أبو بكر يوسف لعويسي
17-Sep-2017, 03:52 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
قال ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/132): قال الشيخ أبو محمد المقدسي في كتابه ذم الوسواس: "الحمد لله الذي هدانا بنعمه، وشرفنا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وبرسالته، ووفقنا للاقتداء به والتمسك بسنته، ومن علينا باتباعه الذي جعله علماً على محبته ومغفرته وسببا لكتابة رحمته وحصول هدايته ، فقال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] ، وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلّذِينَ يَتّقُونَ} إلى قوله: {الّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النّبيَ الأمِّيَ} [الأعراف: 156-157] ثم قال: {فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النبي الأُمِّيَ الّذِي يُؤْمِنْ بِاللهِ وَكِلمَاتِهِ وَاتّبِعُوهُ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] .
أما بعد:
فإن الله سبحانه جعل الشيطان عدوا للإنسان، يقعد له الصراط المستقيم، ويأتيه من كل جهة وسبيل، كما أخبر الله تعالى عنه أنه قال: {لأقْعُدَنّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيمْاَنهم وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16-17] .
وحذرناً الله عز وجل من متابعته، وأمرنا بمعاداته ومخالفته، فقال سبحانه: {إِنّ الشّيْطَانَ لَكُمْ عَدُو فَاتّخِذُوهُ عَدُوا} [فاطر: 6].
وقال: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنّكُم الشّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أبَوَيْكُمْ مِنَ الجنَّةِ} [الأعراف: 27].
وأخبرنا بما صنع بأبوينا تحذيرا لنا من طاعته، وقطعاً للعذر في متابعته، وأمرنا الله سبحانه وتعالى باتباع صراطه المستقيم ونهانا عن اتباع السبل، فقال سبحانه:{وَأَنّ هذَا صِرَاطِي مستقيماً فَاتبِعُوهُ وَلا تَتّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] .
وسبيل الله وصراطه المستقيم هو الذي كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وصحابته بدليل قوله عز وجل: {يس وَالْقُرْآنِ الْحكِيمِ إِنّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس: 1- 4] وقال: {وَإِنّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمً} [الحج: 67] وقال: {إِنّكَ لَتهْدِى إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] ، فمن اتبع رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في قوله وفعله فهو على صراط الله المستقيم، وهو ممن يحبه الله ويغفر له ذنوبه، ومن خالفه في قوله أو فعله فهو مبتدع متبع لسبيل الشيطان غير داخل فيمن وعد الله بالجنة والمغفرة والإحسان" .
تمهيد :
لقد جاءني سؤال من أخٍ حامل لكتاب الله ، ومعلم للقرآن الكريم يشكو فيه مرضا عضالا وبلاء وبالا ، وهو الوسواس القهري ، وقد ذكرني هذا بعدة حالات مرت بي من بعض الناس الذين يصيبهم هذا الداء ، ومنهم شيخ كبير بلغ من العمر عتيا كان كلما خرجت من المسجد اعترضني يشكو حاله ويبكي نفسه التي كادت أن تخرجه من رحمة الله ، وأن يترك الصلاة والاستقامة على طاعة الله ، وقد وقفت معه مدة سنتين تقريبا وأنا أساعده ، وأرشده ، وآخذ بيده إلى ما فيه خير الدنيا والآخرة ، وأحثه على الجماعة وترك العزلة ، وملء الفراغ الذي يعيشه ، والحمد لله رب العالمين فقد استجاب لذلك ومنّ الله عليه بالشفاء والعافية بثقته بالله وتمسكه القوي بطريقة العلاج التي كنت أحثه عليها ..والشافي هو الله سبحانه وتعالى .
ولكن الغريب في سؤال هذا الأخ هو أنه وقع في حب شخص آخر حبا أعمى لا يستطيع أن يخالف له رأي ، ولا أن يفارقه ؛ بل إلى درجه أنه أصبح يعشقه ويقدم رضاه على رضا والديه ومن ثم على رضا الله تعالى نعوذ بالله من العشق كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
وقبل أن أبين الطريق الأنجع والأنفع للعلاج له ولغيره ممن ابتلي أو ربما يبتلي به البعض أعرف الوسواس، وأعرج على الأسباب التي ينتج عنها هذا المرض الخطير والداء العضال الذي فتك بكثير من النّاس حتى أخرج بعضهم من - رحمة الله- إلى اليأس والقنوط ، والانتحار ، وبعضهم إلى الإفراط والتفريط ، والجفاء والغلو وأبعدهم من القصد والاقتصاد والوسطية والاعتدال في حياتهم الدينية والدنيوية ، والله هو العاصم وإليه المشتكى ولا حول ولا قوة إلا بالله .
تعريف الوسواس : الوَسْوَسةُ والوَسْواسُ الصوتُ الخَفِيُّ مِنْ رِيحٍ والوَسْواسُ صَوْتُ الحَلْيِ ، وقد وَسْوَسَ وَسْوَسةً ووِسْواساً بالكَسْرِ والوَسْوَسَةُ والوِسْوَاسُ حَدِيث النَّفْس وقد وَسْوَسَ في صَدْرِه ووَسْوَسَ إليه .. والوَسْوَاسُ الشَّيْطانُ وقوله تعالى {من شر الوسواس} أراد ذِي الوَسْواس وفلانٌ المُوَسْوِس بالكَسْر الذي يَعْتَرِيه الوَسْواس ، ووَسْوَسَ الرَّجُلَ كَلَّمَه كَلاَماً خَفِيّا. المحكم والمحيط الأعظم (8/539) والعين (7/335).
قال القاضي عياض مشارق الأنوار على صحاح الآثار(2/296) (وس وس) قَوْله : وَمَا وسوست بِهِ أَنْفسهَا ، وَذكر الوسواس والوسوسة هُوَ مَا يلقيه الشَّيْطَان فِي الْقلب ، وَهُوَ الوسواس أَيْضا والشيطان وسواس ..
وَأَصله الْحَرَكَة الْخفية ووسواس الْحَيّ صَوت حركته ، وَمَا وسوست بِهِ أَنْفسهَا أَي حدثتها بِهِ وألقته خواطرها إِلَيْهَا بِالرَّفْع .
وَعند الْأصيلِيّ بِالنّصب وَله وَجه يكون وسوست بِمَعْنى حدثت وَرجلٌ موسوس إِذا غلب ذَلِك عَلَيْهِ بِكَسْر الْوَاو وَلَا يُقَال بِفَتْحِهَا.
(وس س) : (الْوَسْوَسَةُ) الصَّوْتُ الْخَفِيُّ وَمِنْهَا (وَسْوَاسُ الْحَلْيِ) لِأَصْوَاتِهَا وَيُقَالُ (وَسْوَسَ الرَّجُلُ) بِلَفْظِ مَا سُمِّيَ فَاعِلُهُ إذَا تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ خَفِيٍّ يُكَرِّرُهُ ، وَهُوَ فَعْلٌ لَازِمٌ كَوَلْوَلَتْ الْمَرْأَةُ وَوَعْوَعَ الذِّئْبُ (وَرَجُلٌ مُوَسْوِسٌ) بِالْكَسْرِ، وَلَا يُقَالُ بِالْفَتْحِ ، وَلَكِنْ مُوَسْوَسٌ لَهُ أَوْ إلَيْهِ أَيْ تُلْقَى إلَيْهِ الْوَسْوَسَةُ .
وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (الْوَسْوَسَةُ) حَدِيثُ النَّفْسِ وَإِنَّمَا قِيلَ (مُوَسْوِسٌ) لِأَنَّهُ يُحَدِّثُ بِمَا فِي ضَمِيرِهِ .
(وَعَنْ) اللَّيْثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ طَلَاقُ الْمُوَسْوِسِ قَالَ يَعْنِي الْمَغْلُوبَ أَيْ الْمَغْلُوبَ فَيَعْقِلُهُ إذَا تَكَلَّمَ ؛ تَكَلَّمَ بِغَيْرِ نِظَامٍ .
(وَالْوَسْوَاسُ) اسْمٌ بِمَعْنَى الْوَسْوَسَةِ كَالزَّلْزَالِ بِمَعْنَى الزَّلْزَلَةِ وَالْمُرَادُ بِهِ الشَّيْطَانُ فِي قَوْله تَعَالَى {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} [الناس: 4] كَأَنَّهُ وَسْوَسَةٌ فِي نَفْسِهِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ « إنَّ لِلْوُضُوءِ شَيْطَانًا يُقَالُ لَهُ الْوَلْهَانُ فَاتَّقُوا وَسْوَاسَ الْمَاءِ» فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْوَسْوَسَةُ الَّتِي تَقَعُ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَأَنْ يُرَادَ الْوَلْهَانُ نَفْسُهُ عَلَى وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ.المغرب في ترتيب المعرب (1/484) ولسان العرب (6/255).
قلت : قال الترمذي بعدما أخرجه : وفي الباب عن عبد الله بن عمرو وعبد الله بن مغفل قال أبو عيسى حديث أبي بن كعب حديث غريب وليس إسناده بالقوي عند أهل الحديث ؛ لأنا لا نعلم أحدا أسنده غير خارجة ، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن الحسن ، ولا يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء وخارجة ليس بالقوي عند أصحابنا وضعفه ابن المبارك. قال الألباني: ضعيف جدا، ابن ماجة (421) ، المشكاة (419) ، ضعيف الجامع الصغير (1970) ، ضعيف سنن ابن ماجة (94) .
(وس وس) : الْوَسْوَاسُ بِالْفَتْحِ اسْمٌ مِنْ وَسْوَسَتْ إلَيْهِ نَفْسُهُ إذَا حَدَّثَتْهُ وَبِالْكَسْرِ مَصْدَرٌ وَوَسْوَسَ مُتَعَدٍّ بإلى ، وقَوْله تَعَالَى {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 20] اللَّامُ بِمَعْنَى إلَى فَإِنْ بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ قِيلَ مُوَسْوَسٌ إلَيْهِ مِثْلُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ، وَالْوَسْوَاسُ بِالْفَتْحِ مَرَضٌ يَحْدُثُ مِنْ غَلَبَةِ السَّوْدَاءِ يَخْتَلِطُ مَعَهُ الذِّهْنُ وَيُقَالُ لِمَا يَخْطُرُ بِالْقَلْبِ مِنْ شَرٍّ وَلِمَا لَا خَيْرَ فِيهِ وَسْوَاسٌ. المصباح المنير في غريب الشرح الكبير(2/658).
والوسواسُ حالةُ اضطراب تُعرف اليوم بالاسم نفسه، وإن كان يُزاد فيها لدى المشتغلين بعلم النفس، وصف القهرى فيقال : الوسواس القهرى.
منبع الوسواس ، الشيطان والنفس : فقد بينا الله تعالى في كتابه أنه أخذ على نفسه العهد أن يترك أبينا آدم وذريته دون وسوسة وكيد ومكر لذلك أمرنا الله أن نتخذه عدوا لأنه أعلن عداوته لنا . قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }(169) البقرة . قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ }(208)البقرة
قال تعالى :{ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (6) فاطر
قال تعالى :{ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ }(62)ياسين
وقال تعالى :{ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا...} (20) الأعراف .
وقال تعالى :{ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} (120) طه .
ولما كان الشيطان عدو مبين ، لا يقبل مصانعة ولا معروفا ولا إحسانا أمرنا الله أن نتعوذ به منه لأنه لا يصده ولا يدحره إلا التعوذ بالله وذكره سبحانه .
قال ابن القيم – رحمه الله - ولا ريب أن الشيطان هو الداعي إلى الوسواس: فأهله قد أطاعوا الشيطان، ولبوا دعوته، واتبعوا أمره ورغبوا عن اتباع سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وطريقته، حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، أو اغتسل كاغتساله، لم يطهر ولم يرتفع حدثه، ولولا العذر بالجهل لكان هذا مشاقة للرسول..
فقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتوضأ بالمد، وهو قريب من ثلث رطل بالدمشقي، ويغتسل بالصاع وهو نحو رطل وثلث، والموسوس يرى أن ذلك القدر لا يكفيه لغسل يديه، وصح عنه عليه السلام أنه توضأ مرة مرة، ولم يزد على ثلاث، بل أخبر أن: (( مَنْ زَادَ عَلَيْهَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ)). فالموسوس مسيء متعد ظالم بشهادة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فكيف يتقرب إلى الله بما هو مسيء به متعدّ فيه لحدوده؟،
قال ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/ 134 -135):قلت: ذكر أبو الفرج بن الجوزي عن أبى الوفاء بن عقيل: "أن رجلاً قال له: أنغمس في الماء مرارا كثيرة وأشك: هل صح لي الغسل أم لا؟ فما ترى في ذلك؟
فقال له الشيخ: اذهب فقد سقطت عنك الصلاة. قال: وكيف؟ قال: لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (( رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ: المَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَالنّائمِ حَتَّى يَسْتَيقِظَ، وَالصَّبيِ حَتّى يَبْلُغَ)). ومن ينغمس في الماء مرارا ويشك هل أصابه الماء أم لا، فهو مجنون".
وبلغني عن آخر أنه كان شديد التنطع في التلفظ بالنية والتقعر في ذلك، فاشتد به التنطع والتقعر يوماً إلى أن قال: أصلى، أصلي، مرارا، صلاة كذا وكذا. وأراد أن يقول: أداء، فأعجم الدال، وقال: أذاء لله. فقطع الصلاة رجل إلى جانبه، فقال: ولرسوله وملائكته وجماعة المصلين.
