأْوِيلُ بَاطِلٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي النَّهْيِ عَنِ اللَّعْنِ فَيَجِبُ حَمْلُ النَّهْيِ عَلَى الْمُعَيَّنِ لِيُجْمَعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
القول الثالث: أن لعن المعين لا يجوز إلا أن يكون مجاهراً، ذكر هذا القول الحافظ في فتح الباري (12/76) .
وربما يستدل لهذا القول بما ورد في صحيح البخاري (6069) عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه )).(14) .
فهذا العربيد الفاجر المجاهر بالفسق و لا يبالي بأحد ولا يستحي لا من الخلق ولا من ربه فيستيقظ وقد بات مستورا فيهتك ستر الله عليه فيعمل عمل قوم لوط أو يتسافد تسافد البهائم في الشوارع ، أو يشرب الخمرة والمخدرات علنا ويسب ويلعن ويفحش على كل من اعترضه يستحق اللعن بقصد السب والشتم والغيبة حتى يحذره النّاس ويتقوه (15).
القول الرابع: أن لعن المعين لا يجوز مطلقاً، وبه قال النخعي، فقد روى الخلال في السنة (3/523) بسنده عنه أنه سئل: ما ترى في لعن الحجاج وضَرْبهِ من الناس؟ فقال: ألا تسمع إلى قوله تعالى {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}.
وبهذا قال الإمام أحمد، فقد روى ابنه صالح أنه قال له: الرجل يذكر عنده الحجاج أو غيره فيلعنه، قال: لا يعجبني لو عبر، فقال: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} .وبه قال الخلال وعزاه إلى الحسن وابن سيرين . المصدر السابق.
وعزاه شيخ الإسلام في منهاج السنة (4/569)إلى أبي بكر عبد العزيز فقال: وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ، كَمَا قَالَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ، كَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِ.
وبه قال الإمام البخاري كما في الفتح ( 12/81)حيث بوب (باب لعن السارق إذا لم يسم ) أي لم يذكر اسمه ..
وكذلك القاضي عياض ، والنووي (11/185)، وحكى فيه، وكذلك حكاه أبو بكر بن العربي .
قال القرطبي في تفسيره (2/189): وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ لَعْنَ الْعَاصِي الْمُعَيَّنَ لَا يجوز اتفاقا، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أُتِيَ بِشَارِبِ خَمْرٍ مِرَارًا، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ: لَعَنَهُ اللَّهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ) فَجَعَلَ لَهُ حُرْمَةَ الْأُخُوَّةِ، وَهَذَا يُوجِبُ الشَّفَقَةَ.
وهو الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية ، في منهاج السنة النبوية (4/572-573) فقال عند قوله تعالى : {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}وَالْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى لَعْنِ الْمُعَيَّنِ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ ذَنْبٍ لُعِنَ فَاعِلُهُ، يُلْعَنُ الْمُعَيَّنُ الَّذِي فَعَلَهُ؛ لَلُعِنَ جُمْهُورُ النَّاسِ. وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَعِيدِ الْمُطْلَقِ، لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَهُ فِي حَقِّ الْمُعَيَّنِ إِلَّا إِذَا وُجِدَتْ شُرُوطُهُ وَانْتَفَتْ مَوَانِعُهُ، وَهَكَذَا اللَّعْنُ.
ثُمَّ إِنَّ هَذَا تَحَقَّقَ فِي كَثِيرٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ الَّذِينَ تَقَاتَلُوا مِنَ الْعَبَّاسِيِّينَ وَالطَّالِبِيِّينَ، فَهَلْ يُلْعَنُ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ؟ وَكَذَلِكَ مَنْ ظَلَمَ قَرَابَةً لَهُ لَا سِيَّمَا وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عِدَّةُ آبَاءٍ، أَيَلْعَنُهُ بِعَيْنِهِ؟ ثُمَّ إِذَا لُعِنَ هَؤُلَاءِ لُعِنَ كُلُّ مَنْ شَمِلَهُ أَلْفَاظُهُ، وَحِينَئِذٍ فَيُلْعَنُ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ.
قد استدل من قال بهذا بالحديث السابق وهو نهيه صلى الله عليه وسلم عن لعن الذي حده في شرب الخمر وقال: (( لا تلعنوه ))، وفي رواية أنه قال عليه الصلاة والسلام: (( لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم)) .
مع أنه عليه الصلاة والسلام قد لعن شارب الخمر، فقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((إن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها وساقيها وحاملها والحمولة إليه وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها)) (16).
فقالوا: إن حديث عمر في نهيه عن لعن شرب الخمر يحمل على المعين، أما حديث ابن عباس فهو في لعن غير المعين ، ولعن الشارب عموماً .
واستدلوا أيضاً على منع لعن المعين بحديث (( لعن المؤمن كقتله))(17).
وقد استدل بهذا الحديث الإمام أحمد كما في السنة للخلال (3/521)في إنكاره للعن يزيد بن معاوية ، فقد روى الخلال أن أبا طالب قال : سألت أبا عبد الله من قال لعن الله يزيد بن معاوية؟ قال: لا أتكلم في هذا، قلت: ما تقول فإن الذي تكلم به رجل لا بأس به، وأنا صائر إلى قولك، فقال أبو عبد الله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( لعن المؤمن كقتله)) فأرى الإمساك أحب إليَّ .
