أبو عبد المصور مصطفى الجزائري
13-Apr-2018, 10:26 PM
(كتاب الصيام) من الشرح الممتع على زاد المستقنع | لسماحة الشيخ العلامة الفقيه الإمام محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - [مفرغ]
كِتَابُ الصِّيَامِ
قوله: «كتاب الصيام» سبق لنا أن الفقهاء ـ رحمهم الله ـ يسمون بالكتاب، والباب، والفصل.
فالكتاب للجنس، والباب للنوع، والفصل لمفردات المسائل.
فمثلاً كتاب الطهارة جنس، أنواعه: باب المياه، باب الآنية، باب الوضوء، باب الغسل، باب التيمم، باب الحيض وغيرها.
فكتاب الصيام هذا جنس؛ لأن ما سبقه في الصلاة والزكاة وهذا هو الصيام.
ورتب العلماء ـ رحمهم الله ـ الفقه في باب العبادات على حسب حديث جبريل ـ عليه السلام[(271)] ـ، وحديث عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ في بعض ألفاظه[(272)] فقدموا الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصيام، ثم الحج.
وقدمت الطهارة قبل الصلاة لأنها شرط، وهي مفتاح الصلاة فقدموها على الصلاة، وإلا لأدرجوها ضمن شروط الصلاة، أي: في أثناء كتاب الصلاة، لكن لما رأوا أنها مفتاحها، وأن الكلام عليها كثير قدموها على كتاب الصلاة.
الصيام في اللغة مصدر صام يصوم، ومعناه أمسك، ومنه قوله تعالى: {{فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَن صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا *}} [مريم] فقوله: {{صَوْمًا}} أي: إمساكاً عن الكلام، بدليل قوله: {{فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا}} أي: إذا رأيت أحداً فقولي: {{إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَن صَوْمًا}} يعني إمساكاً عن الكلام {{فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}}.
ومنه قولهم صامت عليه الأرض، إذا أمسكته وأخفته
وأما في الشرع فهو التعبد لله سبحانه وتعالى بالإمساك عن الأكل والشرب، وسائر المفطرات، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
ويجب التفطن لإلحاق كلمة التعبد في التعريف؛ لأن كثيراً من الفقهاء لا يذكرونها بل يقولون: الإمساك عن المفطرات من كذا إلى كذا، وفي الصلاة يقولون هي: أقوال وأفعال معلومة، ولكن ينبغي أن نزيد كلمة التعبد، حتى لا تكون مجرد حركات، أو مجرد إمساك، بل تكون عبادة
وحكمه: الوجوب بالنص والإجماع.
ومرتبته في الدين الإسلامي: أنه أحد أركانه، فهو ذو أهمية عظيمة في مرتبته في الدين الإسلامي.
وقد فرض الله الصيام في السنة الثانية إجماعاً، فصام النبي صلّى الله عليه وسلّم تسع رمضانات إجماعاً، وفرض أولاً على التخيير بين الصيام والإطعام؛ والحكمة من فرضه على التخيير التدرج في التشريع؛ ليكون أسهل في القبول؛ كما في تحريم الخمر، ثم تعين الصيام وصارت الفدية على من لا يستطيع الصوم إطلاقاً.
ثم اعلم أن حكمة الله ـ عزّ وجل ـ، أن الله نوع العبادات في التكليف؛ ليختبر المكلف كيف يكون امتثاله لهذه الأنواع، فهل يمتثل ويقبل ما يوافق طبعه، أو يمتثل ما به رضا الله عزّ وجل؟
فإذا تأملنا العبادات: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وجدنا أن بعضها بدني محض، وبعضها مالي محض، وبعضها مركب، حتى يتبين الشحيح من الجواد، فربما يهون على بعض الناس أن يصلي ألف ركعة، ولا يبذل درهماً، وربما يهون على بعض الناس أن يبذل ألف درهم ولا يصلي ركعة واحدة، فجاءت الشريعة بالتقسيم والتنويع حتى يعرف من يمتثل تعبداً لله، ومن يمتثل تبعاً لهواه.
فالصلاة مثلاً عبادة بدنية محضة، وما يجب لها مما يحتاج إلى المال، كماء الوضوء الذي يشتريه الإنسان، والثياب لستر العورة تابع، وليس داخلاً في صلب العبادة.
والزكاة مالية محضة، وما تحتاج إليه من عمل بدني كإحصاء المال وحسابه، ونقل الزكاة إلى الفقير والمستحق فهو تابع، وليس داخلاً في صلب العبادة.
والحج مركب من مال وبدن إلا في أهل مكة فقد لا يحتاجون إلى المال، لكن هذا شيء نادر، أو قليل بالنسبة لغير أهل مكة.
والجهاد في سبيل الله مركب من مال وبدن، ربما يستقل بالمال وربما يستقل بالبدن.
فالجهاد من حيث التركيب أعم العبادات؛ لأنه قد يكون بالمال فقط، وقد يكون بالبدن فقط، وقد يكون بهما.
والتكليف أيضاً ينقسم من وجه آخر، إلى: كف عن المحبوبات، وإلى بذل للمحبوبات، وهذا نوع من التكليف أيضاً.
كف عن المحبوبات مثل الصوم، وبذل للمحبوبات كالزكاة؛ لأن المال محبوب إلى النفس، فلا يبذل المال المحبوب إلى النفس إلا لشيء أحب منه.
وكذلك الكف عن المحبوبات، فربما يهون على المرء أن ينفق ألف درهم، ولا يصوم يوماً واحداً أو بالعكس، ومن ثم استحسن بعض العلماء استحساناً مبنياً على اجتهاد، لكنه سيء حيث أفتى بعض الأمراء أن يصوم شهرين متتابعين بدلاً عن عتق الرقبة في الجماع في نهار رمضان.
وقال: إن ردع هذا الأمير بصيام شهرين متتابعين، أبلغ من ردعه بإعتاق رقبة؛ لأنه ربما يعتق ألف رقبة ولا يهون عليه أن يصوم يوماً واحداً.
لكن هذا اجتهاد فاسد لأنه مقابل للنص، ولأن المقصود بالكفارات التهذيب والتأديب وليس تعذيب الإنسان، بل تطهيره بالإعتاق، فقد أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أن من أعتق عبداً فإن الله يعتق بكل عضو منه عضواً من النار» [(273)] فهو فكاك من النار، فيكون أفضل وأعظم، فالحاصل أنك إذا تأملت الشريعة الإسلامية والتكاليف الإلهية وجدتها في غاية الحكمة والمطابقة للمصالح.
يَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ بِرُؤْيَةِ هِلاَلِهِ، فَإِنْ لَمْ يُرَ مَعَ صَحْوِ لَيْلَةِ الثَّلاَثِينَ أَصْبَحُوا مُفْطِرِينَ، وَإِنْ حَالَ دُونَهُ غَيْمٌ، أوْ قَتَرٌ فَظَاهِرُ المَذْهَبِ يَجِبُ صَوْمَهُ .........
قوله: «يجب صوم رمضان برؤية هلاله» هذه الجملة لا يريد بها بيان وجوب الصوم؛ لأنه مما علم بالضرورة، ولكن يريد أن يبين متى يجب، فذكر أنه يجب بأحد أمرين:
الأول: رؤية هلاله: أي هلال رمضان
1 ـ لقوله تعالى: {{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}} [البقرة: 185] .
2 ـ وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتموه فصوموا» [(274)].
وعلم منه أنه لا يجب الصوم بمقتضى الحساب، فلو قرر علماء الحساب المتابعون لمنازل القمر أن الليلة من رمضان، ولكن لم ير الهلال، فإنه لا يصام؛ لأن الشرع علق هذا الحكم بأمر محسوس وهو الرؤية.
وقال بعض المتأخرين: إنه يجب العمل بالحساب إذا لم تمكن الرؤية، وبه فسر حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ وفيه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فإن غُمّ عليكم فاقدروا له» ، وقال: إنه مأخوذ من التقدير، وهو الحساب ولكن الصحيح أن معنى (اقدروا له) مفسر بكلام النبي صلّى الله عليه وسلّم وأن المراد به إكمال شعبان ثلاثين يوماً.
وقوله: «برؤية هلاله» يعم ما إذا رأيناه بالعين المجردة أو بالوسائل المقربة؛ لأن الكل رؤية .
الثاني: إتمام شعبان ثلاثين يوماً؛ لأن الشهر الهلالي لا يمكن أن يزيد عن ثلاثين يوماً، ولا يمكن أن ينقص عن تسعة وعشرين يوماً، وعلى المذهب يزيد أمر ثالث، وهو أن يحول دون منظره غيم أو قتر، وسيأتي البحث فيه.
قوله: «فإن لم ير مع صحو ليلة الثلاثين أصبحوا مفطرين» أي: من شعبان، فإن لم ير الهلال مع صحو السماء، بأن تكون خالية من الغيم، والقتر والدخان والضباب، ومن كل مانع يمنع الرؤية ليلة الثلاثين من شعبان أصبحوا مفطرين؛ حتى وإن كان هلَّ في الواقع، وفي هذه الحال لا يصومون إما على سبيل التحريم وإما على سبيل الكراهة؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه» [(275)].
قوله: «وإن حال دونه غيم، أو قتر فظاهر المذهب يجب صومه» أي: إن حال دون رؤية الهلال غيم، والغيم هو السحاب.
وقوله: «أو قتر» وهو التراب الذي يأتي مع الرياح، وكذلك غيرهما مما يمنع رؤيته.
وقوله: «فظاهر المذهب» هذا التعبير غريب من المؤلف لأنه ليس من عادته، ولأنه كتاب مختصر فلعله عبر به لقوة الخلاف.
وقوله: «المذهب» المراد به هنا المذهب الاصطلاحي لا الشخصي، وذلك لأن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ ليس عنه نص في وجوب صوم هذا اليوم خلافاً لما قاله الأصحاب.
وقوله: «يجب صومه» أي وجوباً ظنياً، احتياطياً.
فالوجوب هنا مبني على الاحتياط والظن، لا على اليقين والقطع؛ لأنه ربما يكون الهلال قد هَلَّ، لكن لم ير، وذلك لوجود الغيم أو القتر، أو غير ذلك ويحتمل أنه لم يظهر.
هذا هو المشهور من المذهب عند المتأخرين[(276)] حتى قال بعضهم: إن نصوص أحمد تدل على الوجوب، واستدلوا بما يلي:
1 ـ حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له» [(277)].
فقوله: (فاقدروا له) من القدر وهو الضيق وبهذا فسره الأصحاب فقالوا: اقدروا له: أي ضيقوا عليه، قالوا: ومنه قوله تعالى: {{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}} [الطلاق: 7] أي: من ضُيق عليه، قالوا: والتضييق أن يجعل شعبان تسعة وعشرين يوماً.
2 ـ أن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: «كان إذا كان ليلة الثلاثين من شعبان، وحال دونه غيم أو قتر أصبح صائماً» [(278)].
3 ـ أنه يحتمل أن يكون الهلال قد هَلَّ، ولكن منعه هذا الشيء الحاجب، فيصوم احتياطاً.
ويجاب عما استدلوا به:
أما حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ فيقال: إذا سلمنا ما قلتم فلماذا لا نقول القدر أن يجعل رمضان تسعة وعشرين فتجعل التضيق على رمضان لأنه لم يهل هلاله إلى الآن، فليس له حق في الوجود فيبقى مضيقاً عليه، ولكننا نقول: الصواب أن المراد بالقدر هنا ما فسرته الأحاديث الأخرى، وهو إكمال شعبان ثلاثين يوماً إن كان الهلال لرمضان وإكمال رمضان، ثلاثين يوماً إن كان الهلال لشوال.
أما الاحتياط:
فأولاً: إنما يكون فيما كان الأصل وجوبه، وأما إن كان الأصل عدمه، فلا احتياط في إيجابه.
ثانياً: ما كان سبيله الاحتياط، فقد ذكر الإمام أحمد وغيره أنه ليس بلازم، وإنما هو على سبيل الورع والاستحباب، وذلك لأننا إذا احتطنا وأوجبنا فإننا وقعنا في غير الاحتياط، من حيث تأثيم الناس بالترك، والاحتياط هو ألا يؤثم الناس إلا بدليل يكون حجة عند الله تعالى.
وأما أثر ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ، فلا دليل فيه أيضاً على الوجوب لأن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قد فعله على سبيل الاستحباب؛ لأنه لو كان على سبيل الوجوب لأمر الناس به، ولو أهله على الأقل.
القول الثاني: يحرم صومه[(279)] واستدل هؤلاء بما يأتي:
1 ـ قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه» [(280)] وإن لم يكن يصوم صوماً فصام هذا اليوم الذي فيه شك فقد تقدم رمضان بيوم.
2 ـ وبحديث عمار بن ياسر ـ رضي الله عنهما ـ الذي علقه البخاري، ووصله أصحاب السنن ـ: «من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم» [(281)] ولا شك أن هذا يوم يشك فيه؛ لوجود الغيم والقتر.
3 ـ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» [(282)] فقوله: «أكملوا العدة ثلاثين» أمر، والأصل في الأمر الوجوب، فإذا وجب إكمال شعبان ثلاثين يوماً حرم صوم يوم الشك.
4 ـ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «هلك المتنطعون» [(283)] فإن هذا من باب التنطع في العبادة، والاحتياط لها في غير محله.
القول الثالث: أن صومه مستحب، وليس بواجب.
واستدلوا: بفعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما[(284)].
القول الرابع: أن صومه مكروه، وليس بحرام[(285)] ولعله لتعارض الأدلة عندهم.
القول الخامس: أن صومه مباح، وليس بواجب، ولا مكروه، ولا محرم ولا مستحب[(286)] لتعارض الأدلة عندهم.
القول السادس: العمل بعادة غالبة فإذا مضى شهران كاملان فالثالث ناقص، وإذا مضى شهران ناقصان فالثالث كامل، فإذا كان شهر رجب وشعبان ناقصين، فرمضان كامل، وإذا كان رجب وجمادى الثانية ناقصين، فشعبان كامل[(287)].
القول السابع: أن الناس تبعٌ للإمام[(288)]، فإن صام الإمام صاموا، وإن أفطر أفطروا، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس» [(289)].
وأصح هذه الأقوال هو التحريم، ولكن إذا رأى الإمام وجوب صوم هذا اليوم، وأمر الناس بصومه، فإنه لا ينابذ، ويحصل عدم منابذته بألا يظهر الإنسان فطره، وإنما يفطر سراً.
والمسألة هنا لم يثبت فيها دخول الشهر، أما لو حكم ولي الأمر بدخول الشهر فالصوم واجب.
وَإِنْ رُئيَ نَهَاراً فَهْوَ للَّيْلَةِ المُقْبِلَةِ.
قوله: «وإن رئي نهاراً فهو لليلة المقبلة» الضمير يعود على الهلال، والمؤلف لم يرد الحكم بأنه لليلة المقبلة، ولكنه أراد أن ينفي قول من يقول: إنه لليلة الماضية، فإن بعض العلماء يقول: إذا رئي الهلال نهاراً قبل غروب الشمس من هذا اليوم فإنه لليلة الماضية، فيلزم الناس الإمساك.
وفصل بعض العلماء بين ما إذا رئي قبل الزوال أو بعده.
والصحيح أنه ليس لليلة الماضية، اللهم إلا إذا رئي بعيداً عن الشمس بينه وبين غروب الشمس مسافة طويلة، فهذا قد يقال: إنه لليلة الماضية، ولكنه لم ير فيه لسبب من الأسباب، لكن مع ذلك لا نتيقن هذا الأمر.
وقوله: «لليلة المقبلة» ليس على إطلاقه أيضاً؛ لأنه إن رئي تحت الشمس بأن يكون أقرب للمغرب من الشمس فليس لليلة المقبلة قطعاً؛ لأنه سابق للشمس، والهلال لا يكون هلالاً إلا إذا تأخر عن الشمس.
فمثلاً: إذا رئي قبل غروب الشمس بنصف ساعة، وغرب قبل غروبها بربع ساعة، فلا يكون للمقبلة قطعاً لأنه غاب قبل أن تغرب الشمس، وإذا غاب قبل أن تغرب الشمس فلا عبرة برؤيته؛ لأن العبرة برؤيته أن يُرى بعد غروب الشمس متخلفاً عنها.
وَإِذَا رَآهُ أَهْلُ بَلَدٍ لَزِمَ النَّاسَ كُلَّهُم الصَّوْمُ.
قوله: «وإذا رآه أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم» المراد بأهل البلد هنا من يثبت الهلال برؤيته، فهو عام أريد به خاص، فليس المراد به جميع أهل البلد، من كبير وصغير وذكر، وأنثى، فإذا ثبتت رؤيته في مكان لزم الناس كلهم الصوم في مشارق الأرض ومغاربها، ويدل على ذلك:
1 ـ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» [(290)]؛ والخطاب موجه لعموم الأمة.
2 ـ أن ذلك أقرب إلى اتحاد المسلمين، واجتماع كلمتهم، وعدم التفرق بينهم بحيث لا يكون هؤلاء مفطرين وهؤلاء صائمين، فإذا اجتمعوا وكان يوم صومهم ويوم فطرهم واحداً كان ذلك أفضل وأقوى للمسلمين في اتحادهم، واجتماع كلمتهم، وهذا أمر ينظر إليه الشرع نظر اعتبار.
وعلى ذلك إذا ثبتت رؤيته وقت المغرب في أمريكا وجب الصوم على الموجودين في الصين رغم تباعد مطالع الهلال.
القول الثاني: لا يجب إلا على من رآه، أو كان في حكمهم بأن توافقت مطالع الهلال، فإن لم تتفق فلا يجب الصوم.
قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: تختلف مطالع الهلال باتفاق أهل المعرفة بالفلك، فإن اتفقت لزم الصوم، وإلا فلا، واستدلوا بالنص والقياس.
أما النص فهو:
1 ـ قوله تعالى: {{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}} [البقرة: 185] ، والذين لا يوافقون من شاهده في المطالع لا يقال إنهم شاهدوه لا حقيقة؛ ولا حكماً، والله تعالى أوجب الصوم على من شاهده.
2 ـ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» [(291)] فعلل الأمر في الصوم بالرؤية، ومن يخالف من رآه في المطالع لا يقال إنه رآه لا حقيقة، ولا حكماً.
3 ـ حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وفيه أن أم الفضل بنت الحارث بعثت كريباً إلى معاوية بالشام فقدم المدينة من الشام في آخر الشهر فسأله ابن عباس عن الهلال فقال: رأيناه ليلة الجمعة فقال ابن عباس: لكننا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقال: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم[(292)].
وأما القياس فلأن التوقيت اليومي يختلف فيه المسلمون بالنص والإجماع، فإذا طلع الفجر في المشرق فلا يلزم أهل المغرب أن يمسكوا لقوله تعالى: {{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ}} [البقرة: 187] ، ولو غابت الشمس في المشرق، فليس لأهل المغرب الفطر.
فكما أنه يختلف المسلمون في الإفطار والإمساك اليومي، فيجب أن يختلفوا كذلك في الإمساك والإفطار الشهري، وهذا قياس جلي
وهذا القول هو القول الراجح، وهو الذي تدل عليه الأدلة.
ولهذا قال أهل العلم: إذا رآه أهل المشرق وجب على أهل المغرب المساوين لهم في الخط أن يصوموا؛ لأن المطالع متفقة، ولأن الهلال إذا كان متأخراً عن الشمس في المشرق فهو في المغرب من باب أولى؛ لأن سير القمر بطيء كما قال الله تعالى: {{وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا *}} [الشمس].
وإذا رآه أهل المغرب هل يجب الصيام على أهل المشرق؟ الجواب: لا؛ لأنه ربما في سير هذه المسافة تأخر القمر.
القول الثالث: أن الناس تبع للإمام فإذا صام صاموا، وإذا أفطر أفطروا، ولو كانت الخلافة عامة لجميع المسلمين فرآه الناس في بلد الخليفة، ثم حكم الخليفة بالثبوت لزم من تحت ولايته في مشارق الأرض أو مغاربها، أن يصوموا أو يفطروا لئلا تختلف الأمة وهي تحت ولاية واحدة، فيحصل التنازع والتفرق، هذا من جهة المعنى.
ومن جهة النص: فلقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الصوم يوم يصوم الناس والفطر يوم يفطر الناس» [(293)]، فالناس تبع للإمام، والإمام عليه أن يعمل ـ على القول الراجح ـ باختلاف المطالع.
وعمل الناس اليوم على هذا أنه إذا ثبت عند ولي الأمر لزم جميع من تحت ولايته أن يلتزموا بصوم أو فطر، وهذا من الناحية الاجتماعية قول قوي، حتى لو صححنا القول الثاني الذي نحكم فيه باختلاف المطالع فيجب على من رأى أن المسألة مبنية على المطالع، ألا يظهر خلافاً لما عليه الناس.
القول الرابع: أنه يلزم حكم الرؤية كل من أمكن وصول الخبر إليه في الليلة، وهذا في الحقيقة يشابه المذهب في الوقت الحاضر؛ لأنه يمكن أن يصل الخبر إلى جميع أقطار الدنيا في أقل من ليلة، لكن يختلف عن المذهب فيما إذا كانت وسائل الاتصالات مفقودة.
مسألة: الأقليات الإسلامية في الدول الكافرة، إن كان هناك رابطة، أو مكتب، أو مركز إسلامي؛ فإنها تعمل بقولهم، وإذا لم يكن كذلك، فإنها تخيَّر، والأحسن أن تتبع أقرب بلد إليها.
ويُصَامُ بِرُؤْيَةِ عَدْلٍ وَلَوْ أُنْثَى. فَإنْ صَامُوا بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ ثَلاثِينَ يَوْماً، فَلَمْ يُرَ الهِلاَلَ، أَوْ صَامُوا لأَجْلِ غَيْمٍ لَمْ يُفْطِرُوا.
قوله: «ويصام» مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى رمضان.
قوله: «برؤية عدل» وبعضهم يعبر بقوله: «برؤية ثقة» وهذا أعم.
والمراد بسبب رؤية العدل يثبت الشهر.
والدليل حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: «تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلّى الله عليه وسلّم أني رأيته فصامه وأمر الناس بصيامه» [(294)].
وكذلك حديث الأعرابي الذي أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه رأى الهلال فقال: أتشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. قال: نعم فقال لبلال: «قم يا بلال فأذن بالناس أن يصوموا غداً» [(295)]. فهذان الحديثان وإن كانا ضعيفين لكن أحدهما يسند الآخر. والصيام بشهادة واحد مقتضى القياس؛ لأن الناس يفطرون بأذان الواحد ويمسكون بأذان الواحد، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» [(296)].
والعدل في اللغة: هو المستقيم، وضده المعوج.
وفي الشرع: من قام بالواجبات، ولم يفعل كبيرة، ولم يصر على صغيرة.
والمراد بالقيام بالواجبات أداء الفرائض كالصلوات الخمس.
والمراد بالكبيرة كل ذنب رتب عليه عقوبة خاصة، كالحد والوعيد واللعن ونحو ذلك مثاله النميمة، وهي نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض لقصد الإفساد بينهم، كأن يذهب شخص لآخر فيقول له: فلان قال فيك كذا وكذا، مما يؤدي إلى العداوة والبغضاء بينهم، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يدخل الجنة قتات »[(297)] أي: نمام، وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: «مرّ النبي صلّى الله عليه وسلّم بقبرين، فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» [(298)] فإذا نم الإنسان مرة واحدة ولم يتب فليس بعدل.
ومن الكبائر أيضاً الغيبة وهي ذكرك أخاك بما يكره من عيب خلقي، أو خُلقي، أو ديني.
فالخلقي كأن تقول: إن هذا الرجل أعور، أو أنفه معوج، أو فمه واسع، وما أشبه ذلك.
والديني مثل أن تقول: هذا متهاون بالصلاة، وهذا لا يبر والديه، وما أشبه ذلك.
والخُلُقي كأن تقول: هذا أحمق، سريع الغضب، عصبي، وما أشبه ذلك إذا كان في غيبته أما إذا كان في حضوره، فإنه يسمى سبّاً وليس بغيبة، والفقهاء يزيدون على ذلك في وصف العدل ألا يخالف المروءة، فإن خالف المروءة فإنه ليس بعدل، ومثلوا لذلك بمن يأكل في السوق، وبمن يتمسخر بالناس أي: يقلد أصواتهم أو حركاتهم وما أشبه ذلك.
وقياس كلام أحمد في قوله: إن من ترك الوتر فهو رجل سوء لا ينبغي أن تقبل له شهادة، أن من ترك عبادة مؤكدة أنه تسقط عدالته.
ولكن ينبغي أن يقال: إن الشهادة في الأموال ليست كالشهادة في الأخبار الدينية، ففي الأموال يجب أن نشدد، لا سيما في هذا العصر لكثرة من يشهدون زوراً، لكن في الشهادة الدينية يبعد أن يكذب الإنسان فيها، إلا أن يكون هناك مغريات توجب أن يكذب.
مثل ما يقال في بعض الدول إذا شهد شخص بدخول رمضان أعطوه مكافأة، أو بشهادة شوال أخذ مكافأة هذه الأشياء ربما تغري ضعيف الإيمان فيشهد بما لا يرى.
ولو قلنا بقول الفقهاء لم نجد عدلاً؛ فمن يسلم من الغيبة، والسخرية بالناس، والتهاون بالواجبات، وأكل المحرم، وغير ذلك؛ ولهذا كان الصحيح بالنسبة للشهادة أنه يقبل منها ما يترجح أنه حق وصدق؛ لقوله تعالى: {{مِمَنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}} [البقرة: 282] ؛ ولأن الله لم يأمرنا برد شهادة الفاسق بل أمرنا بالتبين فقال تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}} [الحجرات: 6] .
ويشترط مع العدالة أن يكون قوي البصر بحيث يحتمل صدقه فيما ادعاه، فإن كان ضعيف البصر لم تقبل شهادته، وإن كان عدلاً؛ لأنه إذا كان ضعيف البصر وهو عدل، فإننا نعلم أنه متوهم.
والدليل على ذلك أن القوة والأمانة شرطان أساسيان في العمل، ففي قصة موسى مع صاحب مدين قالت إحدى ابنتيه: {{يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}} [القصص: 26] وقال العفريت من الجن الذي التزم أن يأتي بعرش ملكة سبأ {{وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}} [النمل: 39] ومن ذلك الشهادة لا بد فيها من الأمانة التي تقتضيها العدالة، ولا بد فيها من القوة التي يحصل بها إدراك المشهود به ففات المؤلف هنا أن يقول: قوي البصر، لكن لو أراد شخص أن يعتذر عن المؤلف، فيقول: إن العدل إذا كان ضعيف البصر فلا يمكن أن يشهد بما لا يرى.