ومن كيده الذي بلغ به من الجهال ما بلغ : الوسواس الذي كادهم به في أمر الطهارة والصلاة عند النية، حتى ألقاهم في الآصار والأغلال، وأخرجهم عن اتباع سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وخيل إلى أحدهم أن ما جاءت به السنة لا يكفى حتى يضم إليه غيره، فجمع لهم بين هذا الظن الفاسد، والتعب الحاضر، وبطلان الأجر أو تنقيصه.
أسباب الوسواس :
1 - البعد عن الله حقيقة : إن البعد عن الله ، وعن توحيده ومحبته والتوكل عليه ، والاستعانة والاستغاثة به ، والرهبة والرغبة إليه والتضرع والإلحاح في الدعاء ، وعدم القيام بالواجبات على مراد الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كل ذلك يجلب الوحش والقلق ، والاضطرابات النفسية والعقلية ن والهم والغم والضيق وغير ذلك من الأمراض التي يدخل منها الشيطان ليغزو النفس ويقهرها حتى يخرجها من رحمة الله تعالى ، إلى اليأس والقنوط ومن ثم إلى الانتحار ، والجنون والعزلة والوحدة وغير ذلك .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (( إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ)) أخرجه البخاري (7537)، ومسلم(20/ 2067).
أنظر- أيها الموفق - هذا الحديث القدسي العظيم ، وتعمن فيه جيدا نتيجة التقرب ، والقرب من الله أن يجعل الله تعالى هذا القريب المتقرب من أوليائه الذين يعلن الحرب على من عاداهم ، وأن الله يعطيهم إذا سألوه ويعيذهم إذا استعاذوا به وحده ، ويكره مساءتهم ، سبحانه من إله عظيم ، لا إله إلا أنت سبحانك ما أعظمك وما أحلمك !!!
قال ابن القيم في كتابه طريق الهجرتين ( 1/321)والوسواس إنما ينشأُ من الغيبة والبعد، وأما الحاضر المشاهد فماله وللوسواس؟ فالموسوس يجاهد نفسه وقلبه ليحضر بين يدى معبوده، والمحب لم يغب قلبه عن محبوبه فيجاهده على إحضاره، فالوسواس والمحبة متنافيان، ومن وجه آخر أن (( المحب قد انقطعت عن قلبه وساوس الأطماع لامتلأ قلبه من)) محبة حبيبه فلا تتوارد على قلبه جواذب الأطماع والأماني لاشتغاله بما هو فيه.
وأيضاً فإن الوسواس والأماني إنما تنشأُ من حاجته وفاقته إلى ما تعلق طمعه به. وهذا عبد قد جنى من الإحسان، وأُعطى من النعم ما سد حاجته وأغنى فاقته، فلم يبق له طمع ولا وسواس، بل بقي حبه للمنعم عليه وشكره له وذكره إياه في محل وساوسه وخواطره لمطالعة نعم الله عليه، وشهوده منها ما لم يشهد غيره.
2 - الأفراط والتفريط ، وبعبارة أخرى الجفاء أو الغلو .
إن الغلو والجفاء هما سبب هلاك كثير من الإنس والجن ، فما أمر الله تعالى عباده بأمر إلا تدخل الشيطان فيه من هذين السبيلين المنحرفين المعوجين .
قال ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/116)قال بعض السلف: "ما أمر الله سبحانه بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان : إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلوّ. ولا يبالى بأيهما ظفر".
وقد اقتطع أكثر الناس إلا أقل القليل في هذين الواديين: وادي التقصير، ووادي المجاوزة والتعدي. ( أي الجفاء ، والغلو ) والقليل منهم جدا الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه.
فقوم قصر بهم عن الإتيان بواجبات الطهارة، وقوم تجاوز بهم إلى مجاوزة الحد.
وقوم قصر بهم عن إخراج الواجب من المال، وقوم تجاوز بهم حتى أخرجوا جميع ما في أيديهم وقعدوا كَلا على الناس، مستشرفين إلى ما بأيديهم.
وقوم قصر بهم عن تناول ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب واللباس حتى أضروا بأبدانهم وقلوبهم، وقوم تجاوز بهم حتى أخذوا فوق الحاجة فأضروا بقلوبهم وأبدانهم.
وكذلك قصر بقوم في حق الأنبياء وورثتهم حتى قتلوهم، وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم.
وقصر بقوم في خلطة الناس حتى اعتزلوهم في الطاعات، كالجمعة والجماعات والجهاد وتعلم العلم، وتجاوز بقوم حتى خالطوهم في الظلم والمعاصي والآثام.
وقصر بقوم حتى امتنعوا من ذبح عصفور أو شاة ليأكله، وتجاوز بآخرين حتى جرأهم على الدماء المعصومة.
وكذلك قصر بقوم حتى منعهم من الاشتغال بالعلم الذي ينفعهم، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا العلم وحده هو غايتهم دون العمل به.
وقصر بقوم حتى أطعمهم من العشب ونبات البرية دون غذاء بني آدم، وتجاوز بآخرين حتى أطعمهم الحرام الخالص.
وقصر بآخرين حتى زين لهم ترك سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من النكاح فرغبوا عنه بالكلية، وتجاوز بآخرين حتى ارتكبوا ما وصلوا إليه من الحرام.
وقصر بقوم حتى جفوا الشيوخ من أهل الدين والصلاح، وأعرضوا عنهم، ولم يقوموا بحقهم، وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم مع الله تعالى.
وكذلك قصر بقوم حتى منعهم قبول أقوال أهل العلم والالتفات إليها بالكلية، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا الحلال ما حللوه والحرام ما حرموه، وقدموا أقوالهم على سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الصحيحة الصريحة.
إلى أن قال – رحمه الله - : وقصر بقوم حتى تزينوا للناس وأظهروا لهم من الأعمال والعبادات ما يحمدونهم عليه، وتجاوز بقوم حتى أظهروا لهم من القبائح ومن الأعمال السيئة ما يسقطون به جاههم عندهم، وسموا أنفسهم الملامية.
وقصر بقوم حتى أهملوا أعمال القلوب ولم يلتفتوا إليها وعدوها فضلا، أو فضولا، وتجاوز بآخرين حتى قصروا نظرهم وعملهم عليها، ولم يلتفتوا إلى كثير من أعمال الجوارح، وقالوا: العارف لا يسقط وارده لورده. وهذا باب واسع جداً لو تتبعناه لبلغ مبلغا كثيراً، وإنما أشرنا إليه أدنى إشارة.
4 - الفراغ والغفلة والإعراض
عن أسباب الدفع والمراقبة للعدو الموسوس واللص الخفي والانشغال عنه بما يسد عليه هذه الأبواب ، وَهَلِ الْوَسْوَاسُ إِلَّا لِأَهْلِ الْغَفْلَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى والفراغ ؟
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ " البخاري (6412)،والترمذي (2304) وابن ماجه (4170).
قال الماوردي في أدب الدنيا والدين(1/55) بعد ذكره لهذا الحديث : ((ونحن نستعيذ بالله من أن نغبن بفضل نعمته علينا، ونجهل نفع إحسانه إلينا.
وقد قيل في منثور الحكم: من الفراغ تكون الصبوة. وقال بعض البلغاء: من أمضى يومه في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أثله أو حمد حصله، أو خير أسسه أو علم اقتبسه، فقد عق يومه وظلم نفسه. وقال بعض الشعراء: لقد أهاج الفراغ عليك شغلا ... وأسباب البلاء من الفراغ . انتهى كلامه . وَلِلْحَاكِمِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: (( اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ, وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ, وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ, وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ, وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ)) صحيح الجامع (1077) وصحيح الترغيب 3355).
وَقَالَ الْقَائِل: إِن فِي الْمَوْت والمعاد لشغلا ... وادكارا لذِي النهى وبلاغا
فاغتنم نعمتين قبل المنايا ... صِحَة الْجِسْم يَا أخي والفراغا
قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنِّي أَكْرَهُ الرَّجُلَ أَنْ أَرَاهُ يَمْشِي سَبَهْلَلًا أَيْ: لَا فِي أَمْرِ الدُّنْيَا، وَلَا فِي أَمْرِ آخِرَةٍ.
وَرَأَيْت أَنَا الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَوَى فِي الزُّهْدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إنِّي لَأَبْغَضُ الرَّجُلَ فَارِغًا لَا فِي عَمَلِ دُنْيَا وَلَا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ –
فَمَنْ هَجَرَ اللَّذَّاتِ نَالَ الْمُنَى ... وَمَنْ أَكَبَّ عَلَى اللَّذَّاتِ عَضَّ عَلَى الْيَدِ
وَفِي قَمْعِ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ اعْتِزَازُهَا ... وَفِي نَيْلِهَا مَا تَشْتَهِي ذُلُّ سَرْمَدِ
وَلَا تَشْتَغِلْ إلَّا بِمَا يُكْسِبُ الْعُلَا ... وَلَا تُرْضِ النَّفْسَ النَّفِيسَةَ بِالرَّدِي
وَفِي خَلْوَةِ الْإِنْسَانِ بِالْعِلْمِ أُنْسُهُ ... وَيَسْلَمُ دِينُ الْمَرْءِ عِنْدَ التَّوَحُّدِ
وَيَسْلَمُ مِنْ قِيلٍ وَقَالَ وَمِنْ أَذَى ... جَلِيسٍ وَمِنْ وَاشٍ بَغِيضٍ وَحُسَّدِ
فَكُنْ حِلْسَ بَيْتٍ فَهْوَ سِتْرٌ لِعَوْرَةٍ ... وَحِرْزُ الْفَتَى عَنْ كُلِّ غَاوٍ وَمُفْسِدِ
وَخَيْرُ جَلِيسِ الْمَرْءِ كُتْبٌ تُفِيدُهُ ... عُلُومًا وَآدَابًا وَعَقْلًا مُؤَيِّدِ
وَخَالِطْ إذَا خَالَطْت كُلَّ مُوَفَّقٍ ... مِنْ الْعُلَمَاءِ أَهْلِ التُّقَى وَالتَّسَدُّدِ
يُفِيدُك مِنْ عِلْمٍ وَيَنْهَاكَ عَنْ هَوًى ... فَصَاحِبْهُ تُهْدَ مِنْ هُدَاهُ وَتَرْشُدْ
وَإِيَّاكَ وَالْهَمَّازَ إنْ قُمْت عَنْهُ وَاَلْ ... بَذِيِّ فَإِنَّ الْمَرْءَ بِالْمَرْءِ يَقْتَدِي
وَلَا تَصْحَبْ الْحَمْقَى فَذُو الْجَهْلِ إنْ يَرُمْ ... صَلَاحًا لِشَيْءٍ يَا أَخَا الْحَزْمِ يُفْسِدْ
وَخَيْرُ مَقَامٍ قُمْت فِيهِ وَخَصْلَةٍ ... تَحَلَّيْتَهَا ذِكْرُ الْإِلَهِ بِمَسْجِدِ
وَكُفَّ عَنْ الْعَوْرَا لِسَانَك وَلْيَكُنْ ... دَوَامًا بِذِكْرِ اللَّهِ يَا صَاحِبِي نَدِي
وَحَصِّنْ عَنْ الْفَحْشَا الْجَوَارِحَ كُلَّهَا ... تَكُنْ لَك فِي يَوْمِ الْجَزَا خَيْرَ شَاهِدِ
وَوَاظِبْ عَلَى دَرْسِ الْقُرَانِ فَإِنَّهُ ... يُلَيِّنُ قَلْبًا قَاسِيًا مِثْلَ جَلْمَدِ
وَحَافِظْ عَلَى فِعْلِ الْفُرُوضِ لِوَقْتِهَا ... وَخُذْ بِنَصِيبٍ فِي الدُّجَى مِنْ تَهَجُّدِ
وَنَادِ إذَا مَا قُمْت فِي اللَّيْلِ سَامِعًا ... قَرِيبًا مُجِيبًا بِالْفَوَاصِلِ يَبْتَدِي
وَمُدَّ إلَيْهِ كَفَّ فَقْرِك ضَارِعًا ... بِقَلْبٍ مُنِيبٍ وَادْعُ تُعْطَ وَتَسْعَدْ
وَلَا تَسْأَمَنَّ الْعِلْمَ وَاسْهَرْ لِنَيْلِهِ ... بِلَا ضَجَرٍ تَحْمَدْ سُرَى السَّيْرِ فِي غَدِ
وَكُنْ صَابِرًا لِلْفَقْرِ وَادَّرِعْ الرِّضَى ... بِمَا قَدَّرَ الرَّحْمَنُ وَاشْكُرْهُ وَاحْمَدْ
فَمَا الْعِزُّ إلَّا فِي الْقَنَاعَةِ وَالرِّضَى ... بِأَدْنَى كَفَافٍ حَاصِلٍ وَالتَّزَهُّدِ
فَمَنْ لَمْ يُقْنِعْهُ الْكَفَافُ فَمَا إلَى ... رِضَاهُ سَبِيلٌ فَاقْتَنِعْ وَتَقَصَّدْ
الآداب الشرعية والمنح المرعية (3/588- 591).
5- مرض عضوي :
يعني ربما يكون مرض عضوي بغلبة السوداء والاضطرابات النفسية التي تحدثها الحوادث والمصائب ، والتركيبة النفسية للعبد ، كما يقول بعض الأطباء .
