المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تنبيه إلى كل فاضل نبيه :" متى تكون العبرة بحاضر الشخص لا بماضيه "



أبو عبد المصور مصطفى الجزائري
16-Jan-2018, 09:00 PM
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه من خلقه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

أما بعد: فإن من قواعد شرعنا أن نتحاكم إلى الظاهر ، ولم نؤمر بالتنقيب عما وراء الجدران ولا عما بداخل القلوب . بوب النووي في رياض الصالحين باب إجراء أحكام الناس على الظاهر وسرائرهم إِلَى الله تَعَالَى . قَالَ الله تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] . 1/390- وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما، أَن رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه، وَأَنَّ مُحَمَّداً رسولُ اللَّهِ، ويُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤتوا الزَّكاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذلكَ، عَصمُوا مِنِّي دِماءَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإِسْلامِ، وحِسابُهُمْ عَلى اللَّه تَعَالَى" متفقٌ عَلَيهِ. وفي رواية : فَقالَ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: ((أَقَالَ: لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟))، قلتُ: يَا رسولَ اللَّهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفاً مِنَ السِّلاحِ، قَالَ: ((أَفَلا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لا؟))، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَؤْمئذٍ. 6/395- وعن عبدِ اللَّه بنِ عتبة بن مسعودٍ قَالَ: سمِعْتُ عُمَر بْنَ الخَطَّابِ، رضي اللَّه عنه يقولُ : (( إِنَّ نَاساً كَانُوا يُؤْخَذُونَ بالوَحْي في عَهْدِ رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، وإِنَّ الوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، وإِنَّمَا نَأْخُذُكُمُ الآنَ بِما ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنا خَيْراً، أَمَّنَّاهُ، وقرَّبناه وَلَيْس لنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شيءٌ، اللَّهُ يُحاسِبُهُ فِي سرِيرَتِهِ، ومَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءاً، لَمْ نأْمنْهُ، وَلَمْ نُصَدِّقْهُ وإِنْ قَالَ إِنَّ سَرِيرَتَه حَسنَةٌ ))رواه البخاري. هذا هو الأصل الذي ينبغي أن يسود بين المؤمنين إجراء أحكام النّاس على ما أظهروه من خير أو شر وعدم التنقيب عمّا وراء الجدران ، وما في القلوب ، ولكن لكل قاعدة استثناء، وهو أنه ليس كل من أظهر التوبة من خطأ أو هوى أو مخالفة يكون صادقا ، وخاصة إذا دلت القرائن والشواهد أنّ الشخص مازال على ما كان عليه ، وأنه يأتي الباطل والشر بطرق أخرى غير التي أظهر التوبة منها .. وكذلك ليس كل من تاب وأناب وكان صادقا في توبته يتطهر كلية من جميع ما في قلبه من البدعة والهوى ، فهذا يحتاج إلى وقت يتعلم فيه ، حتى تسن توبته ويتخلص من الرواسب التي بقيت معه من البدعة والأهواء . عن أبي واقد الليثي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة حنين مر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط. فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله هذا كما قال قوم موسى (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم» .(1) .
وجاء في كتاب التوحيد (1/34) (2) للشيخ محمد بن عبد الوهاب.
الثانية والعشرون: أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة ، لقولهم : "ونحن حدثاء عهد بكفر". ومن هذا المنطلق أحببت أن أوضح قاعدة تدور على ألسنة البعض من إخواننا وهي : أن العبرة بحاضر الشخص لا بماضيه . وإطلاق هذه القاعدة مع كل من تاب ورجع إلى منهج السلف غلط لأنه لو جئنا لنأخذ بها على إطلاقها وعمومها " أن كل من تاب وأظهر توبة تكون العبرة بحاضره لا بماضيه " ، لما بقي بيننا أحد يقال عنه أنه مدسوس أو مخذل ، أو صاحب هوى ، أو مبتدع ، أو فاسق أو غير ذلك ... فقد علم بالضرورة من الدين أن البعض ممن ينتسب إلى هذا المنهج المبارك ممن تاب من طريق أو ضلالة أو انحراف كان عليه ، أن توبتهم صورية وليست حقيقية ، والقرائن والشواهد تدل على ذلك ، فوجوههم إلى السلفيين وقلوبهم إلى غيرهم ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم . كما البخاري (3606- 7084)عن حُذَيْفَةَ بْنَ اليَمَانِ – رضي الله عنه - يَقُولُ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: ((نَعَمْ )). قُلْتُ : وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ : (( نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ )). قُلْتُ : وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ : (( قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي ، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ )). قُلْتُ : فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: (( نَعَمْ، دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا)). قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا؟ فَقَالَ : ((هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا)). قُلْتُ : فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ : (( تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ )) . قُلْتُ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ ؟ قَالَ (( فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ ))
(3). وفي طريق أخرى : يكون بعدي أئمة [يستنون بغير سنتي و] ، يهدون بغير هديي ، تعرف منهم وتنكر، [ وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين، في جثمان إنس ]. (وفي أخرى : الهدنة على دخن ما هي؟ قال : " لا ترجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه ") . الصحيحة (6/540).
وفي الحلية عن حرملة، قال: سمعت الشافعي، يقول :
ودع الذين إذا أتوك تنسكوا ... وإذا خلوا فهم ذئاب خراف .