فنقول: هذا ليس بعذر؛ لأن العدل إذا توهم أنه رأى الهلال فسوف يصر على أنه رآه؛ لما عنده من الدين الذي يرى أنه من الواجب عليه أن يبلغ ليصوم الناس أو يفطروا، لذلك فلا بد من إضافة قوي البصر.
مسائل:
الأولى: لو تراءى عدل الهلال مع جماعة كثيرين، وهو قوي البصر ولم يره غيره فهل يصام برؤيته؟
الجواب: نعم يصام، وهذا هو المشهور من مذهبنا وعليه أكثر أهل العلم، وقال بعض العلماء: إنه إذا لم يره غيره مع كثرة الجمع فإنه لا يعتبر قوله؛ لأنه يبعد أنه ينفرد بالرؤية دونهم.
والصحيح الأول لعدالته وثقته.
الثانية: من رأى الهلال وهو ممن يفعل الكبيرة، كشرب الخمر يلزمه أن يخبر أنه رأى الهلال، ولا يخبر أنه يفعل كبيرة؛ لأن الأحكام تتبعّض.
الثالثة: على المذهب لا تقبل شهادة مستور الحال؛ للجهل بعدالته.
وعندي أن القاضي إذا وثق بقوله فلا يحتاج للبحث عن عدالته.
قوله: «ولو أنثى» «لو» غالباً تأتي إشارة للخلاف، والمسألة هنا كذلك فإن بعض العلماء قال: إن الأنثى لا تقبل شهادتها لا في رمضان، ولا في غيره من الشهور؛ لأن الذي رأى الهلال في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل[(299)]؛ ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا» [(300)] والمرأة شاهدة وليست شاهداً.
لكن الأصحاب يقولون: إن هذا خبر ديني يستوي فيه الذكور والإناث، كما استوى الذكور والإناث في الرواية، والرواية خبر ديني؛ ولهذا لم يشترطوا لرؤية هلال رمضان ثبوت ذلك عند الحاكم، ولا لفظ الشهادة، بل قالوا لو سمع شخصاً ثقة يحدث الناس في مجلسه بأنه رأى الهلال فإنه يلزمه أن يصوم بخبره.
قوله: «فإن صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوماً، فلم ير الهلال أو صاموا لأجل غيم لم يفطروا» «إن صاموا» أي: الناس «بشهادة واحد» أي: في دخول شهر رمضان ولم يروا هلال شوال، فإنهم لا يفطرون فيصومون واحداً وثلاثين يوماً؛ لأنه لا يثبت خروج الشهر إلا بشهادة رجلين، وهنا الصوم مبني على شهادة رجل فهو مبني على سبب لا يثبت به خروج الشهر، فلو أفطروا لكانوا قد بنوا على شهادة واحد وهذا لا يكون في الفطر، هذا هو المشهور من المذهب[(301)].
وقال بعض أهل العلم: بل إذا صاموا ثلاثين يوماً بشهادة واحد لزمهم الفطر؛ لأن الفطر تابع للصوم ومبني عليه، والصوم ثبت بدليل شرعي وقد صاموا ثلاثين يوماً، ولا يمكن أن يزيد الشهر على ثلاثين يوماً، أو يقال يلزمهم الفطر تبعاً للصوم؛ لأنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً وهذا القول هو الصحيح.
وقوله: «أو صاموا لأجل غيم لم يفطروا» إذا صاموا لأجل غيم، فإنهم لا يفطرون؛ لأن صيامهم في أول الشهر ليس مبنياً على بينة، وإنما هو احتياط.
وعلى القول الصحيح لا ترد هذه المسألة؛ لأنه لن يصام لأجل غيم، فهذه المسألة إنما ترد على قول من يلزمهم بالصيام لأجل الغيم.
تنبيه: كل الأشياء المعلقة بدخول شهر رمضان لا تحل في ليلة الثلاثين من شعبان إذا كان غيم أو قتر، وإنما يجب الصوم فقط لأن الشهر لم يثبت دخوله شرعاً، وإنما صمنا احتياطاً، مثال ذلك، لو قال رجل لزوجته: إذا دخل رمضان فأنت طالق، فإنه لا يقع الطلاق بتلك الليلة، وكذا الديون المؤجلة إلى دخول شهر رمضان فإنها لا تحل بتلك الليلة، وكذا المعتدة بالأشهر إذا كانت عدتها تنتهي بتمام شعبان فإنها لا تنتهي بتلك الليلة.
مسألة: لو صام برؤية بلد، ثم سافر لبلد آخر قد صاموا بعدهم بيوم، وأتم هو ثلاثين يوماً ولم ير الهلال في تلك البلد التي سافر إليها، فهل يفطر، أو يصوم معهم؟
الصحيح أنه يصوم معهم، ولو صام واحداً وثلاثين يوماً، وربما يقاس ذلك على ما لو سافر إلى بلد يتأخر غروب الشمس فيه، فإنه يفطر حسب غروب الشمس في تلك البلد التي سافر إليها.
وقيل: ـ وهو المذهب ـ إنه يفطر سراً؛ لأنه إذا رؤي في بلد لزم الناس كلهم حكم الصوم والفطر.
وَمَنْ رَأَى وَحْدَهُ هِلاَلَ رَمَضَانَ، وَرُدَّ قَولُهُ، أوْ رَأى هِلاَلَ شَوَّالٍ صَام ..........
قوله: «ومن رأى وحده هلال رمضان، ورد قوله، أو رأى هلال شوال صام» «وحده» أي: منفرداً عن الناس، سواء كان منفرداً بمكان أو منفرداً برؤية.
مثال ما إذا كان منفرداً بمكان، إذا كان الإنسان في برية ليس معه أحد فرأى الهلال، وذهب إلى القاضي فرد قوله إما لجهالته بحاله، أو لأي سبب من الأسباب.
ومثال الانفراد بالرؤية، أن يجتمع معه الناس لرؤية الهلال فيراه هو، ولا يراه غيره لكن رد قوله فيلزمه الصوم؛ لقوله تعالى: {{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}} [البقرة: 185] ولقول النبي صلّى الله عليه وسلّم «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» [(302)] وهذا الرجل رآه فوجب عليه الصوم، وكل ما يترتب على دخول الشهر؛ لأنه رآه.
وقال بعض العلماء: لو رأى هلال رمضان وحده لم يلزمه الصوم؛ لأن الهلال ما هلَّ واشتهر لا ما رئي.
وقوله: «أو رأى هلال شوال صام» أي: وجوباً ففرق المؤلف بين من انفرد برؤية هلال رمضان، ورد قوله بأنه يصوم مع مفارقته الجماعة، وبين من انفرد برؤية هلال شوال فإنه يصوم ولا يفطر برؤيته؛ ووجه ذلك أن هلال شوال لا يثبت شرعاً إلا بشاهدين، وهنا لم يشهد به إلا واحد، فلا يكون داخلاً شرعاً فيلزمه الصوم مع أنه رآه.
وأما هلال رمضان فيثبت بشهادة واحد وقد شهد به فلزمه الصوم.
وقال بعض العلماء: بل يجب عليه الفطر سراً لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» وهذا الرجل قد رآه فيلزمه الفطر، ولكن يكون سراً؛ لئلا يظهر مخالفة الجماعة.
واختار شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في هاتين المسألتين أنه يتبع الناس؛ فلو رأى وحده هلال رمضان لم يصم؛ ولو رأى هلال شوال وحده لم يفطر؛ لأن الهلال ما هَلَّ واستهل، واشتهر، لا ما رئي.
والذي يظهر لي في مسألة الصوم في أول الشهر ما ذكره المؤلف أنه يصوم، وأما في مسألة الفطر فإنه لا يفطر تبعاً للجماعة، وهذا من باب الاحتياط، فنكون قد احتطنا في الصوم والفطر، ففي الصوم قلنا له: صم، وفي الفطر قلنا له: لا تفطر بل صم.
مسألة: تبين مما سبق أن دخول رمضان يثبت بشهادة واحد، ودليل ذلك حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: «تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلّى الله عليه وسلّم أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه» [(303)].
وهلال شوال وغيره من الشهور لا يثبت إلا بشاهدين لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا» [(304)] ومثله دخول شهر ذي الحجة لا يثبت إلا بشاهدين، فلو رآه شخص وحده لم يثبت دخول الشهر بشهادته؛ وعلى هذا فإذا وقف رجل بعرفة في اليوم التاسع عنده الذي هو الثامن عند الناس فإن ذلك لا يجزئه. وإن أراد أن يصوم اليوم التاسع عنده الذي هو عند الناس الثامن بنية أنه يوم عرفة، فإن ذلك لا يجزئه عن صوم يوم عرفة، ولو صام اليوم التاسع عند الناس الذي هو العاشر عنده، هل يجوز أن يصومه؟
الجواب: نعم يجوز أن يصومه؛ لأنه وإن كان عنده حسب رؤيته العاشر فإنه عند الناس التاسع، فلم يثبت شرعاً دخول شهر ذي الحجة بشهادة هذا الرجل، وعلى هذا فإذا وقف في العاشر عنده، وهو التاسع عند الناس أجزأه الوقوف.
وقول المؤلف هنا: «ومن رأى وحده هلال رمضان، ورد قوله» ولم يقل في هلال شوال ورد قوله؟ لأن هلال شوال لا يثبت برؤية واحد مطلقاً حتى لو قبل وصدق، بخلاف هلال رمضان.
وَيَلْزَمُ الصَّوْمُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ قَادِرٍ. .........
قوله: «ويلزم الصوم لكل مسلم مكلف قادر» هذا شروع في بيان شروط من يلزمه الصوم قوله (لكل مسلم) اللام زائدة، أي: يلزم كل مسلم.
هذا هو الشرط الأول، والإسلام ضده الكفر، فالكافر لا يلزمه الصوم، ولا يصح منه.
ومعنى قولنا لا يلزمه أننا لا نلزمه به حال كفره، ولا بقضائه بعد إسلامه، والدليل على ذلك قوله تعالى: {{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ *}} [التوبة] .
فإذا كانت النفقات ونفعها متعد لا تقبل منهم لكفرهم، فالعبادات الخاصة من باب أولى.
وكونه لا يقضي إذا أسلم؛ دليله قوله تعالى: {{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}} [الأنفال: 38] ، وثبت عن طريق التواتر عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه كان لا يأمر من أسلم بقضاء ما فاته من الواجبات.
ولكن هل يعاقب على تركها في الآخرة إذا لم يسلم؟
الجواب: نعم، يعاقب على تركها في الآخرة، وعلى ترك جميع واجبات الدين؛ لأنه إذا كان المسلم المطيع لله الملتزم بشرعه قد يعاقب عليها، فالمستكبر من باب أولى، وإذا كان الكافر يعذب على ما يتمتع به من نعم الله من طعام وشراب ولباس، ففعل المحرمات وترك الواجبات من باب أولى.
والدليل ما ذكره الله تعالى عن أصحاب اليمين أنهم يقولون للمجرمين: {{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ *قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ *وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ *وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ *وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ *}} [المدثر] . فذكروا أربعة أسباب منها ترك واجبات
فإن قال قائل: تكذيبهم بيوم الدين كفر وهو الذي أدخلهم سقر؟
فالجواب: أنهم ذكروا أربعة أسباب ولولا أن لهذه المذكورات، مع تكذيبهم بيوم الدين أثراً في إدخالهم النار، لم يكن في ذكرها فائدة، ولو أنهم لم يعاقبوا عليها ما جرت على بالهم.
فالسبب الأول: {{لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}}الصلاة.
والثاني: {{وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ *}} الزكاة.
والثالث: {{وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ *}} مثل الاستهزاء بآيات الله.
والرابع: {{وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ *}}.
وقوله: «مكلف» هذا هو الشرط الثاني، وإذا رأيت كلمة مكلف في كلام الفقهاء فالمراد بها البالغ العاقل؛ لأنه لا تكليف مع الصغر ولا تكليف مع الجنون.
والبلوغ يحصل بواحد من ثلاثة بالنسبة للذكر: إتمام خمس عشرة سنة وإنبات العانة، وإنزال المني بشهوة، وللأنثى بأربعة أشياء هذه الثلاثة السابقة ورابع، وهو الحيض، فإذا حاضت فقد بلغت حتى ولو كانت في سن العاشرة.
والعاقل ضده المجنون، أي: فاقد العقل، من مجنون ومعتوه ومهزرٍ؛ فكل من ليس له عقل بأي وصف من الأوصاف فإنه ليس بمكلف، وليس عليه واجب من واجبات الدين لا صلاة ولا صيام ولا إطعام بدل صيام، أي: لا يجب عليه شيء إطلاقاً، إلا ما استثني كالواجبات المالية، وعليه فالمهذري أي: المخرف لا يجب عليه صوم، ولا إطعام بدله لفقد الأهلية وهي العقل.
وهل مثل المهذري من أضل عقله بحادث؟
فالجواب أنه إن كان كالمغمى عليه فإنه يلزمه الصوم؛ لأن المغمى عليه يلزمه الصوم فيقضيه بعد صحوه، وإن وصل به فقد العقل إلى الجنون، ومعه شعوره فله حكم المجنون، وكذلك من كان يجن أحياناً، ففي اليوم الذي يجن فيه لا يلزمه الصوم، وفي اليوم الذي يكون معه عقله يلزمه.
ودليل ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم «رفع القلم عن ثلاثة النائم حتى يستيقظ وعن الصغير حت يبلغ وعن المجنون حتى يفيق» [(305)].
وقوله: «قادر» هذا هو الشرط الثالث، أي: قادر على الصيام احترازاً من العاجز، فالعاجز ليس عليه صوم لقول الله تعالى: {{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}} [البقرة: 184] .
لكن بالتتبع والاستقراء تبين أن العجز ينقسم إلى قسمين: قسم طارئ، وقسم دائم.
فالقسم الطارئ هو الذي يرجى زواله، وهو المذكور في الآية فينتظر العاجز حتى يزول عجزه ثم يقضي لقوله تعالى: {{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}}.
والدائم هو الذي لا يرجى زواله وهو المذكور في قوله تعالى: {{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}} [البقرة: 184] حيث فسرها ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بالشيخ والشيخة إذا كانا لا يطيقان الصوم فيطعمان عن كل يوم مسكيناً[(306)]، والحقيقة أنه بالنظر إلى ظاهر الآية ليس فيها دلالة على ما فسره ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ؛ لأن الآية في الذين يطيقون الصوم {{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}} [البقرة: 184] وهذا واضح أنهم قادرون على الصوم، وهم مخيرون بين الصوم والفدية، وهذا أول ما نزل وجوب الصوم كان الناس مخيرين إن شاؤوا صاموا، وإن شاؤوا أفطروا وأطعموا، وهذا ما ثبت في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع ـ رضي الله عنه ـ قال: «لما نزلت هذه الآية: {{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}} كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها»[(307)].
لكن غور فقه ابن عباس وعلمه بالتأويل يدل على عمق فقهه ـ رضي الله عنه ـ؛ لأن وجه الدلالة من الآية أن الله تعالى جعل الفدية عديلاً للصوم لمن قدر على الصوم، إن شاء صام وإن شاء أطعم، ثم نسخ التخيير إلى وجوب الصوم عينا، فإذا لم يقدر عليه بقي عديله وهو الفدية، فصار العاجز عجزاً لا يرجى زواله، يجب عليه الإطعام عن كل يوم مسكيناً.
أما كيفية الإطعام، فله كيفيتان:
الأولى: أن يصنع طعاماً فيدعو إليه المساكين بحسب الأيام التي عليه، كما كان أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ يفعله لما كبر.
الثانية: أن يطعمهم طعاماً غير مطبوخ، قالوا: يطعمهم مد برٍ أو نصف صاع من غيره، أي: من غير البر، ومد البر هو ربع الصاع النبوي، فالصاع النبوي أربعة أمداد، والصاع النبوي أربعة أخماس صاعنا، وعلى هذا يكون صاعنا خمسة أمداد، فيجزئ من البر عن خمسة أيام خمسة مساكين، لكن ينبغي في هذه الحال أن يجعل معه ما يؤدمه من لحم أو نحوه، حتى يتم قوله تعالى: {{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}}.
وأما وقت الإطعام فهو بالخيار إن شاء فدى عن كل يوم بيومه، وإن شاء أخر إلى آخر يوم لفعل أنس رضي الله عنه.
وهل يقدم الإطعام قبل ذلك؟
الجواب لا يقدم؛ لأن تقديم الفدية كتقديم الصوم، فهل يجزئ أن تقدم الصوم في شعبان؟
الجواب: لا يجزئ.
الشرط الرابع: أن يكون مقيماً، ولم يذكره المؤلف ـ رحمه الله ـ اعتماداً على ما سيذكره في حكم الصوم في السفر، فإن كان مسافراً فلا يجب عليه الصوم؛ لقوله تعالى: {{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}} [البقرة: 185] وقد أجمع العلماء أنه يجوز للمسافر الفطر، واختلفوا فيما لو صام، فذهبت الظاهرية وبعض أهل القياس إلى أنه لا يصح صوم مسافر، وأنه لو صام فقد قدم الصوم على وقته وكان كمن صام رمضان في شعبان.
وحجتهم في هذا قوله تعالى: {{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}} [البقرة: 185] لأن «عدة» مبتدأ خبرها محذوف والتقدير فعليه عدة من أيام أخر، والأخر بمعنى المغايرة وقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «ليس من البر الصوم في السفر» [(308)] وإذا لم يكن براً صار إثماً.
ولكن قولهم ضعيف، فلقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صام في سفره في رمضان، وثبت أن الصحابة كانوا يصومون في سفرهم في رمضان فلا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم[(309)]، وكذلك حديث حمزة بن عمرو الأسلمي ـ رضي الله عنه ـ أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إنه يصادفني هذا الشهر وأنا في سفر فقال له: «إن شئت فصم وإن شئت فأفطر» [(310)]، وحيئذ يكون المراد بالآية بيان البدل أن عليه عدة من أيام أخر، لا وجوب أن تكون عدة من أيام أخر.
وعليه فإن المسافر لا يلزمه الصوم، لكن يلزمه القضاء كالمريض.
وأيهما أفضل للمريض والمسافر أن يصوما، أو يفطرا؟
نقول: الأفضل أن يفعلا الأيسر، فإن كان في الصوم ضرر كان الصوم حراماً لقوله تعالى {{وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}} [النساء: 29] فإن هذه الآية تدل على أن ما كان ضرراً على الإنسان كان منهياً عنه.
فإذا قال قائل: هذا في القتل فقط لا في مطلق الضرر؟
فالجواب: نعم هذا ظاهر الآية، لكن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ استدل بها على نفي الضرر فأقره النبي صلّى الله عليه وسلّم على ذلك، وذلك أنه بعثه مع سرية فأجنب فتيمم ولم يغتسل، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أصليت بأصحابك وأنت جنب؟» فقال: يا رسول الله ذكرت قول الله تعالى {{وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}}، وكانت الليلة باردة فتيممت، فضحك الرسول صلّى الله عليه وسلّم[(311)] تقريراً لفعله، وهذا يدل على أن الآية تتضمن النهي عن قتل النفس، وكل ما كان فيه ضرر.
وعليه فنقول: إذا كان الصوم يضر المريض كان الصوم حراماً عليه.
فإذا قال قائل: ما مقياس الضرر؟
قلنا: إن الضرر يعلم بالحس، وقد يعلم بالخبر؛ أما بالحس فأن يشعر المريض بنفسه أن الصوم يضره، ويثير عليه الأوجاع، ويوجب تأخر البرء، وما أشبه ذلك.
وأما الخبر فأن يخبره طبيب عالم ثقة بذلك، أي: بأنه يضره؛ فإن أخبره عامي ليس بطبيب فلا يأخذ بقوله، وإن أخبره طبيب غير عالم، ولكنه متطبب، فلا يأخذ بقوله، وإن أخبره طبيب غير ثقة فلا يأخذ بقوله.
وهل يشترط أن يكون مسلماً لكي نثق به؛ لأن غير المسلم لا يوثق؟
فيه قولان لأهل العلم، والصحيح أنه لا يشترط، وأننا متى وثقنا بقوله عملنا بقوله في إسقاط الصيام؛ لأن هذه الأشياء صنعته، وقد يحافظ الكافر على صنعته وسمعته، فلا يقول إلا ما كان حقاً في اعتقاده، والنبي صلّى الله عليه وسلّم وثق بكافر في أعظم الحالات خطراً، وذلك حين هاجر من مكة إلى المدينة استأجر رجلاً مشركاً من بني الدَيَّل، يقال له: عبد الله بن أريقط؛ ليدله على الطريق[(312)] وهذه المسألة خطرة؛ لأن قريشاً كانت تبحث عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وجعلت مائة ناقة لمن يدل عليه، ولكن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان واثقاً منه، فدل هذا على أن المشرك إذا وثقنا منه فإننا نأخذ بقوله.
مسألة: هل الأولى للمسافر أن يصوم أو الأولى ألا يصوم؟
فالجواب أما مذهب الحنابلة[(313)] فالأولى ألا يصوم؛ بل كرهوا الصوم للمسافر وقال الشافعية: الأولى أن يصوم، وقال آخرون: إنه على التخيير، لا نفضل الفطر ولا الصوم.
والصحيح التفصيل في هذا، وهو أنه إذا كان الفطر والصيام سواء، فالصيام أولى لوجوه أربعة:
الأول: أن ذلك فعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم كما في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في يوم شديد الحر حتى إن أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم، إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعبد الله بن رواحة [(314)].
الثاني: أنه أسرع في إبراء الذمة.
الثالث: أنه أيسر على المكلف وما كان أيسر فهو أولى.
الرابع: أنه يصادف صيامه رمضان، ورمضان أفضل من غيره وعلى هذا نقول الأفضل الصوم.
وإذا كان يشق عليه الصيام فالفطر أولى، والدليل على هذا: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان صائماً في السفر، ولم يفطر إلا حين قيل له إن الناس قد شق عليهم الصيام، وينتظرون ما ستفعل، ولم يفطروا ـ يريدون التأسي بالرسول صلّى الله عليه وسلّم ـ فدعا الرسول صلّى الله عليه وسلّم بقدح من الماء بعد العصر ورفعه على فخذه حتى رآه الناس، فشرب، والناس ينظرون إليه ليقتدوا به، فجيء إليه وقيل: إن بعض الناس قد صام، فقال عليه الصلاة والسلام: «أولئك العصاة أولئك العصاة» [(315)]، لأنهم صاموا مع المشقة، ولأنهم خالفوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث أفطر وبقوا هم صياماً.
وإن كانت المشقة شديدة يخشى منها الضرر فالصوم حرام لقوله تعالى: {{وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}}.
وأما قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «ليس من البر الصوم في السفر» [(316)] الذي استدل به الحنابلة، فهذا خاص بالرجل الذي رآه النبي صلّى الله عليه وسلّم قد ظلل عليه والناس حوله، فقال صلّى الله عليه وسلّم: ما هذا؟ فقالوا: هذا صائم، فقال: «ليس من البر الصوم في السفر».
فإن قيل: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؟
فنقول: الخصوصية نوعان:
خصوصية شخصية، وخصوصية نوعية.
فالخصوصية الشخصية: أن يقال: إن هذا الحكم خاص بهذا الرجل لا يتعداه إلى غيره وهذا يحتاج إلى دليل خاص، وهذا هو الذي تقول فيه: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فآية اللعان وردت في قصة رجل معين، وآية الظهار كذلك، فالعبرة بالعموم فكل أحد يثبت له هذا الحكم.
والخصوصية النوعية: وإن شئت فقل الخصوصية الحالية، أي: التي لا يثبت بها العموم إلا لمن كان مثل هذا الشخص، أي مثل حاله، فيقال: ليس من البر الصوم في السفر لمن شق عليه، كهذا الرجل، ولا يعم كل إنسان صام.
الشرط الخامس: الخلو من الموانع، وهذا خاص بالنساء، فالحائض لا يلزمها الصوم، والنفساء لا يلزمها الصوم؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم مقرراً ذلك: «أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم» [(317)] فلا يلزمها إجماعاً ولا يصح منها إجماعاً، ويلزمها قضاؤه إجماعاً، فهذه ثلاثة إجماعات، والنفساء كالحائض في هذا.
وإذا قَامَتْ البَيِّنَةُ في أثْنَاءِ النَّهارِ وَجَبَ الإِمْسَاكُ والقَضَاءُ عَلى كلِّ مَن صَارَ في أثْنائِهِ أهلاً لِوُجوبِهِ .........
قوله: «وإذا قامت البينة في أثناء النهار وجب الإمساك والقضاء على كل من صار في أثنائه أهلاً لوجوبه» قوله: البينة أي: بينة دخول الشهر، إما بالشهادة وإما بإكمال شعبان ثلاثين يوماً. وقوله «وجب الإمساك» يعني الإمساك عن المفطرات.
ودليل ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين أمر الناس بصيام عاشوراء في أثناء اليوم أمسكوا في حينه[(318)]؛ ولأنه ثبت أن هذا اليوم من رمضان فوجب إمساكه.
وقوله «والقضاء» أي يلزم قضاء ذلك اليوم الذي قامت البينة في أثنائه أنه من رمضان، ووجه ذلك أن من شرط صحة صيام الفرض أن تستوعب النية جميع النهار، فتكون من قبل الفجر والنية هنا كانت من أثناء النهار فلم يصوموا يوماً كاملاً، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» [(319)].
ووجوب القضاء في هذه المسألة ـ أي: ما إذا قامت البينة أثناء النهار ـ هو قول عامة العلماء، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: يلزمهم الإمساك ولا يلزمهم القضاء ووجه ذلك أن أكلهم وشربهم قبل قيام البينة كان مباحاً، قد أحله الله لهم فلم ينتهكوا حرمة الشهر، بل كانوا جاهلين بنوا على أصل وهو بقاء شعبان فيدخلون في عموم قوله تعالى: {{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا}} فهم كمن أكل ظاناً بقاء الليل فتبين أن الفجر قد طلع، أو أكل ظاناً غروب الشمس فتبين أنها لم تغرب وقد ثبت في صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: أفطرنا في يوم غيم على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم طلعت الشمس [(320)]، ولم ينقل أنهم أمروا بالقضاء.
وأجاب ـ رحمه الله ـ عن كونهم لم ينووا قبل الفجر بأن النية تتبع العلم ولا علم لهم بدخول الشهر، وما ليس لهم به علم فليس بوسعهم، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولهذا لو أخروا النية بعد علمهم بدخول الشهر لم يصح صومهم.