وقد رأيت في المصباح المنير في غريب الشرح الكبير(2/658). أنه قال : وَالْوَسْوَاسُ بِالْفَتْحِ مَرَضٌ يَحْدُثُ مِنْ غَلَبَةِ السَّوْدَاءِ يَخْتَلِطُ مَعَهُ الذِّهْنُ وَيُقَالُ لِمَا يَخْطُرُ بِالْقَلْبِ مِنْ شَرٍّ وَلِمَا لَا خَيْرَ فِيهِ وَسْوَاسٌ. والوسواسُ حالةُ اضطراب تُعرف اليوم بالاسم نفسه، وإن كان يُزاد فيها لدى المشتغلين بعلم النفس، وصف القهرى فيقال : الوسواس القهرى.
وهذا ما عليه كثير من الأطباء القدماء والمعاصرين ومن القدماء بو قراط وابن سينا وغيرهما ، وهذا علاجه يكون عضويا بأن يعرض نفسه على طبيب نفساني ، ولا يهمل الطب الأصلي ، وهو الاستشفاء بالقرآن والسنة والاستقامة على دين الله تعالى لفظا ومعنى .
وإليك الآن الدواء والعلاج النافع بإذن الله تعالى – إن تمسكت به ، وإلتزمته فإنك بإذن الله تعالى تخرج من دوامة الإعصار كما تخرج الشعرة من العجين ، وتجد نفسك معافى مطمئنا لا تبالي بعدوك في أي واد هلك .
1 – علق قلبك بالله واملأه بحبه تعالى حتى لا تجد لغيره فيه مكان ، فإن هذا القلب الذي تعلق بالله في السراء والضراء في الضيق والوسع وامتلأ بمحبة الله تعظيما وخضوعا ، وزين بالإيمان ونور بذكر الله لا يستطع الشيطان أن يقترب منه .
قال ابن القيم في الوابل الصيب (1/24) (القلب الثالث) قلب محشو بالإيمان قد استنار بنور الإيمان، وانقشعت عنه حجب الشهوات، وأقلعت عنه تلك الظلمات، فلنوره في صدره إشراق، ولذلك الإشراق إيقاد لو دنا منه الوسواس احترق به، فهو كالسماء التي حرست بالنجوم فلو دنا منها الشيطان يتخطاها رجم فاحترق.
وليست السماء بأعظم حرمة من المؤمن، وحراسة الله تعالى له أتم من حراسة السماء، والسماء متعبد الملائكة ومستقر الوحي وفيها أنوار الطاعات، وقلب المؤمن مستقر التوحيد والمحبة والمعرفة والإيمان وفيه أنوارها، فهو حقيق أن يحرس ويحفظ من كيد العدو فلا ينال منه شيئاً.
2 – الاستغاثة بالله وحده ، ودعاؤه دعاء المضطرين ، فهو غوث المستغيثين ، وهو ملاذ المضطرين ، قال تعالى : {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ }(62)النمل .
قال العلامة السعدي : أي: هل يجيب المضطرب الذي أقلقته الكروب ((والوساوس والذنوب )) وتعسر عليه المطلوب ، واضطر للخلاص مما هو فيه (( من الغم والهم )) إلا الله وحده؟ ومن يكشف السوء أي: البلاء والشر والنقمة إلا الله وحده؟ انتهى بتصرف يسير .
فالله سبحانه يجيب المضطر وغير المضطر ، ولكن إجابته للمضطر المتضرع القانت الخاشع أولى وأسرع ؛ لأنه قوي التعلق بربه الكبير المتعال .
قال تعالى :{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (10)الأنفال .
متى كانت الإجابة ؟ الجواب في الحين .
3 – كثرة الاستعاذة بالله والتعوذ به سبحانه من الشيطان الرجيم ومن همزه ونفخه ، ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} وقوله: {أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} وقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}.
ولكن الاستعاذة ليست خاصة بقراءة القرآن ، فمواطنها كثيرة ، وتتأكد في الصلاة وقراءة القرآن . وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عثمان بن أبى العاص قال: قلت: (( يَا رَسُولَ اللهِ، إِنّ الشيطان قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلاتِي يُلَبِّسُهَا عَلَىَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى علَيْهِ وَسلّم: ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خِنْزَب، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْهُ، وَاتْفُلْ عَنْ يَسَاركَ ثَلاثاً، فَفَعَلْتُ ذلِكَ، فَأَذْهَبَهُ اللهُ تَعَالَى عَنِّى)). فأهل الوسواس قرة عين خنزب وأصحابه، نعوذ بالله عز وجل منه.
قلت : وهذا من أنفع الأدوية والعلاجات ، فإذا أحس العبد بشيء من ذلك فليتعوذ بالله من الشيطان وليعلم يقينا أنه إن تعوذ أن عدو يصغر ويدحر فيسلم من كيده ومكره في وسوسته .راجع إغاثة اللهفان والطب النبوي .
4 – ذكر الله تعالى . وهو الحصن الحصين ومن أنفع العلاج فلا يزال لسانك رطبا بذكر :
قال ابن القيم في الوابل الصيب (1/36) ذكر الله وفوائده : وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « وأمركم أن تذكروا الله تعالى، فإن مثل ذلك مثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً حتى إذا أتى حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله» .
فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقاً بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى ، وأن لا يزال لهجاً بذكره، فإنه لا يحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر، ولا يدخل عليه العدو إلا من باب الغفلة، فهو يرصده فإذا غفل وثب عليه وافترسه.
وإذا ذكر الله تعالى خنس عدو الله تعالى وتصاغر وانقمع حتى يكون كالوصع وكالذباب، ولهذا سمي الوسواس الخناس أي يوسوس في الصدور، فإذا ذكر الله تعالى خنس أي كف وأنقبض، قال ابن عباس: "الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله تعالى خنس".
وفي مسند الأمام أحمد عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عباس بن أبي ربيعة أنه بلغه عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ما عمل آدمي عملاً قط أنجى له من عذاب الله من ذكر الله عز وجل».
وقال معاذ: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله.قال ذكر الله عز وجل»
وقد مثل ذلك بمثال حسن وهو ثلاثة بيوت:
1- بيت للملك فيه كنوزه وذخائره وجواهره.
2 - وبيت للعبد فيه كنوز العبد وذخائره، وليس جواهر الملك وذخائره.
3 - وبيت خال صفر لا شيء فيه.
فجاء اللص يسرق من أحد البيوت فمن أيها يسرق؟
فإن قلت من البيت الخالي كان محالاً لأن البيت الخالي ليس فيه شيء يُسرق، ولهذا قيل لابن عباس رضي الله عنهما: إن اليهود تزعم أنها لا توسوس في صلاتها، فقال: وما يصنع الشيطان بالقلب الخراب؟ وإن قلت: يسرق من بيت الملك كان ذلك كالمستحيل الممتنع، فإن عليه من الحرس واليزك وما لا يستطيع اللص الدنو منه، كيف وحارسه الملك بنفسه؟ وكيف يستطيع اللص الدنو منه وحوله من الحرس والجند ما حوله؟ فلم يبق للص إلا البيت الثالث فهو الذي يشن عليه الغارات.
فليتأمل اللبيب هذا المثال حق التأمل ولينزله على القلوب فإنها على منواله.
ولي مقال منشور على بعض شبكات التواصل الاجتماعي بعنوان الحصين الحسين فراجعه فإنه مفيد . 5 – الثبات على ما نويته وابتدأت فيه على حالة واحدة :
امض على حالة واحدة واثبت عليها ، واحذر من وسوسته بالزيادة عليها وعدم الرضا بها ربما صورها لك قليلة أو خاطئة أو غير مقبولة ، فاثبت على ما نويته ابتداء على سنة النبي – صلى الله عليه وسلم - وآثار الصحابة ، ولا تلتفت إلى ما يوسوس لك به ، ولا تستجيب له ، ولا تسترسل معه بل أثبت على تلك الحالة متيقنا أنها الحق ما دمت تقوم بها على السنة والمباح ، ولا تتركه يفتح عليك باب الزيادة وعدم الإخلاص وعدم القبول و..و..من الشكوك وبنيات الطريق .
6 – معاكسته : فإذا ضعفت أمامه وانفتح عليك الباب فعاكسه ما دمت ابتدأت عملك على الإخلاص و السنة ..
فمثلا يقول لك : لم تتوضأ ثلاثا ، ثلاثا ، فقل له ، تكفي الواحدة ، فإن قال لك لم تتوضأ واحدة ولم تغسل اليدين واحدة ، فقل له العضو لم يجف بعد، وأنت ما لك ولهذا ، لم ترسل عليا رقيبا ، فإن قال صلاتك غير مقبولة ؟
قل له اطلعت الغيب أم اتخذت عند الرحمن عهدا ، قال هي غير صحيحه قل له لست بأعلم مني في عملي ؛ بل هي صحيحه وقد علمتك تريد إفسادها علي، وأنا أمرت فامتثلت ، وأمّا أنت فعصيت ، وأعوذ بالله منك ..
7 – إياك والفراغ والغفلة : املأ فراغك ، وإياك والغفلة ، فالفرغ ، والغفلة مرضان قاتلان ، والنفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالباطل والمعصية فإن لم تقو على إيقاعك في المعصية شغلتك بفضول الكلام والسمع والنظر والأكل والنوم وغير ذلك من الأبواب التي تؤدي بالمدمن عليها إلى التساهل والدخول في المعاصي .. وقد ذكرت لك ما في الفراغ والغفلة في أسباب الوسواس .
8 – قطع علاقتك بذلك الصديق الذي تحبه إلى درجة العشق ...
ينبغي عليك أن تقطع علاقتك بمن تحبه حبا أعمى أو تعشقه فهذا أضراره كثيره يعددها ابن القيم في كتابهالجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي أو الداء والدواء (1/214) فيقول :
أَضْرَارُ الْعِشْقِ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي عِشْقِ الصُّوَرِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ وَلَا دُنْيَوِيَّةٌ، بَلْ مَفْسَدَتُهُ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا يُقَدَّرُ فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: الِاشْتِغَالُ بِحُبِّ الْمَخْلُوقِ وَذِكْرِهِ عَنْ حُبِّ الرَّبِّ تَعَالَى وَذِكْرِهِ، فَلَا يَجْتَمِعُ فِي الْقَلْبِ هَذَا وَهَذَا إِلَّا وَيَقْهَرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَيَكُونُ السُّلْطَانُ وَالْغَلَبَةُ لَهُ.
الثَّانِي: عَذَابُ قَلْبِهِ بِهِ، فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ عُذِّبَ بِهِ وَلَا بُدَّ، كَمَا قِيلَ:
فَمَا فِي الْأَرْضِ أَشْقَى مِنْ مُحِبٍّ ... وَإِنْ وَجَدَ الْهَوَى حُلْوَ الْمَذَاقِ
تَرَاهُ بَاكِيًا فِي كُلٍّ حِينٍ ... مَخَافَةَ فُرْقَةٍ أَوْ لِاشْتِيَاقِ
فَيَبْكِي إِنْ نَأَوْا شَوْقًا إِلَيْهِمْ ... وَيَبْكِي إِنْ دَنَوْا خَوْفَ الْفِرَاقِ
فَتَسْخَنُ عَيْنُهُ عِنْدَ الْفِرَاقِ ... وَتَسْخَنُ عَيْنُهُ عِنْدَ التَّلَاقِي
وَالْعِشْقُ وَإِنِ اسْتَلَذَّ بِهِ صَاحِبُهُ، فَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ عَذَابِ الْقَلْبِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ قَلْبَهُ أَسِيرُ قَبْضَةِ غَيْرِهِ يَسُومُهُ الْهَوَانَ، وَلَكِنْ لِسَكْرَتِهِ لَا يَشْعُرُ بِمُصَابِهِ، فَقَلْبُهُ كَعُصْفُورَةٍ فِي كَفِّ طِفْلٍ يَسُومُهَا حِيَاضَ الرَّدَى، وَالطِّفْلُ يَلْهُو وَيَلْعَبُ، كَمَا قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ:
مَلَكْتَ فُؤَادِي بِالْقَطِيعَةِ وَالْجَفَا ... وَأَنْتَ خَلِيُّ الْبَالِ تَلْهُو وَتَلْعَبُ
فَعَيْشُ الْعَاشِقِ عَيْشُ الْأَسِيرِ الْمُوثَقِ، وَعَيْشُ الْخَلِيِّ عَيْشُ الْمُسَيَّبِ الْمُطْلَقِ.
طَلِيقٌ بِرَأْيِ الْعَيْنِ وَهْوَ أَسِيرُ ... عَلِيلٌ عَلَى قُطْبِ الْهَلَاكِ يَدُورُ
وَمَيِّتٌ يُرَى فِي صُورَةِ الْحَيِّ غَادِيَا ... وَلَيْسَ لَهُ حَتَّى النُّشُورِ نُشُورُ
أَخُو غَمَرَاتٍ ضَاعَ فِيهِنَّ قَلْبُهُ ... فَلَيْسَ لَهُ حَتَّى الْمَمَاتِ حُضُورُ
الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِهِ عَنْ مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَضَيْعُ لِمَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنْ عِشْقِ الصُّوَرِ، أَمَّا مَصَالِحُ الدِّينِ فَإِنَّهَا مَنُوطَةٌ بِلَمِّ شَعَثِ الْقَلْبِ وَإِقْبَالِهِ عَلَى اللَّهِ، وَعِشْقُ الصُّوَرِ أَعْظَمُ شَيْءٍ تَشْعِيثًا وَتَشْتِيتًا لَهُ.