قال النووي - رحمه الله – ( 2/ 67): أن اللعن من المعاصي الشديدة القبيحة…وقد قال صلى الله عليه وسلم "لعن المؤمن كقتله". واتفق العلماء على تحريم اللعن فإنه في اللغة : الإبعاد والطرد. وفي الشرع: الإبعاد من رحمة الله تعالى، فلا يجوز أن يبعد من رحمة الله من لا يعرف حاله وخاتمة أمره معرفة قطعية، فلهذا قالوا: لا يجوز لعن أحدٍ بعينه مسلماً كان أو كافراً أو دابة إلا من علمنا بنص شرعي أنه مات على الكفر أو يموت عليه كأبي جهل وإبليس.
وأما اللعن بالوصف فليس بحرام كلعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة وآكل الربا وموكله إلى غير ذلك مما جاءت به النصوص الشرعية بإطلاقه على الأوصاف لا على الأعيان ". انتهى كلامه .
وقد أجاب من منع لعن الفاسق المعين عن استدلال المجيزين لذلك بحديث أبي هريرة الذي ورد فيه لعن الملائكة للمرأة التي تأبى على زوجها، بأن ما ورد في الحديث هو الإخبار عن لعن الملائكة، وهو أمر موجه إليهم، وليس إلينا، كما أخبرنا أن الله لعن شارب الخمر إلا أنه لم يأمرنا بلعنه.سبل السلام (2/211) .
الخلاصة البحث .
1 - اتفاق العلماء على اللعن المطلق فيمن ورد فيهم اللعن من الآيات والأحاديث لا يتجاوزها .
2 – اختلفوا في لعن المقترف للكبائر الفاسق على أربعة أقوال .
أ – جواز اللعن مطلقا .
ب – جواز أن اللعن قبل إقامة الحد ولا يجوز بعد إقامة الحد لأن الحدود كفارات لأهلها ، فهي كالتوبة ، فمن تاب ،تاب الله عليه ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له فلا يجوز أن يلعن من أقيم عليه الحد ولا تاب من ذنب اقترفه .
ت – يجوز لعن المجاهر دون المسر لأن المجاهر غير معافى ولا حرمة له في الغيبة .
ج – عدم الجواز مطلقا ، سواء كان مسلما أو كافرا في مادام حيا ، إذا من تيقنا بموته على الكفر فيجوز لعنه بعينه ، أمّا المسلم فلا يجوز حيا كان أو ميتا بل ينبغي أن يدعى له بالهداية والتوبة في الحياة والعفو والمغفرة في الآخرة .
وعليه فالراجح من هذه الأقوال عدم جواز لعن الفاسق المعين، وإنما يلعن الوصف والجنس كأن يقال لعنة الله على شارب الخمر وآكل الربا والواصلة والمستوصلة ...ونحو ذلك مما ورد في الأحاديث، وذلك لأن لعن المعين معناه طرده وإبعاده من رحمة الله فيكون بهذا من جنس القطع له بالنار والخلود فيها، وهذا خلاف عقيدة أهل السنة والجماعة وخلاف الحق الذي دلت عليه النصوص..
قال النووي( 11/185) قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ) هَذَا دَلِيلٌ لِجَوَازِ لَعْنِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ مِنَ الْعُصَاةِ لِأَنَّهُ لَعْنٌ لِلْجِنْسِ لَا لِمُعَيَّنٍ وَلَعْنُ الْجِنْسِ جَائِزٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}.
هذا أولا : وثانيا ، أنه لا أحد يعلم ما يختم لهذا المعين ، وإذا كانت خاتمة الإنسان مجهولة وغيب لا يعلمه أحد لا ينبغي أن يلعن لأنه قد يتوب ويدخل الجنّة.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين في شرح رياض الصالحين (6/191) قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب تحريم لعن المعين من آدمي أو دابة ولهذا كان لعن المعين من كبائر الذنوب، يعني لا يجوز أن تلعن إنسانا بعينه، فتقول اللهم العن فلانا أو تقول لعنه الله عليك، أو ما أشبه ذلك حتى لو كان كافرا وهو حي فإنه لا يجوز أن تلعنه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صار يقول: اللهم العن فلانا، اللهم العن فلانا يعينهم قال الله له :{ ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } ومن الناس من تأخذه الغيرة فيلعن الرجل المعين إذا كان كافرا وهذا لا يجوز، لأنك لا تدري لعل الله أن يهديه وكم من إنسان كان من أشد الناس عداوة للمسلمين والإسلام هداه الله وصار من خيار عباد الله المؤمنين، ونضرب لهذا مثلا: عمر بن الخطاب الرجل الثاني بعد أبي بكر في هذه الأمة، كان من ألد أعداء الإسلام ففتح الله عليه فأسلم.
خالد بن الوليد كان يقاتل المسلمين في أحد وهو من جملة من كر عليهم وداهمهم، عكرمة بن أبي جهل.
وغيرهم من كبار الصحابة الذين كانوا من أول ألد أعداء المسلمين فهداهم الله عز وجل.
ولهذا قال: {ليس لك من الامر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون}.
أما إذا مات الإنسان على الكفر وعلمنا أنه مات كافرا فلا بأس أن نلعنه لأنه ميئوس من هدايته والعياذ بالله لأنه مات على الكفر.