وتعليله وجوابه ـ رحمه الله ـ قوي ولكن لا تطيب النفس بقوله، وقياسه على من أكل يظن بقاء الليل أو غروب الشمس، فيه نظر؛ لأن هذا كان عنده نية للصوم لكن أكل يظن الليل باقياً أو يظنه داخلاً، ولهذا كان الخلاف في المسألتين أشهر من الخلاف في المسألة الأولى.
وقوله «على كل من صار في أثنائه أهلاً لوجوبه» أي: بأن كان مسلماً بالغاً عاقلاً.
وهذه المسألة لها ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون من أهل الوجوب من قبل الفجر فيلزمه الإمساك بمجرد قيام البينة في أثناء النهار.
الثانية: أن يصير من أهل الوجوب في أثناء النهار قبل قيام البينة مثل أن يسلم أو يبلغ أو يفيق في الضحى، ثم تقوم البينة بعد الظهر فحكمها كالأولى.
الثالثة: أن يصير من أهل الوجوب بعد قيام البينة مثل أن تقوم البينة في الضحى، ويسلم أو يبلغ أو يفيق بعد الظهر، فلا يلزمه الإمساك بمجرد قيام البينة، بل حتى يصير من أهل الوجوب.
(تتمة) أفادنا المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ أن من قام به سبب الوجوب أثناء نهار رمضان مثل أن يسلم الكافر أو يبلغ الصغير أو يفيق المجنون فإنه يلزمهم الإمساك والقضاء، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد وهو قول أبي حنيفة وسبق دليله وتعليله.
القول الثاني: لا يلزمهم إمساك ولا قضاء وهو الرواية الثانية عن أحمد.
والقول الثالث: يلزمهم الإمساك دون القضاء وذكر رواية عن أحمد واختيار الشيخ تقي الدين (شيخ الإسلام ابن تيمية) وهو مذهب مالك وهو الراجح؛ لأنهم لا يلزمهم الإمساك في أول النهار لعدم شرط التكليف وقد أتوا بما أمروا به حين أمسكوا عند وجود شرط التكليف، ومن أتى بما أمر به لم يكلف الإعادة.
وَكَذا حَائِضٌ وَنَفْسَاءُ طَهرَتَا وَمُسافِرٌ قَدِمَ مُفْطِراً وَمَنْ أَفْطَرَ لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ أَطْعَمَ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِيناً.
قوله: «وكذا حائض ونفساء طهرتا ومسافر قدم مفطراً» أي: ومثل الذي كان أهلاً للوجوب في أثناء النهار من حيث وجوب الإمساك والقضاء، حائض ونفساء طهرتا ومسافر قدم مفطراً، فهذه ثلاثة مسائل وثمت مسألة رابعة وهي مريض برئ ويعبر عن هذه المسائل بما إذا زال مانع الوجوب في أثناء النهار، فهل يجب الإمساك والقضاء؟
والجواب أما القضاء فلا شك في وجوبه لأنهم أفطروا من رمضان فلزمهم قضاء ما أفطروا لقوله تعالى: {{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}} [البقرة: 185] وقوله عائشة رضي الله عنها: «كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة» [(321)] تعني الحيّض.
وأما الإمساك فكلام المؤلف ـ رحمه الله ـ يدل على وجوبه وهو المذهب؛ لأنهم إنما أفطروا لمانع وقد زال والحكم يزول بزوال علته، وعن أحمد رواية أخرى لا يلزمهم الإمساك؛ لأنهم يجوز لهم الفطر في أول النهار ظاهراً وباطناً، فقد حل لهم في أول النهار الأكل والشرب وسائر ما يمكن من المفطرات، ولا يستفيدون من هذا الإمساك شيئاً، وحرمة الزمن قد زالت بفطرهم المباح لهم أول النهار، وقد روي عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: «من أكل أول النهار فليأكل آخره» [(322)] يعني أن من حل له الأكل في أول النهار حلَّ له الأكل في آخره، وهذا القول هو الراجح وعلى هذا لو قدم المسافر إلى بلده مفطراً ووجد زوجته قد طهرت أثناء ذلك اليوم من الحيض وتطهرت جاز له جماعها.
وإذا أفطر لإنقاذ غريق فأنقذه لم يلزمه الإمساك آخر النهار.
وإذا أفطرت مرضع خوفاً على ولدها ثم مات في أثناء اليوم لم يلزمها إمساك بقيته.
والقاعدة على هذا القول الراجح أن من أفطر في رمضان لعذر يبيح الفطر، ثم زال ذلك العذر أثناء النهار لم يلزمه الإمساك بقية اليوم.
قوله: «ومن أفطر لكبر أو مرض لا يرجى برؤه أطعم لكل يوم مسكيناً» قوله «من أفطر لكبر» اللام هنا للتعليل أي: بسبب الكبر، فإن الإنسان إذا كبر فإنه يشق عليه الصوم، والكبر لا يرجى برؤه؛ لأن الرجوع إلى الشباب متعذر، فالكبير لا يمكن أن يرجع شاباً. كما قال الراجز:
ليتَ وهل ينفعُ شيئاً ليتُ
ليتَ شباباً بُوعَ فاشتريتُ
فإذا أفطر لكبر فإنه ميؤوس من قدرته على الصوم، ولذلك فإنه يلزمه الفدية، وكذلك من أفطر لمرض لا يرجى برؤه، ويمثل له كثير من العلماء فيما سبق بالسل يقولون: إنه لا يرجى برؤه، لكن هذا المثال في الوقت الحاضر لا ينطبق؛ لأن السل صار مما يمكن برؤه، لكن يمكن أن نمثل له في وقتنا هذا بالسرطان، فإن السرطان لا يرجى برؤه، فإذا مرض الإنسان بمرض السرطان، وعجز عن الصوم صار حكمه كحكم الكبير الذي لا يستطيع الصوم، فيلزمه فدية عن كل يوم.
وهنا نحتاج إلى أمرين:
الأول: أن وجه سقوط الصوم عنه عدم القدرة الدائم، وليس كالمريض الذي قال الله فيه: {{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}} [البقرة: 184] لأن هذا يرجى برؤه، والآخر لا يرجى برؤه فسقط وجوب الصوم عنه للعجز عنه.
الثاني: إن قيل: ما الدليل على وجوب الفدية، مع أنه اتقى الله ما استطاع في قوله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] ؟ فالجواب: ما ثبت عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال في الشيخ والشيخة إذا لم يطيقا الصوم: «يطعمان لكل يوم مسكيناً» وقد استدل على ذلك بقوله تعالى: {{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}}[(323)] [البقرة: 184] ، والقول هنا صادر من صحابي، ومعروف خلاف العلماء في قول الصحابي، هل هو حجة أو ليس بحجة؟ لكنه هنا قول صحابي في تفسير آية، وإذا كان في تفسير آية، فقد ذهب بعض العلماء إلى أن تفسير الصحابي له حكم الرفع، وإن كان هذا القول ضعيفاً، ولكن لا شك أنه إذا قال الصحابي قولاً واستدل بآية، فإن استدلاله أصح من استدلال غيره.
فما وجه الاستدلال بالآية؟
فالجواب: أن استدلال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بهذه الآية استدلال عميق جداً، ووجهه أن الله قال: {{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}} [البقرة: 184] فجعل الفدية معادلة للصوم، وهذا في أول الأمر لما كان الناس مخيرين بين الصوم والفدية، فلما تعذر أحد البديلين ثبت الآخر، أي: لما تعذر الصوم ثبتت الفدية، وإلا فمن أخذ بظاهر الآية قال: إن الآية لا تدل على هذا، فالآية تدل على أن الذي يطيق الصيام، إما أن يفدي أو يصوم، والصوم خير ثم نسخ هذا الحكم.
والجواب: أن الله تعالى لما جعل الفدية عديلاً للصوم في مقام التخيير دل ذلك على أنها تكون بدلاً عنه في حال تعذر الصوم، وهذا واضح، وعلى هذا فمن أفطر لكبر، أو مرض لا يرجى برؤه، فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً.
ولكن ما الذي يُطْعَم، وما مقداره؟
الجواب: كل ما يسمى طعاماً من تمر أو بر أو رز أو غيره.
وأَمَّا مقداره فلم يقدر هنا ما يعطى فيرجع فيه إلى العرف، وما يحصل به الإطعام، وكان أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ عندما كبر يجمع ثلاثين فقيراً ويطعمهم خبزاً وأدماً[(324)] وعلى هذا فإذا غدّى المساكين أو عشاهم كفاه ذلك عن الفدية.
وقال بعض العلماء: لا يصح الإطعام؛ بل لا بد من التمليك[(325)]، وعليه فاختلفوا فقال بعضهم: إن الواجب مُدٌ من البر أو نصف صاع من غيره.
وقيل: بل الواجب نصف صاع من أي طعام كان.
فالذين قالوا بالأول قالوا: إن مُد البر يساوي نصف صاع من الشعير؛ لأنه أطيب وأغلى في نفوس الناس.
والذين قالوا إنه نصف صاع على كل حال، قالوا: لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لكعب بن عجرة في فدية الأذى: «أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع» [(326)]، قالوا: وهذا نص في تقدير النبي صلّى الله عليه وسلّم فيقاس عليه في كل فدية، ويكون نصف صاع.
فإن قيل: ما المراد بنصف الصاع، هل يرجع فيه إلى العرف، أو يرجع فيه إلى الصاع النبوي؟
فالجواب: لم أعلم أن أحداً من العلماء قال: إنه يرجع في الصاع إلى العرف، حتى شيخ الإسلام لم يرجع في الأصواع إلى العرف، وإنما رجع فيها إلى صاع النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وعلى هذا فنقول: المراد نصف صاع من صاع النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقد حرر علماؤنا الصاع القصيمي، فوجدوه يزيد على الصاع النبوي ربعاً، أي الصاع النبوي أربعة أخماس الصاع القصيمي، فصاعنا الموجود خمسة أمداد نبوية، وصاع النبي صلّى الله عليه وسلّم أربعة أمداد.
أما عدد المساكين فعلى عدد الأيام، فلا يجزئ أن يعطي المسكين الواحد من الطعام أكثر من فدية يوم واحد، ويدل لهذا القراءة المشهورة السبعية الثانية {{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}} بالجمع فإنها تدل على أنه لا بد أن يكون عن كل يوم مسكين.
والخلاصة أن من عجز عن الصوم عجزاً لا يرجى زواله وجب عليه الإطعام، عن كل يوم مسكيناً، سواء أطعمهم أو ملكهم على القول الراجح.
مسألة: إذا أعسر المريض الذي لا يرجى برؤه أو الكبير، فإنها تسقط عنهما الكفارة؛ لأنه لا واجب مع العجز، والإطعام هنا ليس له بدل.
ويُسَنُّ لِمَرِيضٍ يَضُرُّهُ،........
قوله: «ويسن لمريض يضره» الضمير في قوله «يسن» يعود على الفطر، فإذا كان الإنسان مريضاً يضره الصوم فالإفطار في حقه سنة، وذلك على ما قاله المؤلف ـ رحمه الله ـ وإن لم يفطر فقد عدل عن رخصة الله ـ سبحانه وتعالى ـ والعدول عن رخصة الله خطأ، فالذي ينبغي للإنسان أن يقبل رخصة الله.
والصحيح أنه إذا كان الصوم يضره فإن الصوم حرام، والفطر واجب؛ لقول الله تعالى: {{وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}} [النساء: 29] والنهي هنا يشمل إزهاق الروح، ويشمل ما فيه الضرر.
والدليل على أنه يشمل ما فيه الضرر، حديث عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ «عندما صلى بأصحابه وعليه جنابة، ولكنه خاف البرد فتيمم، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صليت بأصحابك وأنت جنب؟ قال: يا رسول الله ذكرت قوله تعالى: {{وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}} [النساء: 29] وإني خفت البرد ، فأقره النبي صلّى الله عليه وسلّم على ذلك»[(327)].
والمريض له أحوال:
الأول: ألا يتأثر بالصوم، مثل الزكام اليسير، أو الصداع اليسير، أو وجع الضرس، وما أشبه ذلك، فهذا لا يحل له أن يفطر، وإن كان بعض العلماء يقول: يحل له لعموم الآية {{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا}} [البقرة: 185] ولكننا نقول: إن هذا الحكم معلل بعلة، وهي أن يكون الفطر أرفق به فحينئذ نقول له الفطر، أما إذا كان لا يتأثر فإنه لا يجوز له الفطر ويجب عليه الصوم.
الحال الثانية: إذا كان يشق عليه الصوم ولا يضره، فهذا يكره له أن يصوم، ويسن له أن يفطر.
الحال الثالثة: إذا كان يشق عليه الصوم ويضره، كرجل مصاب بمرض الكلى أو مرض السكر، وما أشبه ذلك، فالصوم عليه حرام.
ولكن لو صام في هذه الحال هل يجزئه الصوم؟
قال أبو محمد ابن حزم رحمه الله: لا يجزئه الصوم؛ لأن الله ـ تعالى ـ جعل للمريض عدة من أيام أخر، فلو صام في مرضه فهو كالقادر الذي صام في شعبان عن رمضان، فلا يجزئه ويجب عليه القضاء.
وقول أبي محمد هذا مبني على القاعدة المشهورة، أن ما نهي عنه لذاته فإنه لا يقع مجزئاً، فإذا قلنا بالتحريم فإنَّ مقتضى القواعد أنه إذا صام لا يجزئه؛ لأنه صام ما نهي عنه كالصوم في أيام التشريق، وأيام العيدين لا يحل، ولا يصح، وبهذا نعرف خطأ بعض المجتهدين من المرضى الذين يشق عليهم الصوم وربما يضرهم، ولكنهم يأبون أن يفطروا فنقول: إن هؤلاء قد أخطأوا حيث لم يقبلوا كرم الله ـ عزّ وجل ـ، ولم يقبلوا رخصته، وأضروا بأنفسهم، والله ـ عزّ وجل ـ يقول: {{وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}} [النساء: 29] .
ولمُسافرٍ يَقْصُر .........
قوله: «ولمسافر يقصر» أي: يسن الفطر لمسافر يحل له القصر، وهو الذي يكون سفره بالغاً لمسافة القصر، فأما المسافر سفراً قصيراً فإنه لا يفطر، وسفر القصر على المذهب ورأي جمهور العلماء يقدر بمسافة مسيرة يومين قاصدين للإبل، وهي مسافة ستة عشر فرسخاً، ومقدارها بالكيلو، واحد وثمانون كيلو وثلاثمائة وسبعة عشر متراً بالتقريب لا بالتحديد، فعلى هذا نقول: إذا نوى الإنسان سفر هذه المسافة فإنه يحل له القصر، وحينئذ يسن له أن يفطر.
فإذا قال قائل: لو صام المسافر فما الحكم؟
فالجواب: اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ هل الفطر أفضل، أو أن الصوم مكروه، أو أن الصوم حرام، فعلى رأي أبي محمد الصوم حرام[(328)] ولو صام لم يجزئه، ولكن هذا قول بعيد من الصواب؛ لأن هذا من باب الرخصة.
والدليل على هذا: أن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم «يصومون ويفطرون مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في السفر، ولم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم» [(329)]، والنبي صلّى الله عليه وسلّم نفسه كان يصوم.
فالصواب أن المسافر له ثلاث حالات:
الأولى: ألا يكون لصومه مزية على فطره، ولا لفطره مزية على صومه، ففي هذه الحال يكون الصوم أفضل له للأدلة الآتية:
أولاً: أن هذا فعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ: «كنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في رمضان في يوم شديد الحر حتى إن أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعبد الله بن رواحة» [(330)] والصوم لا يشق على الرسول صلّى الله عليه وسلّم هنا؛ لأنه لا يفعل إلا الأرفق والأفضل.
ثانياً: أنه أسرع في إبراء الذمة؛ لأن القضاء يتأخر.
ثالثاً: أنه أسهل على المكلف غالباً؛ لأن الصوم والفطر مع الناس أسهل من أن يستأنف الصوم بعد، كما هو مجرب ومعروف.
رابعاً: أنه يدرك الزمن الفاضل، وهو رمضان، فإنَّ رمضان أفضل من غيره؛ لأنه محل الوجوب، فلهذه الأدلة يترجح ما ذهب إليه الشافعي ـ رحمه الله ـ أن الصوم أفضل في حق من يكون الصوم والفطر عنده سواء.
الحال الثانية: أن يكون الفطر أرفق به، فهنا نقول: إن الفطر أفضل، وإذا شق عليه بعض الشيء صار الصوم في حقه مكروهاً؛ لأن ارتكاب المشقة مع وجود الرخصة يشعر بالعدول عن رخصة الله عزّ وجل.
الحال الثالثة: أن يشق عليه مشقة شديدة غير محتملة فهنا يكون الصوم في حقه حراماً.
والدليل على ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لما شكى إليه الناس أنه قد شق عليهم الصيام، وأنهم ينتظرون ما سيفعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم دعا بإناء فيه ماء بعد العصر، وهو على بعيره فأخذه وشربه، والناس ينظرون إليه، ثم قيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام فقال: «أولئك العصاة، أولئك العصاة» [(331)] فوصفهم بالعصيان.
فهذا ما يظهر لنا من الأدلة في صوم المسافر.
ويتفرع على هذا مسألة، وهي لو سافر من لا يستطيع الصوم لكبر أو مرض لا يرجى زواله فماذا يصنع؟
الجواب: قال بعض العلماء: إنه لا صوم ولا فدية عليه؛ لأنه مسافر، والفدية بدل عن الصوم، والصوم يسقط في السفر، ولا صوم عليه؛ لأنه عاجز[(332)].
لكن هذا التعليل عليل؛ لأن هذا الذي على هذه الحال، لم يكن الصوم واجباً في حقه أصلاً، وإنما الواجب عليه الفدية، والفدية لا فرق فيها بين السفر والحضر، وعلى هذا فإذا سافر من لا يرجى زوال عجزه فإنه كالمقيم يلزمه الفدية، فيطعم عن كل يوم مسكيناً، وهذا هو القول الصحيح، والقول بأنه يسقط عنه الصوم والإطعام قول ضعيف جداً لما تقدم.
وَإِنْ نَوَى حَاضِرٌ صِيَامَ يَوْمٍ، ثُمَّ سَافَرَ فِي أَثْنَائِهِ فَلَهُ الفِطْرُ ..........
قوله: «وإن نوى حاضر صيام يوم، ثم سافر في أثنائه فله الفطر» الحاضر يجب عليه أن يصوم، فإذا سافر في أثناء اليوم، فهل له أن يفطر أو لا يفطر؟ في هذه المسألة قولان لأهل العلم:
القول الأول: أن له أن يفطر، ولكن بشرط كما سنذكره.
القول الثاني: أنه ليس له أن يفطر.
والقول الأول: هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله[(333)].
واستدلوا على ذلك: بعموم قول الله تعالى: {{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}} [البقرة: 184] يعني فأفطر فعدة من أيام أخر، وهذا الآن سافر، وصار على سفر فيصدق عليه أنه ممن رخص له بالفطر فيفطر.
واستدلوا أيضاً بما ثبت في السنة من إفطار النبي صلّى الله عليه وسلّم في أثناء النهار[(334)].
وأهل القول الثاني: عللوا بأن الإنسان شرع في الصوم الواجب فلزمه إتمامه، كما لو شرع في القضاء فإنه يلزمه أن يتمه، وإن كان لولا شروعه لم يلزمه أن يصوم، يعني لو أن إنساناً عليه يوم من رمضان، فقال: أصومه غداً أو بعد غد، نقول أنت بالخيار غداً أو بعد غد.
لكن إذا صامه غداً فليس له أن يفطر في أثنائه ليصوم بعد غد؛ لأن من شرع في واجب حرم على قطعه إلا لعذر شرعي.
والصحيح القول الأول أن له أن يفطر إذا سافر في أثناء اليوم لما سبق، وأما قياسه على من شرع في صوم يوم القضاء فقياس فاسد لوجهين، الأول أنه في مقابلة النص، والثاني أن من شرع في صوم القضاء شرع في واجب فلزمه، وأما صوم المسافر فغير واجب فلا يلزمه إتمامه.
ولكن هل يشترط أن يفارق قريته، إذا عزم على السفر وارتحل فهل له أن يفطر؟
الجواب: في هذا أيضاً قولان عن السلف.
ذهب بعض أهل العلم إلى جواز الفطر إذا تأهب للسفر ولم يبق عليه إلا أن يركب، وذكروا ذلك عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يفعله[(335)]، وإذا تأملت الآية وجدت أنه لا يصح هذا؛ لأنه إلى الآن لم يكن على سفر فهو الآن مقيم وحاضر، وعليه فلا يجوز له أن يفطر إلا إذا غادر بيوت القرية.
أما المزارع المنفصلة عن القرية فليست منها، فإذا كانت هذه البيوت والمساكن الآن، وانفصلت عنها المزارع فإنه يجوز الفطر، فالمهم أن يخرج عن البلد أما قبل الخروج فلا؛ لأنه لم يتحقق السفر.
فالصحيح أنه لا يفطر حتى يفارق القرية، ولذلك لا يجوز أن يقصر الصلاة حتى يخرج من البلد، فكذلك لا يجوز أن يفطر حتى يخرج من البلد.
وإذا جاز أن يفطر خلال اليوم، فهل له أن يفطر بالأكل والشرب أو بأي مفطر شاء؟
الجواب: له أن يفطر بالأكل والشرب وجماع أهله، وغير ذلك من المفطرات.
وَإِنْ أَفْطَرَتْ حَامِلٌ، أَوْ مُرْضَعٌ خَوْفاً عَلَى أَنْفُسِهِمَا قَضَتَاه فَقَطْ، وَعَلَى وَلَدَيْهِمَا قَضَتَاه وَأَطْعَمَتَا لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِيناً.
قوله: «وإن أفطرت حامل، أو مرضع خوفاً على أنفسهما قضتاه فقط، وعلى ولديهما قضتاه، وأطعمتا لكل يوم مسكيناً» أفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ أنه يجوز للحامل والمرضع أن تفطرا، وإن لم تكونا مريضتين وهذا يشمل أول الحمل وآخر الحمل، وأول الإرضاع وآخر الإرضاع؛ وذلك لأن الحامل يشق عليها الصوم من أجل الحمل، لا سيما في الأشهر الأخيرة، ولأن صيامها ربما يؤثر على نمو الحمل إذا لم يكن في جسمها غذاء، فربما يضمر الحمل ويضعف.
وكذلك في المرضع إذا صامت يقل لبنها فيتضرر بذلك الطفل، ولهذا كان من رحمة الله ـ عزّ وجل ـ أن رخص لهما في الفطر.
وإفطارهما قد يكون مراعاة لحالهما، وقد يكون مراعاة لحال الولد الحمل أو الطفل، وقد يكون مراعاة لحالهما مع الولد.
وعلى كل حال فيجب عليهما القضاء؛ لأن الله تعالى فرض الصيام على كل مسلم، وقال في المريض والمسافر: {{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}} [البقرة: 185] مع أنهما مفطران بعذر، فإذا لم يسقط القضاء عمن أفطر لعذر من مرض أو سفر، فعدم سقوطه عمن أفطرت لمجرد الراحة من باب أولى.
وأما الإطعام فله ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن تفطرا خوفاً على أنفسهما فتقضيان فقط، يعني أنه لا زيادة على ذلك.
الحال الثانية: أن تفطرا خوفاً على ولديهما فقط، فتقضيان، وتطعمان لكل يوم مسكيناً.
أما القضاء فواضح؛ لأنهما أفطرتا، وأما الإطعام فلأنهما أفطرتا لمصلحة غيرهما، فلزمهما الإطعام، وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في قوله:{{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}} [البقرة: 184] قال: «كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصيام يفطران ويطعمان عن كل يوم مسكيناً، والمرضع والحبلى إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا» ، رواه أبو داود[(336)].
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما[(337)].
الحال الثالثة: إذا أفطرتا لمصلحتهما، ومصلحة الجنين، أو الطفل فالمؤلف سكت عن هذه الحال، والمذهب أنه يُغلب جانب مصلحة الأم.
وعلى هذا فتقضيان فقط، فيكون الإطعام في حال واحدة وهي: إذا كان الإفطار لمصلحة الغير، الجنين أو الطفل، وهذا أحد الأقوال في المسألة[(338)].
والقول الثاني: أنه لا يلزمهما القضاء، وإنما يلزمهما الإطعام فقط سواء أفطرتا لمصلحتهما أو مصلحة الولد أو للمصلحتين جميعاً واستدلوا بما يأتي:
1 ـ حديث: «إن الله وضع الصيام عن الحبلى والمرضع» [(339)].
2 ـ أثر ابن عباس رضي الله عنهما: «... والمرضع والحبلى إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا» [(340)] ولم يذكر القضاء.
القول الثالث: التخيير بين القضاء والإطعام.
القول الرابع: يلزمها القضاء فقط دون الإطعام[(341)]، وهذا القول أرجح الأقوال عندي؛ لأن غاية ما يكون أنهما كالمريض، والمسافر، فيلزمهما القضاء فقط، وأما سكوت ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن القضاء فلأنه معلوم.
وأما حديث: «إن الله تعالى وضع الصيام عن الحبلى والمرضع» فالمراد بذلك وجوب أدائه، وعليهما القضاء.
وسبب الخلاف أنه ليس هناك نص قاطع صحيح وصريح في وجوب أحد هذه الأمور.
مسألة: إذا قال قائل: أرأيتم لو أفطر شخص لمصلحة الغير في غير مسألة الحبلى والمرضع، مثل أن يفطر لإنقاذ غريق أو لإطفاء حريق، فهل يلزمه القضاء والإطعام؟
الجواب: أما على القول الذي رجحناه من أنه ليس على الحامل والمرضع إلا القضاء، فليس على المنقذ إلا القضاء، وأما على القول بوجوب القضاء والإطعام عليهما في محله ففيه قولان:
القول الأول: يلزمه القضاء والإطعام، قياساً على الحامل والمرضع إذا أفطرتا لمصلحة الولد.
والقول الثاني: لا يلزمه إلا القضاء فقط، واستدل لذلك بأن النص إنما ورد في الحبلى والمرضع دون غيرهما.
وأجيب عن هذا بأنه، وإن ورد النص بذلك، فالقياس في هذه المسألة تام، وهو أنه أفطر لمصلحة الغير.
والإفطار لمصلحة الغير له صور منها:
1 ـ إنقاذ غريق، مثل أن يسقط رجل معصوم في الماء، ولا يستطيع أن يخرجه إلا بعد أن يشرب، فنقول: اشرب وأنقذه.
2 ـ إطفاء الحريق، كأن يقول: لا أستطيع أن أطفئ الحريق حتى أشرب، فنقول: اشرب وأطفئ الحريق.