وَأَمَّا مَصَالِحُ الدُّنْيَا فَهِيَ تَابِعَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ لِمَصَالِحِ الدِّينِ، فَمَنِ انْفَرَطَتْ عَلَيْهِ مَصَالِحُ دِينِهِ وَضَاعَتْ عَلَيْهِ، فَمَصَالِحُ دُنْيَاهُ أَضْيَعُ وَأَضْيَعُ.
الْخَامِسُ: أَنَّ آفَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَسْرَعُ إِلَى عُشَّاقِ الصُّوَرِ مِنَ النَّارِ فِي يَابِسِ الْحَطَبِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ الْقَلْبَ كُلَّمَا قَرُبَ مِنَ الْعِشْقِ وَقَوِيَ اتِّصَالُهُ بِهِ بَعُدَ مِنَ اللَّهِ، فَأَبْعَدُ الْقُلُوبِ مِنَ اللَّهِ قُلُوبُ عُشَّاقِ الصُّوَرِ، وَإِذَا بَعُدَ الْقَلْبُ مِنَ اللَّهِ طَرَقَتْهُ الْآفَاتُ، وَتَوَلَّاهُ الشَّيْطَانُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ لَمْ يَدَعْ أَذًى يُمْكِنُهُ إِيصَالُهُ إِلَيْهِ إِلَّا أَوْصَلَهُ، فَمَا الظَّنُّ بِقَلْبٍ تَمَكَّنَ مِنْهُ عَدُّوهُ وَأَحْرَصُ الْخَلْقِ عَلَى غَيِّهِ وَفَسَادِهِ، وَبَعُدَ مِنْهُ وَلِيُّهُ، وَمَنْ لَا سَعَادَةَ لَهُ وَلَا فَرَحَ وَلَا سُرُورَ إِلَّا بِقُرْبِهِ وَوِلَايَتِهِ؟
السَّادِسُ: أَنَّهُ إِذَا تَمَكَّنَ مِنَ الْقَلْبِ وَاسْتَحْكَمَ وَقَوِيَ سُلْطَانُهُ، أَفْسَدَ الذِّهْنَ، وَأَحْدَثَ الْوَسْوَاسَ، وَرُبَّمَا أَلْحَقَ صَاحِبَهُ بِالْمَجَانِينِ الَّذِينَ فَسَدَتْ عُقُولُهُمْ فَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهَا.
وَأَخْبَارُ الْعُشَّاقِ فِي ذَلِكَ مَوْجُودَةٌ فِي مَوَاضِعِهَا، بَلْ بَعْضُهَا مَشَاهَدٌ بِالْعِيَانِ، وَأَشْرَفُ مَا فِي الْإِنْسَانِ عَقْلُهُ، وَبِهِ يَتَمَيَّزُ عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، فَإِذَا عُدِمَ عَقْلَهُ الْتَحَقَ بِالْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ حَالُ الْحَيَوَانِ أَصْلَحَ مِنْ حَالِهِ، وَهَلْ أَذْهَبَ عَقْلَ مَجْنُونِ لَيْلَى وَأَضْرَابِهِ إِلَّا ذَلِكَ؟ وَرُبَّمَا زَادَ جُنُونُهُ عَلَى جُنُونِ غَيْرِهِ كَمَا قِيلَ: قَالُوا جُنِنْتَ بِمَنْ تَهْوَى فَقُلْتُ لَهُمْ ... الْعِشْقُ أَعْظَمُ مِمَّا بِالْمَجَانِينِ
الْعِشْقُ لَا يَسْتَفِيقُ الدَّهْرَ صَاحِبُهُ ... وَإِنَّمَا يُصْرَعُ الْمَجْنُونُ فِي الْحِينِ
السَّابِعُ: أَنَّهُ رُبَّمَا أَفْسَدَ الْحَوَاسَّ أَوْ بَعْضَهَا، إِمَّا إِفْسَادًا مَعْنَوِيًّا أَوْ صُورِيًّا، أَمَّا الْفَسَادُ الْمَعْنَوِيُّ فَهُوَ تَابِعٌ لِفَسَادِ الْقَلْبِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا فَسَدَ فَسَدَتِ الْعَيْنُ وَالْأُذُنُ وَاللِّسَانُ، فَيَرَى الْقَبِيحَ حَسَنًا مِنْهُ وَمِنْ مَعْشُوقِهِ كَمَا فِي الْمُسْنَدِ مَرْفُوعًا: «حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ» فَهُوَ يُعْمِي عَيْنَ الْقَلْبِ عَنْ رُؤْيَةِ مَسَاوِئِ الْمَحْبُوبِ وَعُيُوبِهِ، فَلَا تَرَى الْعَيْنُ ذَلِكَ، وَيُصِمُّ أُذُنَهُ عَنِ الْإِصْغَاءِ إِلَى الْعَدْلِ فِيهِ، فَلَا تَسْمَعُ الْأُذُنُ ذَلِكَ، وَالرَّغَبَاتُ تَسْتُرُ الْعُيُوبَ، فَالرَّاغِبُ فِي الشَّيْءِ لَا يَرَى عُيُوبَهُ، حَتَّى إِذْ زَالَتْ رَغْبَتُهُ فِيهِ أَبْصَرَ عُيُوبَهُ، فَشِدَّةُ الرَّغْبَةِ غِشَاوَةٌ عَلَى الْعَيْنِ، تَمْنَعُ مِنْ رُؤْيَةِ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ، كَمَا قِيلَ:
هَوَيْتُكَ إِذْ عَيْنِي عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ ... فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفَسِي أَلُومُهَا
وَالدَّاخِلُ فِي الشَّيْءِ لَا يَرَى عُيُوبَهُ، وَالْخَارِجُ مِنْهُ الَّذِي لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ لَا يَرَى عُيُوبَهُ، وَلَا يَرَى عُيُوبَهُ إِلَّا مَنْ دَخَلَ فِيهِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ، وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْكُفْرِ خَيْرًا مِنَ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَامِ.
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِنَّمَا تَنْتَقِضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، إِذَا وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْجَاهِلِيَّةَ.
وَأَمَّا فَسَادُ الْحَوَاسِّ ظَاهِرًا، فَإِنَّهُ يُمْرِضُ الْبَدَنَ وَيُنْهِكُهُ، وَرُبَّمَا أَدَّى إِلَى تَلَفِهِ، كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي أَخْبَارِ مَنْ قَتَلَهُمُ الْعِشْقُ.
وَقَدْ رُفِعَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ بِعَرَفَةَ شَابٌّ قَدِ انْتَحَلَ حَتَّى عَادَ جِلْدًا عَلَى عَظْمٍ، فَقَالَ: مَا شَأْنُ هَذَا؟ قَالُوا: بِهِ الْعِشْقُ، فَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنَ الْعِشْقِ عَامَّةَ يَوْمِهِ.
الثَّامِنُ: أَنَّ الْعِشْقَ كَمَا تَقَدَّمَ هُوَ الْإِفْرَاطُ فِي الْمَحَبَّةِ، بِحَيْثُ يَسْتَوْلِي الْمَعْشُوقُ عَلَى قَلْبِ الْعَاشِقِ، حَتَّى لَا يَخْلُوَ مِنْ تَخَيُّلِهِ وَذِكْرِهِ وَالْفِكْرِ فِيهِ، بِحَيْثُ لَا يَغِيبُ عَنْ خَاطِرِهِ وَذِهْنِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَشْتَغِلُ النَّفْسُ عَنِ اسْتِخْدَامِ الْقُوَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ وَالنَّفْسَانِيَّةِ فَتَتَعَطَّلُ تِلْكَ الْقُوَّةُ، فَيَحْدُثُ بِتَعْطِيلِهَا مِنَ الْآفَاتِ عَلَى الْبَدَنِ وَالرُّوحِ مَا يَعِزُّ دَوَاؤُهُ وَيَتَعَذَّرُ، فَتَتَغَيَّرُ أَفْعَالُهُ وَصِفَاتُهُ وَمَقَاصِدُهُ، وَيَخْتَلُّ جَمِيعُ ذَلِكَ، فَتَعْجِزُ الْبَشَرُ عَنْ صَلَاحِهِ، كَمَا قِيلَ:
الْحُبُّ أَوَّلُ مَا يَكُونُ لَجَاجَةٌ ... يَأْتِي بِهَا وَتَسُوقُهُ الْأَقْدَارُ
حَتَّى إِذَا خَاضَ الْفَتَى لُجَجَ الْهَوَى ... جَاءَتْ أُمُورٌ لَا تُطَاقُ كِبَارُ
وَالْعِشْقُ مَبَادِيهِ سَهْلَةٌ حُلْوَةٌ، وَأَوْسَطُهُ هَمٌّ وَشُغْلُ قَلْبٍ وَسَقَمٌ، وَآخِرُهُ عَطَبٌ وَقَتْلٌ، إِنْ لَمْ تَتَدَارَكْهُ عِنَايَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قِيلَ:
وَعِشْ خَالِيًا فَالْحُبُّ أَوَّلُهُ عَنَا ... وَأَوْسَطُهُ سَقَمٌ وَآخِرُهُ قَتْلُ
وَقَالَ آخَرُ: تَوَلَّعَ بِالْعِشْقِ حَتَّى عَشِقْ ... فَلَمَّا اسْتَقَلَّ بِهِ لَمْ يُطِقْ
رَأَى لُجَّةً ظَنَّهَا مَوْجَةً ... فَلَمَّا تَمَكَّنَ مِنْهَا غَرِقْ
وَالذَّنْبُ لَهُ، فَهُوَ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ قَعَدَ تَحْتَ الْمَثَلِ السَّائِرِ: " يَدَاكَ أَوْكَتَا، وَفُوكَ نَفَخَ ". وأرجو أن تطالع بقية مسائله ومنها مقاماته ابتداء من ص 216 فما بعدها من نفس الجزء من الكتاب المذكور فإنه جد مفيد .
ومقاطعته تعني الابتعاد عنه ، وعن الأماكن التي يرتادها ، وكذلك غيّر حتى المسجد الذي يصلي فيه بل إذا تطلب الأمر منك أن تهجر البلدة وتهاجر إلى غيرها فافعل فقد أخبر النبي عن الرجل الذي قتل مائة نفس أن العالم أفتاه بأن يخرج من تلك القرية التي قتل فيها أولئك إلى قرية أهلها صالحون فاعبد الله معهم .
9 – وأخير - تقوى الله تعالى :
عليك بتقوى الله فهي المخرج من كل ضيق ، والفرج من كرب ،قال تعالى :{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (3)الطلاق .
قال الماوردي في تفسيره (6/31)فيه سبعة أقاويل:
أحدها: أي ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة ، قاله ابن عباس.
الثاني: أن المخرج علمه بأنه من قبل اللَّه ، فإن اللَّه هو الذي يعطي ويمنع ، قاله مسروق.
الثالث : أن المخرج هو أن يقنعه اللَّه بما رزقه ، قاله عليّ بن صالح.
الرابع : مخرجاً من الباطل إلى الحق ، ومن الضيق إلى السعة ، قاله ابن جريج.
الخامس: ومن يتق اللَّه بالطلاق يكن له مخرج في الرجعة في العدة ، وأن يكون كأحد الخطاب بعد العدة ، قاله الضحاك.
والسادس: ومن يتق اللَّه بالصبر عند المصيبة يجعل له مخرجاً من النار إلى الجنة ، قاله الكلبي. السابع: أن عوف بن مالك الأشجعي أُسِر ابنُه عوف ، فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فشكا إليه ذلك مع ضر أصابه ، فأمره أن يكثر من قول لا حول ولا قوة إلا باللَّه ، فأفلت ابنه من الأسر وركب ناقة للقوم ومر في طريقه بسرح لهم فاستاقه ، ثم قدم عوف فوقف على أبيه يناديه وقد ملأ الأقبال إبلاً ، فلما رآه أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبره وسأله عن الإبل ، فقال : (( اصنع بها ما أحببت وما كنت صانعاً بمالك )) فنزلت هذه الآية {وَمَن يتق الّلَّه يجعل له مخرجاً} الآية .
فروى الحسن عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( من انقطع إلى اللَّه كفاه اللَّه كل مئونة ورزقه اللَّه من حيث لا يحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وكله اللَّه إليها). {إنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ}.
قال مسروق : إن اللَّه قاض أمره فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه، إلا أنَّ مَنْ توكّل يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً.انتهى.
والحديث أخرجه الطبراني في الأوسط (3359) والصغير(312) وقال :لَمْ يَرْوِهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ إِلَّا الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ تَفَرَّدَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْعَثِ الْخُرَاسَانِيُّ والشهاب في مسنده (493) والبيهقي في شعب الإيمان (1044).وقال الشيخ الألباني في الضعيفة (6854) ضعيف ،وضعيف الترغيب والترهيب (1061).
وفي المسند: حدثني مهدي بن جعفر، حدثنا الوليد بن مسلم، عن الحكم بن مصعب، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب)) ضعيف الترغيب والترهيب (1002).
هذا كله مع المحافظة على الواجبات المأمور بها ومن أهمها الصلاة في أوقاتها ، وأذكار الصباح والمساء ، والنوم ، وأن تبتعد عن كل ما يبعدك عن الله ويشغلك عنه وخاصة رفقاء السوء ، ولن تجد طعم الإيمان وحلاوته إلا في هذا الطريق على منهاج النبوة ، فإن استقمت على هذا المنهج (سبيل السلف الصالح ) والتزمت بهذه الأمور على بصيرة من ربك فابشر بخير يوم ولدتك فيه أمك ، وإلا فلن تجد لك دواء ولو اجتمع عليك من بأقطارها ..