ثالثا : أن اللعن هو الحكم عليه بالطرد والإبعاد من رحمة الله ، والطرد والإبعاد من رحمة الله غيب فلا نعلم من يكون مطرودا ومبعدا من رحمة الله لذلك لا يجوز أن يلعن ، بخلاف الدعاء بالطرد والإبعاد على الإطلاق والوصف والجنس فإن ذلك جائز وقد وردت في أدلة كثيرة ذكرت شيئا منها .
رابعا : لا يجوز لعن المعين لما ورد من أحاديث النهي عن اللعن عموماً كما في حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضبه ولا بالنار. وفي رواية: بجهنم )).(18) .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس المؤمن بالطعّان ولا باللعان ولا بالفاحش البذيء)). والله أعلم.
انتهى القصد منه ، والحمد لله رب العالمين ، فإن أصبت فمن الله وحده ، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان وحسبي أني بذلت جهدا ، واستغفره الله العظيم من كل ذنب أو خطأ إن ربي قريب مجيب .
وكتب :
محب العلم والإنصاف - - على طريقة صالح الأسلاف
أبو بكر يوسف لعويسي .
الجزائر /18/ 12/1437هـ الموافق ل /19/ 9/2016م .
-------------------
الهامش :
1 - صحيح الأدب المفرد(312) عن عبد بن عمرو بن العاص رضي الله عنه والشيخ الألباني صحيح «الصحيحة» (320) : [ت: ك البر والصلة , 48 ـ ب ما جاء في اللعنة].
وفيه 145- باب ليس المؤمن بالطَّعَان
309 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يَنْبَغِي للمُؤمِنِ أنْ يَكُونَ لَعَّانَاً)حسن صحيح - «تخريج السنة» (1014) «الصحيحة» (2636).
2 - كثرة اللعن من صفة النساء ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ((يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الِاسْتِغْفَارَ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ» فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ جَزْلَةٌ: وَمَا لَنَا يَا رَسُولَ اللهِ أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: «تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ..))صحيح البخاري (304-1462)ومسلم (885).
3- لسان العرب (5/4044) ، المعجم الوسيط (ص:829) .
4 - تفسير القرطبي (2/190) .
5 - أخرجه البخاري (6783-6799)ومسلم (1687). قال محمد فؤاد عبد الباقي وقوله : (لعن الله السارق يسرق البيضة) قال جماعة المراد بها بيضة الحديد وحبل السفينة وكل واحد منهما يساوي أكثر من ربع دينار وأنكر المحققون هذا وضعفوه فقالوا بيضة الحديد وحبل السفينة لهما قيمة ظاهرة وليس هذا السياق موضع استعمالهما بل بلاغة الكلام تأباه ولأنه لا يذم في العادة من خاطر بيده في شيء له قدرر وإنما يذم من خاطر بها فيما لا قدر له فهو موضع تقليل لا تكثير والصواب أن المراد التنبيه على عظم ما خسر وهي يده في مقابلة حقير من المال وهو ربع دينار فإنه يشارك البيضة والحبل في الحقارة]
6 - صحيح الأدب المفرد (18/18)باب ولعن الله من لعن والديه وأخرجه مسلم (1978).
وقوله :محدثاً" بكسر الدال: من يأتي بفساد في الأرض. أي: من نصر جانباً، أو آواه، وأجاره من خصمه، وحال بينه وبين أن يقتص منه. ويروى بالفتح وهو الأمر المبتدع نفسه، ويكون معنى الإيواء فيه الرضا به والصبر عليه، فإنه إذا رضي بالبدعة وأقر فاعلها، ولم ينكرها عليه أحد، فقد آواه.
7- التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان للشيخ الألباني وقال :حسن صحيح - ((الصحيحة)) (3462) , ((أحكام الجنائز)) (261) , ((التعليق الرغيب)) (3/ 198).
8 - أبو داود (3333)والترمذي (1206)والنسائي (5105) وابن ماجة (2277)وأحمد (4428) بلفظ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود ، أَنَّهُ قَالَ: «آكِلُ الرِّبَا، وَمُوكِلُهُ، وَشَاهِدَاهُ، وَكَاتِبُهُ إِذَا عَلِمُوا، وَالْوَاشِمَةُ، وَالْمُوتَشِمَةُ، وَاَلْمُسْتَوْشِمَةُ لِلْحُسْنِ، وَلَاوِي الصَّدَقَةِ، وَالْمُرْتَدُّ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ورواه النسائي في الكبرى (5512)وهو في صحيح الجامع وقال صحيح [ن] عن ابن مسعود. تخريج الترغيب 3/49: ابن ماجه, ك.
9- البخاري (5962).
10 - منهاج السنة النبوية (4/569) .
11 - فتح الباري (12/86) .
12 - البخاري (3237- 5193- 5194) ومسلم (1436)وأبو دود (2141).
13 - فتح الباري (12/76) .
14 - ومسلم (2990) أنظر صحيح الجامع (4512)وقال: (صحيح) [ق] عن أبي هريرة. مختصر مسلم 832، نحوه، الروض 2/408.
15 - تنبيه : لا يفهمن أحد أن هذا مناقض لما قدمت به في المقدمة من أنه لا ينغي للمؤمن أن يكون لعانا طعانا ، فصدور اللعن لمثل هؤلاء أو على لإطلاق دون تعيين لا ينافي ما صدرت به من الكلام فما كان على العموم والإطلاق فقد ورد الشرع بذلك ، وما كان على التعيين فالقد به السب والتحذير بشرط أن يكون ديدن المؤمن وإنما يصدر منه نادرا وإنما المنهي عنه أن يكون لعانا بصيغة المبالغة في اللعن .
16 - صحيح الجامع (798) وقال (صحيح) ،[ك هب] عن ابن عمر. الإرواء( 1529): حب ، الضياء - ابن عباس.
17 - أخرجه البخاري (6047)،ومسلم (110-176)،وأبو داود (3257) (10/465) ، والترمذي (1527) و (1543).
18- أخرجه أبو داود (4906) والترمذي (1 / 357) والحاكم (1 / 48) وأحمد (5/15) انظر الصحيحة (893)وصحيح الجامع (7443).
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، أحمده سبحانه حمدا يليق بجلاله وكماله وجماله ، حتى يحب ربنا ويرضى ، وأحمده كذلك على عظيم نعمه وجزيل آلائه وأصلي وأسلم تسليما كثيرا طيبا على المبعوث رحمة للعالمين وصفوة الخلق أجمعين وعلى آله وصحبه السابقين منهم واللاحقين وعلى التابعين لهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
وبعد : فالمؤمن طاهر اللسان من الفحش واللعن والعصيان ، سليم القلب من الدنس والبغضاء والطغيان ، يتنزه عن كل ما يشوب خُلُقه وأدبه من القبائح ورذائل الأخلاق ، وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بذلك بقوله : (لَيسَ المُؤمِنُ بالطَّعَان وَلَا اللعَان، وَلَا الفَاحِشِ، ولا البَذِيء ) (1).
ولقد كثر اللعن (2) والسب والشتم بين المسلمين ، وخاصة الشباب والنساء ، فتسمع الرجل بمجرد ما يغضب يقول : يلعن أبوك ، أو يعلن أمك ، والله يلعنك ، اللهم أعلن فلان ، وفلان ملعون وفلانة ملعونة أو من الملاعين في جمل كثيرة تصب كلها في اللعن ولا فرق عند هؤلاء بين المؤمن التقي ، وبين الفاجر ، بين الكبير والصغير وبين
العموم والتعيين وبين الإطلاق والتقييد كل ذلك عندهم سواء ، وهذا ليس من أخلاق المؤمنين .
وقبل أن أتطرق إلى حكم لعن المعين أي كان أذكر تعريف اللعن في اللغة والشرع ثم أتي على أقوال العلماء في حكمه والله تعالى أسأل التوفيق والسداد .
اللعن في اللغة: في كتاب العين (2/141): لعن: اللّعن: التّعذيب، والمُلَعّنُ: المعذّب، واللَّعِينُ المشتوم المسبوب . لَعَنْتُه: سَبَبْتُه. ولَعَنَهُ اللهُ: باعده. واللَّعْنَةُ في القرآن: العذابُ، واللّعنة: الدّعاء عليه. واللُّعَنَةُ: الكثيرُ اللّعن، واللُّعْنَةُ: الذي يلعنه النّاس.
وفي تهذيب اللغة (2/240): اللَّعْن: الطَّرْد والإبعاد. وَمن أبعده الله لم تلْحقهُ رَحمته وخُلّد فِي الْعَذَاب.
و اللعن في الشرع : هو الإبعاد والطرد من الخير، وقيل: الطرد والإبعاد من الله ، ومن الخلق السب والدعاء (3).
قال النووي في شرحه على مسلم ( 2/67) وفي الشرع: الإبعاد من رحمة الله تعالى . وبهذا يتبين أن معناه في اللغة والشرع متقارب بل هو متطابق .
حكم اللعن :
اتفق أهل العلم على جواز اللعن المطلق أي بالوصف أو الجنس لمرتكبي بعض المحرمات التي ورد في الشرع لعن مرتكبيها (4).
مثل قوله صلى الله عليه وسلم : ((لعن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده)) (5).
وقوله عليه الصلاة والسلام (( لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من آوى محدثاً ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من غير منار الأرض )) (6).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((لَعَنِ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ تُخُومَ الْأَرْضِ وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ كَمَّه الْأَعْمَى عَنِ السَّبِيلِ وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ سَبَّ وَالِدَيْهِ وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ وَلَعَنَ اللَّهُ عن عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ) ـ قَالَهَا ثَلَاثًا فِي عَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ ))ـ (7).
وقال جابر بن عبد الله- رضي الله عنه - (( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء))(8). ونحو ذلك من الأحاديث.
وعن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه: أنه اشترى غلاما حجاما، فقال: (( إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم، وثمن الكلب، وكسب البغي، ولعن آكل الربا وموكله، والواشمة والمستوشمة والمصور))(9) .
ونقل الاتفاق على ذلك أبو بكر بن العربي ، قال القرطبي في تفسيره (1/190): قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَأَمَّا لَعْنُ الْعَاصِي مُطْلَقًا فَيَجُوزُ إِجْمَاعًا، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ).
واختلف العلماء في لعن المعين من مرتكبي الكبائر وما يسمى عند العلماء الملي الفاسق ، هل يجوز لعنه أم لا؟ اختلفوا في ذلك على أربعة أقوال .
القول الأول: جواز لعن الفاسق العاصي المعين مطلقاً، وذهب إلى هذا القول ابن الجوزي ، وطائفة من أصحاب الإمام أحمد (10) والسراج البلقيني (11) وابن الوزير العواصم والقواصم (8/83-94) وغيرهم ..