وفي هذه الحال إذا أخرج الغريق وأطفأ الحريق، هل له أن يأكل ويشرب بقية اليوم؟
الجواب: نعم له أن يأكل ويشرب بقية اليوم، لأنه أذن له في فطر هذا اليوم، وإذا أذن له في فطر هذا اليوم، صار هذا اليوم في حقه من الأيام التي لا يجب إمساكها، فيبقى مفطراً إلى آخر النهار.
3 ـ وكذلك لو أن شخصاً احتيج إلى دمه، بحيث أصيب رجل آخر بحادث ونزف دمه، وقالوا: إن دم هذا الصائم يصلح له، وإن لم يتدارك هذا المريض قبل الغروب فإنه يموت، فله أن يأذن في استخراج دمه من أجل إنقاذ المريض، وفي هذه الحال يفطر بناءً على القول الراجح، في أن ما ساوى الحجامة فهو مثلها، وسيأتي الخلاف في هذه المسألة، وأن المذهب لا يفطر بإخراج الدم إلا بالحجامة فقط دون الفصد والشرط، والصحيح أن ما كان بمعناها يأخذ حكمها.
تنبيه : قول المؤلف ـ رحمه الله ـ «أطعمتا لكل يوم مسكيناً» .
ظاهره أن الإطعام واجب على الحامل والمرضع، وهو ظاهر أثر ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
والمذهب أن الإطعام واجب على من تلزمه النفقة، فمثلاً إذا كان الأب موجوداً فالذي يطعم الأب؛ لأنه هو الذي يلزمه الإنفاق على ولده دون الأم، وعلى هذا فلا نخاطب الأم إلا بالصيام فقط، وأما الإطعام فنخاطب به الأب، ولو أن الأب لم يطعم، فليس على الأم في ذلك إثم، ولهذا يعتبر كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ مخالفاً للمذهب في هذه المسألة.
وَمَنْ نَوَى الصَّوْمَ، ثُمَّ جُنَّ أوْ أغْمِيَ عَلَيْهِ جَمِيعَ النَّهَارِ، وَلَم يُفِقْ جُزْءاً مِنهُ لَمْ يَصحَّ صَوْمُهُ، لاَ إن نَامَ جَمِيعَ النَّهَارِ، وَيَلْزَمُ المُغْمَى عَلَيهِ القَضَاءُ فَقط............
قوله: «ومن نوى الصوم، ثم جن أو أغمي عليه جميع النهار، ولم يفق جزءاً منه لم يصح صومه، لا إن نام جميع النهار، ويلزم المغمى عليه القضاء فقط» قوله: «فقط» في عبارته هذه فيه شيء من الخلل؛ لأن قوله: «فقط»، يوهم أن المراد بلا إطعام وليس هذا هو المراد، بل المراد أن المغمى عليه من بين هؤلاء الثلاثة هو الذي يلزمه القضاء، ولهذا لو قال: ويلزم المغمى عليه فقط القضاء لكان أبين.
هذه ثلاثة أشياء متشابهة: الجنون، والإغماء، والنوم، وأحكامها تختلف.
أولاً: الجنون، فإذا جن الإنسان جميع النهار في رمضان من قبل الفجر حتى غربت الشمس فلا يصح صومه؛ لأنه ليس أهلاً للعبادة، ومن شرط الوجوب والصحة العقل، وعلى هذا فصومه غير صحيح، ولا يلزمه القضاء، لأنه ليس أهلاً للوجوب.
ثانياً: المغمى عليه، فإذا أغمي عليه بحادث، أو مرض ـ بعد أن تسحر ـ جميع النهار، فلا يصح صومه؛ لأنه ليس بعاقل، ولكن يلزمه القضاء؛ لأنه مكلف، وهذا قول جمهور العلماء[(342)].
وقال صاحب الفائق أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية ويسمى ابن قاضي الجبل، وله اختيارات جيدة جداً، قال: إن المغمى عليه لا يلزمه القضاء كالإنسان الذي أغمي عليه أوقات الصلاة، فإن جمهور العلماء لا يلزمونه بالقضاء، وقال: إنه لا فرق بين الصلاة والصوم.
ولو فرض أن الرجل أغمي عليه قبل أذان الفجر، وأفاق بعد طلوع الشمس لصح صومه، وأما صلاة الفجر فلا تلزمه على القول الراجح؛ لأنه مر عليه الوقت وهو ليس أهلاً للوجوب[(343)].
الثالث: النائم ، فإذا تسحر ونام من قبل أذان الفجر، ولم يستيقظ إلا بعد غروب الشمس، فصومه صحيح، لأنه من أهل التكليف ولم يوجد ما يبطل صومه، ولا قضاء عليه.
والفرق بينه وبين المغمى عليه أن النائم إذا أوقظ يستيقظ بخلاف المغمى عليه.
وَيَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ لِصَوْمِ كُلِّ يَوْمٍ وَاجِبٍ، لاَ نِيَّةَ الفَرْضِيَّةِ. ........
قوله: «ويجب تعيين النية» النية، والإرادة، والقصد معناها واحد، فقصد الشيء يعني نيته، وإرادة الشيء يعني نيته، والنية لا يمكن أن تتخلف عن عمل اختياري، يعني أن كل عمل يعمله الإنسان مختاراً فإنه لا بد فيه من النية، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال بالنيات» [(344)] يعني أنه لا عمل بلا نية، حتى قال بعض العلماء: لو كلفنا الله عملاً بلا نية لكان من تكليف ما لا يطاق، يعني لو قال الله لنا توضؤوا بلا نية، أو صلوا بلا نية، أو صوموا بلا نية، أو حجوا بلا نية، لكان هذا من تكليف ما لا يطاق، فمن يطيق أن يفعل فعلاً مختاراً، ولا ينوي؟
وبذلك نعرف أن ما يحصل لبعض الناس من الوسواس؛ حيث يقول: أنا ما نويت! أنه وهم لا حقيقة له، وكيف يصح أنه لم ينو وقد فعل.
وذكروا عن ابن عقيل ـ رحمه الله ـ وهو من المتكلمين والفقهاء، أنه جاءه رجل فقال له: يا شيخ إنني أغتسل في نهر دجلة، ثم أخرج وأرى أنني لم أطهر؟ فقال له ابن عقيل: لا تصل، فقال: كيف؟ قال: نعم، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «رفع القلم عن ثلاثة... عن المجنون حتى يفيق» [(345)] وأنت تذهب إلى دجلة، وتنغمس فيه، وتغتسل من الجنابة، ثم تخرج وترى أنك ما تطهرت هذا الجنون، فارتدع الرجل عن هذا.
فإن قيل: ما هي النية؟
فالجواب النية تختلف، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» وبهذا التقرير يتبين أن الجملتين في الحديث ليس معناهما واحداً.
وقوله: «ويجب تعيين النية» أفادنا بهذه العبارة أن النية واجبة، وأنه يجب تعيينها أيضاً، فينوي الصيام عن رمضان، أو عن كفارة، أو عن نذر، أو ما أشبه ذلك.
قوله: «من الليل لصوم كل يوم واجب» أي: قبل طلوع الفجر، فيشمل ما كان قبل الفجر بدقيقة واحدة، وإنما وجب ذلك؛ لأن صوم اليوم كاملاً لا يتحقق إلا بهذا، فمن نوى بعد طلوع الفجر لا يقال إنه صام يوماً، فلذلك يجب لصوم كل يوم واجب، أن ينويه قبل طلوع الفجر، وهذا معنى قول المؤلف: «من الليل» ، وليس بلازم أن تبيت النية قبل أن تنام، بل الواجب ألا يطلع الفجر إلا وقد نويت، لأجل أن تشمل النية جميع أجزاء النهار، إذ أنه قد فرض عليك أن تصوم يوماً، فإذا كان كذلك، فلا بد أن تنويه قبل الفجر إلى الغروب.
ودليل ذلك حديث عائشة مرفوعاً: «من لم يبيِّت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له» [(346)] والمراد صيام الفرض أما النفل فسيأتي.
وقوله: «لصوم كل يوم واجب» أي: يجب أن ينوي كل يوم بيومه، فمثلاً في رمضان يحتاج إلى ثلاثين نية.
وبناءً على ذلك لو أن رجلاً نام بعد العصر في رمضان، ولم يستيقظ من الغد إلا بعد طلوع الفجر لم يصح صومه ذلك اليوم؛ لأنه لم ينو صومه من ليلته.
وهذا الذي ذكره المؤلف هو المشهور من المذهب.
وعللوا ذلك بأن كل يوم عبادة مستقلة، ولذلك لا يفسد صيام يوم الأحد بفساد صيام الاثنين مثلاً.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن ما يشترط فيه التتابع تكفي النية في أوله، ما لم يقطعه لعذر فيستأنف النية، وعلى هذا فإذا نوى الإنسان أول يوم من رمضان أنه صائم هذا الشهر كله، فإنه يجزئه عن الشهر كله، ما لم يحصل عذر ينقطع به التتابع، كما لو سافر في أثناء رمضان، فإنه إذا عاد للصوم يجب عليه أن يجدد النية.
وهذا هو الأصح؛ لأن المسلمين جميعاً لو سألتهم لقال كل واحد منهم: أنا ناو الصوم من أول الشهر إلى آخره، وعلى هذا فإذا لم تقع النية في كل ليلة حقيقة فهي واقعة حكماً؛ لأن الأصل عدم قطع النية، ولهذا قلنا: إذا انقطع التتابع لسبب يبيحه، ثم عاد إلى الصوم فلا بد من تجديد النية، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس ولا يسع الناس العمل إلا عليه.
مسألة: رجل عليه صيام شهرين متتابعين، يلزمه أن ينوي لكل يوم نية جديدة، على ما مشى عليه المؤلف، وعلى القول الذي اخترناه لا يلزمه؛ لأن هذا يلزم فيه التتابع، فإذا أمسك في أوله فهو في النية حكماً إلى أن ينتهي، وعليه فإذا نوى حينما شرع في صوم الشهرين المتتابعين فإنه يكفيه عن جميع الأيام، ما لم يقطع ذلك لعذر، ثم يعود إلى الصوم فيلزمه أن يجدد النية.
وبناءً على هذا القول لو نام رجل في رمضان بعد العصر، ولم يفق إلا من الغد بعد الفجر صح صومه؛ لأن النية الأولى كافية، والأصل بقاؤها ولم يوجد ما يزيل استمرارها.
قوله: «لا نية الفرضية» أي: لا تجب نية الفريضة، يعني لا يجب أن ينوي أنه يصوم فرضاً، لأن التعيين يغني عن ذلك، فإذا نوى صيام رمضان، فمعلوم أن صيام رمضان فرض، وإذا نوى الصيام كفارة قتل أو يمين، فمعلوم أنه فرض، كما قلنا في الصلاة إذا نوى أن يصلي الظهر لا يحتاج أن ينوي أنها فريضة؛ لأنه معروف أن الظهر فريضة، وعلى هذا فنية الفريضة ليست بشرط.
ولكن هل الأفضل أن ينوي القيام بالفريضة أو لا؟
الجواب: الأفضل أن ينوي القيام بالفريضة، أي: أن ينوي صوم رمضان على أنه قائم بفريضة؛ لأن الفرض أحب إلى الله من النفل.
قال في الروض: «من قال أنا صائم غداً إن شاء الله متردداً فسدت نيته، لا متبركاً» أي: إذا قال أنا صائم غداً إن شاء الله ننظر هل مراده الاستعانة بالتعليق بالمشيئة لتحقيق مراده، إن قال: نعم، فصيامه صحيح؛ لأن هذا ليس تعليقاً، ولكنه استعانة بالتعليق بالمشيئة لتحقيق مراده؛ لأن التعليق بالمشيئة سبب لتحقيق المراد، ويدل لهذا حديث نبي الله سليمان بن داود ـ عليهما الصلاة والسلام ـ حين قال: «والله لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تلد كل واحدة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقيل له: قل: إن شاء الله، فلم يقل، فطاف على تسعين امرأة يجامعهن، ولم تلد منهن إلا واحدة شق إنسان» فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو قال إن شاء الله لكان دركاً لحاجته» [(347)]، وإن قال ذلك متردداً يعني لا يدري هل يصوم أو لا يصوم، فإنه لا يصح؛ لأن النية لا بد فيها من الجزم، فلو بات على هذه النية بأن قال: أنا صائم غداً إن شاء الله متردداً، فإنّ صومه لا يصح إن كان فرضاً، إلا أن يستيقظ قبل الفجر وينويه.
وقال في الروض: «ويكفي في النية الأكل والشرب، بنية الصوم»[(348)] أي: لو قام في آخر الليل وأكل على أنه سحور لكفى؛ حتى قال شيخ الإسلام: إن عشاء الصائم الذي يصوم غداً يختلف عن عشاء من لا يصوم غداً، فالذي لا يصوم عشاؤه أكثر، لأن الصائم سوف يجعل فراغاً للسحور.
النَّفْلُ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ،........
قوله: «ويصح النفل بنية من النهار قبل الزوال أو بعده» أي: يصح صوم النفل بنية من النهار قبل الزوال أو بعده، وهذا مقابل قوله: «يجب تعيين النية من الليل لصوم كل يوم واجب» فصيام النفل يصح بنية أثناء النهار، ولكن بشرط ألا يأتي مفطِّراً من بعد طلوع الفجر، فإن أتى بمفطر فإنه لا يصح.
مثال ذلك: رجل أصبح وفي أثناء النهار صام، وهو لم يأكل، ولم يشرب، ولم يجامع، ولم يفعل ما يفطّر بعد الفجر، فصومه صحيح مع أنه لم ينو من قبل الفجر.
ودليل ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل ذات يوم على أهله فقال: «هل عندكم من شيء؟ قالوا: لا، قال فإني إذاً صائم» [(349)].
وقوله «إذاً» في الحديث ظرف للزمان الحاضر فأنشأ النية من النهار، فدل ذلك على جواز إنشاء النية في النفل في أثناء النهار، فإذا قال قائل: قد ننازع في دلالة هذا الحديث ونقول معنى «إني إذاً صائم» أي: ممسك عن الطعام، من الذي يقول: إن المراد بالصوم هنا الصوم الشرعي؟ قلنا: عندنا قاعدة شرعية أصولية وهي أن الكلام المطلق يحمل على الحقيقة في عرف المتكلم به، والحقيقة الشرعية في الصوم هي التعبد لله بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فلا يمكن أن نحمل لفظاً جاء في لسان الشارع على معناه اللغوي وله حقيقة شرعية.
نعم لو فرض أنه ليس هناك حقيقة شرعية حملناه على الحقيقة اللغوية، أما مع وجود الحقيقة الشرعية فيجب أن يحمل عليها، ولهذا لو قال قائل: والله لا أبيع اليوم شيئاً، فذهب فباع خمراً، هل عليه كفارة يمين؟ نقول ليس عليه كفارة يمين، لأن هذا البيع ليس بيعاً شرعياً فهو حرام وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وكل عقد ليس في كتاب الله فهو باطل، نعم إذا قال أنا قصدي بالبيع مطلق البيع شرعياً أو غير شرعي، حينئذ نقول هذا يصدق عليه أنه بيع، فيحنث؛ لأن النية مقدمة على دلالة اللفظ في باب الأيمان.
ولكن هل يثاب ثواب يوم كامل، أو يثاب من النية؟
في هذا قولان للعلماء:
القول الأول: أنه يثاب من أول النهار؛ لأن الصوم الشرعي لا بد أن يكون من أول النهار.
القول الثاني: أنه لا يثاب إلا من وقت النية فقط[(350)]، فإذا نوى عند الزوال، فأجره أجر نصف يوم.
وهذا القول هو الراجح لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» [(351)] وهذا الرجل لم ينو إلا أثناء النهار فيحسب له الأجر من حين نيته.
وبناءً على القول الراجح لو علق فضل الصوم باليوم مثل صيام الاثنين، وصيام الخميس، وصيام البيض، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، ونوى من أثناء النهار فإنه لا يحصل له ثواب ذلك اليوم.
فمثلاً صام يوم الاثنين ونوى من أثناء النهار، فلا يثاب ثواب من صام يوم الاثنين من أول النهار؛ لأنه لا يصدق عليه أنه صام يوم الاثنين.
وكذلك لو أصبح مفطراً فقيل له: إن اليوم هو اليوم الثالث عشر من الشهر، وهو أول أيام البيض، فقال: إذاً أنا صائم فلا يثاب ثواب أيام البيض؛ لأنه لم يصم يوماً كاملاً، وهذه مسألة يظن بعض الناس أن كلام المؤلف يدل على حصول الثواب حتى في اليوم المعين من النفل.
ويشترط في صحة النية من أثناء النهار في النفل ألا يفعل قبلها مفطراً، فلو أن الرجل أصبح مفطراً بأكل، وفي أثناء الضحى قال: نويت الصيام فلا يصح؛ لأنه فعل ما ينافي الصوم.
فلو قال قائل: ألستم تقولون إنه لا يثاب على أجر الصوم إلا من النية؟
قلنا: بلى، لكن لا يمكن أن يكون صومٌ، وقد أكل أو شرب في يومه.
وقوله: «قبل الزوال وبعده» إذا قال قائل: لا حاجة لقوله قبل الزوال وبعده لأنه قال: «يصح النفل بنية من النهار» فلا حاجة إلى قوله: «قبل الزوال وبعده» قلنا: نعم هذا صحيح، لكن احتاج المؤلف إلى هذا؛ لأن في المسألة قولاً آخر، وهو أنه لا يصح نية النفل بعد الزوال؛ وتعليلهم أنه مضى أكثر اليوم مفطراً بدون نية، والحكم في الأشياء للأغلب والأكثر، فما دام أكثر النهار مر عليه بدون نية فإذا نوى بعد الزوال لم يكن صوماً؛ ولهذا احتاج المؤلف أن يقول: «قبل الزوال وبعده» .
وَلَوْ نَوَى إِن كَانَ غَدَاً مِنْ رَمَضَانَ فَهُوَ فَرْضِي لَمْ يجْزِهِ............
قوله: «ولو نوى إن كان غداً من رمضان فهو فرضي لم يجزه» هذه مسألة مهمة ترد كثيراً، فلا يجزئ الإنسان إذا نوى أنه إذا كان غداً من رمضان فهو فرضي، سواء قال: وإلا فنفلٌ، أو قال: وإلا فأنا مفطر.
مثال ذلك: رجل نام في الليل مبكراً ليلة الثلاثين من شعبان، وفيه احتمال أن تكون هذه الليلة هي أول رمضان، فقال: إن كان غداً من رمضان فهو فرضي، أو قال: إن كان غداً من رمضان فأنا صائم، أو قال: إن كان غداً من رمضان فهو فرض، وإلا فهو عن كفارة واجبة، أو ما أشبه ذلك من أنواع التعليق.
فالمذهب أن الصوم لا يصح؛ لأن قوله: إن كان كذا فهو فرضي، وقع على وجه التردد، والنية لا بد فيها من الجزم، فلو لم يستيقظ إلا بعد طلوع الفجر، ثم تبين أنه من رمضان، فعليه قضاء هذا اليوم، على المذهب.
والرواية الثانية عن الإمام أحمد: أن الصوم صحيح إذا تبين أنه من رمضان، واختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ ولعل هذا يدخل في عموم قوله صلّى الله عليه وسلّم لضباعة بنت الزبير ـ رضي الله عنها ـ: «فإن لك على ربك ما استثنيت» [(352)] فهذا الرجل علقه لأنه لا يعلم أن غداً من رمضان، فتردده مبني على التردد في ثبوت الشهر، لا على التردد في النية، وهل يصوم أو لا يصوم؟ ولهذا لو قال من يباح له الفطر ليلة الواحد من رمضان، أنا غداً يمكن أن أصوم، ويمكن ألا أصوم، ثم عزم على الصوم بعد طلوع الفجر، لم يصح صومه لتردده في النية.
لكن إذا علق الصوم على ثبوت الشهر، فهذا هو الواقع فلو لم يثبت الشهر لم يصم، وعلى هذا فينبغي لنا إذا نمنا قبل أن يأتي الخبر ليلة الثلاثين من شعبان، أن ننوي في أنفسنا أنه إن كان غداً من رمضان فنحن صائمون، وإن كانت نية كل مسلم على سبيل العموم أنه سيصوم لو كان من رمضان، لكن تعيينها أحسن، فيقول في نفسه إن كان غداً من رمضان فهو فرضي، فإذا تبين أنه من رمضان بعد طلوع الفجر صح صومه.
ولو قال ليلة الثلاثين من رمضان إن كان غداً من رمضان فأنا صائم، وإلا فأنا مفطر قالوا: إن هذا جائز، مع أن فيه تردداً في النية ولكنه مبني على ثبوت الشهر، فإذا كان كذلك فينبغي أن يكون في أول الشهر كما كان في آخره، لكن فرقوا بأنه في أول الشهر الأصل عدم الصوم؛ لأنه لم يثبت دخول الشهر، وفي آخره بالعكس الأصل الصوم لأن الغد من رمضان ما لم يثبت خروجه، ولكن هذا التفريق غير مؤثر بالنسبة للتردد؛ فكلاهما متردد، والاحتمال في كليهما وارد، فيوم الثلاثين من شعبان فيه التردد هل يكون من رمضان أم لا؟ ويوم الثلاثين من رمضان فيه التردد هل يكون من رمضان أم لا؟
وَمَنْ نَوَى الإِْفْطَارَ أَفْطَرَ.
قوله: «ومن نوى الإفطار أفطر» والدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات» [(353)] فما دام ناوياً الصوم فهو صائم، وإذا نوى الإفطار أفطر، ولأن الصوم نية وليس شيئاً يفعل، كما لو نوى قطع الصلاة فإنها تنقطع الصلاة.
ومعنى قول المؤلف «أفطر» أي: انقطعت نية الصوم وليس كمن أكل أو شرب.
وبناء على ذلك لو نواه بعد ذلك نفلاً في أثناء النهار جاز، إلا أن يكون في رمضان، فإن كان في رمضان فإنه لا يجوز؛ لأنه لا يصح في رمضان صوم غيره.
مسائل:
الأولى: إنسان صائم نفلاً، ثم نوى الإفطار، ثم قيل له: كيف تفطر لم يبق من الوقت إلا أقل من نصف اليوم؟ قال: إذاً أنا صائم، هل يكتب له صيام يوم أو من النية الثانية؟
الجواب: من النية الثانية؛ لأنه قطع النية الأولى وصار مفطراً.
الثانية: إنسان صائم وعزم على أنه إن وجد ماء شربه فهل يفسد صومه؟
الجواب: لا يفسد صومه؛ لأن المحظور في العبادة لا تفسد العبادة به، إلا بفعله ولا تفسد بنية فعله.
وهذه قاعدة مفيدة وهي أن من نوى الخروج من العبادة فسدت إلا في الحج والعمرة، ومن نوى فعل محظور في العبادة لم تفسد إلا بفعله.
ولهذا أمثلة منها ما ذكرناه هنا في مسألة الصوم.
ومنها ما لو كان متحرياً لكلام من الهاتف فدخل في الصلاة ومن نيته أنه إن كلمه من يتحراه، أجابه، فلم يكلمه فصلاته لا تفسد.
الثالثة: سبق أن من نوى الإفطار أنه يفطر، فهل يباح له الاستمرار في الفطر بالأكل، والشرب، مثلاً؛ وهو في رمضان؟
الجواب: إن كان ممن يباح له الفطر؛ كالمريض والمسافر فلا بأس، وإن كان لا يباح له الفطر، فيلزمه الإمساك والقضاء، مع الإثم.
وقولنا يلزمه القضاء؛ لأنه لما شرع فيه ألزم نفسه به فصار في حقه كالنذر؛ بخلاف مَنْ لم يصم من الأصل متعمداً، فهذا لا يقضي، ولو قضاه لم يقبل منه؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» [(354)]. وأما حديث: «من أفطر يوماً من رمضان متعمداً لم يقضه صوم الدهر» [(355)] فهذا حديث ضعيف وعلى تقدير صحته، يكون المعنى أنه لا يكون كالذي فعل في وقته.
---------------------------------------------
[271] أخرجه البخاري في الإيمان/ باب سؤال جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم...(50)؛ ومسلم في الإيمان (8) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[272] أخرجه البخاري في الإيمان/ باب دعاؤكم أيمانكم...(8)؛ ومسلم في الإيمان/ باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام (16) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وتقديم الصيام على الحج رواية مسلم.
[273] أخرجه البخاري في العتق/ باب في العتق وفضله (2517)؛ ومسلم في العتق/ باب فضل العتق (1509) (22) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[274] سيأتي تخريجه ص(303).
[275] أخرجه البخاري في الصوم/ باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين (1914)؛ ومسلم في الصيام/ باب «لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين» (1082) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[276] «زاد المعاد» (2/42)، و«غاية المنتهى» (1/343).
[277] أخرجه البخاري في الصوم/ باب هل يقال: رمضان، أو شهر رمضان؟ ومن رأى كله واسعاً (1900) ومسلم في الصوم/ باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال وأنه إذا غم أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوماً (1080) (8).
[278] أخرجه أحمد (2/5، 13)؛ وأبو داود في الصيام/ باب الشهر يكون تسعاً وعشرين (2320)؛ والدارقطني (2/161)؛ والبيهقي (4/204).
وفي «الإرواء»: (4/9): «وإسناده صحيح على شرطهما».
[279] انظر: «زاد المعاد» (2/46)؛ و«الإنصاف» (2/269).
[280] سبق تخريجه ص(302).
[281] رواه البخاري في صحيحه معلقاً بصيغة الجزم في الصوم/ باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا» ووصله أبو داود في الصيام/ باب كراهية صوم يوم الشك (2334)؛ والترمذي في الصوم/ باب ما جاء في كراهية صوم يوم الشك (686)؛ والنسائي في الصيام/ باب صيام يوم الشك (4/153)؛ وابن ماجه في الصيام/ باب ما جاء في صيام يوم الشك (1645)؛ وصححه ابن خزيمة (1914)؛ وابن حبان (3585)؛ وأخرجه الدارقطني (2/157) وقال: «هذا إسناد حسن صحيح ورواته كلهم ثقات» وصححه أيضاً الترمذي.
[282] أخرجه البخاري في الصوم/ باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا» (1907) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[283] أخرجه مسلم في العلم/ باب هلك المتنطعون (2670) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[284] سبق تخريجه ص(304).
[285] انظر: «زاد المعاد» (2/46)؛ و«الإنصاف» (2/270).
[286] انظر: «الإنصاف» (2/270).
[287] انظر: «الإنصاف» (2/270).
[288] انظر: «الإنصاف» (2/270).