تمت بحمد الله وعونه :
23/12/1438هـ
قال ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/132): قال الشيخ أبو محمد المقدسي في كتابه ذم الوسواس: "الحمد لله الذي هدانا بنعمه، وشرفنا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وبرسالته، ووفقنا للاقتداء به والتمسك بسنته، ومن علينا باتباعه الذي جعله علماً على محبته ومغفرته وسببا لكتابة رحمته وحصول هدايته ، فقال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] ، وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلّذِينَ يَتّقُونَ} إلى قوله: {الّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النّبيَ الأمِّيَ} [الأعراف: 156-157] ثم قال: {فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النبي الأُمِّيَ الّذِي يُؤْمِنْ بِاللهِ وَكِلمَاتِهِ وَاتّبِعُوهُ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] .
أما بعد:
فإن الله سبحانه جعل الشيطان عدوا للإنسان، يقعد له الصراط المستقيم، ويأتيه من كل جهة وسبيل، كما أخبر الله تعالى عنه أنه قال: {لأقْعُدَنّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيمْاَنهم وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16-17] .
وحذرناً الله عز وجل من متابعته، وأمرنا بمعاداته ومخالفته، فقال سبحانه: {إِنّ الشّيْطَانَ لَكُمْ عَدُو فَاتّخِذُوهُ عَدُوا} [فاطر: 6].
وقال: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنّكُم الشّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أبَوَيْكُمْ مِنَ الجنَّةِ} [الأعراف: 27].
وأخبرنا بما صنع بأبوينا تحذيرا لنا من طاعته، وقطعاً للعذر في متابعته، وأمرنا الله سبحانه وتعالى باتباع صراطه المستقيم ونهانا عن اتباع السبل، فقال سبحانه:{وَأَنّ هذَا صِرَاطِي مستقيماً فَاتبِعُوهُ وَلا تَتّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] .
وسبيل الله وصراطه المستقيم هو الذي كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وصحابته بدليل قوله عز وجل: {يس وَالْقُرْآنِ الْحكِيمِ إِنّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس: 1- 4] وقال: {وَإِنّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمً} [الحج: 67] وقال: {إِنّكَ لَتهْدِى إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] ، فمن اتبع رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في قوله وفعله فهو على صراط الله المستقيم، وهو ممن يحبه الله ويغفر له ذنوبه، ومن خالفه في قوله أو فعله فهو مبتدع متبع لسبيل الشيطان غير داخل فيمن وعد الله بالجنة والمغفرة والإحسان" .
تمهيد :
لقد جاءني سؤال من أخٍ حامل لكتاب الله ، ومعلم للقرآن الكريم يشكو فيه مرضا عضالا وبلاء وبالا ، وهو الوسواس القهري ، وقد ذكرني هذا بعدة حالات مرت بي من بعض الناس الذين يصيبهم هذا الداء ، ومنهم شيخ كبير بلغ من العمر عتيا كان كلما خرجت من المسجد اعترضني يشكو حاله ويبكي نفسه التي كادت أن تخرجه من رحمة الله ، وأن يترك الصلاة والاستقامة على طاعة الله ، وقد وقفت معه مدة سنتين تقريبا وأنا أساعده ، وأرشده ، وآخذ بيده إلى ما فيه خير الدنيا والآخرة ، وأحثه على الجماعة وترك العزلة ، وملء الفراغ الذي يعيشه ، والحمد لله رب العالمين فقد استجاب لذلك ومنّ الله عليه بالشفاء والعافية بثقته بالله وتمسكه القوي بطريقة العلاج التي كنت أحثه عليها ..والشافي هو الله سبحانه وتعالى .
ولكن الغريب في سؤال هذا الأخ هو أنه وقع في حب شخص آخر حبا أعمى لا يستطيع أن يخالف له رأي ، ولا أن يفارقه ؛ بل إلى درجه أنه أصبح يعشقه ويقدم رضاه على رضا والديه ومن ثم على رضا الله تعالى نعوذ بالله من العشق كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
وقبل أن أبين الطريق الأنجع والأنفع للعلاج له ولغيره ممن ابتلي أو ربما يبتلي به البعض أعرف الوسواس، وأعرج على الأسباب التي ينتج عنها هذا المرض الخطير والداء العضال الذي فتك بكثير من النّاس حتى أخرج بعضهم من - رحمة الله- إلى اليأس والقنوط ، والانتحار ، وبعضهم إلى الإفراط والتفريط ، والجفاء والغلو وأبعدهم من القصد والاقتصاد والوسطية والاعتدال في حياتهم الدينية والدنيوية ، والله هو العاصم وإليه المشتكى ولا حول ولا قوة إلا بالله .
تعريف الوسواس : الوَسْوَسةُ والوَسْواسُ الصوتُ الخَفِيُّ مِنْ رِيحٍ والوَسْواسُ صَوْتُ الحَلْيِ ، وقد وَسْوَسَ وَسْوَسةً ووِسْواساً بالكَسْرِ والوَسْوَسَةُ والوِسْوَاسُ حَدِيث النَّفْس وقد وَسْوَسَ في صَدْرِه ووَسْوَسَ إليه .. والوَسْوَاسُ الشَّيْطانُ وقوله تعالى {من شر الوسواس} أراد ذِي الوَسْواس وفلانٌ المُوَسْوِس بالكَسْر الذي يَعْتَرِيه الوَسْواس ، ووَسْوَسَ الرَّجُلَ كَلَّمَه كَلاَماً خَفِيّا. المحكم والمحيط الأعظم (8/539) والعين (7/335).
قال القاضي عياض مشارق الأنوار على صحاح الآثار(2/296) (وس وس) قَوْله : وَمَا وسوست بِهِ أَنْفسهَا ، وَذكر الوسواس والوسوسة هُوَ مَا يلقيه الشَّيْطَان فِي الْقلب ، وَهُوَ الوسواس أَيْضا والشيطان وسواس ..
وَأَصله الْحَرَكَة الْخفية ووسواس الْحَيّ صَوت حركته ، وَمَا وسوست بِهِ أَنْفسهَا أَي حدثتها بِهِ وألقته خواطرها إِلَيْهَا بِالرَّفْع .
وَعند الْأصيلِيّ بِالنّصب وَله وَجه يكون وسوست بِمَعْنى حدثت وَرجلٌ موسوس إِذا غلب ذَلِك عَلَيْهِ بِكَسْر الْوَاو وَلَا يُقَال بِفَتْحِهَا.
(وس س) : (الْوَسْوَسَةُ) الصَّوْتُ الْخَفِيُّ وَمِنْهَا (وَسْوَاسُ الْحَلْيِ) لِأَصْوَاتِهَا وَيُقَالُ (وَسْوَسَ الرَّجُلُ) بِلَفْظِ مَا سُمِّيَ فَاعِلُهُ إذَا تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ خَفِيٍّ يُكَرِّرُهُ ، وَهُوَ فَعْلٌ لَازِمٌ كَوَلْوَلَتْ الْمَرْأَةُ وَوَعْوَعَ الذِّئْبُ (وَرَجُلٌ مُوَسْوِسٌ) بِالْكَسْرِ، وَلَا يُقَالُ بِالْفَتْحِ ، وَلَكِنْ مُوَسْوَسٌ لَهُ أَوْ إلَيْهِ أَيْ تُلْقَى إلَيْهِ الْوَسْوَسَةُ .
وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (الْوَسْوَسَةُ) حَدِيثُ النَّفْسِ وَإِنَّمَا قِيلَ (مُوَسْوِسٌ) لِأَنَّهُ يُحَدِّثُ بِمَا فِي ضَمِيرِهِ .
(وَعَنْ) اللَّيْثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ طَلَاقُ الْمُوَسْوِسِ قَالَ يَعْنِي الْمَغْلُوبَ أَيْ الْمَغْلُوبَ فَيَعْقِلُهُ إذَا تَكَلَّمَ ؛ تَكَلَّمَ بِغَيْرِ نِظَامٍ .
(وَالْوَسْوَاسُ) اسْمٌ بِمَعْنَى الْوَسْوَسَةِ كَالزَّلْزَالِ بِمَعْنَى الزَّلْزَلَةِ وَالْمُرَادُ بِهِ الشَّيْطَانُ فِي قَوْله تَعَالَى {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} [الناس: 4] كَأَنَّهُ وَسْوَسَةٌ فِي نَفْسِهِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ « إنَّ لِلْوُضُوءِ شَيْطَانًا يُقَالُ لَهُ الْوَلْهَانُ فَاتَّقُوا وَسْوَاسَ الْمَاءِ» فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْوَسْوَسَةُ الَّتِي تَقَعُ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَأَنْ يُرَادَ الْوَلْهَانُ نَفْسُهُ عَلَى وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ.المغرب في ترتيب المعرب (1/484) ولسان العرب (6/255).
قلت : قال الترمذي بعدما أخرجه : وفي الباب عن عبد الله بن عمرو وعبد الله بن مغفل قال أبو عيسى حديث أبي بن كعب حديث غريب وليس إسناده بالقوي عند أهل الحديث ؛ لأنا لا نعلم أحدا أسنده غير خارجة ، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن الحسن ، ولا يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء وخارجة ليس بالقوي عند أصحابنا وضعفه ابن المبارك. قال الألباني: ضعيف جدا، ابن ماجة (421) ، المشكاة (419) ، ضعيف الجامع الصغير (1970) ، ضعيف سنن ابن ماجة (94) .
(وس وس) : الْوَسْوَاسُ بِالْفَتْحِ اسْمٌ مِنْ وَسْوَسَتْ إلَيْهِ نَفْسُهُ إذَا حَدَّثَتْهُ وَبِالْكَسْرِ مَصْدَرٌ وَوَسْوَسَ مُتَعَدٍّ بإلى ، وقَوْله تَعَالَى {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 20] اللَّامُ بِمَعْنَى إلَى فَإِنْ بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ قِيلَ مُوَسْوَسٌ إلَيْهِ مِثْلُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ، وَالْوَسْوَاسُ بِالْفَتْحِ مَرَضٌ يَحْدُثُ مِنْ غَلَبَةِ السَّوْدَاءِ يَخْتَلِطُ مَعَهُ الذِّهْنُ وَيُقَالُ لِمَا يَخْطُرُ بِالْقَلْبِ مِنْ شَرٍّ وَلِمَا لَا خَيْرَ فِيهِ وَسْوَاسٌ. المصباح المنير في غريب الشرح الكبير(2/658).
والوسواسُ حالةُ اضطراب تُعرف اليوم بالاسم نفسه، وإن كان يُزاد فيها لدى المشتغلين بعلم النفس، وصف القهرى فيقال : الوسواس القهرى.
منبع الوسواس ، الشيطان والنفس : فقد بينا الله تعالى في كتابه أنه أخذ على نفسه العهد أن يترك أبينا آدم وذريته دون وسوسة وكيد ومكر لذلك أمرنا الله أن نتخذه عدوا لأنه أعلن عداوته لنا . قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }(169) البقرة . قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ }(208)البقرة
قال تعالى :{ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (6) فاطر
قال تعالى :{ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ }(62)ياسين
وقال تعالى :{ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا...} (20) الأعراف .
وقال تعالى :{ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} (120) طه .
ولما كان الشيطان عدو مبين ، لا يقبل مصانعة ولا معروفا ولا إحسانا أمرنا الله أن نتعوذ به منه لأنه لا يصده ولا يدحره إلا التعوذ بالله وذكره سبحانه .
قال ابن القيم – رحمه الله - ولا ريب أن الشيطان هو الداعي إلى الوسواس: فأهله قد أطاعوا الشيطان، ولبوا دعوته، واتبعوا أمره ورغبوا عن اتباع سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وطريقته، حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، أو اغتسل كاغتساله، لم يطهر ولم يرتفع حدثه، ولولا العذر بالجهل لكان هذا مشاقة للرسول..
فقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتوضأ بالمد، وهو قريب من ثلث رطل بالدمشقي، ويغتسل بالصاع وهو نحو رطل وثلث، والموسوس يرى أن ذلك القدر لا يكفيه لغسل يديه، وصح عنه عليه السلام أنه توضأ مرة مرة، ولم يزد على ثلاث، بل أخبر أن: (( مَنْ زَادَ عَلَيْهَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ)). فالموسوس مسيء متعد ظالم بشهادة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فكيف يتقرب إلى الله بما هو مسيء به متعدّ فيه لحدوده؟،
قال ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/ 134 -135):قلت: ذكر أبو الفرج بن الجوزي عن أبى الوفاء بن عقيل: "أن رجلاً قال له: أنغمس في الماء مرارا كثيرة وأشك: هل صح لي الغسل أم لا؟ فما ترى في ذلك؟
فقال له الشيخ: اذهب فقد سقطت عنك الصلاة. قال: وكيف؟ قال: لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (( رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ: المَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَالنّائمِ حَتَّى يَسْتَيقِظَ، وَالصَّبيِ حَتّى يَبْلُغَ)). ومن ينغمس في الماء مرارا ويشك هل أصابه الماء أم لا، فهو مجنون".
وبلغني عن آخر أنه كان شديد التنطع في التلفظ بالنية والتقعر في ذلك، فاشتد به التنطع والتقعر يوماً إلى أن قال: أصلى، أصلي، مرارا، صلاة كذا وكذا. وأراد أن يقول: أداء، فأعجم الدال، وقال: أذاء لله. فقطع الصلاة رجل إلى جانبه، فقال: ولرسوله وملائكته وجماعة المصلين.