واحتج أصحاب هذا القول بالأحاديث التي ورد فيها لعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل بعض المحرمات ومنها الأحاديث الآنفة الذكر ، ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح))( 12).
وفي الأدب المفرد (175 ) عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَابَّةٍ قَدْ وِسِمَ يُدَخن مَنْخِراه، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَعن اللَّهُ مَنْ فَعَل هَذَا، لَا يَسِمَنَّ أحدٌ الوَجْهَ وَلَا يَضْربنَّه) .قال الشيخ الألباني صحيح - «الصحيحة» (2149) : والحديث رواه مسلم.
وفي صحيح مسلم (2117) عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَيْهِ حِمَارٌ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ: ((لَعَنَ اللهُ الَّذِي وَسَمَهُ)) وغيرها كثير .
قال أصحاب هذا القول : إن النبي صلى الله عليه وسلم لعن وذكر كذلك لعن الملائكة لمن يستحق اللعن فيستوي فيه المعين وغيره (13).
وقال ابن الوزير (8/94) أن الأدلة العامة من الإيمان والأحاديث التي قدمناها وردت معلَّلَةً بتلك المعاصي المذكوره، والتعليل يقتضي جواز اللعنة حيث وجدت المعصية. مثاله قوله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] معلل بالظلم وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لعن الله من لعن والديه " معلل بلعن الوالدين، وكذا سائر ما ورد تعليق اللعن به من الأوصاف المذمومة.
واللفظ، وإن كان عاماً، فهو يتناول الآحاد ظاهراً ولو لم يتناول شيئاً منها، لم يكن له معنى وتعيين بعضها من غير دليلٍ تحكُّم، فثبت بمجموع هذه الأدلة أن لعن أهل الكبائر جائزٌ، بل قد وقع من أرحم الخلق وأشفقهم، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شفيع الخلائق وسيد ولد آدم، وذلك لِمَا فيه من زجر الناس أن يرتكبوا ما ارتكب أولئك الذين استحقوا اللعنة .
وقال الذهبي في المنتقى من منهاج الاعتدال (1/290) وَمن جوز لعنة الْمعِين لفسقه يَقُول ألعنه وأصلي عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مُسْتَحقّ للعقاب فيلعن ومستحق للثَّواب من وَجه الْإِسْلَام فَيصَلي عَلَيْهِ وَهَذَا مَذْهَب الصَّحَابَة وَسَائِر أهل السّنة والكرامية والمرجئة . انتهى كلامه .
تنبيه مهم : قوله وهذا مذهب الصحابة ... ليسق قصده جواز اللعن ، وإنما يقصد أنه يجتمع في العبد الثواب والعقاب ، والمعصية والطاعة ، يعني أنه يعاقب العبد من جهة المعصية ، ويثاب من جهة الطاعة .
القول الثاني: أنه يجوز لعن المعين ما لم يقم عليه الحد، فإذا أقيم عليه الحد فلا يجوز لعنه ، وقال بهذا ابن بطال. فتح الباري (12/81) .
قال القرطبي في تفسيره (2/189) : وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا فِي لَعْنِ الْعَاصِي الْمُعَيَّنِ، قَالَ: وَإِنَّمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ) فِي حَقِّ نُعَيْمَانَ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَمَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَنْبَغِي لَعْنُهُ، وَمَنْ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَلَعْنَتُهُ جَائِزَةٌ سَوَاءً سُمِّيَ أَوْ عُيِّنَ أَمْ لَا، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَلْعَنُ إِلَّا مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ مَا دَامَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِلَّعْنِ،
فَإِذَا تَابَ مِنْهَا وَأَقْلَعَ وَطَهَّرَهُ الْحَدُّ فَلَا لَعْنَةَ تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ. وَبَيَّنَ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يثرب.فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ صِحَّتِهِ عَلَى أَنَّ التَّثْرِيبَ وَاللَّعْنَ إِنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ أَخْذِ الْحَدِّ وَقَبْلَ التَّوْبَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وقد استدل من قال ذلك بحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم اسمه عبد الله وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوماً فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تلعنوه، فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله )). البخاري 6780).
قال الحافظ في الفتح(12/75): وفي رواية "فوالله ما علمت أنه ليحب الله ورسوله" وتكون ما زائدة . المصدر السابق .
فقالوا: إن النهي هنا إنما كان بعد إقامة الحد لا قبله. ولم يثبت عن أحد من الصحابة اللعن قبل إقامة الحد مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن في الخمر عشرة ومنهم شاربها .
وفي شرح النووي على مسلم (11/185): قَالَ الْقَاضِي وأجاز بعضهم لعن المعين ما لم يُحَدَّ فَإِذَا حُدَّ لَمْ يَجُزْ لَعْنُهُ فَإِنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا.قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا التَّأْوِيلُ بَاطِلٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي النَّهْيِ عَنِ اللَّعْنِ فَيَجِبُ حَمْلُ النَّهْيِ عَلَى الْمُعَيَّنِ لِيُجْمَعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
القول الثالث: أن لعن المعين لا يجوز إلا أن يكون مجاهراً، ذكر هذا القول الحافظ في فتح الباري (12/76) .
وربما يستدل لهذا القول بما ورد في صحيح البخاري (6069) عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه )).(14) .