[289] أخرجه الترمذي في الصوم/ باب ما جاء في الفطر والأضحى متى يكون (802) عن عائشة رضي الله عنها، وقال: «حسن غريب، صحيح من هذا الوجه»، وأخرجه أبو داود في الصيام/ باب إذا أخطأ القوم الهلال (2324)؛ وابن ماجه في الصيام/ باب ما جاء في شهري العيد (1660) عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه: «الفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون» قال ابن مفلح في «الفروع» (2/14): و«الإسناد جيد».
[290] أخرجه البخاري في الصوم/ باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم الهلال فصوموا وإن رأيتموه فأفطروا» (1909)؛ ومسلم في الصيام/ باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال وأنه إذا غم أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوماً (1081) (19) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[291] سبق تخريجه ص(308).
[292] أخرجه مسلم في الصيام/ باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم، وأنهم إذا رأوا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم (1087).
[293] أخرجه الترمذي في الصوم/ باب ما جاء أن الصوم يوم تصومون (697)؛ والدارقطني (2/164) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أبو داود في الصيام/ باب إذا أخطأ القوم الهلال (2324)؛ وابن ماجه في الصيام/ باب ما جاء في شهري العيد (1660) ولفظه عندهما «الفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون».
[294] أخرجه أبو داود في الصيام/ باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان (2342)؛ وصححه ابن حبان (3447)؛ والحاكم (1/423).
[295] أخرجه أبو داود في الصيام/ باب في شهادة الوافد على رؤية هلال رمضان (2340)؛ والترمذي في الصيام/ باب ما جاء في الصوم بالشهادة (691)؛ والنسائي في الصوم/ باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان (4/132)؛ وابن ماجه في الصوم/ باب ما جاء في الشهادة على رؤية الهلال (1652) انظر: «نصب الراية» (2/443).
[296] أخرجه البخاري في الأذان/ باب أذان الأعمى...(617)؛ ومسلم في الصيام/ باب بيان أن الدخول في الصوم...(1092) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[297] أخرجه البخاري في الأدب/ باب ما يكره من النميمة (6056)؛ ومسلم في الإيمان/ باب بيان غلظ تحريم النميمة (105) (169)، عن حذيفة رضي الله عنه.
[298] أخرجه البخاري في الجنائز/ باب الجريدة على القبر (1361)؛ ومسلم في الطهارة/ باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه (292) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[299] سبق تخريجه (312)
[300] أخرجه أحمد (4/321)؛ والنسائي في الصوم/ باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان (4/133)؛ والدارقطني (2/167) عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وصححه في «الإرواء» (4/16).
[301] «المبدع» (3/9)؛ و«كشاف القناع» (2/305).
[302] سبق تخريجه ص(308).
[303] سبق تخريجه ص(312).
[304] سبق تخريجه ص(316).
[305] سبق تخريجه ص(201).
[306] أخرجه البخاري في التفسير/ باب قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}} (4505).
[307] أخرجه البخاري في التفسير/ باب: {{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}} (4507)؛ ومسلم في الصيام/ باب بيان نسخ قول الله تعالى: {{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} بقوله تعالى {{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}} (1145).
[308] أخرجه البخاري في الصوم/ باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لمن ظلل عليه واشتد الحر: «ليس من البر الصيام في السفر» (1946) ومسلم في الصيام/ باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية... (1115) عن جابر رضي الله عنه.
[309] أخرجه البخاري في الصوم/ باب لم يعب أصحاب النبي (ص) بعضهم بعضاً في الصوم والإفطار (1947)؛ ومسلم في الصيام/ باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر من غير معصية... (1118) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[310] أخرجه البخاري في الصوم/ باب الصوم في السفر والإفطار (1943)؛ ومسلم في الصيام/ باب التخيير في الصوم والفطر في السفر (1121) عن عائشة رضي الله عنها.
[311] أخرجه البخاري معلقاً بصيغة التمريض في التيمم/ باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت...، ووصله أبو داود في الطهارة/باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم؟ (334)، والدارقطني (1/178) وصححه ابن حبان (1315) والحافظ في الفتح.
[312] أخرجه البخاري في الإجارة/ باب استئجار المشركين عند الضرورة أو إذا لم يوجد أهل الإسلام (2263) عن عائشة رضي الله عنها.
[313] «الإنصاف» (3/289).
[314] أخرجه البخاري في الصوم (1945)؛ ومسلم في الصيام/ باب التخيير في الصوم والفطر في السفر (1122).
[315] أخرجه مسلم في الصيام/ باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية (1114) عن جابر رضي الله عنه.
[316] سبق تخريجه ص(327).
[317] أخرجه البخاري في الحيض/ باب ترك الحائض الصوم (304) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[318] البخاري في الصوم/ باب إذا نوى بالنهار صوماً (1924) عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
[319] سبق تخريجه ص(41).
[320] أخرجه البخاري في الصوم/ باب إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس (1959).
[321] سبق تخريجه ص(287).
[322] أخرجه ابن أبي شيبة (3/54).
[323] سبق تخريجه، ص(324).
[324] أخرجه الدارقطني (2/207) وصححه الألباني في «الإرواء» (4/21).
[325] وهو المذهب. «الروض مع حاشية ابن قاسم» (3/371).
[326] سبق تخريجه ص(185).
[327] سبق تخريجه ص(328).
[328] «المحلى» (6/247).
[329] سبق تخريجه ص(327).
[330] سبق تخريجه ص(330).
[331] سبق تخريجه، ص(330).
[332] وبه قال الأصحاب، ورتبوا على ذلك فقالوا: يعايا بها، فيقال: مسلم مكلف أفطر في رمضان لم يلزمه قضاء ولا كفارة.
وجوابه: كبير عاجز عن الصوم كان مسافراً.
[333] «الإنصاف» (3/289).
[334] سبق تخريجه ص(330).
[335] أخرجه البيهقي (4/247) وانظر: «الإرواء» (4/64).
[336] أخرجه أبو داود في الصيام/ باب من قال هي مثبتة للشيخ والحبلى (2318)، والدارقطني (2/207) وصححه.
[337] أخرجه الشافعي (1/266)؛ والدارقطني (2/207) وصححه؛ والبيهقي (4/230). وصححه في «الإرواء» (4/20).
[338] وهو المذهب.
[339] أخرجه الإمام أحمد (4/347)؛ وأبو داود في الصيام/ باب في الصوم في السفر (2408)؛ والترمذي في الصيام/ باب ما جاء في الرخصة في الإفطار للحبلى والمرضع (715)؛ والنسائي في الصوم/ باب وضع الصيام عن المسافر (4/180)؛ وابن ماجه في الصيام/ باب ما جاء في الإفطار للحامل والمرضع (1667) عن أنس بن مالك ـ أحد بني قُشَير ـ رضي الله عنه، وحسنه الترمذي، وفي تخريج «المشكاة» (2025) «سنده جيد».
[340] سبق تخريجه ص(348).
[341] وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما كما في «مصنف عبد الرزاق» (7564).
[342] وهو المذهب. وقال بعض الأصحاب: لا يلزمه، قال في «الفائق»: وهو المختار «الإنصاف» (3/293).
[343] انظر: وجوب القضاء على المغمى عليه في الجزء الثاني.
[344] سبق تخريجه ص(41).
[345] سبق تخريجه ص(201).
[346] أخرجه الدارقطني (2/172)؛ والبيهقي (4/203). ووثق رواته الدارقطني وأقرهُ البيهقي، وانظر: «الجوهر النقي» (4/203)؛ و«نصب الراية» (2/433)؛ و«التلخيص» (881)؛ و«الإرواء» (4/25).
[347] أخرجه البخاري في النكاح/ باب قول الرجل، لأطوفن الليلة على نسائي (5242)؛ ومسلم في الأيمان/ باب الاستثناء في اليمين وغيرها (1654) (23) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[348] «الروض المربع» (3/385).
[349] أخرجه مسلم في الصيام/ باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال (1154) (170) عن عائشة رضي الله عنها.
[350] وهو المذهب «الإنصاف» (3/298).
[351] سبق تخريجه ص(41).
[352] سيأتي تخريجه ص(524).
[353] سبق تخريجه ص(41).
[354] سبق تخريجه ص172.
[355] أخرجه البخاري معلقاً بصيغة التمريض عن أبي هريرة رضي الله عنه ـ مرفوعاً ـ في الصوم/ باب إذا جامع في رمضان؛ ووصله أبو داود في الصيام/ باب التغليظ فيمن أفطر عمداً (2396)؛ والترمذي في الصوم/ باب ما جاء في الإفطار متعمداً (723)؛ والنسائي في «الكبرى» (3265) ط/ الرسالة؛ وابن ماجه في الصيام/ باب ما جاء في كفارة من أفطر يوماً من رمضان (1672).
وروي موقوفاً على ابن مسعود رضي الله عنه أخرجه البخاري معلقاً في الصوم/ باب إذا جامع في رمضان، ووصله عبد الرزاق (7467)؛ وابن أبي شيبة (3/105)؛ والبيهقي (4/228)؛ وانظر: «تغليق التعليق» (3/169).
التعديل الأخير تم بواسطة إدارة منابر سبل الهدى السلفية ; 07-01-2014 الساعة 01:33 AM
http://www.subulhoda.com/salafi/clear.gif رد مع اقتباس (http://www.subulhoda.com/salafi/newreply.php?do=newreply&p=20505)
06-10-2014, 12:46 PM #2 (http://www.subulhoda.com/salafi/showthread.php?11037-شرح-(كتاب-الصيام)-من-الشرح-الممتع-على-زاد-المستقنع-لسماحة-الشيخ-العلامة-الفقيه-الإمام-محمد-بن-صالح-العثيمين-رحمه-الله-مفرغ&p=20506&viewfull=1#post20506)
أبو قتادة حسام بن أحمد العدني (http://www.subulhoda.com/salafi/member.php?5-أبو-قتادة-حسام-بن-أحمد-العدني)
http://www.subulhoda.com/salafi/images/primus/sandy/statusicon/user-offline.png
محظور تاريخ التسجيلAug 2012المشاركات1,228
http://www.subulhoda.com/salafi/images/icons/icon1.png بَابُ مَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَيُوجِبُ الكَفَّارَةَ
بَابُ مَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَيُوجِبُ الكَفَّارَةَ
مَنْ أَكَلَ،.......
قوله: «باب ما يفسد الصوم» أي: يبطله، والصوم يشمل الفرض والنفل.
والعلماء ـ رحمهم الله ـ لهم أساليب في تسمية الأبواب معناها واحد، ولكن تختلف لفظاً، ففي الوضوء يسمون المفسدات نواقض وفي الغسل يسمونها موجبات الغسل، وفي باب الصلاة يسمونها مبطلات الصلاة، وفي الصوم يسمونها مفسدات الصوم، وفي باب الإحرام يسمونها محظورات الإحرام، وكل هذه، المعنى فيها واحد.
والمفسد للصوم يسمى عند العلماء المفطرات، وأصولها ثلاثة ذكرها الله ـ عزّ وجل ـ في قوله: {{فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}} [البقرة: 187] . وقد أجمع العلماء على أن هذه الثلاثة تفسد الصوم، وما سوى ذلك سيأتي إن شاء الله الكلام عليه.
قوله: «ويوجب الكفارة» الكفارة «الـ» هنا للعهد الذهني، فهي الكفارة المعروفة: عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً.
قوله: «من أكل» «من» هذه شرطية وجوابه قوله «فسد صومه» ، والأكل هو إدخال الشيء إلى المعدة عن طريق الفم.
وقولنا إدخال الشيء يشمل ما ينفع وما يضر، وما لا يضر ولا ينفع، فما ينفع كاللحم والخبز وما أشبه ذلك، وما يضر كأكل الحشيشة ونحوها، ما لا نفع فيه ولا ضرر مثل أن يبتلع خرزة سبحة أو نحوها؛ ووجه العموم إطلاق الآية {{كُلُوا وَاشْرَبُوا}} وهذا يسمى أكلاً.
وقال بعض أهل العلم: إن ما لا يغذي لا فطر بأكله، وبناءً على هذا فإنّ بلع الخرزة أو الحصاة أو ما أشبههما لا يفطر.
والصحيح أنه عام، وأن كل ما ابتلعه الإنسان من نافع أو ضار، أو ما لا نفع فيه ولا ضرر فإنه مفطر لإطلاق الآية.
أَوْ شَرِبَ أوْ اسْتَعَطَ،........
قوله: «أو شرب» الشرب يشمل ما ينفع وما يضر، وما لا نفع فيه ولا ضرر، فكل ما يشرب من ماء، أو مرق، أو لبن، أو دم، أو دخان، أو غير ذلك، فإنه داخل في قول المؤلف «أو شرب» .
ويلحق بالأكل والشرب ما كان بمعناهما، كالإبر المغذية التي تغني عن الأكل والشرب.
قوله: «أو استعط» أي: تناول السعوط، والسعوط ما يصل إلى الجوف عن طريق الأنف، فإنه مفطر؛ لأن الأنف منفذ يصل إلى المعدة، ودليل ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً» [(356)] وهذا يدل على أن الصائم لا يبالغ في الاستنشاق، ولا نعلم لهذا علة إلا أن المبالغة تكون سبباً لوصول الماء إلى المعدة، وهذا مخل بالصوم، وعلى هذا فنقول: كل ما وصل إلى المعدة عن طريق الأنف أو الفم فإنه مفطر.
أوْ احْتَقَنَ،...........
قوله: «أو احتقن» الاحتقان هو إدخال الأدوية عن طريق الدبر، وهو معروف، ولا يزال يعمل، فإذا احتقن فإنه يفطر بذلك، لأن العلة وصول الشيء إلى الجوف، والحقنة تصل إلى الجوف، أي: تصل إلى شيء مجوف في الإنسان، فتصل إلى الأمعاء فتكون مفطرة، فإذا وصل إلى الجوف شيء عن طريق الفم، أو الأنف، أو أي منفذ كان، فإنه يكون مفطراً، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد[(357)]، وعليه أكثر أهل العلم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: لا فطر بالحقنة؛ لأنه لا يطلق عليها اسم الأكل والشرب لا لغة ولا عرفاً، وليس هناك دليل في الكتاب والسنة، أن مناط الحكم وصول الشيء إلى الجوف، ولو كان لقلنا: كل ما وصل إلى الجوف من أي منفذ كان فإنه مفطر، لكن الكتاب والسنة دلا على شيء معين وهو الأكل والشرب.
وقال بعض العلماء المعاصرين: إن الحقنة إذا وصلت إلى الأمعاء فإن البدن يمتصها عن طريق الأمعاء الدقيقة، وإذا امتصها انتفع منها، فكان ما يصل إلى هذه الأمعاء الدقيقة كالذي يصل إلى المعدة من حيث التغذي به، وهذا من حيث المعنى قد يكون قوياً.
لكن قد يقول قائل: إن العلة في تفطير الصائم بالأكل والشرب ليست مجرد التغذية، وإنما هي التغذية مع التلذذ بالأكل والشرب، فتكون العلة مركبة من جزأين:
أحدهما: الأكل والشرب.
الثاني: التلذذ بالأكل والشرب؛ لأن التلذذ بالأكل والشرب مما تطلبه النفوس، والدليل على هذا أن المريض إذا غذي بالإبر لمدة يومين أو ثلاثة، تجده في أشد ما يكون شوقاً إلى الطعام والشراب مع أنه متغذٍ.
فإن قيل: ينتقض قولكم إن العلة مركبة من جزأين إلى آخره أن السعوط مفطر مع أنه لا يحصل به تلذذ بالأكل والشرب. فالجواب أن الأنف منفذ معتاد لتغذية الجسم، فألحق بما كان عن طريق الفم.
وبناء على هذا نقول: إن الحقنة لا تفطر مطلقاً، ولو كان الجسم يتغذى بها عن طريق الأمعاء الدقيقة.
فيكون القول الراجح في هذه المسألة قول شيخ الإسلام ابن تيمية مطلقاً، ولا التفات إلى ما قاله بعض المعاصرين.
ومن الحقن المعروفة الآن ما يوضع في الدبر عند شدة الحمى، ومنها أيضاً ما يدخل في الدبر من أجل العلم بحرارة المريض وما أشبه ذلك، فكل هذا لا يفطر.
ثم لدينا قاعدة مهمة لطالب العلم، وهي أننا إذا شككنا في الشي أمفطر هو أم لا؟ فالأصل عدم الفطر، فلا نجرؤ على أن نفسد عبادة متعبد لله إلا بدليل واضح يكون لنا حجة عند الله عزّ وجل.
أوْ اكْتَحَلَ بِمَا يَصِلُ إِلَى حَلْقِهِ، أوْ أدْخَلَ إِلَى جَوْفِهِ شَيْئاً مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ .......
قوله: «أو اكتحل بما يصل إلى حلقه» الكحل معروف، فإذا اكتحل بما يصل إلى الحلق فإنه يفطر؛ لأنه وصل إلى شيء مجوف في الإنسان وهو الحلق، هذا هو تعليل من قال إن الكحل يفطر ولكن في هذا التعليل نظر، ولذلك ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ إلى أن الكحل لا يفطر ولو وصل طعم الكحل إلى الحلق[(358)]، وقال: إن هذا لا يسمى أكلاً وشرباً، ولا بمعنى الأكل والشرب، ولا يحصل به ما يحصل بالأكل والشرب، وليس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث صحيح صريح يدل على أن الكحل مفطر، والأصل عدم التفطير، وسلامة العبادة حتى يثبت لدينا ما يفسدها، وما ذهب إليه ـ رحمه الله ـ هو الصحيح.
وبناءً على هذا لو أنه قطر في عينه وهو صائم فوجد الطعم في حلقه، فإنه لا يفطر بذلك أما إذا وصل طعمها إلى الفم وابتلعها فقد صار أكلاً وشرباً.
قوله: «أو أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان» قوله: «إلى جوفه» أي: إلى مجوف في بدنه كحلقه وبطنه وصدره، والمراد أنه يفطر بذلك، فلو أن الإنسان أدخل منظاراً إلى المعدة حتى وصل إليها، فإنه يكون بذلك مفطراً.
والصحيح أنه لا يفطر إلا أن يكون في هذا المنظار، دهن أو نحوه يصل إلى المعدة بواسطة هذا المنظار فإنه يكون بذلك مفطراً، ولا يجوز استعماله في الصوم الواجب إلا للضرورة.
ولو أن الإنسان كان له فتحة في بطنه، وأدخل إلى بطنه شيئاً عن طريق هذه الفتحة، فعلى المذهب يفطر بذلك كما لو داوى الجائفة، والصحيح أنه لا يفطر بذلك إلا أن تجعل هذه الفتحة بدلاً عن الفم بحيث يدخل الطعام والشراب منها لانسداد المرئ أو تقرحه، ونحو ذلك فيكون ما أدخل منها مفطراً كما لو أدخل من الفم، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
غَيْرَ إحْلِيلِهِ، أوِ اسْتَقَاءَ أوْ اسْتَمْنَى، أَوْ بَاشَرَ فَأَمْنَى، أَوْ أَمْذَى، أو كَرَّرَ النَّظَرَ فَأَنْزَلَ،.........
وقوله: «غير إحليله» أي: قناة الذكر، فلو أدخل عن طريق الذكر خيطاً فيه طعم دواء فإنه لا يفطر؛ لأن الذكر لا يصل إلى الجوف ما دخل عن طريقه، فإن البول إنما يخرج رشحاً، هكذا علل الفقهاء ـ رحمهم الله ـ ومرادهم بذلك أن البول يجتمع في المثانة عن طريق الرشح؛ لأنه ليس لها إلا منفذ واحد.
والحمد لله نحن في غنى عن هذه التعليلات من الأصل إذا أخذنا بالقول الراجح، وهو أن المفطر هو الأكل والشرب، وما أدخل من طريق الإحليل فإنه لا يسمى أكلاً ولا شرباً، وإذا كانت الحقنة وهي التي تدخل عن طريق الدبر لا تفطر على القول الراجح، فما دخل عن طريق الإحليل من باب أولى.
قوله: «أو استقاء» أي: استدعى القيء، ولكن لا بد من قيء، فلو استدعى القيء ولكنه لم يقئ فإن صومه لا يفسد، بل لا يفسد إلا إذا استقاء فقاء، ولا فرق بين أن يكون القيء قليلاً أو كثيراً.
أما ما خرج بالتعتعة من الحلق فإنه لا يفطر، فلا يفطر إلا ما خرج من المعدة، سواء كان قليلاً أو كثيراً، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من استقاء عمداً فليقض، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه» [(359)]، «ذرعه» أي: غلبه.
واستدعاء القيء له طرق: النظر، الشم، والعصر، والجذب، وربما نقول السمع أيضاً.
أما النظر: فكأن ينظر الإنسان إلى شيءٍ كريهٍ فتتقزز نفسه ثم يقيء.
وأما الشم: فكأن يشم رائحة كريهة فيقيء.
وأما العصر: فكأن يعصر بطنه عصراً شديداً إلى فوق ثم يقيء.
وأما الجذب: بأن يدخل أصبعه في فمه حتى يصل إلى أقصى حلقه ثم يقيء.
أما السمع: فربما يسمع شيئاً كريهاً.
وقال بعض العلماء: إنه لا فطر في القيء ولو تعمده بناءً على قاعدة قعدوها، وهي: «الفطر مما دخل لا مما خرج، والوضوء مما خرج لا مما دخل»، وضعفوا حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ وقالوا: إنه مخالف للقياس مع ضعف سنده، والجواب: أن يقال أين الدليل على هذه القاعدة، فهذا لحم الإبل ينقض وهو داخل، فسيقولون لا ينقض الوضوء إلا على مذهب الإمام أحمد فقاعدتنا سليمة، قلنا لهم: إنزال المني من الصائم خارج، ويفسد الصوم.
والصواب أن القيء عمداً مفطر؛ لأن الحديث دل عليه والقاعدة التي أسسوها غير صحيحة، والحكمة تقتضي أن يكون مفطراً؛ لأن الإنسان إذا استقاء ضعف واحتاج إلى أكل وشرب فنقول له لا يحل لك في الصوم الواجب سواء رمضان أو غيره أن تتقيء إلا للضرورة، فإن اضطررت إلى القيء فتقيأ ثم أعد على بدنك ما يحصل به القوة من الأكل الشرب، فهذا القول كما هو مقتضى الحديث فهو مقتضى النظر الصحيح، أما رأيهم فهو يعارض النص، والرأي المقابل للنص المعارض له فاسد لا عبرة به، ونقول لصاحبه: أأنت أعلم أم الله؟ فما دام هذا حكم الله فإنه خير من الرأي.
قوله: «أو استمنى» .
أي: طلب خروج المني بأي وسيلة، سواء بيده، أو بالتدلك على الأرض، أو ما أشبه ذلك حتى أنزل، فإنّ صومه يفسد بذلك، وهذا ما عليه الأئمة الأربعة ـ رحمهم الله ـ مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد.
وأبى الظاهرية ذلك وقالوا: لا فطر بالاستمناء ولو أمنى[(360)]، لعدم الدليل من القرآن والسنة على أنه يفطر بذلك، فإن أصول المفطرات ثلاثة، وليس هذا منها فيحتاج إلى دليل، ولا يمكن أن نفسد عبادة عباد الله إلا بدليل من الله ورسوله (ص).
ولكن عندي والله أعلم أنه يمكن أن يستدل على أنه مفطر من وجهين:
الوجه الأول النص: فإن في الحديث الصحيح أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قال في الصائم: «يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي» [(361)] والاستمناء شهوة، وخروج المني شهوة، والدليل على أن المني يطلق عليه اسم شهوة قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «وفي بضع أحدكم صدقة قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر، كذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» [(362)] والذي يوضع هو المني.
الوجه الثاني: القياس، فنقول: جاءت السنة بفطر الصائم بالاستقاء إذا قاء، وبفطر المحتجم إذا احتجم وخرج منه الدم، وكلا هذين يضعفان البدن.
أما خروج الطعام فواضحٌ أنه يضعف البدن؛ لأن المعدة تبقى خالية فيجوع الإنسان ويعطش سريعاً.
وأما خروج الدم فظاهر أيضاً أنه يضعف البدن، ولهذا ينصح من احتجم أو تبرع لأحد بدم من جسمه، أن يبادر بالأكل السريع الهضم والسريع التفرق في البدن، حتى يعوض ما نقص من الدم، وخروج المني يحصل به ذلك فيفتر البدن بلا شك، ولهذا أمر بالاغتسال ليعود النشاط إلى البدن، فيكون هذا قياساً على الحجامة والقيء، وعلى هذا نقول: إن المني إذا خرج بشهوة فهو مفطر للدليل والقياس.
قوله: «أو باشر فأمنى» أي: باشر زوجته سواء باشرها باليد، أو بالوجه بتقبيل، أو بالفرج، فإنه إذا أنزل أفطر، وإذا لم يُنزل فلا فطر بذلك.
ونقول في الإنزال بالمباشرة ما قلنا في الإنزال بالاستمناء: إنه مفطر.
وعلم من كلام المؤلف، أنه لو استمنى بدون إنزال فإنه لا فطر، وأنه لو باشر بدون إنزال فإنه لا فطر في ذلك أيضاً، وسيأتي بيان حكم المباشرة.
قوله: «أو أمذى» أي: فإنه يفطر، والمذي هو ماء رقيق يحصل عقيب الشهوة بدون أن يحس به الإنسان عند خروجه، وهو بين البول والمني من حيث النجاسة، فالمني طاهر موجب لغسل جميع البدن، والبول نجس موجب لغسل ما أصاب من البدن والملابس، والمذي يوجب غسل الذكر والأنثيين، ولا يوجب الغسل إذا أصاب الملابس، بل يكفي فيه النضح كما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك[(363)].
فالمذهب أن خروج المذي مفسد للصوم كالمني، أي: إذا استمنى فأمذى، أو باشر فأمذى فإنه يفسد صومه، والذين يقولون لا يفسد بالمني يقولون لا يفسد بالمذي من باب أولى، والذين يقولون إن الصوم يفسد بالمني اختلفوا في المذي على قولين:
فالمذهب أنه يفطر، ولا دليل له صحيح، والصحيح القول الثاني أنه لا يفطر؛ لأن المذي دون المني لا بالنسبة للشهوة ولا بالنسبة لانحلال البدن، ولا بالنسبة للأحكام الشرعية حيث يخالفه في كثير منها بل في أكثرها أو كلها، فلا يمكن أن يلحق به.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ والحجة فيه عدم الحجة، أي عدم الحجة على إفساد الصوم به؛ لأن هذا الصوم عبادة شرع فيها الإنسان على وجه شرعي فلا يمكن أن نفسد هذه العبادة إلا بدليل.