ومن كيده الذي بلغ به من الجهال ما بلغ : الوسواس الذي كادهم به في أمر الطهارة والصلاة عند النية، حتى ألقاهم في الآصار والأغلال، وأخرجهم عن اتباع سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وخيل إلى أحدهم أن ما جاءت به السنة لا يكفى حتى يضم إليه غيره، فجمع لهم بين هذا الظن الفاسد، والتعب الحاضر، وبطلان الأجر أو تنقيصه.
أسباب الوسواس :
1 - البعد عن الله حقيقة : إن البعد عن الله ، وعن توحيده ومحبته والتوكل عليه ، والاستعانة والاستغاثة به ، والرهبة والرغبة إليه والتضرع والإلحاح في الدعاء ، وعدم القيام بالواجبات على مراد الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كل ذلك يجلب الوحش والقلق ، والاضطرابات النفسية والعقلية ن والهم والغم والضيق وغير ذلك من الأمراض التي يدخل منها الشيطان ليغزو النفس ويقهرها حتى يخرجها من رحمة الله تعالى ، إلى اليأس والقنوط ومن ثم إلى الانتحار ، والجنون والعزلة والوحدة وغير ذلك .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (( إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ)) أخرجه البخاري (7537)، ومسلم(20/ 2067).
أنظر- أيها الموفق - هذا الحديث القدسي العظيم ، وتعمن فيه جيدا نتيجة التقرب ، والقرب من الله أن يجعل الله تعالى هذا القريب المتقرب من أوليائه الذين يعلن الحرب على من عاداهم ، وأن الله يعطيهم إذا سألوه ويعيذهم إذا استعاذوا به وحده ، ويكره مساءتهم ، سبحانه من إله عظيم ، لا إله إلا أنت سبحانك ما أعظمك وما أحلمك !!!
قال ابن القيم في كتابه طريق الهجرتين ( 1/321)والوسواس إنما ينشأُ من الغيبة والبعد، وأما الحاضر المشاهد فماله وللوسواس؟ فالموسوس يجاهد نفسه وقلبه ليحضر بين يدى معبوده، والمحب لم يغب قلبه عن محبوبه فيجاهده على إحضاره، فالوسواس والمحبة متنافيان، ومن وجه آخر أن (( المحب قد انقطعت عن قلبه وساوس الأطماع لامتلأ قلبه من)) محبة حبيبه فلا تتوارد على قلبه جواذب الأطماع والأماني لاشتغاله بما هو فيه.
وأيضاً فإن الوسواس والأماني إنما تنشأُ من حاجته وفاقته إلى ما تعلق طمعه به. وهذا عبد قد جنى من الإحسان، وأُعطى من النعم ما سد حاجته وأغنى فاقته، فلم يبق له طمع ولا وسواس، بل بقي حبه للمنعم عليه وشكره له وذكره إياه في محل وساوسه وخواطره لمطالعة نعم الله عليه، وشهوده منها ما لم يشهد غيره.
2 - الأفراط والتفريط ، وبعبارة أخرى الجفاء أو الغلو .
إن الغلو والجفاء هما سبب هلاك كثير من الإنس والجن ، فما أمر الله تعالى عباده بأمر إلا تدخل الشيطان فيه من هذين السبيلين المنحرفين المعوجين .
قال ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/116)قال بعض السلف: "ما أمر الله سبحانه بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان : إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلوّ. ولا يبالى بأيهما ظفر".
وقد اقتطع أكثر الناس إلا أقل القليل في هذين الواديين: وادي التقصير، ووادي المجاوزة والتعدي. ( أي الجفاء ، والغلو ) والقليل منهم جدا الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه.
فقوم قصر بهم عن الإتيان بواجبات الطهارة، وقوم تجاوز بهم إلى مجاوزة الحد.
وقوم قصر بهم عن إخراج الواجب من المال، وقوم تجاوز بهم حتى أخرجوا جميع ما في أيديهم وقعدوا كَلا على الناس، مستشرفين إلى ما بأيديهم.
وقوم قصر بهم عن تناول ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب واللباس حتى أضروا بأبدانهم وقلوبهم، وقوم تجاوز بهم حتى أخذوا فوق الحاجة فأضروا بقلوبهم وأبدانهم.
وكذلك قصر بقوم في حق الأنبياء وورثتهم حتى قتلوهم، وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم.
وقصر بقوم في خلطة الناس حتى اعتزلوهم في الطاعات، كالجمعة والجماعات والجهاد وتعلم العلم، وتجاوز بقوم حتى خالطوهم في الظلم والمعاصي والآثام.
وقصر بقوم حتى امتنعوا من ذبح عصفور أو شاة ليأكله، وتجاوز بآخرين حتى جرأهم على الدماء المعصومة.
وكذلك قصر بقوم حتى منعهم من الاشتغال بالعلم الذي ينفعهم، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا العلم وحده هو غايتهم دون العمل به.
وقصر بقوم حتى أطعمهم من العشب ونبات البرية دون غذاء بني آدم، وتجاوز بآخرين حتى أطعمهم الحرام الخالص.
وقصر بآخرين حتى زين لهم ترك سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من النكاح فرغبوا عنه بالكلية، وتجاوز بآخرين حتى ارتكبوا ما وصلوا إليه من الحرام.
وقصر بقوم حتى جفوا الشيوخ من أهل الدين والصلاح، وأعرضوا عنهم، ولم يقوموا بحقهم، وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم مع الله تعالى.
وكذلك قصر بقوم حتى منعهم قبول أقوال أهل العلم والالتفات إليها بالكلية، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا الحلال ما حللوه والحرام ما حرموه، وقدموا أقوالهم على سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الصحيحة الصريحة.
إلى أن قال – رحمه الله - : وقصر بقوم حتى تزينوا للناس وأظهروا لهم من الأعمال والعبادات ما يحمدونهم عليه، وتجاوز بقوم حتى أظهروا لهم من القبائح ومن الأعمال السيئة ما يسقطون به جاههم عندهم، وسموا أنفسهم الملامية.
وقصر بقوم حتى أهملوا أعمال القلوب ولم يلتفتوا إليها وعدوها فضلا، أو فضولا، وتجاوز بآخرين حتى قصروا نظرهم وعملهم عليها، ولم يلتفتوا إلى كثير من أعمال الجوارح، وقالوا: العارف لا يسقط وارده لورده. وهذا باب واسع جداً لو تتبعناه لبلغ مبلغا كثيراً، وإنما أشرنا إليه أدنى إشارة.
4 - الفراغ والغفلة والإعراض
عن أسباب الدفع والمراقبة للعدو الموسوس واللص الخفي والانشغال عنه بما يسد عليه هذه الأبواب ، وَهَلِ الْوَسْوَاسُ إِلَّا لِأَهْلِ الْغَفْلَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى والفراغ ؟
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ " البخاري (6412)،والترمذي (2304) وابن ماجه (4170).
قال الماوردي في أدب الدنيا والدين(1/55) بعد ذكره لهذا الحديث : ((ونحن نستعيذ بالله من أن نغبن بفضل نعمته علينا، ونجهل نفع إحسانه إلينا.
وقد قيل في منثور الحكم: من الفراغ تكون الصبوة. وقال بعض البلغاء: من أمضى يومه في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أثله أو حمد حصله، أو خير أسسه أو علم اقتبسه، فقد عق يومه وظلم نفسه. وقال بعض الشعراء: لقد أهاج الفراغ عليك شغلا ... وأسباب البلاء من الفراغ . انتهى كلامه . وَلِلْحَاكِمِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: (( اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ, وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ, وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ, وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ, وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ)) صحيح الجامع (1077) وصحيح الترغيب 3355).
وَقَالَ الْقَائِل: إِن فِي الْمَوْت والمعاد لشغلا ... وادكارا لذِي النهى وبلاغا
فاغتنم نعمتين قبل المنايا ... صِحَة الْجِسْم يَا أخي والفراغا
قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنِّي أَكْرَهُ الرَّجُلَ أَنْ أَرَاهُ يَمْشِي سَبَهْلَلًا أَيْ: لَا فِي أَمْرِ الدُّنْيَا، وَلَا فِي أَمْرِ آخِرَةٍ.
وَرَأَيْت أَنَا الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَوَى فِي الزُّهْدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إنِّي لَأَبْغَضُ الرَّجُلَ فَارِغًا لَا فِي عَمَلِ دُنْيَا وَلَا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ –
فَمَنْ هَجَرَ اللَّذَّاتِ نَالَ الْمُنَى ... وَمَنْ أَكَبَّ عَلَى اللَّذَّاتِ عَضَّ عَلَى الْيَدِ
وَفِي قَمْعِ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ اعْتِزَازُهَا ... وَفِي نَيْلِهَا مَا تَشْتَهِي ذُلُّ سَرْمَدِ
وَلَا تَشْتَغِلْ إلَّا بِمَا يُكْسِبُ الْعُلَا ... وَلَا تُرْضِ النَّفْسَ النَّفِيسَةَ بِالرَّدِي
وَفِي خَلْوَةِ الْإِنْسَانِ بِالْعِلْمِ أُنْسُهُ ... وَيَسْلَمُ دِينُ الْمَرْءِ عِنْدَ التَّوَحُّدِ
وَيَسْلَمُ مِنْ قِيلٍ وَقَالَ وَمِنْ أَذَى ... جَلِيسٍ وَمِنْ وَاشٍ بَغِيضٍ وَحُسَّدِ
فَكُنْ حِلْسَ بَيْتٍ فَهْوَ سِتْرٌ لِعَوْرَةٍ ... وَحِرْزُ الْفَتَى عَنْ كُلِّ غَاوٍ وَمُفْسِدِ
وَخَيْرُ جَلِيسِ الْمَرْءِ كُتْبٌ تُفِيدُهُ ... عُلُومًا وَآدَابًا وَعَقْلًا مُؤَيِّدِ
وَخَالِطْ إذَا خَالَطْت كُلَّ مُوَفَّقٍ ... مِنْ الْعُلَمَاءِ أَهْلِ التُّقَى وَالتَّسَدُّدِ
يُفِيدُك مِنْ عِلْمٍ وَيَنْهَاكَ عَنْ هَوًى ... فَصَاحِبْهُ تُهْدَ مِنْ هُدَاهُ وَتَرْشُدْ
وَإِيَّاكَ وَالْهَمَّازَ إنْ قُمْت عَنْهُ وَاَلْ ... بَذِيِّ فَإِنَّ الْمَرْءَ بِالْمَرْءِ يَقْتَدِي
وَلَا تَصْحَبْ الْحَمْقَى فَذُو الْجَهْلِ إنْ يَرُمْ ... صَلَاحًا لِشَيْءٍ يَا أَخَا الْحَزْمِ يُفْسِدْ
وَخَيْرُ مَقَامٍ قُمْت فِيهِ وَخَصْلَةٍ ... تَحَلَّيْتَهَا ذِكْرُ الْإِلَهِ بِمَسْجِدِ
وَكُفَّ عَنْ الْعَوْرَا لِسَانَك وَلْيَكُنْ ... دَوَامًا بِذِكْرِ اللَّهِ يَا صَاحِبِي نَدِي
وَحَصِّنْ عَنْ الْفَحْشَا الْجَوَارِحَ كُلَّهَا ... تَكُنْ لَك فِي يَوْمِ الْجَزَا خَيْرَ شَاهِدِ
وَوَاظِبْ عَلَى دَرْسِ الْقُرَانِ فَإِنَّهُ ... يُلَيِّنُ قَلْبًا قَاسِيًا مِثْلَ جَلْمَدِ
وَحَافِظْ عَلَى فِعْلِ الْفُرُوضِ لِوَقْتِهَا ... وَخُذْ بِنَصِيبٍ فِي الدُّجَى مِنْ تَهَجُّدِ
وَنَادِ إذَا مَا قُمْت فِي اللَّيْلِ سَامِعًا ... قَرِيبًا مُجِيبًا بِالْفَوَاصِلِ يَبْتَدِي
وَمُدَّ إلَيْهِ كَفَّ فَقْرِك ضَارِعًا ... بِقَلْبٍ مُنِيبٍ وَادْعُ تُعْطَ وَتَسْعَدْ
وَلَا تَسْأَمَنَّ الْعِلْمَ وَاسْهَرْ لِنَيْلِهِ ... بِلَا ضَجَرٍ تَحْمَدْ سُرَى السَّيْرِ فِي غَدِ
وَكُنْ صَابِرًا لِلْفَقْرِ وَادَّرِعْ الرِّضَى ... بِمَا قَدَّرَ الرَّحْمَنُ وَاشْكُرْهُ وَاحْمَدْ
فَمَا الْعِزُّ إلَّا فِي الْقَنَاعَةِ وَالرِّضَى ... بِأَدْنَى كَفَافٍ حَاصِلٍ وَالتَّزَهُّدِ
فَمَنْ لَمْ يُقْنِعْهُ الْكَفَافُ فَمَا إلَى ... رِضَاهُ سَبِيلٌ فَاقْتَنِعْ وَتَقَصَّدْ
الآداب الشرعية والمنح المرعية (3/588- 591).
5- مرض عضوي :
يعني ربما يكون مرض عضوي بغلبة السوداء والاضطرابات النفسية التي تحدثها الحوادث والمصائب ، والتركيبة النفسية للعبد ، كما يقول بعض الأطباء .