فهذا العربيد الفاجر المجاهر بالفسق و لا يبالي بأحد ولا يستحي لا من الخلق ولا من ربه فيستيقظ وقد بات مستورا فيهتك ستر الله عليه فيعمل عمل قوم لوط أو يتسافد تسافد البهائم في الشوارع ، أو يشرب الخمرة والمخدرات علنا ويسب ويلعن ويفحش على كل من اعترضه يستحق اللعن بقصد السب والشتم والغيبة حتى يحذره النّاس ويتقوه (15).
القول الرابع: أن لعن المعين لا يجوز مطلقاً، وبه قال النخعي، فقد روى الخلال في السنة (3/523) بسنده عنه أنه سئل: ما ترى في لعن الحجاج وضَرْبهِ من الناس؟ فقال: ألا تسمع إلى قوله تعالى {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}.
وبهذا قال الإمام أحمد، فقد روى ابنه صالح أنه قال له: الرجل يذكر عنده الحجاج أو غيره فيلعنه، قال: لا يعجبني لو عبر، فقال: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} .وبه قال الخلال وعزاه إلى الحسن وابن سيرين . المصدر السابق.
وعزاه شيخ الإسلام في منهاج السنة (4/569)إلى أبي بكر عبد العزيز فقال: وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ، كَمَا قَالَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ، كَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِ.
وبه قال الإمام البخاري كما في الفتح ( 12/81)حيث بوب (باب لعن السارق إذا لم يسم ) أي لم يذكر اسمه ..
وكذلك القاضي عياض ، والنووي (11/185)، وحكى فيه، وكذلك حكاه أبو بكر بن العربي .
قال القرطبي في تفسيره (2/189): وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ لَعْنَ الْعَاصِي الْمُعَيَّنَ لَا يجوز اتفاقا، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أُتِيَ بِشَارِبِ خَمْرٍ مِرَارًا، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ: لَعَنَهُ اللَّهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ) فَجَعَلَ لَهُ حُرْمَةَ الْأُخُوَّةِ، وَهَذَا يُوجِبُ الشَّفَقَةَ.
وهو الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية ، في منهاج السنة النبوية (4/572-573) فقال عند قوله تعالى : {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}وَالْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى لَعْنِ الْمُعَيَّنِ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ ذَنْبٍ لُعِنَ فَاعِلُهُ، يُلْعَنُ الْمُعَيَّنُ الَّذِي فَعَلَهُ؛ لَلُعِنَ جُمْهُورُ النَّاسِ. وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَعِيدِ الْمُطْلَقِ، لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَهُ فِي حَقِّ الْمُعَيَّنِ إِلَّا إِذَا وُجِدَتْ شُرُوطُهُ وَانْتَفَتْ مَوَانِعُهُ، وَهَكَذَا اللَّعْنُ.
ثُمَّ إِنَّ هَذَا تَحَقَّقَ فِي كَثِيرٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ الَّذِينَ تَقَاتَلُوا مِنَ الْعَبَّاسِيِّينَ وَالطَّالِبِيِّينَ، فَهَلْ يُلْعَنُ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ؟ وَكَذَلِكَ مَنْ ظَلَمَ قَرَابَةً لَهُ لَا سِيَّمَا وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عِدَّةُ آبَاءٍ، أَيَلْعَنُهُ بِعَيْنِهِ؟ ثُمَّ إِذَا لُعِنَ هَؤُلَاءِ لُعِنَ كُلُّ مَنْ شَمِلَهُ أَلْفَاظُهُ، وَحِينَئِذٍ فَيُلْعَنُ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ.
قد استدل من قال بهذا بالحديث السابق وهو نهيه صلى الله عليه وسلم عن لعن الذي حده في شرب الخمر وقال: (( لا تلعنوه ))، وفي رواية أنه قال عليه الصلاة والسلام: (( لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم)) .
مع أنه عليه الصلاة والسلام قد لعن شارب الخمر، فقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((إن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها وساقيها وحاملها والحمولة إليه وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها)) (16).
فقالوا: إن حديث عمر في نهيه عن لعن شرب الخمر يحمل على المعين، أما حديث ابن عباس فهو في لعن غير المعين ، ولعن الشارب عموماً .
واستدلوا أيضاً على منع لعن المعين بحديث (( لعن المؤمن كقتله))(17).
وقد استدل بهذا الحديث الإمام أحمد كما في السنة للخلال (3/521)في إنكاره للعن يزيد بن معاوية ، فقد روى الخلال أن أبا طالب قال : سألت أبا عبد الله من قال لعن الله يزيد بن معاوية؟ قال: لا أتكلم في هذا، قلت: ما تقول فإن الذي تكلم به رجل لا بأس به، وأنا صائر إلى قولك، فقال أبو عبد الله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( لعن المؤمن كقتله)) فأرى الإمساك أحب إليَّ .
قال النووي - رحمه الله – ( 2/ 67): أن اللعن من المعاصي الشديدة القبيحة…وقد قال صلى الله عليه وسلم "لعن المؤمن كقتله". واتفق العلماء على تحريم اللعن فإنه في اللغة : الإبعاد والطرد. وفي الشرع: الإبعاد من رحمة الله تعالى، فلا يجوز أن يبعد من رحمة الله من لا يعرف حاله وخاتمة أمره معرفة قطعية، فلهذا قالوا: لا يجوز لعن أحدٍ بعينه مسلماً كان أو كافراً أو دابة إلا من علمنا بنص شرعي أنه مات على الكفر أو يموت عليه كأبي جهل وإبليس.