وكذلك البعض منهم مع صدق توبته بقيت فيه بقية من أثر الضلالة والانحراف الذي كان عليه ، والعواطف التي تميل به فتجعله يحن إلى ماضيه ، وربما وقع في شيء من ذلك ، كما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في حديث أبي واقد الليثي .. ومن خلال هذا العرض يأتي السؤال متى تكون العبرة بما عليه الشخص حاضرا دون ما كان عليه في الماضي ؟؟ والجواب : تكون العبرة بالحاضر دون الماضي إذا أحسن في الحاضر واستمر على إحسانه ، ولم يسيء ؛ فإن أساء فإنه يؤاخذ بالماضي والحاضر ، ويذكر بالماضي والحاضر ، كمن تاب من الغيبة والطعن في العلماء السلفيين ، فإذا جاءت المجالس والنقل عن العلماء انكمش وصمت وتغير وجهه ، أو أبدى اعتراضا أو غمزهم من طرف خفي ، والنّاس إزاء هذه القاعدة أنواع .. 1 - إذا كان الشخص كافرا أو مشركا أو منافقا ثم تاب ورجع إلى ربه وخلع الكفر والشرك والنفاق فإن الإسلام يجب ما قبله .. فالعبرة بحاله التي رجع إليها والتي هو عليها ، من الإسلام والاستسلام لله تعالى حقيقة ، وما كان عليه من خير فإنه يكتب له كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام أسلمت على ما أسلفت ، أما الذنوب والمعاصي التي كان عليها ، فإن الإسلام يجبها والتوبة تمحها ، والجهاد ، والهجرة كذلك ، إلا أن يبقى عليها يتعاطاها ولم يتب منها فهذا يؤاخذ بالأول والآخر.. عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ عِتَاقَةٍ، وَصِلَةِ رَحِمٍ، هَلْ لِي فِيهَا أَجْرٌ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ». متفق عليه . والإسلام يجب ما قبله إلا أن يأتي بما ينقضه ، أو أنه لم يخلع لباس الذنوب الذي كان عليه في الجاهلية ، كمن كان يسرق فدخل في الإسلام وبقي يسرق ولم يتب من السرقة ، أو كان يتعاطى الخمر والربا ولم يتب منهما فإنه مؤاخذ بالأول والآخر .. وفي الحديث: (( الإسلام يجب ما قبله )) إرواء الغليل (1280).وقال الشيخ صحيح.[569] باب معنى قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - :(( ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر)). وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: «مَنْ أَحْسَنَ فِي الإِسْلاَمِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الإِسْلاَمِ أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ»

(4). قال الطحاوي في شرح مشكل الآثار(1/441): بَابُ بَيَانِ مُشْكِلِ مَا قَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَوْلِهِ: " مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ ". عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُؤَاخَذُ أَحَدُنَا بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ : (( مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ)). فَسَأَلَ سَائِلٌ فَقَالَ : هَلْ يَلْتَئمُ هَذَا الْحَدِيثُ ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَيْتُمُوهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ مَا قَدْ حَدَّثَنَا فَهْدٌ، قَالَ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ بُهْلُولٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إدْرِيسَ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ رَاشِدٍ مَوْلَى حَبِيبِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ ، حَدِيثَهُ مِنْ فِيهِ فَذَكَرَ قِصَّةَ إسْلَامِهِ قَالَ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ يُغْفَرَ لِي مَا تَقَدَّمَ وَلَا أَذْكُرُ مَا اسْتَأْنَفَ قَالَ : (( يَا عَمْرُو بَايِعْ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَإِنَّ الْهِجْرَةَ تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا )) . فَكَانَ جَوَابَنَا لَهُ عَنْ ذَلِكَ - بِتَوْفِيقِ اللهِ - أَنَّ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ مُلْتَئِمَانِ غَيْرُ مُخْتَلِفَيْنِ وَلَا مُتَضَادَّيْنِ ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَنَا وَاللهُ أَعْلَمُ مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ هُوَ عَلَى مَعْنَى مَنْ أَسْلَمَ فِي الْإِسْلَامِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [النمل: 89] فَكَانَتِ الْحَسَنَةُ الْمُرَادَةُ فِي ذَلِكَ هِيَ الْإِسْلَامَ ؛ فَكَانَ مَنْ جَاءَ بِالْإِسْلَامِ مَجْبُوبًا عَنْهُ مَا كَانَ مِنْهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَمُوَافِقًا لِمَا فِي حَدِيثِ عَمْرٍو أَنَّ (( الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ )) وَمَنْ لَزِمَ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ كَانَ قَدْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فِي الْإِسْلَامِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام: 160]. فَكَانَتْ عُقُوبَةُ تِلْكَ السَّيِّئَةِ عَلَيْهِ مُنْضَافَةً إلَى عُقُوبَاتِ مَا قَبْلَهَا مِنْ سَيِّئَاتِهِ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؛ فَاتَّفَقَ بِحَمْدِ اللهِ حَدِيثَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا وَلَمْ يَخْتَلِفَا. قال الحافظ ابن حجر في الفتح (12/266): قَالَ الْخَطَّابِيُّ ظَاهِرُهُ خِلَافُ مَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ ، وَقَالَ تَعَالَى قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قد سلف قَالَ وَوَجْهُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا مَضَى فَإِنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ غَايَةَ الْإِسَاءَةِ وَرَكِبَ أَشَدَّ الْمَعَاصِي وَهُوَ مُسْتَمر على الْإِسْلَام فَإِنَّهُ إِنَّمَا يؤخذ بِمَا جَنَاهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ فِي الْإِسْلَامِ وَيُبَكَّتُ بِمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْمُكَفّر كَأَنْ يُقَالَ لَهُ أَلَسْتَ فَعَلْتَ كَذَا وَأَنْتَ كَافِرٌ فَهَلَّا مَنَعَكَ إِسْلَامُكَ عَنْ مُعَاوَدَةِ مِثْلِهِ انْتَهَى مُلَخَّصًا .وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ أَوَّلَ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْأَوَّلِ بِالتَّبْكِيتِ وَفِي الْآخِرِ بِالْعُقُوبَةِ . وَالْأَوْلَى قَوْلُ غَيْرِهِ إِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِسَاءَةِ الْكُفْرُ لِأَنَّهُ غَايَةُ الْإِسَاءَةِ وَأَشَدُّ الْمَعَاصِي فَإِذَا ارْتَدَّ وَمَاتَ عَلَى كُفْرِهِ كَانَ كَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ فَيُعَاقَبْ عَلَى جَمِيعِ مَا قَدَّمَهُ . وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ بِإِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ حَدِيثِ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الشِّرْكُ وَأَوْرَدَ كُلًّا فِي أَبْوَابِ الْمُرْتَدِّينَ .. وَنَقَلَ بن بَطَّالٍ عَنِ الْمُهَلَّبِ قَالَ مَعْنَى حَدِيثِ الْبَابِ مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ بِالتَّمَادِي عَلَى مُحَافَظَتِهِ وَالْقِيَامِ بِشَرَائِطِهِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أَيْ فِي عَقْدِهِ بِتَرْكِ التَّوْحِيدِ أُخِذَ بِكُلِّ مَا أَسْلَفَهُ قَالَ بن بَطَّالٍ فَعَرَضْتُهُ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَقَالُوا لَا مَعْنَى لِهَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ هَذَا وَلَا تَكُونُ الْإِسَاءَةُ هُنَا إِلَّا الْكُفْرَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قُلْتُ : وَبِهِ جَزَمَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ . وَنَقَلَ ابن التِّينِ عَنِ الدَّاوُدِيِّ مَعْنَى " مَنْ أَحْسَنَ " مَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَنْ أَسَاءَ مَاتَ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ ، وَعَنْ أَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ الْبَوْنِيِّ مَعْنَى "مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ" أَيْ أَسْلَمَ إِسْلَامًا صَحِيحًا لَا نِفَاقَ فِيهِ وَلَا شَكَّ ، وَمَنْ " أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ " أَيْ أَسْلَمَ رِيَاءً وَسُمْعَةً وَبِهَذَا جَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ . وَلِغَيْرِهِ مَعْنَى الْإِحْسَانِ الْإِخْلَاصُ حِينَ دَخَلَ فِيهِ وَدَوَامُهُ عَلَيْهِ إِلَى مَوْتِهِ وَالْإِسَاءَةُ بِضِدِّ ذَلِكَ فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يُخْلِصْ إِسْلَامه كَانَ منافقا فلاينهدم عَنْهُ مَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَيُضَافُ نِفَاقُهُ الْمُتَأَخِّرُ إِلَى كُفْرِهِ الْمَاضِي فَيُعَاقَبُ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ.

قُلْتُ : وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْخَطَّابِيَّ حَمَلَ قَوْلَهُ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى صِفَةٍ خَارِجَةٍ عَنْ مَاهِيَّةِ الْإِسْلَامِ وَحَمَلَهُ غَيْرُهُ عَلَى صِفَةٍ فِي نَفْسِ الْإِسْلَام وَهُوَ أوجه تنبية حَدِيث بن مَسْعُودٍ هَذَا يُقَابِلُ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الْمَاضِيَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مُعَلَّقًا عَنْ مَالِكٍ فَإِنَّ ظَاهِرَ هَذَا أَنَّ مَنِ ارْتَكَبَ الْمَعَاصِيَ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ يُكْتَبُ عَلَيْهِ مَا عَمِلَهُ مِنَ الْمَعَاصِي قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ وَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ عَمِلَ الْحَسَنَاتِ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ يُكْتَبُ لَهُ مَا عَمِلَهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي تَوْجِيهِ الثَّانِي عِنْدَ شَرْحِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجِيءَ هُنَا بَعْضُ مَا ذَكَرَ هُنَاكَ كَقَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ مَعْنَى كِتَابَةِ مَا عَمِلَهُ مِنَ الْخَيْرِ فِي الْكُفْرِ أَنَّهُ كَانَ سَبَبًا لِعَمَلِهِ الْخَيْرَ فِي الْإِسْلَامِ.. ثُمَّ وَجَدْتُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ لِعَبْدِ الْعَزِيز بن جَعْفَر وَهُوَ من رُؤُوس الْحَنَابِلَة مَا يدْفع دَعْوَة الْخطابِيّ وابن بَطَّالٍ الْإِجْمَاعَ الَّذِي نَقَلَاهُ وَهُوَ مَا نُقِلَ عَنِ الْمَيْمُونِيِّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ بَلَغَنِي أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ إِنَّ مَنْ أَسْلَمَ لَا يُؤَاخَذُ بِمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ رد عَلَيْهِ بِحَدِيث ابن مَسْعُودٍ فَفِيهِ أَنَّ الذُّنُوبَ الَّتِي كَانَ الْكَافِرُ يَفْعَلُهَا فِي جَاهِلِيَّتِهِ إِذَا أَصَرَّ عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يُؤَاخَذُ بِهَا لِأَنَّهُ بِإِصْرَارِهِ لَا يَكُونُ تَابَ مِنْهَا وَإِنَّمَا تَابَ مِنَ الْكُفْرِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ ذَنْبُ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ لِإِصْرَارِهِ عَلَيْهَا . وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَلِيمِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَتَأَوَّلَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ قَوْلَهُ :{ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ }عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا سَلَفَ مِمَّا انْتَهَوْا عَنْهُ قَالَ وَالِاخْتِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ هِيَ النَّدَمُ عَلَى الذَّنْبِ مَعَ الْإِقْلَاعِ عَنْهُ وَالْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ .. وَالْكَافِر إِذا تَابَ من الْكفْر وَلم يَعْزِمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَى الْفَاحِشَةِ لَا يَكُونُ تَائِبًا مِنْهَا فَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا .. وَالْجَوَابُ عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِالْمُسْلِمِ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِإِسْلَامِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ، وَالْأَخْبَارُ دَالَّةٌ عَلَى ذَلِكَ كَحَدِيثِ أُسَامَةَ لَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتْلَ الَّذِي قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى قَالَ فِي آخِرِهِ حَتَّى تمنيت أنني كنت أسلمت يَوْمئِذٍ..انتهى كلام الحافظ . وقال شيخ الإسلام- رحمه الله - في مجموع الفتاوى (11/701- 702) جوابا على سؤال عَنْ الْيَهُودِيِّ أَوْ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَ، هَلْ يَبْقَى عَلَيْهِ ذَنْبٌ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ( لا يؤاخذ ولا يذكر به) ؟. فَأَجَابَ : إذَا أَسْلَمَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا غُفِرَ لَهُ الْكُفْرُ الَّذِي تَابَ مِنْهُ بِالْإِسْلَامِ بِلَا نِزَاعٍ وَأَمَّا الذُّنُوبُ الَّتِي لَمْ يَتُبْ مِنْهَا مِثْلُ: أَنْ يَكُنْ مُصِرًّا عَلَى ذَنْبٍ أَوْ ظُلْمٍ أَوْ فَاحِشَةٍ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا بِالْإِسْلَامِ. فَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّهُ يُغْفَرُ لَهُ بِالْإِسْلَامِ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ إنَّمَا يُغْفَرُ لَهُ مَا تَابَ مِنْهُ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصحيح عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قِيلَ: أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ فَقَالَ: ((مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخَرِ)). وَ " حُسْنُ الْإِسْلَامِ " أَنْ يَلْتَزِمَ فِعْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكَ مَا نُهِيَ عَنْهُ. وَهَذَا مَعْنَى التَّوْبَةِ الْعَامَّةِ فَمَنْ أَسْلَمَ هَذَا الْإِسْلَامَ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ كُلُّهَا. وَهَكَذَا كَانَ إسْلَامُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ.. وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِعَمْرِو بْنِ العاص: (( أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ)) " فَإِنَّ اللَّامَ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ وَالْإِسْلَامُ الْمَعْهُودُ بَيْنَهُمْ كَانَ الْإِسْلَامَ الْحَسَنَ. وَقَوْلُهُ : " (( وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخَرِ)) " أَيْ: إذَا أَصَرَّ عَلَى مَا كَانَ يَعْمَلُهُ مِنْ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُ يُؤَاخَذُ بِالْأَوَّلِ وَالْآخَرِ. وَهَذَا مُوجَبُ النُّصُوصِ وَالْعَدْلِ فَإِنَّ مَنْ تَابَ مِنْ ذَنْبٍ غُفِرَ لَهُ ذَلِكَ الذَّنْبُ وَلَمْ يَجِبْ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ غَيْرُهُ. وَالْمُسْلِمُ تَائِبٌ مِنْ الْكُفْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}. وَقَوْلُهُ : {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} أَيْ إذَا انْتَهَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ غُفِرَ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ. فَالِانْتِهَاءُ عَنْ الذَّنْبِ هُوَ التَّوْبَةُ مِنْهُ. مَنْ انْتَهَى عَنْ ذَنْبٍ غُفِرَ لَهُ مَا سَلَفَ مِنْهُ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ ذَنْبٍ فَلَا يَجِبُ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ مَا سَلَفَ لِانْتِهَائِهِ عَنْ ذَنْبٍ آخَرَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وقال ابن القيم - رحمه الله - في مدارج السالكين (1/286): [فَصْلٌ أَحْكَامُ التَّوْبَةِ] فَصْلٌ : وَمِنْ أَحْكَامِ التَّوْبَةِ أَنَّهُ : هَلْ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهَا أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى الذَّنْبِ أَبَدًا، أَمْ لَيْسَ ذَلِكَ بِشَرْطٍ؟ فَشَرَطَ بَعْضُ النَّاسِ عَدَمَ مُعَاوَدَةِ الذَّنْبِ ، وَقَالَ : مَتَى عَادَ إِلَيْهِ تَبَيَّنَّا أَنَّ التَّوْبَةَ كَانَتْ بَاطِلَةً غَيْرَ صَحِيحَةٍ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَإِنَّمَا صِحَّةُ التَّوْبَةِ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِقْلَاعِ عَنِ الذَّنْبِ ، وَالنَّدَمِ عَلَيْهِ ، وَالْعَزْمِ الْجَازِمِ عَلَى تَرْكِ مُعَاوَدَتِهِ. فَإِنْ كَانَتْ فِي حَقِّ آدَمِيٍّ فَهَلْ يُشْتَرَطُ تَحَلُّلُهُ؟ فِيهِ تَفْصِيلٌ - سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - فَإِذَا عَاوَدَهُ ، مَعَ عَزْمِهِ حَالَ التَّوْبَةِ عَلَى أَنْ لَا يُعَاوِدَهُ ، صَارَ كَمَنِ ابْتَدَأَ الْمَعْصِيَةَ ، وَلَمْ تَبْطُلْ تَوْبَتُهُ الْمُتَقَدِّمَةُ. وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةُ عَلَى أَصْلٍ ، وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَابَ مِنَ الذَّنْبِ ثُمَّ عَاوَدَهُ، فَهَلْ يَعُودُ إِلَيْهِ إِثْمُ الذَّنْبِ الَّذِي قَدْ تَابَ مِنْهُ ثُمَّ عَاوَدَهُ، بِحَيْثُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ عَلَى الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ إِنْ مَاتَ مُصِرًّا؟ أَوْ إِنَّ ذَلِكَ قَدْ بَطَلَ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا يَعُودُ إِلَيْهِ إِثْمُهُ، وَإِنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَى هَذَا الْأَخِيرِ؟؟ وَفِي هَذَا الْأَصْلِ قَوْلَانِ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : يَعُودُ إِلَيْهِ إِثْمُ الذَّنْبِ الْأَوَّلِ ، لِفَسَادِ التَّوْبَةِ ، وَبُطْلَانِهَا بِالْمُعَاوَدَةِ. قَالُوا: لِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الذَّنْبِ بِمَنْزِلَةِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْكُفْرِ، وَالْكَافِرُ إِذَا أَسْلَمَ هَدَمَ إِسْلَامُهُ مَا قَبْلَهُ مِنْ إِثْمِ الْكُفْرِ وَتَوَابِعِهِ ، فَإِذَا ارْتَدَّ عَادَ إِلَيْهِ الْإِثْمُ الْأَوَّلُ مَعَ إِثْمِ الرِّدَّةِ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (( مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ)). فَهَذَا حَالُ مَنْ أَسْلَمَ وَأَسَاءَ فِي إِسْلَامِهِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرِّدَّةَ مِنْ أَعْظَمِ الْإِسَاءَةِ فِي الْإِسْلَامِ ، فَإِذَا أُخِذَ بَعْدَهَا بِمَا كَانَ مِنْهُ فِي حَالِ كُفْرِهِ، وَلَمْ يُسْقِطْهُ الْإِسْلَامُ الْمُتَخَلِّلُ بَيْنَهُمَا، فَهَكَذَا التَّوْبَةُ الْمُتَخَلِّلَةُ بَيْنَ الذَّنْبَيْنِ لَا تُسْقِطُ الْإِثْمَ السَّابِقَ، كَمَا لَا تَمْنَعُ الْإِثْمَ اللَّاحِقَ. قَالُوا : وَلِأَنَّ صِحَّةَ التَّوْبَةِ مَشْرُوطَةٌ بِاسْتِمْرَارِهَا، وَالْمُوَافَاةِ عَلَيْهَا، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ يُعْدَمُ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ ، كَمَا أَنَّ صِحَّةَ الْإِسْلَامِ مَشْرُوطَةٌ بِاسْتِمْرَارِهِ وَالْمُوَافَاةِ عَلَيْهِ. قَالُوا : وَالتَّوْبَةُ وَاجِبَةٌ وُجُوبًا مُضَيَّقًا مَدَى الْعُمْرِ ، فَوَقْتُهَا مُدَّةُ الْعُمْرِ، إِذْ يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِصْحَابُ حُكْمِهَا فِي مُدَّةِ عُمْرِه ، فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعُمْرِ كَالْإِمْسَاكِ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ فِي صَوْمِ الْيَوْمِ ، فَإِذَا أَمْسَكَ مُعْظَمَ النَّهَارِ، ثُمَّ نَقَضَ إِمْسَاكَهُ بِالْمُفْطِرَاتِ بَطَلَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ صِيَامِهِ ، وَلَمْ يُعْتَدَّ بِهِ ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يُمْسِكْ شَيْئًا مِنْ يَوْمِهِ. قَالُوا : وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : (( إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا)). وَهَذَا أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَمَلُ الثَّانِي كُفْرًا مُوجِبًا لِلْخُلُودِ ، أَوْ مَعْصِيَةً مُوجِبَةً لِلدُّخُولِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ : (( فَيَرْتَدُّ فَيُفَارِقُ الْإِسْلَامَ ))؛ وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِعَمَلٍ يُوجِبُ لَهُ النَّارَ، وَفِي بَعْضِ السُّنَنِ : (( إِنَّ الْعَبْدَ لِيَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ جَارَ فِي وَصِيَّتِهِ فَدَخَلَ النَّارَ)) فَالْخَاتِمَةُ السَّيِّئَةُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ خَاتِمَةً بِكُفْرٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ، وَالْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ إِحْبَاطُ الْحَسَنَاتِ بِالسَّيِّئَاتِ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالْقُرْآنُ وَالسَّنَةُ قَدْ دَلَّا عَلَى أَنَّ الْحَسَنَاتِ هِيَ الَّتِي تُحْبِطُ السَّيِّئَاتِ لَا الْعَكْسِ، كَمَا قَالَ {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِمُعَاذٍ (( اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ )) . قِيلَ : وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ قَدْ دَلَّا عَلَى الْمُوَازَنَةِ ، وَإِحْبَاطِ الْحَسَنَاتِ بِالسَّيِّئَاتِ فَلَا يُضْرَبُ كِتَابُ اللَّهِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ ، وَلَا يُرَدُّ الْقُرْآنُ بِمُجَرَّدِ كَوْنِ الْمُعْتَزِلَةِ قَالُوهُ - فِعْلَ أَهْلِ الْهَوَى وَالتَّعَصُّبِ - بَلْ نَقْبَلُ الْحَقَّ مِمَّنْ قَالَهُ، وَنَرُدُّ الْبَاطِلَ عَلَى مَنْ قَالَهُ. وسئل الشيخ الألباني - رحمه الله - هذا السؤال : سؤال : قال رجلٌ للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أرئيت الرجل يحسن في الإسلام ، أيؤاخذ بما عمل في الجاهلية.. قال فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : (( من أحسن في الإسلام، لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام، أخذ بالأول والآخر))، فماذا يقصد، (( من أحسن في الإسلام، لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية))، هل يقصد بذالك أنه لم يرتد على الإسلام؟. الشيخ : واحد كان يسرق في الجاهلية، ويسرق، وظل يسرق في الإسلام، فيؤاخذ بهذا وذاك، رجل كان كافراً مشركاً، وعلى شركه كان سيء التصرف ، كان يسرق ، كان يضرب ، كان يشرب الخمر، كان إلى أخره ، ثم أسلم ، الإسلام يَجُبُّ ما قبله ، لكن هذا الحديث ، يدخل لهذه الجملة ، لهذه القاعدة تخصيصاً، الإسلام يجب ما قبله ، فالذي أسلم وكان - مثلاً سارقاً- فبإسلامه كما انتهى عن الكفر، انتهى عن السرقة ، هذا سيحسن إليه في كل ما يفعل، من حسنات في إسلامه ولا يؤاخذ على سيئته في الجاهلية ، على العكس من ذلك ، فرجل آخر أسلم وكان يسرق ، ومع إسلامه ، ظل يسرق ، فهو بناءً على القاعدة العامة الإسلام يجب ما قبله ، ب ( يتصور الإنسان ، أن هذا لا يؤاخذ بما فعل في الجاهلية، من السرقة، لكن هذا الحديث يقيد هذه القاعدة ، ويقول بأن هذا الذي أسلم وأساء في الإسلام، فسيؤاخذ على إساءته هذه في إسلامه [مثل] إساءته في الجاهلية

(5). والخلاصة في هؤلاء الكافر والمشرك والمنافق أنهم إذا تابوا ودخلوا في الإسلام يحكم لهم بظاهر إسلامهم ، والعبرة بحالهم وحاضرهم الذي هم عليه ما لم ينقضوه بناقض ، أما حكمهم عند الله فإن أحسنوا في الإسلام وخلعوا لباس الجاهلية واستمروا على إسلامهم ، وتابوا من جميع الكبائر عازمين أن لا يعدوا إليها عمرهم لم يؤاخذوا بما فعلوه في الجاهلية ، أما أنهم تابوا من الكفر فقط بقصد عصمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم ، ولم يعزموا على ترك المعاصي ، وهم مقيمون على الذنوب التي كانت منهم في الجاهلية بعد مدة يعتقد أنهم علموا حدود ما أنزل الله ؛ فهؤلاء يؤاخذون بالأول والآخر . هذا بالنسبة للكافر والمشرك والمنافق ؛ أما المسلم فهل العبرة بحاله وحاضره في كل حال ؟؟. لا ؛ الأمر فيه تفصيل ، فليس كل من أظهر التوبة تكون العبرة بحاضره دون ماضيه ، نعم أمرنا أن نتحاكم إلى الظاهر ، وهذا الذي ينبغي أن نكون عليه ، ولكن إذا وجد مندسون ، ومتعالمون ، ومخذلون ، وأهل الأهواء يتظاهرون بالتوبة مما كانوا عليه وأنهم أهل سنة ، والحقيقة أنهم يفتون في عضد الأمة ويشوهون المنهج السلفي ، ويسعون في الأرض بالفساد والإفساد والقرائن تدل على ذلك فيحنها لا يقال العبرة بحاضرهم .. وليس من شك أن التائبين من الذنوب والأهواء أنواع ، منهم من يحكم له بعد توبته بحاضره دون ماضيه ، ومنهم من يبقى على ماضيه دون حاضره حتى يصلح ما أفسد، ويبين موقفه وبراءته مما كان عليه .
1 - فمن وقع في كبيرة من كبائر الذنوب ، ثم تاب منها أو تاب من جميع ما يتعاطاه من المعاصي ومما يتهم به باطنا وظاهرا ، وحسنت توبته ودلت الشواهد والقرائن على ذلك ، فهذا العبرة بحاله وحاضره ، ويحكم له بما أظهر حكما في الدنيا ، والله لا يعذبه في الآخرة إن كان صادقا ، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له

(6)، فكيف إذا عمل ما يستوجب كفارة ذنوبه ورفع درجاته مع توبته من توحيد وصلاة وصيام وحج وجهاد وصدقة وغير ذلك.. ؟؟؟ هذا إذا كان الأمر متعلقا فيما يبنه وبين ربه ، وهذا معنى قول العلماء : (( التوبة تجب ما قبلها ))

(7) أي التوبة بشروطها.
2 – أما من أظهر التوبة وأعلنها ، ولم يعزم على ترك الذنب الذي تاب منه ، كما لم يعزم على عدم العود إليه ، أظهر التوبة من الغيبة والنميمة ، ولكنه ما يجلس مجلسا إلا اغتاب ووقع في أعراض إخوانه ، أو يعلن التوبة من الوقوع في العلماء ومشايخ السنة وطلبة العلم المعروفين ولكنه لم يعزم على العود والترك نهائيا فإذا وجد الفرصة وقع فيهم وطعن فيهم فهذا لا يقال العبرة بحاضره لا بماضيه ..فحاله كحال من أسلم ولم يحسن إسلامه فيؤاخذ بالأول والآخر .
3- من كان معروفا بالظلم والجور والاعتداء وتعاطي الربا الخمر والرشوة وغيرها من الموبقات فيما تعلق بحقوق الآخرين ؛ فهذا حتى لو تاب فإن العبرة لا تكون بحاله وحاضره مطلقا حتى يرد المظالم والحقوق إلى أصحابها ممن يستطيع أن يوصل إليهم حقوقهم ، ويعلموا أنه برأ ذمته بتوبته ورد الحقوق ، والأمانات لأهلها، وإلا فهم إذا سئلوا عنه بعد توبته وفي حال حاضره دون رد الحقوق ، قالوا أخذ حقوقنا وضيع أماناتنا فلا تكفيه التوبة فيما بينه وبين ربه ليحكم له بحاضره وأن العبرة بذلك ..