قوله: «أو كرر النظر فأنزل» يعني فإنه يفسد صومه، وتكرار النظر يحصل بمرتين، فإن نظر نظرة واحدة فأنزل لم يفسد صومه لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لك الأولى وليست لك الثانية» [(364)]، ولأن الإنسان لا يملك أن يجتنب هذا الشيء، فإن بعض الناس يكون سريع الإنزال وقوي الشهوة؛ إذا نظر إلى امرأته أنزل، ولو قلنا: إنه يفطر بذلك لكان فيه مشقة.
فصار النظر فيه تفصيل، إن كرره حتى أنزل فسد صومه، وإن أنزل بنظرة واحدة لم يفسد، إلا أن يستمر حتى ينزل فيفسد صومه؛ لأن الاستمرار كالتكرار، بل قد يكون أقوى منه في استجلاب الشهوة والإنزال.
وأما التفكير بأن فكر حتى أنزل فلا يفسد صومه، لعموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم» [(365)] إلا إن حصل معه عمل يحصل به الإنزال كعبث بذكره ونحوه.
والخلاصة:
أولاً: المباشرة إذا أنزل فيها، فسد صومه وكذلك إذا أمذى على المذهب.
ثانياً: النظر.
إن كان واحدة فأنزل أو أمذى فلا شيء عليه في ذلك، وإن كرر فأمذى فلا شيء في ذلك، وإن كرَّر فأنزل فسد صومه.
وهنا فرَّق المؤلف ـ رحمه الله ـ بين الإمذاء والإمناء، فإذا كرر النظر فأمذى فلا يفسد صومه، وإذا كرره فأمنى فسد صومه.
والصواب أنه لا فرق بينهما في هذه الحال الثانية وغيرها؛ وأنه لا يفسد صومه بالإمذاء مطلقاً سواء كان بمباشرة أو بنظر.
ثالثاً: التفكير لا يفسد به صومه سواءٌ أمنى أو أمذى على ما سبق.
مسألة: لو تحدث الرجل مع امرأته حتى أنزل هل نلحقه بالمباشرة فنقول: يفسد صومه أو نلحقه بالنظر؟ الظاهر أنه يلحق بالنظر فيكون أخف من المباشرة، وعليه يلحق تكرار القول بتكرار النظر، فإن الإنسان مع القول قد يكون أشد تلذذاً من النظر.
أَوْ حَجَمَ أوْ احْتَجَمَ وَظَهَرَ دَمٌ ..........
قوله: «أو حجم أو احتجم وظهر دم» «حجم» أي: حجم غيره.
«احتجم» بمعنى طلب من يحجمه، فإذا حجم غيره أو احتجم، وظهر دم فسد صومه، فإن لم يظهر دم؛ لكون المحجوم قليل الدم ولم يخرج منه شيء لم يفسد صومه.
وظاهر قول المؤلف: «وظهر دم» أنه لا فرق بين أن يكون الدم الظاهر قليلاً أو كثيراً، وسواء كانت الحجامة في الرأس، أو في الكتفين، أو في أي مكان من البدن.
ومواضع الحجامة وأوقاتها وأحوال المحجوم، ومن يمكن أن يحجم، ومن لا يمكن معروفة عند الحجامين، ولهذا يجب على الإنسان إذا أراد الحجامة أن يحتاط، ويختار لمن يحجمه من هو معروف بالحِذْق، لئلا ينزف دمه من حيث لا يشعر.
وهذه المسألة اختلف العلماء فيها كثيراً وهي من مفردات الإمام أحمد، فأكثر أهل العلم يرون أن الحجامة لا تفطر ويستدلون بالآثار والنظر، فالآثار يقولون إنه ثبت في البخاري عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «احتجم وهو صائم، واحتجم وهو محرم» [(366)]، واستدلوا أيضاً بأحاديث أخرى من رواية أنس وغيره وفي بعضها التفصيل بأن الحجامة كانت من أجل الضعف[(367)]، ثم رخص فيها، واستدل القائلون بالإفطار بحديث شداد بن أوس وغيره أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أفطر الحاجم والمحجوم» [(368)].
وهذا الحديث ضعفه بعض أهل العلم، وقالوا: إنه لا يصح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فمن ضعفه فإنه لا يستدل به ولا يأخذ به؛ لأنه لا يجوز أن يحتج بالضعاف على أحكام الله ـ عزّ وجل ـ، ومن العلماء من صححه كالإمام أحمد، وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهما من الحفاظ، وعلى هذا يكون الحديث حجة.
فإذا كان حجة وقلنا: إنه يفطر بالحجامة الحاجم والمحجوم، فما هي الحكمة؟
الجواب قال الفقهاء ـ رحمهم الله ـ: إن هذا من باب التعبد[(369)]، والأحكام الشرعية التي لا نعرف معناها تسمى عند أهل الفقه تعبدية، بمعنى أن الواجب على الإنسان أن يتعبد لله بها سواء عَلِمَ الحكمة أم لا.
ولكن هل لها حكمة معلومة عند الله؟
الجواب: نعم لا شك؛ لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قال: {{ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}} [الممتحنة: 10] فما من حكم من أحكام الشريعة إلا وله حكمة عند الله ـ عزّ وجل ـ لكن قد تظهر لنا بالنص أو بالإجماع أو بالاستنباط، وقد لا تظهر لقصورنا، أو لتقصيرنا في طلب الحكمة.
وهذه الأحكام التعبدية لها أصل أشارت إليه أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ حين سألتها معاذة بنت عبد الله العدوية قالت: «ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة» [(370)] فوكلت الأمر إلى حكم الله ورسوله، ولم تقل: لأن الصلاة تتكرر، والصيام لا يتكرر، وما أشبه ذلك مما ذكره الفقهاء، ولأن المؤمن إذا قيل له هذا حكم الله انقاد، فهذه هي الحكمة لقول الله تعالى: {{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}} [الأحزاب: 36] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ[(371)]: إن إفطار الصائم بالحجامة له حكمة، أما المحجوم فالحكمة هو أنه إذا خرج منه هذا الدم أصاب بدنه الضعف، الذي يحتاج معه إلى غذاء لترتد عليه قوته، لأنه لو بقي إلى آخر النهار على هذا الضعف فربما يؤثر على صحته في المستقبل، فكان من الحكمة أن يكون مفطراً، وعلى هذا فالحجامة للصائم لا تجوز في الصيام الواجب إلا عند الضرورة، فإذا جازت للضرورة جاز له أن يفطر، وإذا جاز له أن يفطر جاز له أن يأكل، وحينئذ نقول احتجم وكل واشرب من أجل أن تعود إليك قوتك وتسلم، مما يتوقع من مرض بسبب هذا الضعف.
أما إذا كان الصوم نفلاً فلا بأس بها؛ لأن الصائم نفلاً له أن يخرج من صومه بدون عذر، لكنه يكره لغير غرض صحيح.
وأما الحكمة بالنسبة للحاجم، فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: إن الحاجم عادة يمص قارورة الحجامة، وإذا مصها فإنه سوف يصعد الدم إلى فمه، وربما من شدة الشفط ينزل الدم إلى بطنه من حيث لا يشعر، وهذا يكون شرباً للدم فيكون بذلك مفطراً، ويقول: هذا هو الغالب ولا عبرة بالنادر.
وقوارير الحجامة عبارة عن قارورة من حديد يكون فيها قناة دقيقة يمصها الحاجم، ويكون في فمه قطنة إذا مصها سدها بهذه القطنة؛ لأنه إذا مصها تفرغ الهواء، وإذا تفرغ الهواء فلا بد أن يجذب الدم، وإذا جذب الدم امتلأت القارورة ثم سقطت، وما دامت لم تمتلئ فهي باقية.
والحكمة إذا كانت غير منضبطة فإنه يؤخذ بعمومها، ولهذا قال: لو أنه حجم بآلات منفصلة لا تحتاج إلى مص، فإنه لا يفطر بذلك.
أما الذين قالوا العلة تعبدية فيقولون: إن الحاجم يفطر، ولو حجم بآلات منفصلة لعموم اللفظ.
والذي يظهر لي ـ والعلم عند الله ـ أن ما ذهب إليه شيخ الإسلام أولى، فإذا حجم بطريق غير مباشر ولا يحتاج إلى مص فلا معنى للقول بالفطر؛ لأن الأحكام الشرعية ينظر فيها إلى العلل الشرعية.
فإن قيل: العلة إذا عادت على النص بالإبطال دل ذلك على فسادها، وهذا حاصل في قول شيخ الإسلام إذا حجم الشخص بآلات منفصلة؟
فالجواب أن يقال: إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يتكلم عن شيء معهود في زمنه، فتكون «أل» في «الحاجم» للعهد الذهني المعروف عندهم.
والقول بأن الحجامة مفطرة هو مذهب الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ، وهو منفرد به عن المذاهب، وانفراد الإمام أحمد عن المذاهب لا يعني أن قوله ضعيف؛ لأن قوة القول ليست بالأكثرية، بل تعود إلى ما دل عليه الشرع، وإذا انفرد الإمام أحمد بقول دل عليه الشرع فإنه مع الجماعة[(372)].
مسألة: هل يلحق بالحجامة الفصد، والشرط، والإرعاف، وما أشبه ذلك، كالتبرع بالدم؟
الفصد: قطع العرق، والشرط: شق العرق.
فإن شققته طولاً فهو شرط، وإن شققته عرضاً فهو فصد.
فالمذهب لا يلحق بالحجامة؛ لأن الأحكام التعبدية لا يقاس عليها، وهذه قاعدة أصولية فقهية «الأحكام التعبدية لا يقاس عليها»؛ لأن من شرط القياس اجتماع الأصل والفرع في العلة، وإذا لم تكن معلومة فلا قياس، فيقولون: إن الفطر بالحجامة تعبدي، فلا يلحق به الفصد والشرط والإرعاف ونحوها فتكون هذه جائزة للصائم فرضاً ونفلاً.
أما على ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أن علة الفطر بالحجامة معلومة، فيقول: إن الفصد والشرط يفسدان الصوم، وكذلك لو أرعف نفسه حتى خرج الدم من أنفه، بأن تعمد ذلك ليخف رأسه، فإنه يفطر بذلك، وقوله ـ رحمه الله ـ أقرب إلى الصواب.
وأما مغالاة العامة بحيث إن الإنسان لو استاك وأدمت لثته قالوا: أفطر، ولو حك جلده حتى خرج الدم قالوا: أفطر، ولو قلع ضرسه وخرج الدم قالوا: أفطر، ولو رعف بدون اختياره قالوا: أفطر، فكل هذه مبالغة، فقلع الضرس لا يفطر ولو خرج الدم؛ لأن قالع ضرسه لا يقصد بذلك إخراج الدم، وإنما جاء خروج الدم تبعاً، وكذلك لو حك الإنسان جلده، أو بط الجرح حتى خرجت منه المادة العفنة فكل ذلك لا يضر.
عامداً ذَاكِراً لِصَوْمِهِ فَسد لا ناسياً ..........
قوله: «عامداً» حال من فاعل «أكل» وما عطف عليه، اشترط المؤلف لفساد الصوم بما ذكر شرطين:
الشرط الأول: أن يكون عامداً، وضده غير العامد، وهو نوعان، أحدهما: أن يحصل المفطر بغير اختياره بلا إكراه، مثل أن يطير إلى فمه غبار أو دخان أو حشرة أو يتمضمض، فيدخل الماء بطنه بغير قصد فلا يفطر، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}} [الأحزاب: 5] وهذا لم يتعمد قلبه فعل المفسد فيكون صومه صحيحاً.
الثاني: أن يفعل ما يفطر مكرهاً عليه فلا يفسد صومه لقوله تعالى: {{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *}} [النحل] فإذا كان حكم الكفر يعفى عنه مع الإكراه، فما دون الكفر من باب أولى، وعلى هذا فلو أكره الرجل زوجته على الجماع وهي صائمة، وعجزت عن مدافعته فصيامها صحيح، ويشترط لرفع الحكم أن يفعل هذا الشيء لدفع الإكراه لا للاطمئنان به، يعني أنه شرب أو أكل دفعاً للإكراه لا رضاً بالأكل أو الشرب بعد أن أكره عليه، فإن فعله رضاً بالأكل أو الشرب بعد أن أكره عليه فإنه لا يعتبر مكرهاً، هذا هو المشهور من المذهب، وقيل: بل يعتبر مكرهاً؛ لأن أكثر الناس لا سيما العوام لا يفرقون بين أن يفعلوا هذا الشيء لدفع الإكراه أو أن يفعلوه اطمئناناً به؛ لأنهم أكرهوا وعموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» [(373)] يشمل هذه الصورة، وهذا اختيار شيخ الإسلام.
قوله: «ذاكراً لصومه فسد لا ناسياً» .
هذا هو الشرط الثاني: أن يكون ذاكراً، وضده الناسي.
فلو فعل شيئاً من هذه المفطرات فاسداً، فلا شيء عليه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه» [(374)].
وقوله صلّى الله عليه وسلّم «وهو صائم» يشمل الفريضة، والنافلة.
وانظر قوله في الحديث «أطعمه الله» فلم ينسب الفعل إلى الفاعل، بل إلى الله؛ لأنه ناسٍ لم يقصد المخالفة والمعصية، ولهذا نُسب فعله إلى من أنساه وهو الله ـ عزّ وجل ـ وهذا دليل خاص.
ولدينا دليل عام وهو قاعدة شرعية من أقوى قواعد الشريعة وهي قوله تعالى: {{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا}} [البقرة: 286] فقال الله تعالى: «قد فعلت».
فصار في النسيان دليلان عام وخاص، وإذا اجتمع في المسألة دليلان عام وخاص فالأولى أن نستدل بالخاص؛ لأننا إذا استدللنا بالعام، فإنه قد يقول قائل هذا عام والمسألة هذه مستثناة من العموم، فقد يدعي هذا، مع أنه لو ادعاه لكانت الدعوى مردودة؛ لأن الأصل أن العموم شامل لجميع أفراده؛ والدليل على أن العام شامل لجميع أفراده؛ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنكم إذا قلتم السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فقد سلمتم على كل عبد صالح في السماء والأرض» [(375)] لأن «عباد الله الصالحين» عامة؛ ولذلك قال: «فقد سلمتم على كل عبد صالح في السماء والأرض» فلو استدللنا على أن الناسي إذا أكل أو شرب لا يفسد صومه بآية البقرة، فإنه استدلال صحيح، ولو ادعى مدعٍ أن هذا خارج عن العموم قلنا له أين الدليل؟ لأن الأصل أن العام شامل لجميع أفراد العموم.
لكن لو أكل ناسياً أو شرب ناسياً، ثم ذكر أنه صائم واللقمة في فمه، فهل يلزمه أن يلفظها؟
الجواب: نعم يلزمه أن يلفظها؛ لأنها في الفم وهو في حكم الظاهر، ويدل على أنه في حكم الظاهر، أن الصائم لو تمضمض لم يفسد صومه، أما لو ابتلعها حتى وصلت ما بين حنجرته ومعدته لم يلزمه إخراجها، ولو حاول وأخرجها، لفسد صومه لأنه تعمد القيء.
أفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ بعموم كلامه أن الجماع كغيره، والجماع على المشهور من المذهب لا يشمله هذا الحكم والصحيح أنه كغيره والدليل عدم الدليل على الفرق، ونحن لا نفرق إلا ما فرق الله ورسوله (ص) بينه، ولم يفرق الله، ـ عزّ وجل ـ ورسوله (ص) بين الجماع وغيره إلا في مسألة واحدة وهي الكفارة.
أَوْ مُكْرهاً .........
قوله: «أو مكرهاً» يعني أنه إذا كان مكرهاً على المفطرات، فإنه لا يفطر، فيشترط أن يكون عمداً، لقول الله تعالى: {{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}} [الأحزاب: 5] [(376)].
قال في الروض: «ولو بوجور مغمى عليه معالجة» أي: إذا أغمي عليه وهو صائم، فصبوا في فمه ماء لعله يصحو فصحا فلا يفطر بهذا؛ لأنه غير قاصد، فالذي صب في فمه الماء شخص آخر، وهو مغمى عليه لا يحس، كما لو أتيت إلى شخص نائم وصببت في فمه ماء فإنه لا يفطر؛ لأنه بغير قصد، وإذا صببت في فمه الماء فسوف يبتلعه وهو نائم، ولكنه يبتلعه وهو غير تام الشعور فلا يفسد صومه.
ومقتضى كلام المؤلف، أنه لا يشترط أن يكون عالماً؛ لأنه لم يذكر إلاّ شرطين، العمد والذكر، فإن كان جاهلاً فإنه يفطر.
والصحيح اشتراط العلم، لدلالة الكتاب والسنة عليه، فتكون شروط المفطرات ثلاثة: العلم، والذكر، والعمد.
وضد العلم الجهل، والجهل ينقسم إلى قسمين:
1 ـ جهل بالحكم الشرعي، أي: لا يدري أن هذا حرام.
2 ـ جهل بالحال، أي: لا يدري أنه في حال يحرم عليه الأكل والشرب، وكلاهما عذر.
والدليل لذلك قوله تعالى: {{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا}} [البقرة: 286] وإذا انتفت المؤاخذة انتفى ما يترتب عليها، وهذا دليل عام.
وهناك دليل خاص في هذه المسألة للنوعين من الجهل:
أما الجهل بالحكم، فدليله حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه «أنه أراد أن يصوم وقرأ قول الله تعالى: {{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ}} [البقرة: 187] فأتى بعقال أسود، ـ حبل تربط به يد البعير ـ وأتى بعقال أبيض، وجعلهما تحت وسادته، وجعل يأكل وينظر إلى الخيطين حتى تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود» فهذا أخطأ في فهم الآية؛ لأن المراد بها أن الخيط الأبيض بياض النهار، والأسود سواد الليل، فلما جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبره قال له: «إن وسادك لعريض أن وسع الخيط الأبيض والأسود» [(377)] ولم يأمره بالقضاء؛ لأنه جاهل لم يقصد مخالفة الله ورسوله (ص)، بل رأى أن هذا حكم الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فعذر بهذا.
وأما الجهل بالحال: فقد ثبت في الصحيح عن أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ قالت: «أفطرنا في يوم غيم على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم طلعت الشمس» [(378)] فأفطروا في النهار بناءً على أن الشمس قد غربت فهم جاهلون، لا بالحكم الشرعي ولكن بالحال، لم يظنوا أن الوقت في النهار، ولم يأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقضاء، ولو كان القضاء واجباً لأمرهم به، لأنه من شريعة الله وإذا كان من شريعة كان محفوظاً تنقله الأمة؛ لأنه مما تتوافر الدواعي لنقله، فلما لم يحفظ، ولم ينقل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فالأصل براءة الذمة، وعدم القضاء.
وهذه قاعدة مهمة أشرنا إليها من قبل وهي أننا إذا شككنا في وجوب شيء أو تحريمه فالأصل عدمه، إلا في العبادات فالأصل فيها التحريم.
ولكن من أفطر قبل أن تغرب الشمس إذا تبين أن الشمس لم تغرب، وجب عليه الإمساك، لأنه أفطر بناءً على سبب، ثم تبين عدمه، وهذا يجرنا إلى مسألة مهمة وهي أن من بنى قوله على سبب، تبين أنه لم يوجد فلا حكم لقوله، وهذه لها فروع كثيرة من أهمها:
ما يقع لبعض الناس في الطلاق، يقول لزوجته مثلاً: إن دخلت دار فلان فأنت طالق، بناءً على أنه عنده آلات محرمة مثل المعازف أو غيرها، ثم يتبين أنه ليس عنده شيء من ذلك، فهل إذا دخلت تطلق أو لا؟
الجواب: لا تطلق، لأنه مبني على سبب تبين عدمه، وهذا هو القياس شرعاً وواقعاً.
مسألة: لو أن رجلاً صائماً أكل ناسياً حتى بقي عليه قليل من الطعام، فأكله متأولاً بأنه، إن كان ما سبق أكلُهُ ناسياً لا يفطر مع أنه أكثر، فأقله لا يفطر تبعاً، وإن كان ما سبق مفطراً فهو الآن غير صائم فله أكل البقية، فهل يكون معذوراً بذلك؟ فالمذهب أنه غير معذور بالجهل فلا يكون هذا معذوراً، وعلى القول الراجح وهو العذر بالجهل يحتمل أن يكون معذوراً لتأوله، ويحتمل ألاّ يكون معذوراً لتفريطه؛ لأن الواجب عليه هنا أن يسأل، وعلى كل حال فقضاء الصوم أحوط، والله أعلم.
أوْ طَارَ إِلَى حَلْقِه ذُبَابٌ، أوْ غُبَارٌ،..........
قوله: «أو طار إلى حلقه ذباب، أو غبار» أي: فلا يفطر؛ لأنه بغير قصد، لكن لو طار إلى أقصى الفم فإنه يمكنه أن يخرجه، إنما لو ذهب إلى الحلق فلا يمكن أن يخرجه، وربما لو حاول إخراجه تقيأ، لذلك يعفى عنه، وكذلك إذا طار إلى حلقه غبار، فإنه لا يفطر؛ لعدم القصد، ولا يقال للعامل الذي يعمل في التراب لا تعمل وأنت صائم؛ لأنك لو عملت وأنت صائم لطار إلى حلقك غبار؛ لأننا نقول: إن طيران الغبار إلى حلقه ليس بمقصود، لكن أفلا يقال: ما دام هذا العمل سبباً لإفطاره لا يجوز أن يعمل؟
الجواب: ليس هذا سبباً لإفطاره؛ لأنه إذا طار إلى حلقه غبار بلا قصد فإنه لا يفطر.
أوْ فَكَّرَ فَأَنْزَلَ، أوْ احْتَلَمَ، أَوْ أَصْبَحَ فِي فِيهِ طَعامٌ فَلَفَظَهُ ...........
قوله: «أو فكر فأنزل» أي: فكر في الجماع، فأنزل سواء كان ذا زوجة ففكر في جماع زوجته، أو لم يكن ذا زوجة ففكر في الجماع مطلقاً، فأنزل فإنه لا يفسد صومه بذلك.
ودليله: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم» [(379)] وهذا لم يعمل، ولم يتكلم إنما حدث نفسه وفكر فأنزل.
وعُلم من كلامه «فكر فأنزل» أنه لو حصل منه عمل فإنه يفطر بأن تدلك بالأرض حتى أنزل، أو حرك ذكره حتى أنزل، أو قبل زوجته حتى أنزل، أو ما أشبه ذلك فإنه يفطر.
قوله: «أو احتلم» أي: فلا يفطر حتى لو نام على تفكير، واحتلم في أثناء النوم؛ لأن النائم غير قاصد، وقد رفع عنه القلم، وأحياناً يستيقظ الإنسان حينما يتحرك الماء الدافق، فهل يلزمه في هذه الحال أن يمسكه؟
الجواب: لا؛ لأنه انتقل من محله ولا يمكن رده؛ لأن حبسه بالضغط على الذكر مضر، كما لو تحركت معدته ليتقيأ، فإنه لا يلزمه أن يحبسها لما في ذلك من الضرر.
قوله: «أو أصبح في فيه طعام فلفظه» أي: لا يفسد صومه؛ لأنه لم يبتلع طعاماً بعد طلوع الفجر.
ويتصور ذلك إذا كان الإنسان مثلاً يأكل تمراً، وصار في أقصى فمه شيء من التمر، ولم يحس به إلا بعد طلوع الفجر ففي هذه الحال يلفظه، وصومه صحيح ولا بأس.
أوْ اغْتَسَلَ، أوْ تَمَضْمَضَ، أو اسْتَنْثَرَ أوْ زَادَ عَلَى الثَّلاَثِ، أَوْ بَالَغَ فَدَخَلَ المَاءُ حَلْقَهُ لَمْ يَفْسُدْ.
قوله: «أو اغتسل» أي: اغتسل فدخل الماء إلى حلقه، فإنه لا يفطر بذلك لعدم القصد.
قوله: «أو تمضمض» أي: فدخل الماء إلى حلقه، حتى وصل إلى معدته، فإنه لا يفطر؛ لعدم القصد.
قوله: «أو استنثر» والمراد استنشق؛ لأن الاستنثار يخرج الماء من الأنف، فإما أن يكون هذا من المؤلف سبقة قلم، أو سهواً، أو أراد الاستنثار بعد الاستنشاق، ولكن حتى لو أراد هذا لم يستقم؛ لأن الاستنثار إخراج ما في الأنف لا إدخال شيء إليه.
فإذا استنشق الماء في الوضوء مثلاً، ثم نزل الماء إلى حلقه فإنه لا يفطر لعدم القصد.
قوله: «أو زاد على الثلاث» أي: في المضمضة، أو الاستنشاق، فدخل الماء إلى حلقه، فإنه لا يفسد صومه.
وأتى المؤلف بقوله: «زاد على الثلاث» لأن ما قبل الثلاث في المضمضة والاستنشاق مشروع ومأذون فيه، والقاعدة عند العلماء أن ما ترتب على المأذون فليس بمضمون، فإذا تمضمض في الأولى والثانية والثالثة، فوصل الماء إلى حلقه، فإنه لا يفطر بذلك؛ لأنه لم يفعل إلا شيئاً مشروعاً، وهذا ترتب على شيء مشروع فلا يضر.
والزيادة على الثلاث في الوضوء إما محرمة، وإما مكروهة كراهة شديدة لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من زاد على ذلك فقد أساء وتعدى وظلم» [(380)] فأدنى أحوالها أنها مكروهة، فإذا زاد على الثلاث ووصل الماء إلى حلقه، فإنه لا يفطر لعدم القصد؛ لأنك لو سألت هذا الذي تمضمض أكثر من ثلاث، أتريد أن يصل الماء إلى حلقك؟ لقال: لا.
قوله: «أو بالغ فدخل الماء حلقه لم يفسد» أي: لو بالغ في الاستنشاق أو المضمضة، مع أنه مكروه للصائم أن يبالغ فيهما، ودخل الماء حلقه فإنه لا يفطر بذلك لعدم القصد.
تنبيه: ذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ ست مسائل علق الحكم فيها بوصول الماء إلى حلق الصائم، فجعل مناط الحكم وصول الماء إلى الحلق لا إلى المعدة، وظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية أن مناط الحكم وصول المفطر إلى المعدة، ولا شك أن هذا هو المقصود إذ لم يرد في الكتاب والسنة أن مناط الحكم هو الوصول إلى الحلق، لكن الفقهاء ـ رحمهم الله ـ قالوا: إن وصوله إلى الحلق مظنة وصوله إلى المعدة، أو إن مناط الحكم وصول المفطر إلى شيء مجوف والحلق مجوف.
مسألة: لو يبس فمه كما يوجد في أيام الصيف، ومع بعض الناس بحيث يكون ريقه قليلاً ينشف فمه، فيتمضمض من أجل أن يبتل فمه، أو تغرغر بالماء ونزل إلى بطنه، فلا يفطر بذلك؛ لأنه غير مقصود، إذ لم يقصد الإنسان أن ينزل الماء إلى بطنه، وإنما أراد أن يبل فمه، ونزل الماء بغير قصد.
ويتفرع على هذا هل يجوز للصائم أن يستعمل الفرشة والمعجون أو لا؟
الجواب: يجوز، لكن الأولى ألا يستعملهما؛ لما في المعجون من قوة النفوذ والنزول إلى الحلق، وبدلاً من أن يفعل ذلك في النهار يفعله في الليل، أو يستعمل الفرشة بدون المعجون.
وَمَنْ أَكَلَ شَاكّاً فِي طُلُوع الفَجْرِ صَحَّ صَوْمُهُ، لاَ إِنْ أَكَلَ شَاكّاً في غُرُوبِ الشَّمْسِ أَوْ مُعْتَقِداً أَنَّهُ لَيْلٌ فَبَانَ نَهَاراً.
قوله: «ومن أكل شاكاً في طلوع الفجر صح صومه» أي: من أتى مفطراً، وهو شاك في طلوع الفجر فصومه صحيح، لأن الله سبحانه وتعالى قال: {{فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}} [البقرة: 187] وضد التبين الشك والظن، فما دمنا لم يتبين الفجر لنا فلنا أن نأكل ونشرب؛ لقوله تعالى: {{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا}} [البقرة: 286] وهذا من الخطأ.
ولحديث أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ حيث أكلوا يظنون غروب الشمس، ثم طلعت[(381)]؛ وإذا كان هذا في آخر النهار فأوله من باب أولى؛ لأن أوله مأذون له في الأكل والشرب حتى يتبين له الفجر.
وهذه المسألة لها خمسة أقسام:
1 ـ أن يتيقن أن الفجر لم يطلع، مثل أن يكون طلوع الفجر في الساعة الخامسة، ويكون أكله وشربه في الساعة الرابعة والنصف فصومه صحيح.
2 ـ أن يتيقن أن الفجر طلع، كأن يأكل في المثال السابق في الساعة الخامسة والنصف فهذا صومه فاسد.
3 ـ أن يأكل وهو شاك هل طلع الفجر أو لا، ويغلب على ظنه أنه لم يطلع؟ فصومه صحيح.
4 ـ أن يأكل ويشرب، ويغلب على ظنه أن الفجر طالع فصومه صحيح أيضاً.
5 ـ أن يأكل ويشرب مع التردد الذي ليس فيه رجحان، فصومه صحيح.
كل هذا يؤخذ من قوله تعالى: {{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}} [البقرة: 187] .
وهل يقيد هذا فيما إذا لم يتبين أنه أكل بعد طلوع الفجر؟
الراجح أنه لا يقيد، حتى لو تبين له بعد ذلك أن الفجر قد طلع، فصومه صحيح بناءً على العذر بالجهل في الحال.
وأما على المذهب فإذا تبين أن أكله كان بعد طلوع الفجر فعليه القضاء بناءً على أنه لا يعذر بالجهل، والصواب أنه لا قضاء عليه ولو تبين له أنه بعد الصبح؛ لأنه كان جاهلاً؛ ولأن الله أذن له أن يأكل حتى يتبين، ومن القواعد الفقهية المقررة أن ما ترتب على المأذون فليس بمضمون، أي: ليس له حكم لأنه مأذون فيه.
قوله: «لا إن أكل شاكاً في غروب الشمس» أي: فلا يصح صومه؛ لأن الله يقول: {{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}} فلا بد أن يتم إلى الليل، ولقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أقبل الليل من هاهنا وأشار بيده إلى الشرق وأدبر النهار من هاهنا وأشار إلى المغرب وغربت الشمس» فلا بد أن تغرب الشمس «فقد أفطر الصائم» [(382)].
والفرق بين من أكل شاكاً في طلوع الفجر، ومن أكل شاكاً في غروب الشمس، أن الأول بانٍ على أصل وهو بقاء الليل، والثاني أيضاً بان على أصل وهو بقاء النهار، فلا يجوز أن يأكل مع الشك في غروب الشمس، وعليه القضاء ما لم نعلم أنه أكل بعد غروب الشمس، فإن علمنا أن أكله كان بعد الغروب، فلا قضاء عليه.
ويجوز أن يأكل إذا تيقن، أو غلب على ظنه أن الشمس قد غربت، حتى على المذهب إذا غلب على ظنه أن الشمس قد غربت، فله أن يفطر ولا قضاء عليه ما لم يتبين أنها لم تغرب.
مسألة: إن أكل ظاناً أن الشمس غربت، ولم يتبين الأمر فصومه صحيح، وهذا يؤخذ من قول المؤلف «شاكاً في غروب الشمس» فعُلم منه أنه لو أكل وقد ظن أن الشمس قد غربت، فإنه يصح صومه ما لم يتبين أنها لم تغرب.
فإن تبين أنها لم تغرب فالصحيح أنه لا قضاء عليه، والمذهب أن عليه القضاء.
فإن قال قائل: ما الدليل على أنه يجوز الفطر بالظن مع أن الأصل بقاء النهار؟
فالجواب: حديث أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ قالت: «أفطرنا في يوم غيم على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم» [(383)] وإفطارهم بناءً على ظن قطعاً؛ لقولها في هذا الحديث «ثم طلعت الشمس» ، فدل ذلك على أنه يجوز أن يُفطر بظن الغروب، ثم إن تبين أن الشمس غربت فالأمر واضح، أو لم يتبين شيء فالأمر أيضاً واضح، وإن تبين أنها لم تغرب وجب القضاء على المذهب، وعلى القول الراجح لا يجب القضاء.
مسألة: رجل غابت عليه الشمس وهو في الأرض وأفطر وطارت به الطائرة ثم رأى الشمس؟
نقول: لا يلزم أن يمسك؛ لأن النهار في حقه انتهى، والشمس لم تطلع عليه بل هو طلع عليها، لكن لو أنها لم تغب وبقي خمس دقائق ثم طارت الطائرة ولما ارتفعت، إذ الشمس باقٍ عليها ربع ساعة أو ثلث، فإن صيامه يبقى؛ لأنه ما زال عليه صومه.
قوله: «أو معتقداً أنه ليل فبان نهاراً» أي: لو أكل يعتقد أنه في ليل، فبان نهاراً لم يصح صومه، سواء من أول النهار أو آخره، أكل يعتقد أنه ليل بناءً على ظنه، أو بناءً على الأصل فبان نهاراً فعليه القضاء، فالفقهاء ـ رحمهم الله ـ لا يعذرون بالجهل ويقولون العبرة بالواقع.
مثاله: أكل السحور يعتقد أن الفجر لم يطلع، فتبين أنه طالع فالمذهب يجب عليه القضاء، وهذا يقع كثيراً، يقوم الإنسان من فراشه ويقرب سحوره ويأكل ويشرب، وإذا بالصلاة تقام فيكون قد أكل في النهار، فعليه القضاء على المذهب.
والقول الراجح أنه لا قضاء عليه وسبق دليله.
وكذلك إذا أكل يعتقد أن الشمس غربت، ثم تبين أنها لم تغرب فهو أكل يعتقد أنه في ليل فبان أنه في نهار، فيلزمه على المذهب القضاء، وعلى القول الراجح لا يلزمه.
ودليله حديث أسماء السابق، حيث لم يأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقضاء، وهذا دليل خاص، ومن الأدلة العامة قوله تعالى: {{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا}} [البقرة: 286] .
إذاً الفرق بين أول النهار وآخره، أنه يجوز في أول النهار الأكل مع الشك، وفي آخر النهار لا يجوز الأكل مع الشك.
مسألة: الناس الذين على الجبال أو في السهول والعمارات الشاهقة، كلٌ منهم له حكمه، فمن غابت عنه الشمس حل له الفطر، ومن لا فلا.
فَصْلٌ
وَمَنْ جَامَعَ فِي نَهَارِ رَمَضَان فِي قُبُلٍ أوْ دُبُرٍ فَعَلَيْهِ القَضَاءُ والكَفَّارَةُ، وَإِنْ جَامَعَ دُونَ الفَرجِ فأَنْزَلَ أَوْ كَانَتِ المرأةُ معذورةً أوْ جَامَعَ مَنْ نَوَى الصَّوْمَ فِي سَفَرِهِ أفْطَرَ وَلاَ كَفَّارَةَ.
قوله: «فصل» عقد المؤلف ـ رحمه الله ـ فصلاً خاصاً للجماع، لكونه أعظم المفطرات تحريماً وأكثرها تفصيلاً، ولهذا وجبت فيه الكفارة.
والجماع من مفطرات الصائم، ودليله الكتاب، والسنة، والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: {{فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}} [البقرة: 187] .
وأما السنة فستأتي.
وأما الإجماع فهو منعقد على أنه مفطر.
قوله: «ومن جامع في نهار رمضان» «من» من صيغ العموم؛ لأنها اسم شرط، فيشمل كل من جامع في نهار رمضان وهو صائم، وجوابها قوله (فعليه القضاء والكفارة) ، ولكن ليس هذا على العموم بل لا بد من شروط:
الشرط الأول: أن يكون ممن يلزمه الصوم، فإن كان ممن لا يلزمه الصوم، كالصغير، فإنه لا قضاء عليه ولا كفارة.
الشرط الثاني: ألاَّ يكون هناك مسقط للصوم، كما لو كان في سفر، وهو صائم، فجامع زوجته، فإنه لا إثم عليه، ولا كفارة، وإنما عليه القضاء فقط لقوله تعالى: {{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}} [البقرة: 185] .
مثال آخر: رجل مريض صائم وهو ممن يباح له الفطر بالمرض، لكنه تكلف وصام، ثم جامع زوجته فلا كفارة عليه، لأنه ممن يحل له الفطر.
الشرط الثالث: أن يكون في قبل أو دبر وإليه الإشارة.
بقوله: «في قبل أو دبر فعليه القضاء والكفارة» والقبل يشمل الحلال والحرام، فلو زنى فهو كما لو جامع في فرج حلال.
وقوله: «أو دبر» الجماع في الدبر غير جائز لكن العلماء يذكرون المسائل بقطع النظر عن كونها حلالاً أو حراماً.
وقوله: «فعليه القضاء» ؛ لأنه أفسد صومه الواجب فلزمه القضاء كالصلاة، وهذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم، وذهب بعض العلماء إلى أن من أفسد صومه عامداً بدون عذر، فلا قضاء عليه وليس عدم القضاء تخفيفاً، لكنه لا ينفعه القضاء، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ لكن لو قال قائل يرد على هذا القول: إنكم إذا قلتم بذلك فمعناه أن المفطرات لا فائدة منها؛ لأنكم تشترطون في المفطرات أن يكون متعمداً وأنتم تقولون: إذا أفطر متعمداً فلا قضاء فكيف ذلك؟
الجواب: نقول على هذا الرأي تكون المفطرات نافعة فيما إذا جاز الفطر لعذر، أما إذا كان لغير عذر فإن هذه المفطرات تفسد صومه ولا يلزمه القضاء، لكن جمهور أهل العلم على أنه يلزمه القضاء، ولو تعمد الفطر بخلاف الرجل الذي لم يصم ذلك اليوم أصلاً وتركه متعمداً، فإن الراجح ما ذهب إليه شيخ الإسلام من أنه لا ينفعه القضاء، والفرق بين هذه المسألة وبين من شرع في الصوم أن من شرع في الصوم فقد التزمه وألزم نفسه به، فإذا أفسده ألزم بقضائه كالنذر بخلاف من لم يصم أصلاً.
وقوله: «والكفارة» احتراماً للزمن، وبناء على ذلك لو كان هذا في قضاء رمضان، فعليه القضاء لهذا اليوم الذي جامع فيه وليس عليه كفارة؛ لأنه خارج شهر رمضان.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا فرق بين أن ينزل أو لا ينزل، فإذا أولج الحشفة في القبل أو الدبر، فإنه يلزمه القضاء والكفارة.
قوله: «وإن جامع دون الفرج فأنزل، أو كانت المرأة معذورة» هاتان مسألتان:
الأولى: إذا جامع دون الفرج فأنزل، فقد ذكر المؤلف أن عليه القضاء دون الكفارة، لأنه أفسد صومه بغير الجماع، ومثاله أن يجامع بين فخذي امرأته وينزل، وعن أحمد رواية أنه تلزمه الكفارة؛ لأن الإنزال موجب للغسل فكان موجباً للكفارة كالجماع، ولكن هذا القياس فيه نظر؛ لأن الإنزال دون الجماع وإن كان موجباً للغسل فلو أن إنساناً تمتع بامرأة حتى أنزل فإنه لا يقام عليه الحد ولو جامعها أقيم عليه الحد، ولو أن إنساناً باشر امرأة حتى أنزل، في الحج لم يفسد حجه بخلاف الجماع، ولو أنه فعل ذلك في الحج فأنزل لم يكن عليه بدنة على القول الراجح؛ لأنه دون الجماع فالإنزال دون الجماع بالاتفاق فلا يمكن أن يلحق به؛ لأن من شرط القياس مساواة الفرع للأصل، فإذا لم يساوه امتنع القياس، فالمذهب هو الصحيح في هذه المسألة.
الثانية: إذا كانت المرأة معذورة بجهل، أو نسيان، أو إكراه؛ فإن عليها القضاء دون الكفارة وسيأتي الكلام عليها.
وعُلم من قوله: «أو كانت المرأة معذورة» أنه لو كانت مطاوعة فعليها القضاء والكفارة كالرجل.
فإن قال قائل: ما الدليل على وجوب الكفارة بالجماع؟
فالجواب: حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين «أن رجلاً أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: هلكت، قال: ما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان وأنا صائم، فسأله النبي صلّى الله عليه وسلّم هل تجد رقبة؟ فقال: لا، قال: هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: هل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا، ثم جلس الرجل، فجيئ إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بتمر فقال: خذ هذا تصدق به، قال: أعلى أفقر مني يا رسول الله، والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني، فضحك النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: «أطعمه أهلك»[(384)] فرجع إلى أهله بتمر.
فإن قال قائل: ما الدليل على وجوب الكفارة على المرأة، والنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يذكر في هذا الحديث أن على المرأة كفارة، مع أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يمكن، أي لا يمكن أن يؤخر النبي صلّى الله عليه وسلّم بيان الحكم مع دعاء الحاجة إليه؟
فالجواب: أن هذا الرجل استفتى عن فعل نفسه، والمرأة لم تستفت، وحالها تحتمل أن تكون معذورة بجهل أو إكراه، وتحتمل أن تكون غير معذورة، فلما لم تأت وتستفت سكت عنها النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يذكر أن عليها كفارة، والفتوى لا يشترطُ فيها البحث عن حال الشخص الآخر، ولهذا لما جاءت امرأة أبي سفيان للنبي صلّى الله عليه وسلّم تشتكيه بأنه لا ينفق لم يطلب أبا سفيان ليسأله، بل أذن لها أن تأخذ من ماله ما يكفيها ويكفي ولدها[(385)].
فإذا قال قائل: ما الدليل على الوجوب عليها؟ أليس الأصل براءة الذمة؟
فالجواب: الدليل على ذلك أن الأصل تساوي الرجال والنساء في الأحكام إلا بدليل، ولهذا لو أن رجلاً قذف رجلاً بالزنى لجلد ثمانين جلدة إذا لم يأت بالشهود، مع أن الآية في النساء {{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}} [النور: 4] .
فالمرأة مسكوت عنها فهي قضية عين لا يمكن أن تستدل بها على انتفاء الوجوب في حق المرأة، ولا على الوجوب ولكن القياس يقتضي أن تكون مثله، فإذا كان الفعل واحداً وكان موجباً لحد الزنى على المرأة، والحد كفارة للزاني فإنه يلزم أن يكون موجباً للكفارة هنا، كما يجب على الزوج وهذا هو الأقرب من أقوال أهل العلم، وبعض العلماء يقول لا كفارة عليها للسكوت عنها في الحديث، وبعضهم يقول: إذا أكرهت فكفارتها على الزوج لأنه هو الذي أكرهها، ولكن الصواب أنها إذا أكرهت لا شيء عليها.
فإذا قال قائل: ظاهر كلام المؤلف أنه لو كان الرجل هو المعذور بجهل أو نسيان فإنّ الكفارة لا تسقط عنه؟
قلنا: نعم هذا ظاهر قوله؛ لقوله: «أو كانت المرأة معذورة» ففهم منه أنه لو كان الرجل هو المعذور فإنّ الكفارة لا تسقط عنه، وهذا المشهور من المذهب.
والصحيح أن الرجل إذا كان معذوراً بجهل، أو نسيان، أو إكراه، فإنه لا قضاء عليه ولا كفارة، وأن المرأة كذلك إذا كانت معذورة بجهل أو نسيان أو إكراه، فليس عليها قضاء ولا كفارة.
والمذهب أن عليها القضاء، وليس عليها الكفارة، وهذا من غرائب العلم أن تعذر في أحد الواجبين دون الآخر؛ لأن مقتضى العذر أن يكون مؤثراً فيهما جميعاً، أو غير مؤثر فيهما جميعاً وقد علمت الصحيح في ذلك.
مسألة مهمة: وهي: أن الفقهاء ـ رحمهم الله ـ، قالوا: لا يمكن الإكراه على الجماع من الرجل، أي: لا يمكن أن يكره الرجل على الجماع؛ لأن الجماع لا بد فيه من انتشار وانتصاب للذكر، والمكره لا يمكن أن يكون منه ذلك.
فيقال: هذا غير صحيح؛ لأن الإنسان إذا هُدد بالقتل أو بالحبس أو ما أشبه ذلك، ثم دنا من المرأة فلا يسلم من الانتشار، وكونهم يقولون هذا غير ممكن نقول: بل هذا ممكن.
فإن قال قائل: الرجل الذي جاء إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم أليس جاهلاً؟
فالجواب: هو جاهل لما يجب عليه، وليس جاهلاً أنه حرام، ولهذا يقول «هلكت» [(386)]، ونحن إذا قلنا إن الجهل عذر، فليس مرادنا أن الجهل بما يترتب على هذا الفعل المحرم، ولكن مرادنا الجهل بهذا الفعل، هل هو حرام أو ليس بحرام، ولهذا لو أن أحداً زنى جاهلاً بالتحريم، وهو ممن عاش في غير البلاد الإسلامية، بأن يكون حديث عهد بالإسلام، أو عاش في بادية بعيدة لا يعلمون أن الزنى محرّم فزنى فإنه لا حدّ عليه، لكن لو كان يعلم أنّ الزنى حرام، ولا يعلم أن حده الرجم، أو أن حده الجلد والتغريب، فإنه يحد لأنه انتهك الحرمة، فالجهل بما يترتب على الفعل المحرم ليس بعذر، والجهل بالفعل هل هو حرام أو ليس بحرام، هذا عذر.
قوله: «أو جامع من نوى الصوم في سفره أفطر ولا كفارة» قوله: «من نوى الصوم في سفره» أي كان صائماً في سفره أفطر أي: فسد صومه بجماعه.
مثاله: إنسان مسافر سفراً يبيح الفطر فصام، ثم في أثناء النهار جامع زوجته، فهذا يُفطر لأنه جامع، والجماع من المفطرات وليس عليه كفارة؛ لأنه لم ينتهك حرمة الصوم حيث إن الصوم لا يجب عليه في السفر ويلزمه القضاء، وعليه فالذين يذهبون إلى العمرة في رمضان ويصومون هناك، ثم يجامع أحدهم زوجته في النهار ليس عليه كفارة؛ لأنه مسافر، والمسافر يباح له الفطر فيباح له الجماع والأكل، هذا إذا نوى أقل من أربعة أيام، أما إذا نوى أكثر من أربعة أيام، فالمسألة خلافية معروفة.
والصحيح أنه مسافر حتى لو أقام الشهر كله يجوز له الفطر.
وقوله: «أفطر ولا كفارة» هذا جواب الشرط وهو يشمل الصور الثلاث:
1 ـ إذا جامع دون الفرج فأنزل.
2 ـ إذا كانت المرأة معذورة.
3 ـ إذا جامع من نوى الصوم في سفره.
وإنْ جَامَعَ فِي يَوْمَيْنِ، أَوْ كَرَّرَهُ فِي يَوْمٍ وَلَمْ يُكَفِّر فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ في الثانية، وفي الأولَى اثْنَتَانِ، وإنْ جَامَعَ ثُمَّ كَفَّرَ، ثُمَّ جَامَعَ فِي يَوْمِهِ فَكَفَّارَةٌ ثَانِيَةٌ.
قوله: «وإن جامع في يومين، أو كرره في يوم ولم يكفر فكفارة واحدة في الثانية وفي الأولى اثنتان وإن جامع ثم كفر ثم جامع في يومه فكفارة ثانية» .
ذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ مسألتين:
المسألة الأولى: إذا جامع في يومين بأن جامع في اليوم الأول من رمضان، وفي اليوم الثاني فإنه يلزمه كفارتان، وإن جامع في ثلاثة أيام فثلاث كفارات، وإن جامع في كل يوم من الشهر فثلاثون كفارة أو تسع وعشرون حسب أيام الشهر؛ وذلك لأن كل يوم عبادة مستقلة، ولهذا لا يفسد صوم اليوم الأول، بفساد صوم اليوم الثاني.
وقيل: لا يلزمه إلا كفارة واحدة إذا لم يكفر عن الأول وهو وجه في مذهب الإمام أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة؛ وذلك لأنها كفارات من جنس واحد فاكتفي فيها بكفارة واحدة، كما لو حلف على أيمان متعددة ولم يكفر، فإنه إذا حنث في جميعها فعليه كفارة واحدة، وكما لو أحدث بأحداث متنوعة، فإنه يجزئه وضوء واحد، ويقال هذا أيضاً في كفارة الظهار إذا لم يكفر عن الأول.
وأما قتل النفس فتتعدد الكفارة؛ لأنها عوض عن النفس، كما لو قتل المحرم صيوداً في الحرم.
وهذا القول وإن كان له حظ من النظر والقوة، لكن لا تنبغي الفتيا به؛ لأنه لو أفتي به لانتهك الناس حرمات الشهر كله، لكن لو رأى المفتي الذي ترجح عنده عدم تكرر الكفارة مصلحة في ذلك، فلا بأس أن يفتي به سراً، كما يصنع بعض العلماء فيما يفتون به سراً كالطلاق الثلاث.
المسألة الثانية: إذا جامع في يوم واحد مرتين، فإن كفر عن الأول لزمه كفارة عن الثاني، وإن لم يكفر عن الأول أجزأه كفارة واحدة؛ وذلك لأن الموجَب والموجِب واحد، واليوم واحد، فلا تتكرر الكفارة.
ومذهب الأئمة الثلاثة وهو قول في المذهب لا يلزمه عن الثاني كفارة؛ لأن يومه فسد بالجماع الأول، فهو في الحقيقة غير صائم، وإن كان يلزمه الإمساك، لكن ليس هذا الإمساك مجزئاً عن صوم، فلا تلزمه الكفارة؛ لأن الكفارة تلزم إذا أفسد صوماً صحيحاً، وهذا القول له وجه من النظر أيضاً.
مثاله: رجل جامع في أول النهار بعد طلوع الشمس بربع ساعة، ثم كفر بعتق رقبة، ثم جامع بعد الظهر، فعلى المذهب يلزمه كفارة ثانية؛ لأنه كفر عن الأولى، وهو الآن وإن كان ليس صائماً صوماً شرعياً لكنه يلزمه الإمساك، وعلى القول الثاني لا تلزمه الكفارة؛ لأن الجماع لم يرد على صوم صحيح، وإنما ورد على إمساك فقط، وإذا تأملت المسألة وجدت أن القول الثاني أرجح وأنه لا يلزمه بعد أن أفسد صومه كفارة؛ لأنه ليس صائماً الآن، أما الإمساك فيلزمه الإمساك؛ لأن كل من أفطر لغير عذر حرم عليه أن يستمر في فطره.
ولا فرق بين أن يكون الجماع واقعاً على امرأة واحدة أو اثنتين؛ فلو جامع الأولى في أول النهار، والثانية في آخره، ولم يكفر عن الأول، فعليه كفارة واحدة.
وَكَذَا مَنْ لَزِمَه الإِمْسَاكُ إِذَا جَامَعَ وَمَنْ جَامَعَ وَهُوَ مُعَافَى، ثُمَّ مَرِضَ، أوْ جُنَّ، أَوْ سَافَرَ لَمْ تَسْقُطْ. .........
قوله: «وكذا من لزمه الإمساك إذا جامع» أي: وكالصائم الذي كرر الجماع أو فعله مرة واحدة من لزمه الإمساك إذا جامع.
هذا له صور منها:
لو قامت البينة في أثناء النهار بدخول الشهر، وكان الرجل قد جامع زوجته في أول النهار قبل أن يعلم بالشهر، فيجب عليه القضاء، وتجب عليه الكفارة، لأنه لزمه الإمساك في هذا اليوم، ولذلك يقول الفقهاء: يكره للإنسان أن يجامع زوجته في يوم الثلاثين من شعبان؛ لاحتمال أن تقوم البينة أثناء النهار، ثم يلزم بالكفارة، وهذا القول ضعيف لقوله تعالى: {{فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}} [البقرة: 187] ولقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتموه فصوموا» [(387)].
ومنها لو كان الرجل مسافراً وكان مفطراً فقدم إلى بلده، فالمذهب يلزمه أن يمسك، مع أن هذا الإمساك لا يعتد به، ولو جامع فيه فإن عليه الكفارة؛ لأنه يلزمه الإمساك.
ومثل ذلك أيضاً إذا كان مريضاً يباح له الفطر وقد أفطر، ثم شفاه الله وزال عنه المرض الذي استباح به الفطر، فإنه على المذهب يلزمه الإمساك، فإن جامع فعليه الكفارة.
وكذلك بالنسبة للمرأة لو طهرت من الحيض في أثناء النهار فيلزمها على المذهب الإمساك، فلو جامعها زوجها الذي يباح له الفطر فعليها الكفارة.
والقول الثاني: أنه لا يلزمهم الإمساك؛ لأن هذا اليوم في حقهم غير محترم، إذ إنهم في أوله مفطرون بإذن من الشرع، وليس عندنا صوم يجب في أثناء النهار، إلا إذا قامت البينة، فهذا شيء آخر وعلى هذا لا تلزمهم الكفارة إذا حصل الجماع.
وهذا هو القول الراجح، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «من أفطر أول النهار فليفطر آخره» [(388)] أي: من أبيح له أن يفطر في أول النهار، أبيح له أن يفطر في آخر النهار.