وأما اللعن بالوصف فليس بحرام كلعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة وآكل الربا وموكله إلى غير ذلك مما جاءت به النصوص الشرعية بإطلاقه على الأوصاف لا على الأعيان ". انتهى كلامه .
وقد أجاب من منع لعن الفاسق المعين عن استدلال المجيزين لذلك بحديث أبي هريرة الذي ورد فيه لعن الملائكة للمرأة التي تأبى على زوجها، بأن ما ورد في الحديث هو الإخبار عن لعن الملائكة، وهو أمر موجه إليهم، وليس إلينا، كما أخبرنا أن الله لعن شارب الخمر إلا أنه لم يأمرنا بلعنه.سبل السلام (2/211) .
الخلاصة البحث .
1 - اتفاق العلماء على اللعن المطلق فيمن ورد فيهم اللعن من الآيات والأحاديث لا يتجاوزها .
2 – اختلفوا في لعن المقترف للكبائر الفاسق على أربعة أقوال .
أ – جواز اللعن مطلقا .
ب – جواز أن اللعن قبل إقامة الحد ولا يجوز بعد إقامة الحد لأن الحدود كفارات لأهلها ، فهي كالتوبة ، فمن تاب ،تاب الله عليه ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له فلا يجوز أن يلعن من أقيم عليه الحد ولا تاب من ذنب اقترفه .
ت – يجوز لعن المجاهر دون المسر لأن المجاهر غير معافى ولا حرمة له في الغيبة .
ج – عدم الجواز مطلقا ، سواء كان مسلما أو كافرا في مادام حيا ، إذا من تيقنا بموته على الكفر فيجوز لعنه بعينه ، أمّا المسلم فلا يجوز حيا كان أو ميتا بل ينبغي أن يدعى له بالهداية والتوبة في الحياة والعفو والمغفرة في الآخرة .
وعليه فالراجح من هذه الأقوال عدم جواز لعن الفاسق المعين، وإنما يلعن الوصف والجنس كأن يقال لعنة الله على شارب الخمر وآكل الربا والواصلة والمستوصلة ...ونحو ذلك مما ورد في الأحاديث، وذلك لأن لعن المعين معناه طرده وإبعاده من رحمة الله فيكون بهذا من جنس القطع له بالنار والخلود فيها، وهذا خلاف عقيدة أهل السنة والجماعة وخلاف الحق الذي دلت عليه النصوص..
قال النووي( 11/185) قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ) هَذَا دَلِيلٌ لِجَوَازِ لَعْنِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ مِنَ الْعُصَاةِ لِأَنَّهُ لَعْنٌ لِلْجِنْسِ لَا لِمُعَيَّنٍ وَلَعْنُ الْجِنْسِ جَائِزٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}.
هذا أولا : وثانيا ، أنه لا أحد يعلم ما يختم لهذا المعين ، وإذا كانت خاتمة الإنسان مجهولة وغيب لا يعلمه أحد لا ينبغي أن يلعن لأنه قد يتوب ويدخل الجنّة.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين في شرح رياض الصالحين (6/191) قال المؤلف رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب تحريم لعن المعين من آدمي أو دابة ولهذا كان لعن المعين من كبائر الذنوب، يعني لا يجوز أن تلعن إنسانا بعينه، فتقول اللهم العن فلانا أو تقول لعنه الله عليك، أو ما أشبه ذلك حتى لو كان كافرا وهو حي فإنه لا يجوز أن تلعنه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما صار يقول: اللهم العن فلانا، اللهم العن فلانا يعينهم قال الله له :{ ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } ومن الناس من تأخذه الغيرة فيلعن الرجل المعين إذا كان كافرا وهذا لا يجوز، لأنك لا تدري لعل الله أن يهديه وكم من إنسان كان من أشد الناس عداوة للمسلمين والإسلام هداه الله وصار من خيار عباد الله المؤمنين، ونضرب لهذا مثلا: عمر بن الخطاب الرجل الثاني بعد أبي بكر في هذه الأمة، كان من ألد أعداء الإسلام ففتح الله عليه فأسلم.
خالد بن الوليد كان يقاتل المسلمين في أحد وهو من جملة من كر عليهم وداهمهم، عكرمة بن أبي جهل.
وغيرهم من كبار الصحابة الذين كانوا من أول ألد أعداء المسلمين فهداهم الله عز وجل.
ولهذا قال: {ليس لك من الامر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون}.
أما إذا مات الإنسان على الكفر وعلمنا أنه مات كافرا فلا بأس أن نلعنه لأنه ميئوس من هدايته والعياذ بالله لأنه مات على الكفر.
ثالثا : أن اللعن هو الحكم عليه بالطرد والإبعاد من رحمة الله ، والطرد والإبعاد من رحمة الله غيب فلا نعلم من يكون مطرودا ومبعدا من رحمة الله لذلك لا يجوز أن يلعن ، بخلاف الدعاء بالطرد والإبعاد على الإطلاق والوصف والجنس فإن ذلك جائز وقد وردت في أدلة كثيرة ذكرت شيئا منها .
رابعا : لا يجوز لعن المعين لما ورد من أحاديث النهي عن اللعن عموماً كما في حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضبه ولا بالنار. وفي رواية: بجهنم )).(18) .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس المؤمن بالطعّان ولا باللعان ولا بالفاحش البذيء)). والله أعلم.