4 - وكذلك يقال فيمن كان على هوى وبدعة داعيا إليها ومدافعا عنها ، فإن تاب من بدعته وانحرافه ، وحسنت توبته فيما بينه وبين ربه لا تكون العبرة بحاله وحاضره حتى يصلح ويبين ضلال ما كان عليه ، ليعلم أهل الحق الذين بلغهم انحرافه وضلاله أنه تاب وأناب ورجع إلى ربه سبحانه ، فيرفعوا عنه التهمة ويقبلوه بينهم .. ويبرءوا ساحته .. قال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }(160)البقرة . وفي سورة آل عمران قال جل وعز { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }(89). وفي سورة النساء قال عز وجل { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا }(146). وهذا خلافا للحدادية الذين لا يقبلون من تاب وأصلح وبين بل هو عندهم على ماضيه دون حاضره ، ولو تاب ألف مرة ، ولا عبرة عندهم بحاضره حتى يؤمن بمنهجهم وجميع قواعدهم .
5 - وكذلك لا عبرة بحاضر من يقول أنه تاب وأناب إلى منهج السلف الصالح ، وهذه دروسه ، ومقالاته ، ورسائله ، ونشاطاته تملأ بلاده أو مواقع التواصل الاجتماعي ، تناصر أهل الأهواء والضلال والبدع ، فما هو الفرق بين حاضره وماضيه وهذه حاله ، فلا عبرة بحاضره حتى يعلنها مدوية فيتبرأ من بدعته ، ومن كتبه ، ودروسه ومقالاته التي يدعو فيها إلى ما كان عليه من الانحراف والنصرة لأهل الأهواء..
وبالمثال يتضح المقال : رجل مسلم كان متحزبا، يناصر الحزبيين، والمظاهرات ، والثورات ، والخروج على ولاة الأمر، وينتصر إلى منهج الخوارج ، كتب ودرّس وحاضر ، ونشر، وناصر ، وانتصر؛ ثم يقول أنا تبت ولا يبين ولم يصلح ذلك الفساد ، وفي مدة زمنية قصيرة من توبته يقال العبرة بحاضره لا بماضيه ..كيف يكون ذلك كذلك ؟؟ ورجل آخر كان تبليغي ، أو طرقي صوفي ، أو إخواني جزأري ، أو حدادي أو حلبي ، أو قل ما شئت من الفرق المخالفة لمنهج السلف كتب وألف ، وحاضر ودرس ، ونشر ، وناصر ، وانتصر ، ثم يقول أنا تبت ولم يظهر عليه أي إحسان ولا بيان ، ولا أظهر صلاحا ولا إصلاحا؛ بل بقيت دار لقمان على حالها ، وإذا وجد الفرصة يغتنمها ليبث سمومه ، وضلاله ، حاله كحال حليمة حين تعود لعادتها القديمة ، فهذا لا يقال فيه العبرة بحاضره لا بماضيه حتى يبين موقفه ويصرح ويظهر ذلك علانية ..ويتبرأ هو ومن قبله مما كتبوا ونشروا وحاضروا ودرّسوا وهذا يتطلب منهم وقتا حتى يستقيم لهم الحال وتحسن توبتهم.

تنبيه مهم : فمن تمام توبة العبد أن يقلع عما كان عليه ، ويندم على ما صدر منه ، ويعزم ألا يعود ، ويرد المظالم والحقوق لأهلها ، ويصلح ما أفسد ويبين ضلال ما اعتقد وانتهج وينوي الاستمرار على ذلك ، ويتمنى على الله أن يختم له بذلك ، وأن لا يزغ قلبه ، ويتضرع إلى الله أن يثبته حتى يلقاه . والأعمال بالخواتيم . أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يتوب علينا وأن يبصرنا بعيوبنا وأن يثبتنا على الحق الذي هدانا إليه حتى نلقاه إنه سميع قريب مجيب .
تنبيه أخر مهم : إذا تاب الكافر والمشرك والمنافق فإن الله يقبل التوبة عن عباده ، فلا ينبغي أن يعير ولا أن يلحق به ضرر بالقتل وغيره لأن الله نعى على من فعل ذلك ، وإذا كان ذلك في أولئك ففي المسلم الذي تاب وأناب من المخالفات العقدية والمنهجية وفارق أهل الهوى والضلال وبين وأصلح ما أفسده فمن باب أولى ، وأولى أن لا يعير وأن يشمت به وأن يلحق به الضرر . وقال تعالى : {.. كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } أي كنتم ضلالا كفارا فمن الله عليكم بالإسلام ، فلا تعيروا ولا تقتلوا من قال لكم أنني مسلم أو سلّم عليكم بقصد غرض من الدنيا .. قال ابن جرير (9/71): قد قيل إن معنى قوله :"كذلك كنتم من قبل" كنتم كفارًا مثلهم "فمنَّ الله عليكم" بالإسلام . وقال السمعاني (1/466) : وَقَالَ قَتَادَة ، مَعْنَاهُ : كَذَلِك كُنْتُم من قبل ضلالا، فَمن الله عَلَيْكُم بالهداية . قال الماوردي (1/521) : {كَذَلِكَ كنتُم مِّن قَبْلُ} أي كفاراً مثلهم. {فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ} يعني بالإسلام. وأختم بهذه الطرفة عن سفيان بن عيينة : جاء في الكفاية للخطيب البغدادي (1/61)قال أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْعَلَاءِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْوَاسِطِيُّ ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى السَّلَامِيُّ ، فِيمَا أَذِنَ لَنَا أَنْ نَرْوِيَهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْتُ عَمَّارَ بْنَ عَلِيٍّ اللُّورِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ النَّضْرِ الْهِلَالِيَّ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ : كُنْتُ فِي مَجْلِسِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فَنَظَرَ إِلَى صَبِيٍّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ ، فَكَأَنَّ أَهْلَ الْمَجْلِسِ تَهَاوَنُوا بِهِ لِصِغَرِ سِنِّهِ ، فَقَالَ سُفْيَانُ : {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء: 94]. ثُمَّ قَالَ: " يَا نَضِرُ ، لَوْ رَأَيْتَنِي وَلِي عَشْرُ سِنِينَ ، طُولِي خَمْسَةُ أَشْبَارٍ ، وَوَجْهِي كَالدِّينَارِ ، وَأَنَا كَشُعْلَةِ نَارٍ ، ثِيَابِي صِغَارٌ، وَأَكْمَامِي قِصَارٌ ، وَذَيْلِي بِمِقْدَارٍ ، وَنَعْلِي كَآذَانِ الْفَارِ ، أَخْتَلِفُ إِلَى عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ ، مِثْلَ الزُّهْرِيِّ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارِ ، أَجْلِسُ بَيْنَهُمْ كَالْمِسْمَارِ ، مِحْبَرَتِي كَالْجَوْزَةِ ، وَمِقْلَمَتِي كَالْمَوْزَةِ ، وَقَلَمِي كَاللَّوْزَةِ ، فَإِذَا دَخَلْتُ الْمَجْلِسَ قَالُوا : أَوْسِعُوا لِلشَّيْخِ الصَّغِيرِ، أَوْسِعُوا لِلشَّيْخِ الصَّغِيرِ. قَالَ: ثُمَّ تَبَسَّمَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَضَحِكَ ، قَالَ أَحْمَدُ وَتَبَسَّمَ أَبِي وَضَحِكَ ، قَالَ عَمَّارٌ وَتَبَسَّمَ أَحْمَدُ وَضَحِكَ ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ السَّلَامِيُّ وَتَبَسَّمَ عَمَّارٌ وَضَحِكَ ، قَالَ الْقَاضِي: وَتَبَسَّمَ السَّلَامِيُّ وَضَحِكَ ، وَتَبَسَّمَ أَبُو الْعَلَاءِ وَضَحِكَ ، وَتَبَسَّمَ أَبُو بَكْرٍ الْحَافِظُ وَضَحِكَ ، وَتَبَسَّمَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَضَحِكَ ، قَالَ سَيِّدُنَا ابْنُ الْمَقْدِسِيُّ: وَتَبَسَّمَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو طَاهِرٍ السَّلَفِيُّ وَضَحِكَ ".

الهوامش :
- 1- رواه الترمذي رواه الترمذي (2180) ، وأَحمد (5 / 218) ، والطيالسي (1346) ، والحميديَ (848) ، وابن عاصم (76) ، وابن حبان (1835) . وسنده صحيحٌ. قال الشيخ الألباني في تخريج المشكاة (5408) صحيح.
2 - (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب. باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما .
3 - سنن ابن ماجة قال الشيخ الألباني صحيح، الصحيحة (2739)، وصحيح الجامع (1371)وقال : (صحيح) [هـ] عن حذيفة. خ - فتن، م - إمارة. وفي صحيح مسلم 52 - (1847) قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا بِشَرٍّ، فَجَاءَ اللهُ بِخَيْرٍ، فَنَحْنُ فِيهِ، فَهَلْ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ : (( نَعَمْ ))، قُلْتُ : هَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الشَّرِّ خَيْرٌ؟ قَالَ: (( نَعَمْ ))، قُلْتُ : فَهَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ : (( نَعَمْ ))، قُلْتُ : كَيْفَ؟ قَالَ : (( يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ ، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي ، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ))، قَالَ: قُلْتُ : كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ: (( تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ، وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ، فَاسْمَعْ وَأَطِعْ)).
(4)- متفق عليه ، اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان ( 75). البخاري (6921) ومسلم (120).
(5) سلسلة الهدى والنور" (425/ 55: 55: 00) و (426/ 46: 00: 00).
(6) ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له )) هذا حديث. عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ، كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» سبب ابن ماجة (4250 ) [حكم الألباني] صحيح الجامع (3008) وقال حسن وصحيح الترغيب(3145).
(7)- التوبة تجب ما قبلها )) يعتقد بعض النّاس أنا هذا القول من الأحاديث وهو لا أصل له كما قال العلامة الألباني - رحمه الله –ففي سلسلة الأحاديث الضعيفة (1039) " التوبة تجب ما قبلها ". لا أعرف له أصلا. خلافا لما يشعره صنيع الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: " فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا "، قال (3/129) : وذلك لأن التوبة تجب ما قبلها، وفي الحديث الآخر: " التائب من الذنب كمن لا ذنب له ". فقوله: الحديث الآخر يعطي أن الذي قبله حديث، فهو في تعبيره الحديث الأول، ولذلك تورط بكلامه هذا الشيخ الرفاعي فأورده في فهرس " الحديث الشريف "! من " مختصره " (2/619) ، وليس هذا فقط بل ووضع بجانبه قوله: صح!! وكذلك فعل في الحديث الآخر، وهذا الخطب فيه سهل، فإنه معروف في بعض كتب السنة، وقد حسنته في " صحيح الجامع الصغير " (3005) بخلاف هذا فإني لا أعرف له أصلا البتة، ومع ذلك فقد صححه المذكور، هداه الله. وفي ظني أن الحديث التبس أمره على ابن كثير ومختصره بالحديث الصحيح: " إن الإسلام يجب ما كان قبله، وإن الهجرة تجب ما كان قبلها " زاد في رواية: " وإن الحج يهدم ما كان قبله "، وهو مخرج في " الإرواء " (1280) . سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة(3/141).