وقد رأيت في المصباح المنير في غريب الشرح الكبير(2/658). أنه قال : وَالْوَسْوَاسُ بِالْفَتْحِ مَرَضٌ يَحْدُثُ مِنْ غَلَبَةِ السَّوْدَاءِ يَخْتَلِطُ مَعَهُ الذِّهْنُ وَيُقَالُ لِمَا يَخْطُرُ بِالْقَلْبِ مِنْ شَرٍّ وَلِمَا لَا خَيْرَ فِيهِ وَسْوَاسٌ. والوسواسُ حالةُ اضطراب تُعرف اليوم بالاسم نفسه، وإن كان يُزاد فيها لدى المشتغلين بعلم النفس، وصف القهرى فيقال : الوسواس القهرى.
وهذا ما عليه كثير من الأطباء القدماء والمعاصرين ومن القدماء بو قراط وابن سينا وغيرهما ، وهذا علاجه يكون عضويا بأن يعرض نفسه على طبيب نفساني ، ولا يهمل الطب الأصلي ، وهو الاستشفاء بالقرآن والسنة والاستقامة على دين الله تعالى لفظا ومعنى .
وإليك الآن الدواء والعلاج النافع بإذن الله تعالى – إن تمسكت به ، وإلتزمته فإنك بإذن الله تعالى تخرج من دوامة الإعصار كما تخرج الشعرة من العجين ، وتجد نفسك معافى مطمئنا لا تبالي بعدوك في أي واد هلك .
1 – علق قلبك بالله واملأه بحبه تعالى حتى لا تجد لغيره فيه مكان ، فإن هذا القلب الذي تعلق بالله في السراء والضراء في الضيق والوسع وامتلأ بمحبة الله تعظيما وخضوعا ، وزين بالإيمان ونور بذكر الله لا يستطع الشيطان أن يقترب منه .
قال ابن القيم في الوابل الصيب (1/24) (القلب الثالث) قلب محشو بالإيمان قد استنار بنور الإيمان، وانقشعت عنه حجب الشهوات، وأقلعت عنه تلك الظلمات، فلنوره في صدره إشراق، ولذلك الإشراق إيقاد لو دنا منه الوسواس احترق به، فهو كالسماء التي حرست بالنجوم فلو دنا منها الشيطان يتخطاها رجم فاحترق.
وليست السماء بأعظم حرمة من المؤمن، وحراسة الله تعالى له أتم من حراسة السماء، والسماء متعبد الملائكة ومستقر الوحي وفيها أنوار الطاعات، وقلب المؤمن مستقر التوحيد والمحبة والمعرفة والإيمان وفيه أنوارها، فهو حقيق أن يحرس ويحفظ من كيد العدو فلا ينال منه شيئاً.
2 – الاستغاثة بالله وحده ، ودعاؤه دعاء المضطرين ، فهو غوث المستغيثين ، وهو ملاذ المضطرين ، قال تعالى : {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ }(62)النمل .
قال العلامة السعدي : أي: هل يجيب المضطرب الذي أقلقته الكروب ((والوساوس والذنوب )) وتعسر عليه المطلوب ، واضطر للخلاص مما هو فيه (( من الغم والهم )) إلا الله وحده؟ ومن يكشف السوء أي: البلاء والشر والنقمة إلا الله وحده؟ انتهى بتصرف يسير .
فالله سبحانه يجيب المضطر وغير المضطر ، ولكن إجابته للمضطر المتضرع القانت الخاشع أولى وأسرع ؛ لأنه قوي التعلق بربه الكبير المتعال .
قال تعالى :{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (10)الأنفال .
متى كانت الإجابة ؟ الجواب في الحين .
3 – كثرة الاستعاذة بالله والتعوذ به سبحانه من الشيطان الرجيم ومن همزه ونفخه ، ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} وقوله: {أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} وقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}.
ولكن الاستعاذة ليست خاصة بقراءة القرآن ، فمواطنها كثيرة ، وتتأكد في الصلاة وقراءة القرآن . وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عثمان بن أبى العاص قال: قلت: (( يَا رَسُولَ اللهِ، إِنّ الشيطان قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلاتِي يُلَبِّسُهَا عَلَىَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى علَيْهِ وَسلّم: ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خِنْزَب، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْهُ، وَاتْفُلْ عَنْ يَسَاركَ ثَلاثاً، فَفَعَلْتُ ذلِكَ، فَأَذْهَبَهُ اللهُ تَعَالَى عَنِّى)). فأهل الوسواس قرة عين خنزب وأصحابه، نعوذ بالله عز وجل منه.
قلت : وهذا من أنفع الأدوية والعلاجات ، فإذا أحس العبد بشيء من ذلك فليتعوذ بالله من الشيطان وليعلم يقينا أنه إن تعوذ أن عدو يصغر ويدحر فيسلم من كيده ومكره في وسوسته .راجع إغاثة اللهفان والطب النبوي .
4 – ذكر الله تعالى . وهو الحصن الحصين ومن أنفع العلاج فلا يزال لسانك رطبا بذكر :
قال ابن القيم في الوابل الصيب (1/36) ذكر الله وفوائده : وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « وأمركم أن تذكروا الله تعالى، فإن مثل ذلك مثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً حتى إذا أتى حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله» .
فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقاً بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى ، وأن لا يزال لهجاً بذكره، فإنه لا يحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر، ولا يدخل عليه العدو إلا من باب الغفلة، فهو يرصده فإذا غفل وثب عليه وافترسه.
وإذا ذكر الله تعالى خنس عدو الله تعالى وتصاغر وانقمع حتى يكون كالوصع وكالذباب، ولهذا سمي الوسواس الخناس أي يوسوس في الصدور، فإذا ذكر الله تعالى خنس أي كف وأنقبض، قال ابن عباس: "الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله تعالى خنس".
وفي مسند الأمام أحمد عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عباس بن أبي ربيعة أنه بلغه عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ما عمل آدمي عملاً قط أنجى له من عذاب الله من ذكر الله عز وجل».
وقال معاذ: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله.قال ذكر الله عز وجل»
وقد مثل ذلك بمثال حسن وهو ثلاثة بيوت:
1- بيت للملك فيه كنوزه وذخائره وجواهره.
2 - وبيت للعبد فيه كنوز العبد وذخائره، وليس جواهر الملك وذخائره.
3 - وبيت خال صفر لا شيء فيه.
فجاء اللص يسرق من أحد البيوت فمن أيها يسرق؟
فإن قلت من البيت الخالي كان محالاً لأن البيت الخالي ليس فيه شيء يُسرق، ولهذا قيل لابن عباس رضي الله عنهما: إن اليهود تزعم أنها لا توسوس في صلاتها، فقال: وما يصنع الشيطان بالقلب الخراب؟ وإن قلت: يسرق من بيت الملك كان ذلك كالمستحيل الممتنع، فإن عليه من الحرس واليزك وما لا يستطيع اللص الدنو منه، كيف وحارسه الملك بنفسه؟ وكيف يستطيع اللص الدنو منه وحوله من الحرس والجند ما حوله؟ فلم يبق للص إلا البيت الثالث فهو الذي يشن عليه الغارات.
فليتأمل اللبيب هذا المثال حق التأمل ولينزله على القلوب فإنها على منواله.
ولي مقال منشور على بعض شبكات التواصل الاجتماعي بعنوان الحصين الحسين فراجعه فإنه مفيد . 5 – الثبات على ما نويته وابتدأت فيه على حالة واحدة :
امض على حالة واحدة واثبت عليها ، واحذر من وسوسته بالزيادة عليها وعدم الرضا بها ربما صورها لك قليلة أو خاطئة أو غير مقبولة ، فاثبت على ما نويته ابتداء على سنة النبي – صلى الله عليه وسلم - وآثار الصحابة ، ولا تلتفت إلى ما يوسوس لك به ، ولا تستجيب له ، ولا تسترسل معه بل أثبت على تلك الحالة متيقنا أنها الحق ما دمت تقوم بها على السنة والمباح ، ولا تتركه يفتح عليك باب الزيادة وعدم الإخلاص وعدم القبول و..و..من الشكوك وبنيات الطريق .
6 – معاكسته : فإذا ضعفت أمامه وانفتح عليك الباب فعاكسه ما دمت ابتدأت عملك على الإخلاص و السنة ..
فمثلا يقول لك : لم تتوضأ ثلاثا ، ثلاثا ، فقل له ، تكفي الواحدة ، فإن قال لك لم تتوضأ واحدة ولم تغسل اليدين واحدة ، فقل له العضو لم يجف بعد، وأنت ما لك ولهذا ، لم ترسل عليا رقيبا ، فإن قال صلاتك غير مقبولة ؟
قل له اطلعت الغيب أم اتخذت عند الرحمن عهدا ، قال هي غير صحيحه قل له لست بأعلم مني في عملي ؛ بل هي صحيحه وقد علمتك تريد إفسادها علي، وأنا أمرت فامتثلت ، وأمّا أنت فعصيت ، وأعوذ بالله منك ..
7 – إياك والفراغ والغفلة : املأ فراغك ، وإياك والغفلة ، فالفرغ ، والغفلة مرضان قاتلان ، والنفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالباطل والمعصية فإن لم تقو على إيقاعك في المعصية شغلتك بفضول الكلام والسمع والنظر والأكل والنوم وغير ذلك من الأبواب التي تؤدي بالمدمن عليها إلى التساهل والدخول في المعاصي .. وقد ذكرت لك ما في الفراغ والغفلة في أسباب الوسواس .
8 – قطع علاقتك بذلك الصديق الذي تحبه إلى درجة العشق ...
ينبغي عليك أن تقطع علاقتك بمن تحبه حبا أعمى أو تعشقه فهذا أضراره كثيره يعددها ابن القيم في كتابهالجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي أو الداء والدواء (1/214) فيقول :
أَضْرَارُ الْعِشْقِ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي عِشْقِ الصُّوَرِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ وَلَا دُنْيَوِيَّةٌ، بَلْ مَفْسَدَتُهُ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا يُقَدَّرُ فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: الِاشْتِغَالُ بِحُبِّ الْمَخْلُوقِ وَذِكْرِهِ عَنْ حُبِّ الرَّبِّ تَعَالَى وَذِكْرِهِ، فَلَا يَجْتَمِعُ فِي الْقَلْبِ هَذَا وَهَذَا إِلَّا وَيَقْهَرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَيَكُونُ السُّلْطَانُ وَالْغَلَبَةُ لَهُ.
الثَّانِي: عَذَابُ قَلْبِهِ بِهِ، فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ عُذِّبَ بِهِ وَلَا بُدَّ، كَمَا قِيلَ:
فَمَا فِي الْأَرْضِ أَشْقَى مِنْ مُحِبٍّ ... وَإِنْ وَجَدَ الْهَوَى حُلْوَ الْمَذَاقِ
تَرَاهُ بَاكِيًا فِي كُلٍّ حِينٍ ... مَخَافَةَ فُرْقَةٍ أَوْ لِاشْتِيَاقِ
فَيَبْكِي إِنْ نَأَوْا شَوْقًا إِلَيْهِمْ ... وَيَبْكِي إِنْ دَنَوْا خَوْفَ الْفِرَاقِ
فَتَسْخَنُ عَيْنُهُ عِنْدَ الْفِرَاقِ ... وَتَسْخَنُ عَيْنُهُ عِنْدَ التَّلَاقِي
وَالْعِشْقُ وَإِنِ اسْتَلَذَّ بِهِ صَاحِبُهُ، فَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ عَذَابِ الْقَلْبِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ قَلْبَهُ أَسِيرُ قَبْضَةِ غَيْرِهِ يَسُومُهُ الْهَوَانَ، وَلَكِنْ لِسَكْرَتِهِ لَا يَشْعُرُ بِمُصَابِهِ، فَقَلْبُهُ كَعُصْفُورَةٍ فِي كَفِّ طِفْلٍ يَسُومُهَا حِيَاضَ الرَّدَى، وَالطِّفْلُ يَلْهُو وَيَلْعَبُ، كَمَا قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ:
مَلَكْتَ فُؤَادِي بِالْقَطِيعَةِ وَالْجَفَا ... وَأَنْتَ خَلِيُّ الْبَالِ تَلْهُو وَتَلْعَبُ
فَعَيْشُ الْعَاشِقِ عَيْشُ الْأَسِيرِ الْمُوثَقِ، وَعَيْشُ الْخَلِيِّ عَيْشُ الْمُسَيَّبِ الْمُطْلَقِ.
طَلِيقٌ بِرَأْيِ الْعَيْنِ وَهْوَ أَسِيرُ ... عَلِيلٌ عَلَى قُطْبِ الْهَلَاكِ يَدُورُ
وَمَيِّتٌ يُرَى فِي صُورَةِ الْحَيِّ غَادِيَا ... وَلَيْسَ لَهُ حَتَّى النُّشُورِ نُشُورُ
أَخُو غَمَرَاتٍ ضَاعَ فِيهِنَّ قَلْبُهُ ... فَلَيْسَ لَهُ حَتَّى الْمَمَاتِ حُضُورُ
الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِهِ عَنْ مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَضَيْعُ لِمَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنْ عِشْقِ الصُّوَرِ، أَمَّا مَصَالِحُ الدِّينِ فَإِنَّهَا مَنُوطَةٌ بِلَمِّ شَعَثِ الْقَلْبِ وَإِقْبَالِهِ عَلَى اللَّهِ، وَعِشْقُ الصُّوَرِ أَعْظَمُ شَيْءٍ تَشْعِيثًا وَتَشْتِيتًا لَهُ.
وَأَمَّا مَصَالِحُ الدُّنْيَا فَهِيَ تَابِعَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ لِمَصَالِحِ الدِّينِ، فَمَنِ انْفَرَطَتْ عَلَيْهِ مَصَالِحُ دِينِهِ وَضَاعَتْ عَلَيْهِ، فَمَصَالِحُ دُنْيَاهُ أَضْيَعُ وَأَضْيَعُ.