انتهى القصد منه ، والحمد لله رب العالمين ، فإن أصبت فمن الله وحده ، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان وحسبي أني بذلت جهدا ، واستغفره الله العظيم من كل ذنب أو خطأ إن ربي قريب مجيب .
وكتب :
محب العلم والإنصاف - - على طريقة صالح الأسلاف
أبو بكر يوسف لعويسي .
الجزائر /18/ 12/1437هـ الموافق ل /19/ 9/2016م .
-------------------
الهامش :
1 - صحيح الأدب المفرد(312) عن عبد بن عمرو بن العاص رضي الله عنه والشيخ الألباني صحيح «الصحيحة» (320) : [ت: ك البر والصلة , 48 ـ ب ما جاء في اللعنة].
وفيه 145- باب ليس المؤمن بالطَّعَان
309 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يَنْبَغِي للمُؤمِنِ أنْ يَكُونَ لَعَّانَاً)حسن صحيح - «تخريج السنة» (1014) «الصحيحة» (2636).
2 - كثرة اللعن من صفة النساء ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ((يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الِاسْتِغْفَارَ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ» فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ جَزْلَةٌ: وَمَا لَنَا يَا رَسُولَ اللهِ أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: «تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ..))صحيح البخاري (304-1462)ومسلم (885).
3- لسان العرب (5/4044) ، المعجم الوسيط (ص:829) .
4 - تفسير القرطبي (2/190) .
5 - أخرجه البخاري (6783-6799)ومسلم (1687). قال محمد فؤاد عبد الباقي وقوله : (لعن الله السارق يسرق البيضة) قال جماعة المراد بها بيضة الحديد وحبل السفينة وكل واحد منهما يساوي أكثر من ربع دينار وأنكر المحققون هذا وضعفوه فقالوا بيضة الحديد وحبل السفينة لهما قيمة ظاهرة وليس هذا السياق موضع استعمالهما بل بلاغة الكلام تأباه ولأنه لا يذم في العادة من خاطر بيده في شيء له قدرر وإنما يذم من خاطر بها فيما لا قدر له فهو موضع تقليل لا تكثير والصواب أن المراد التنبيه على عظم ما خسر وهي يده في مقابلة حقير من المال وهو ربع دينار فإنه يشارك البيضة والحبل في الحقارة]
6 - صحيح الأدب المفرد (18/18)باب ولعن الله من لعن والديه وأخرجه مسلم (1978).
وقوله :محدثاً" بكسر الدال: من يأتي بفساد في الأرض. أي: من نصر جانباً، أو آواه، وأجاره من خصمه، وحال بينه وبين أن يقتص منه. ويروى بالفتح وهو الأمر المبتدع نفسه، ويكون معنى الإيواء فيه الرضا به والصبر عليه، فإنه إذا رضي بالبدعة وأقر فاعلها، ولم ينكرها عليه أحد، فقد آواه.
7- التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان للشيخ الألباني وقال :حسن صحيح - ((الصحيحة)) (3462) , ((أحكام الجنائز)) (261) , ((التعليق الرغيب)) (3/ 198).
8 - أبو داود (3333)والترمذي (1206)والنسائي (5105) وابن ماجة (2277)وأحمد (4428) بلفظ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود ، أَنَّهُ قَالَ: «آكِلُ الرِّبَا، وَمُوكِلُهُ، وَشَاهِدَاهُ، وَكَاتِبُهُ إِذَا عَلِمُوا، وَالْوَاشِمَةُ، وَالْمُوتَشِمَةُ، وَاَلْمُسْتَوْشِمَةُ لِلْحُسْنِ، وَلَاوِي الصَّدَقَةِ، وَالْمُرْتَدُّ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ورواه النسائي في الكبرى (5512)وهو في صحيح الجامع وقال صحيح [ن] عن ابن مسعود. تخريج الترغيب 3/49: ابن ماجه, ك.
9- البخاري (5962).
10 - منهاج السنة النبوية (4/569) .
11 - فتح الباري (12/86) .
12 - البخاري (3237- 5193- 5194) ومسلم (1436)وأبو دود (2141).
13 - فتح الباري (12/76) .
14 - ومسلم (2990) أنظر صحيح الجامع (4512)وقال: (صحيح) [ق] عن أبي هريرة. مختصر مسلم 832، نحوه، الروض 2/408.
15 - تنبيه : لا يفهمن أحد أن هذا مناقض لما قدمت به في المقدمة من أنه لا ينغي للمؤمن أن يكون لعانا طعانا ، فصدور اللعن لمثل هؤلاء أو على لإطلاق دون تعيين لا ينافي ما صدرت به من الكلام فما كان على العموم والإطلاق فقد ورد الشرع بذلك ، وما كان على التعيين فالقد به السب والتحذير بشرط أن يكون ديدن المؤمن وإنما يصدر منه نادرا وإنما المنهي عنه أن يكون لعانا بصيغة المبالغة في اللعن .
16 - صحيح الجامع (798) وقال (صحيح) ،[ك هب] عن ابن عمر. الإرواء( 1529): حب ، الضياء - ابن عباس.
17 - أخرجه البخاري (6047)،ومسلم (110-176)،وأبو داود (3257) (10/465) ، والترمذي (1527) و (1543).
18- أخرجه أبو داود (4906) والترمذي (1 / 357) والحاكم (1 / 48) وأحمد (5/15) انظر الصحيحة (893)وصحيح الجامع (7443).