الْخَامِسُ: أَنَّ آفَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَسْرَعُ إِلَى عُشَّاقِ الصُّوَرِ مِنَ النَّارِ فِي يَابِسِ الْحَطَبِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ الْقَلْبَ كُلَّمَا قَرُبَ مِنَ الْعِشْقِ وَقَوِيَ اتِّصَالُهُ بِهِ بَعُدَ مِنَ اللَّهِ، فَأَبْعَدُ الْقُلُوبِ مِنَ اللَّهِ قُلُوبُ عُشَّاقِ الصُّوَرِ، وَإِذَا بَعُدَ الْقَلْبُ مِنَ اللَّهِ طَرَقَتْهُ الْآفَاتُ، وَتَوَلَّاهُ الشَّيْطَانُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ لَمْ يَدَعْ أَذًى يُمْكِنُهُ إِيصَالُهُ إِلَيْهِ إِلَّا أَوْصَلَهُ، فَمَا الظَّنُّ بِقَلْبٍ تَمَكَّنَ مِنْهُ عَدُّوهُ وَأَحْرَصُ الْخَلْقِ عَلَى غَيِّهِ وَفَسَادِهِ، وَبَعُدَ مِنْهُ وَلِيُّهُ، وَمَنْ لَا سَعَادَةَ لَهُ وَلَا فَرَحَ وَلَا سُرُورَ إِلَّا بِقُرْبِهِ وَوِلَايَتِهِ؟
السَّادِسُ: أَنَّهُ إِذَا تَمَكَّنَ مِنَ الْقَلْبِ وَاسْتَحْكَمَ وَقَوِيَ سُلْطَانُهُ، أَفْسَدَ الذِّهْنَ، وَأَحْدَثَ الْوَسْوَاسَ، وَرُبَّمَا أَلْحَقَ صَاحِبَهُ بِالْمَجَانِينِ الَّذِينَ فَسَدَتْ عُقُولُهُمْ فَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهَا.
وَأَخْبَارُ الْعُشَّاقِ فِي ذَلِكَ مَوْجُودَةٌ فِي مَوَاضِعِهَا، بَلْ بَعْضُهَا مَشَاهَدٌ بِالْعِيَانِ، وَأَشْرَفُ مَا فِي الْإِنْسَانِ عَقْلُهُ، وَبِهِ يَتَمَيَّزُ عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، فَإِذَا عُدِمَ عَقْلَهُ الْتَحَقَ بِالْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ حَالُ الْحَيَوَانِ أَصْلَحَ مِنْ حَالِهِ، وَهَلْ أَذْهَبَ عَقْلَ مَجْنُونِ لَيْلَى وَأَضْرَابِهِ إِلَّا ذَلِكَ؟ وَرُبَّمَا زَادَ جُنُونُهُ عَلَى جُنُونِ غَيْرِهِ كَمَا قِيلَ: قَالُوا جُنِنْتَ بِمَنْ تَهْوَى فَقُلْتُ لَهُمْ ... الْعِشْقُ أَعْظَمُ مِمَّا بِالْمَجَانِينِ
الْعِشْقُ لَا يَسْتَفِيقُ الدَّهْرَ صَاحِبُهُ ... وَإِنَّمَا يُصْرَعُ الْمَجْنُونُ فِي الْحِينِ
السَّابِعُ: أَنَّهُ رُبَّمَا أَفْسَدَ الْحَوَاسَّ أَوْ بَعْضَهَا، إِمَّا إِفْسَادًا مَعْنَوِيًّا أَوْ صُورِيًّا، أَمَّا الْفَسَادُ الْمَعْنَوِيُّ فَهُوَ تَابِعٌ لِفَسَادِ الْقَلْبِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا فَسَدَ فَسَدَتِ الْعَيْنُ وَالْأُذُنُ وَاللِّسَانُ، فَيَرَى الْقَبِيحَ حَسَنًا مِنْهُ وَمِنْ مَعْشُوقِهِ كَمَا فِي الْمُسْنَدِ مَرْفُوعًا: «حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ» فَهُوَ يُعْمِي عَيْنَ الْقَلْبِ عَنْ رُؤْيَةِ مَسَاوِئِ الْمَحْبُوبِ وَعُيُوبِهِ، فَلَا تَرَى الْعَيْنُ ذَلِكَ، وَيُصِمُّ أُذُنَهُ عَنِ الْإِصْغَاءِ إِلَى الْعَدْلِ فِيهِ، فَلَا تَسْمَعُ الْأُذُنُ ذَلِكَ، وَالرَّغَبَاتُ تَسْتُرُ الْعُيُوبَ، فَالرَّاغِبُ فِي الشَّيْءِ لَا يَرَى عُيُوبَهُ، حَتَّى إِذْ زَالَتْ رَغْبَتُهُ فِيهِ أَبْصَرَ عُيُوبَهُ، فَشِدَّةُ الرَّغْبَةِ غِشَاوَةٌ عَلَى الْعَيْنِ، تَمْنَعُ مِنْ رُؤْيَةِ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ، كَمَا قِيلَ:
هَوَيْتُكَ إِذْ عَيْنِي عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ ... فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفَسِي أَلُومُهَا
وَالدَّاخِلُ فِي الشَّيْءِ لَا يَرَى عُيُوبَهُ، وَالْخَارِجُ مِنْهُ الَّذِي لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ لَا يَرَى عُيُوبَهُ، وَلَا يَرَى عُيُوبَهُ إِلَّا مَنْ دَخَلَ فِيهِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ، وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْكُفْرِ خَيْرًا مِنَ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَامِ.
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِنَّمَا تَنْتَقِضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، إِذَا وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْجَاهِلِيَّةَ.
وَأَمَّا فَسَادُ الْحَوَاسِّ ظَاهِرًا، فَإِنَّهُ يُمْرِضُ الْبَدَنَ وَيُنْهِكُهُ، وَرُبَّمَا أَدَّى إِلَى تَلَفِهِ، كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي أَخْبَارِ مَنْ قَتَلَهُمُ الْعِشْقُ.
وَقَدْ رُفِعَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ بِعَرَفَةَ شَابٌّ قَدِ انْتَحَلَ حَتَّى عَادَ جِلْدًا عَلَى عَظْمٍ، فَقَالَ: مَا شَأْنُ هَذَا؟ قَالُوا: بِهِ الْعِشْقُ، فَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنَ الْعِشْقِ عَامَّةَ يَوْمِهِ.
الثَّامِنُ: أَنَّ الْعِشْقَ كَمَا تَقَدَّمَ هُوَ الْإِفْرَاطُ فِي الْمَحَبَّةِ، بِحَيْثُ يَسْتَوْلِي الْمَعْشُوقُ عَلَى قَلْبِ الْعَاشِقِ، حَتَّى لَا يَخْلُوَ مِنْ تَخَيُّلِهِ وَذِكْرِهِ وَالْفِكْرِ فِيهِ، بِحَيْثُ لَا يَغِيبُ عَنْ خَاطِرِهِ وَذِهْنِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَشْتَغِلُ النَّفْسُ عَنِ اسْتِخْدَامِ الْقُوَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ وَالنَّفْسَانِيَّةِ فَتَتَعَطَّلُ تِلْكَ الْقُوَّةُ، فَيَحْدُثُ بِتَعْطِيلِهَا مِنَ الْآفَاتِ عَلَى الْبَدَنِ وَالرُّوحِ مَا يَعِزُّ دَوَاؤُهُ وَيَتَعَذَّرُ، فَتَتَغَيَّرُ أَفْعَالُهُ وَصِفَاتُهُ وَمَقَاصِدُهُ، وَيَخْتَلُّ جَمِيعُ ذَلِكَ، فَتَعْجِزُ الْبَشَرُ عَنْ صَلَاحِهِ، كَمَا قِيلَ:
الْحُبُّ أَوَّلُ مَا يَكُونُ لَجَاجَةٌ ... يَأْتِي بِهَا وَتَسُوقُهُ الْأَقْدَارُ
حَتَّى إِذَا خَاضَ الْفَتَى لُجَجَ الْهَوَى ... جَاءَتْ أُمُورٌ لَا تُطَاقُ كِبَارُ
وَالْعِشْقُ مَبَادِيهِ سَهْلَةٌ حُلْوَةٌ، وَأَوْسَطُهُ هَمٌّ وَشُغْلُ قَلْبٍ وَسَقَمٌ، وَآخِرُهُ عَطَبٌ وَقَتْلٌ، إِنْ لَمْ تَتَدَارَكْهُ عِنَايَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قِيلَ:
وَعِشْ خَالِيًا فَالْحُبُّ أَوَّلُهُ عَنَا ... وَأَوْسَطُهُ سَقَمٌ وَآخِرُهُ قَتْلُ
وَقَالَ آخَرُ: تَوَلَّعَ بِالْعِشْقِ حَتَّى عَشِقْ ... فَلَمَّا اسْتَقَلَّ بِهِ لَمْ يُطِقْ
رَأَى لُجَّةً ظَنَّهَا مَوْجَةً ... فَلَمَّا تَمَكَّنَ مِنْهَا غَرِقْ
وَالذَّنْبُ لَهُ، فَهُوَ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ قَعَدَ تَحْتَ الْمَثَلِ السَّائِرِ: " يَدَاكَ أَوْكَتَا، وَفُوكَ نَفَخَ ". وأرجو أن تطالع بقية مسائله ومنها مقاماته ابتداء من ص 216 فما بعدها من نفس الجزء من الكتاب المذكور فإنه جد مفيد .
ومقاطعته تعني الابتعاد عنه ، وعن الأماكن التي يرتادها ، وكذلك غيّر حتى المسجد الذي يصلي فيه بل إذا تطلب الأمر منك أن تهجر البلدة وتهاجر إلى غيرها فافعل فقد أخبر النبي عن الرجل الذي قتل مائة نفس أن العالم أفتاه بأن يخرج من تلك القرية التي قتل فيها أولئك إلى قرية أهلها صالحون فاعبد الله معهم .
9 – وأخير - تقوى الله تعالى :
عليك بتقوى الله فهي المخرج من كل ضيق ، والفرج من كرب ،قال تعالى :{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (3)الطلاق .
قال الماوردي في تفسيره (6/31)فيه سبعة أقاويل:
أحدها: أي ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة ، قاله ابن عباس.
الثاني: أن المخرج علمه بأنه من قبل اللَّه ، فإن اللَّه هو الذي يعطي ويمنع ، قاله مسروق.
الثالث : أن المخرج هو أن يقنعه اللَّه بما رزقه ، قاله عليّ بن صالح.
الرابع : مخرجاً من الباطل إلى الحق ، ومن الضيق إلى السعة ، قاله ابن جريج.
الخامس: ومن يتق اللَّه بالطلاق يكن له مخرج في الرجعة في العدة ، وأن يكون كأحد الخطاب بعد العدة ، قاله الضحاك.
والسادس: ومن يتق اللَّه بالصبر عند المصيبة يجعل له مخرجاً من النار إلى الجنة ، قاله الكلبي. السابع: أن عوف بن مالك الأشجعي أُسِر ابنُه عوف ، فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فشكا إليه ذلك مع ضر أصابه ، فأمره أن يكثر من قول لا حول ولا قوة إلا باللَّه ، فأفلت ابنه من الأسر وركب ناقة للقوم ومر في طريقه بسرح لهم فاستاقه ، ثم قدم عوف فوقف على أبيه يناديه وقد ملأ الأقبال إبلاً ، فلما رآه أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبره وسأله عن الإبل ، فقال : (( اصنع بها ما أحببت وما كنت صانعاً بمالك )) فنزلت هذه الآية {وَمَن يتق الّلَّه يجعل له مخرجاً} الآية .
فروى الحسن عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( من انقطع إلى اللَّه كفاه اللَّه كل مئونة ورزقه اللَّه من حيث لا يحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وكله اللَّه إليها). {إنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ}.
قال مسروق : إن اللَّه قاض أمره فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه، إلا أنَّ مَنْ توكّل يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً.انتهى.
والحديث أخرجه الطبراني في الأوسط (3359) والصغير(312) وقال :لَمْ يَرْوِهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ إِلَّا الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ تَفَرَّدَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْعَثِ الْخُرَاسَانِيُّ والشهاب في مسنده (493) والبيهقي في شعب الإيمان (1044).وقال الشيخ الألباني في الضعيفة (6854) ضعيف ،وضعيف الترغيب والترهيب (1061).
وفي المسند: حدثني مهدي بن جعفر، حدثنا الوليد بن مسلم، عن الحكم بن مصعب، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب)) ضعيف الترغيب والترهيب (1002).
هذا كله مع المحافظة على الواجبات المأمور بها ومن أهمها الصلاة في أوقاتها ، وأذكار الصباح والمساء ، والنوم ، وأن تبتعد عن كل ما يبعدك عن الله ويشغلك عنه وخاصة رفقاء السوء ، ولن تجد طعم الإيمان وحلاوته إلا في هذا الطريق على منهاج النبوة ، فإن استقمت على هذا المنهج (سبيل السلف الصالح ) والتزمت بهذه الأمور على بصيرة من ربك فابشر بخير يوم ولدتك فيه أمك ، وإلا فلن تجد لك دواء ولو اجتمع عليك من بأقطارها ..
تمت بحمد الله وعونه :
23/12/1438هـ