تنبيه: ظاهر قوله: من لزمه الإمساك إذا جامع، يشمل ما إذا جامع في أول النهار قبل ثبوت دخول الشهر، ثم ثبت دخوله بعد ذلك فيلزمه الإمساك والكفارة، والصحيح أن الكفارة لا تلزمه لأنه جاهل.
مسألة: من أفسد صومه بالأكل والشرب، يجب عليه الإمساك والقضاء مع الإثم، ولو جامع زوجته فعليه الكفارة؛ لأن أكله وشربه محرم عليه.
قوله: «ومن جامع وهو معافى، ثم مرض، أو جن، أو سافر لم تسقط» .
هذه عكس المسألة السابقة، أي: أنه جامع وهو معافى صائم، ثم مرض في أثناء النهار بمرض يبيح له الفطر فتلزمه الكفارة، مع أنه في آخر النهار يباح له أن يفطر، لكن هو حين الجماع كان ممن لم يؤذن له بالفطر فلزمته الكفارة.
وكذلك أيضاً من جامع وهو عاقل، ثم جن في أثناء النهار، فالصوم يبطل بالجنون وعليه الكفارة؛ لأنه حين الجماع من أهل الوجوب.
وكذلك من جامع في أول النهار، ثم سافر في أثنائه، فإنه يباح له الفطر، وتلزمه الكفارة.
فإذا قال: قد أذن لي بالفطر آخر النهار فلا كفارة علي، كالذي أذن له بالفطر أول النهار وجامع في آخره ورجحتم أنه لا كفارة عليه فما الفرق؟
فالجواب: أن الفرق ظاهر جداً، فأنت حينما جامعت لم يؤذن لك بالفطر، بل أنت ملزم بالصوم، وما طرأ من العذر فهو طارئ بعد انتهاكك لحرمة الزمن، فظهر الفرق.
وَلاَ تَجِبُ الكَفَّارَةُ بِغَيْرِ الجِمَاعِ فِي صِيَامِ رَمَضَانَ. ........
قوله: «ولا تجب الكفارة بغير الجماع في صيام رمضان» أراد المؤلف ـ رحمه الله ـ أن يبين ما تجب به الكفارة من المفطرات، فبين أنها لا تجب بغير الجماع في صيام رمضان فهذان شرطان:
الأول: أن يكون مفسد الصوم جماعاً، والثاني: أن يكون في صيام رمضان، ونزيد شرطين آخرين أحدهما: أن يكون الصيام أداء، والثاني: أن يكون ممن يلزمه الصوم.
فلا تجب الكفارة بالجماع في صيام النفل، أو في صيام كفارة اليمين، أو في صيام فدية الأذى، أو في صيام المتعة لمن لم يجد الهدي، أو في صيام النذر، ولا تجب الكفارة إذا جامع في قضاء رمضان، ولا تجب إذا جامع في رمضان وهو مسافر، ولا تجب الكفارة في الإنزال بقبلة، أو مباشرة، أو نحو ذلك؛ لأنه ليس بجماع.
وإنما نص المؤلف على هذه المسألة مع أن الأصل عدمها، وقد ذكرت سابقاً؛ لأن الفقهاء إذا نفوا حكماً معلوماً انتفاؤه، فإنما يريدون الإشارة إلى الخلاف أي خلافاً لمن قال بذلك، وهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الفطر بالإنزال كالجماع لأنه من جنسه فيقولون: تجب الكفارة فيما إذا أفطر بالإنزال من مباشرة أو تقبيل أو ما أشبه ذلك، وهو رواية عن الإمام أحمد ولكنها ضعيفة.
القول الثاني: أنه إذا قصد انتهاك حرمة رمضان، فإنه يلزمه القضاء والكفارة، لأن هذا لم يقصد مجرد الفطر بل قصد انتهاك الحرمة وهذا ضعيف أيضاً.
القول الثالث: أن الكفارة لازمة بالأكل والشرب إن كان للغذاء أو للدواء بخلاف الأكل والشرب الذي ليس للدواء ولا للغذاء، فإنه يفطر لكن ليس فيه كفارة، وكل هذه أقوال مبنية على آراء ليس لها أصل لا من الكتاب ولا من السنة، والصواب أن الكفارة لا تجب إلا بالجماع في نهار رمضان؛ لأن الكفارة لم ترد إلا في هذه الحال، والأصل براءة الذمة وعدم الوجوب، فنقتصر على ما جاء به النص فقط.
وظاهره أن الكفارة تجب بالجماع، وإن لم يحصل إنزال، وهو كذلك؛ لأن الكفارة مرتبة على الجماع؛ لقوله في حديث الأعرابي: «وقعت على امرأتي» فجعل العلة الوقاع ولم يذكر الإنزال.
مسألتان:
الأولى: قال في الروض: «والنزع جماع»: أي لو كان الرجل يجامع زوجته في آخر الليل، ثم أذن مؤذن، وهو ممن يؤذن على طلوع الفجر، فنزع في الحال، فإنه يترتب عليه ما يترتب على الجماع من القضاء والكفارة، وهذا من غرائب العلم؛ فكيف يكون الفارُّ من الشيء كالواقع فيه؟!! ولهذا كان القول الراجح أنه ليس جماعاً بل توبة، وأنه لا يفسد الصوم وليس عليه كفارة.
الثانية: وقال في الروض أيضاً: «والإنزال بالمساحقة كالجماع»؛ والمساحقة تكون بين المرأتين، فلو أنزلتا فليس عليهما إلا القضاء، ولا كفارة، وإن أنزلت إحداهما فعليها القضاء فقط دون الكفارة، هذا على الصحيح.
وَهْيَ عِتْقُ رَقْبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِيِّنَ مِسْكِيناً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سَقَطَتْ.
قوله: «وهي» أي: كفّارة الوطء في نهار رمضان.
قوله: «عتق رقبة» أي: فكّها من الرّق، ووجه المناسبة هو أنّ هذا الرجل لمّا جامع في نهار رمضان مع وجوب الصوم عليه استحقّ أن يعاقب ففدى نفسه بعتق الرقبة.
قوله: «فإن لم يجد» يعني إن لم يجد رقبة، أو لم يجد ثمنها.
قوله: «فصيام شهرين متتابعين» : «فصيام» الفاء رابطة للجواب وصيام مبتدأ وخبره محذوف، والتقدير فعليه صيام شهرين متتابعين بدلاً عن عتقه الرقبة.
قوله: «فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً» أي: فعليه إطعام ستين مسكيناً، والمسكين هنا يشمل الفقير والمسكين؛ لأن الفقير والمسكين إذا ذكرا جميعاً كان الفقير أشد حاجة، وإذا أفرد أحدهما عن الآخر صارا بمعنى واحد، فإذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا.
ودليل ذلك أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال للرجل الذي قال إنّه أتى أهله في رمضان «اعتق رقبة»، فقال: لا أجد، قال: صم شهرين متتابعين، فقال: لا أستطيع، قال: أطعم ستين مسكيناً، قال: لا أجد»[(389)] فجعلها النبي صلّى الله عليه وسلّم مرتبةً، وهذه أغلظ الكفّارات، ويساويها كفّارة الظهار الذي وصفه الله بأنّه منكر من القول وزور، ويليها كفّارة القتل؛ لأن القتل ليس فيه إلاّ خصلتان، العتق والصيام وليس فيه إطعام.
وقوله: «صيام شهرين متتابعين» هل المعتبر الأهلّة، أو المعتبر الأهلّة في شهر كامل والأيام في الشهر المجَزَّأ؟
في هذا قولان للعلماء، والصحيح أن المعتبر الأهلّة؛ سواء في الشهر الكامل، أو في الشهر المجَزَّأ.
فإن قيل: ما الفرق بين القولين؟
فالجواب: يظهر ذلك بالمثال، فإذا ابتدأ الإنسان هذين الشهرين من أول ليلة ثبت فيها الشهر ـ ولنقل إنّه شهر جُمادى الأولى ـ ابتدأه من أول يوم منه فيختمه في آخر يوم من شهر جمادى الآخرة، ولنفرض أن جُمادى الأولى تسعة وعشرون يوماً، وكذلك جمادى الآخرة ـ فيكون صومه ثمانية وخمسين يوماً، وهذا لا شك أنّه يعتبر بالهلال.
لكن إذا ابتدأ الصوم من نصف شهر جمادى الأولى فجمادى الآخرة معتبرة بالهلال لأنّه سوف يدرك أوّل الشهر وآخر الشهر فيعتبر بالهلال يقيناً.
أما الشهر الثاني الذي ابتدأهُ بالخامس عشر من جُمادى الأولى فيكمله ثلاثين يوماً، ويكون آخر صومه اليوم الخامس عشر من رجب على القول الثاني الذي يعتبر الشهر المجزأ ثلاثين يوماً، أمّا على القول الراجح الذي يعتبر الأهلّة مطلقاً: فإنّ آخر أيام صومه هو الرابع عشر من شهر رجب، إذا كان شهر جمادى الأولى تسعة وعشرين يوماً؛ فإذا قدرنا أن شهر جمادى الأولى ناقص، وكذلك شهر جمادى الثانية فيكون صومه ثمانية وخمسين يوماً.
وقوله: «متتابعين» أي: يتبع بعضهما بعضاً بحيث لا يفطر بينهما يوماً واحداً، إلاّ لعذر شرعيّ كالحيض والنفاس بالنسبة للمرأة، وكالعيدين وأيام التشريق، أو حسّي كالمرض والسفر للرجل والمرأة بشرط ألا يسافر لأجل أن يفطر، فإن سافر ليفطر انقطع التتابع.
وقول المؤلّف: «فإطعام ستين مسكيناً» : هنا قدّر الطاعم دون المُطعم فهل المطعم مقدّر؟
المشهور من المذهب أنّه مُقدّر وهو مدٌّ من البر أو نصف صاع من غيره لكل مسكين، والمد ربع الصاع، أعني صاع النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعلى هذا فتكون الأصواع لستين مسكيناً خمسة عشر صاعاً بصاع النبي صلّى الله عليه وسلّم، من البر، وصاع النبي صلّى الله عليه وسلّم ينقص عن الصاع المعروف الآن هنا في القصيم الخمس، وعلى هذا يكون الصاع في القصيم خمسة أمداد، ويكون إطعام ستين مسكيناً اثني عشر صاعاً بأصواع القصيم.
وقيل: بل يطعم نصف الصاع من البر أو غيره، واحتج هؤلاء بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لكعب بن عجرة ـ رضي الله عنه ـ حين حلق رأسه في العمرة، قال: «أطعم ستّة مساكين لكل مسكين نصف صاع» [(390)] وأطلق، ولم يقل من التمر أو من البر، وهذا يقتضي أن يكون المقدر نصف الصاع، وإذا كان كذلك فزد على ما قلنا النصف، فيكون بالنسبة لصاع النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثين صاعاً، وبالنسبة لصاعنا أربعة وعشرين صاعاً.
والأمر في هذا قريب، فلو أن الإنسان احتاط وأطعم لكل مسكين نصف صاع لكان حسناً.
وقيل: إنه لا يتقدر بل يطعم بما يعد إطعاماً فلو أنه جمعهم وغداهم أو عشاهم أجزأ ذلك؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال للرجل الذي جامع أهله في نهار رمضان: هل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً[(391)]؟ وهذا هو الصحيح.
مسألة: الطعام والمُطْعَم ينقسم في الشرع إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما قُدر فيها الطعام دون المطعم.
الثاني: ما قدر فيها المطعم دون الطعام.
الثالث: ما قدر فيها الطعام والمطعم.
مثال الأول: زكاة الفطر فإنها صاع من طعام تعطى لواحد أو اثنين أو تجمع صاعين أو ثلاثة لواحد، لا مانع.
مثال الثاني: هذه المسألة ومثل كفارة اليمين.
مثال الثالث: مثل فدية الأذى، كحلق الرأس في الإحرام، قال تعالى: {{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}} [البقرة: 196] وانظر إلى الآية يقول الله: {{صَدَقَةٍ}} لم يقل أو إطعام وبينها الرسول صلّى الله عليه وسلّم فقال لكعب بن عجرة: تطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع[(392)]، والمشهور من المذهب يقولون إن الإطعامات المطلقة تحمل على هذا المقيد، فكل إطعام لا بد أن يكون نصف صاع، لكن يقال لهم: أنتم تقولون نصف صاع من غير البر، ومدٌّ من البر، مع أن حديث كعب بن عجرة نصف صاع مطلقاً، فأنتم الآن قستم ولا قستم، والصواب أن ما لم يُقيد يكفي فيه الإطعام.
قوله: «فإن لم يجد سقطت» أي: الكفّارة، ودليل ذلك من الكتاب، والسنّة، أمّا من الكتاب فقوله تعالى: {{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا}} [الطلاق: 7] ، وهذا الرجل الفقير ليس عنده شيءٌ فلا يكلّف إلاّ ما آتاه الله، والله ـ عزّ وجل ـ بحكمته لم يؤته شيئاً، ودليل آخر قوله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] ، ودليلٌ ثالثٌ العموم، عموم القاعدة الشرعيّة، وهي أنّه لا واجب مع عجزٍ، فالواجبات تسقط بالعجز عنها، وهذا الرجل الذي جامع لا يستطيع عتق الرقبة ولا الصيام ولا الإطعام، نقول إذاً لا شيء عليك وبرئت ذمّتك.
فإن أغناه الله في المستقبل فهل يلزمه أن يكفر أو لا؟
فالجواب: لا يلزمه لأنها سقطت عنه، وكما أنّ الفقير لو أغناه الله لم يلزمه أن يؤدي الزكاة عمّا مضى من سنواته لأنّه فقير فكذلك هذا الذي لم يجد الكفارة إذا أغناه الله تعالى لم يجب عليه قضاؤها.
أمّا الدليل من السنّة فهو أن الرجل لمّا قال: (لا أستطيع أن أطعم ستين مسكيناً) لم يقل النبي صلّى الله عليه وسلّم أطعمهم متى استطعت، بل أمره أن يطعم حين وجد، فقال: (خذ هذا تصدّق به، فقال: أعلى أفقر مني يا رسول الله... فقال: أطعمه أهلك)، ولم يقل: والكفارة واجبة في ذمتك، فدل هذا على أنها تسقط بالعجز.
وقال بعض العلماء: إنها لا تسقط بالعجز، واستدلوا بالحديث، قالوا: لأن الرجل قال: لا أجد، فلمّا جاء النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم التمرُ، قال: خذ هذا تصدّق به، ولو كانت ساقطة بالعجز لم يقل خذ هذا تصدّق به.
فيقال: الجواب: إِنَّ هذا وجده في الحال، يعني وجده في المجلس الذي أفتاه النبي صلّى الله عليه وسلّم به، فكان كالواجد قبل ذلك، ولهذا لمّا قال: أطعمه أهلك، لم يقل: وعليك كفّارة إذا اغتنيت.
والقول الراجح أنّها تسقط، وهكذا أيضاً نقول في جميع الكفارات، إذا لم يكن قادراً عليها حين وجوبها فإنها تسقط عنه، إمّا بالقياس على كفارة الوطء في رمضان، وإما لدخولها في عموم قوله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] {{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا}} [الطلاق: 7] وما أشبه ذلك، وعلى هذا فكفّارة الوطء في الحيض إذا قلنا: إن الوطء في الحيض يوجب الكفّارة، فإنّها تسقط.
وفدية الأذى إذا لم يجد ولم يستطع الصوم تسقط، وهكذا جميع الكفارات بناءً على ما استدللنا به لهذه المسألة، وبناءً على القاعدة العامة الأصوليّة التي اتفق عليها الفقهاء في الجملة، وهي أنّه (لا واجب مع عجز).
والغريب أن بعض العلماء سلك مسلكاً غريباً وقال: إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال له: «أطعمه أهلك» أي: كفارة، لا أنه دفعٌ لحاجتهم، وهذا ليس بصواب لأمرين:
أولاً: أنه لا يمكن أن يكون الرجل مصرفاً لكفارته كما لا يكون مصرفاً لزكاته، أرأيت لو أن شخصاً عنده دراهم تجب فيها الزكاة، وهو مدين فإنه لا يصرف زكاته في دينه، وهذا أيضاً لا يمكن أن يصرف كفارته لنفسه.
ثانياً: أن الكفارة إطعام ستين مسكيناً، وهذا الرجل ـ الذي يظهر والله أعلم ـ أنه ليس عنده إلا زوجته أو ولد أو ولدان أو أكثر، ولو كانت كفارة لقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: هل عندك ستون شخصاً تعولهم حتى يثبت الأمر فهذا المسلك مسلك ضعيف.
والمذهب لا يسقط من الكفّارات بالعجز إلاّ اثنتان: كفّارة الوطء في الحيض، وكفّارة الوطء في رمضان، وباقي الكفارات لا تسقط بالعجز بل تبقى في ذمته؛ لأن الدين لا يسقط بالعجز عنه أرأيت لو أن شخصاً يطلبك دراهم وعجزت، فلا يسقط دينه بل يبقى في ذمتك، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «دين الله أحق بالقضاء» [(393)].
مسألة: كلما جاءت الرقبة مطلقة فلا بد من شرط الإيمان؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما جاء معاوية بن الحكم يستفتيه في جارية غضب عليها ولطمها فأراد أن يعتقها، فدعاها الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقال: أين الله؟ فقالت: في السماء، فقال: اعتقها فإنها مؤمنة [(394)]؛ ولأن إعتاق الكافرة قد يستلزم ذهابها إلى الكفار؛ لأنها تحررت فتذهب إلى بلاد الكفر ولا يرجى لها إسلام.
مسألة: اشتراط سلامة الرقبة من العيوب فيه خلاف:
فقيل بالاشتراط، وقيل: لا نشترط سوى ما اشترط الله وهو: الإيمان، واستدل من قال بالاشتراط، أن إعتاق المعيب عيباً يخل بالعمل خللاً بيناً فإن إعتاقه يكون به عالة على غيره، وعدم إعتاقه أحسن له.
والمسألة تحتاج لتحرير، لكن الذي يظهر لي أنه لا يشترط.
------------------------------------
[356] أخرجه أبو داود في الطهارة/ باب في الاستنثار (142)، والنسائي في الطهارة/ باب المبالغة في الاستنشاق (1/66) والترمذي في الصوم/ باب ما جاء في كراهية مبالغة الاستنشاق للصائم... (788)، وصححه ابن خزيمة (150)، وابن حبان (1087).
[357] «الإنصاف» (3/299).
[358] «حقيقة الصيام»، ص(37).
[359] أخرجه أحمد (2/498)؛ وأبو داود في الصيام/ باب الصائم يتقيء عمداً (2380)؛ والترمذي في الصوم/ باب ما جاء فيمن استقاء عمداً (720)؛ وابن ماجه في الصيام/ باب ما جاء في الصائم يقيء (1676)؛ والنسائي في «الكبرى» (3117)؛ وصححه ابن خزيمة (1960)؛ وابن حبان (3518)؛ والحاكم (1/427)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[360] «المحلى» (6/203).
[361] أخرجه البخاري في الصوم/ باب فضل الصوم (1894)؛ ومسلم في الصيام/ باب حفظ اللسان للصائم (1151) (164) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[362] أخرجه مسلم في الزكاة/ باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (1006) عن أبي ذر رضي الله عنه.
[363] أخرجه البخاري في العلم/ باب من استحيا فأمر غيره بالسؤال (132)، ومسلم في الحيض/ باب المذي (303) عن علي رضي الله عنه.
[364] أخرجه الإمام أحمد (5/351)؛ وأبو داود في النكاح/ باب في ما يؤمر به من غض البصر (2149)؛ والترمذي في الأدب/ باب ما جاء في نظرة الفجاءة (2777)؛ والحاكم (2/194)، عن بريدة رضي الله عنه ولفظه: «وليست لك الآخرة».
وقال الترمذي: «حسن غريب»، وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي وحسنه الألباني في «غاية المرام» (183).
[365] أخرجه البخاري في العتق/ باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه (2528)؛ ومسلم في الإيمان/ باب إذا هم العبد بحسنة (127) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[366] أخرجه البخاري في الصوم/ باب الحجامة والقيء للصائم (1938).
[367] أخرجه البخاري في الصوم/ باب الحجامة والقيء للصائم (1940).
[368] أخرجه أحمد (4/123)؛ وأبو داود في الصيام/ باب في الصائم يحتجم (2368)؛ والنسائي في «السنن الكبرى» (3126) ط/الرسالة؛ وابن ماجه في الصيام/ باب ما جاء في الحجامة للصائم (1681)؛ وصححه ابن حبان (3533)؛ والحاكم (1/428).
وقال عبد الله بن أحمد في مسائله (682): «سمعت أبي يقول: هذا من أصح حديث يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في إفطار الحاجم والمحجوم».
ونقل الحاكم عن إسحاق بن راهويه تصحيحه، وصححه علي بن المديني والبخاري كما في «التلخيص» للحافظ (2/193).
وقال النووي في «شرح المهذب» (6/350): «على شرط مسلم»، وانظر في طرق هذا الحديث «السنن الكبرى» للنسائي.
[369] «المبدع» (3/16).
[370] سبق تخريجه ص(287).
[371] «حقيقة الصيام» ص(81، 82، 83، 84).
[372] وللإمام أحمد مفردات منظومة شرحها الشيخ منصور البهوتي، وهي مفيدة.
[373] أخرجه ابن ماجه في الطلاق/ باب طلاق المكره والناسي (2043) عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ، ولفظه: «إن الله تجاوز لي عن أمتي...»؛ وأخرجه عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ (2045) ولفظه: «إن الله وضع عن أمتي...» وصححه ابن حبان (7219)، وصححه الحاكم (2/198) على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
[374] أخرجه البخاري في الصوم/ باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً (1933)؛ ومسلم في الصيام/ باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر (1155).
[375] أخرجه البخاري في الأذان/ باب التشهد في الآخرة (831) ومسلم في الصلاة/ باب التشهد في الصلاة (402) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[376] وقد تقدم الكلام على هذا الشرط عند قول المؤلف: «عامداً».
[377] أخرجه البخاري في التفسير/ باب {{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}} (4509)؛ ومسلم في الصيام/ باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر (1090) عن عدي بن حاتم رضي الله عنه.
[378] سبق تخريجه ص(333).
[379] سبق تخريجه ص(377).
[380] أخرجه أحمد (2/180)؛ وأبو داود في الطهارة/ باب الوضوء ثلاثاً ثلاثاً (135)؛ والنسائي في الطهارة/ باب الاعتداء في الوضوء (1/88)؛ وابن ماجه في الطهارة/ باب ما جاء في القصد من الوضوء وكراهية التعدي (422)؛ وصححه ابن خزيمة (174)؛ وصححه الحافظ في «التلخيص» (82).
[381] سبق تخريجه ص(333).
[382] أخرجه البخاري في الصوم/ باب متى يحل فطر الصائم (1954)؛ ومسلم في الصيام/ باب بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار(1100) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[383] سبق تخريجه ص(333).
[384] أخرجه البخاري في الصوم/ باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر (1936)؛ ومسلم في الصيام/ باب تحريم الجماع في شهر رمضان... (1111).
[385] أخرجه البخاري في البيوع/ باب من أجرى الأمصار على ما يتعارفون بينهم... (2211)؛ ومسلم في الأقضية/ باب قضية هند(1714) عن عائشة رضي الله عنها.
[386] سبق تخريجه ص(402).
[387] سبق تخريجه ص(303).
[388] أخرجه ابن أبي شيبة (3/54).
[389] سبق تخريجه ص(402).
[390] سبق تخريجه ص(185).
[391] سبق تخريجه ص(402).
[392] سبق تخريجه ص(185).
[393] سبق تخريجه ص(46).
[394] أخرجه مسلم في المساجد/ باب تحريم الكلام في الصلاة (537).
كِتَابُ الصِّيَامِ
قوله: «كتاب الصيام» سبق لنا أن الفقهاء ـ رحمهم الله ـ يسمون بالكتاب، والباب، والفصل.
فالكتاب للجنس، والباب للنوع، والفصل لمفردات المسائل.
فمثلاً كتاب الطهارة جنس، أنواعه: باب المياه، باب الآنية، باب الوضوء، باب الغسل، باب التيمم، باب الحيض وغيرها.
فكتاب الصيام هذا جنس؛ لأن ما سبقه في الصلاة والزكاة وهذا هو الصيام.
ورتب العلماء ـ رحمهم الله ـ الفقه في باب العبادات على حسب حديث جبريل ـ عليه السلام[(271)] ـ، وحديث عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ في بعض ألفاظه[(272)] فقدموا الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصيام، ثم الحج.
وقدمت الطهارة قبل الصلاة لأنها شرط، وهي مفتاح الصلاة فقدموها على الصلاة، وإلا لأدرجوها ضمن شروط الصلاة، أي: في أثناء كتاب الصلاة، لكن لما رأوا أنها مفتاحها، وأن الكلام عليها كثير قدموها على كتاب الصلاة.
الصيام في اللغة مصدر صام يصوم، ومعناه أمسك، ومنه قوله تعالى: {{فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَن صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا *}} [مريم] فقوله: {{صَوْمًا}} أي: إمساكاً عن الكلام، بدليل قوله: {{فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا}} أي: إذا رأيت أحداً فقولي: {{إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَن صَوْمًا}} يعني إمساكاً عن الكلام {{فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}}.
ومنه قولهم صامت عليه الأرض، إذا أمسكته وأخفته
وأما في الشرع فهو التعبد لله سبحانه وتعالى بالإمساك عن الأكل والشرب، وسائر المفطرات، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
ويجب التفطن لإلحاق كلمة التعبد في التعريف؛ لأن كثيراً من الفقهاء لا يذكرونها بل يقولون: الإمساك عن المفطرات من كذا إلى كذا، وفي الصلاة يقولون هي: أقوال وأفعال معلومة، ولكن ينبغي أن نزيد كلمة التعبد، حتى لا تكون مجرد حركات، أو مجرد إمساك، بل تكون عبادة
وحكمه: الوجوب بالنص والإجماع.
ومرتبته في الدين الإسلامي: أنه أحد أركانه، فهو ذو أهمية عظيمة في مرتبته في الدين الإسلامي.
وقد فرض الله الصيام في السنة الثانية إجماعاً، فصام النبي صلّى الله عليه وسلّم تسع رمضانات إجماعاً، وفرض أولاً على التخيير بين الصيام والإطعام؛ والحكمة من فرضه على التخيير التدرج في التشريع؛ ليكون أسهل في القبول؛ كما في تحريم الخمر، ثم تعين الصيام وصارت الفدية على من لا يستطيع الصوم إطلاقاً.
ثم اعلم أن حكمة الله ـ عزّ وجل ـ، أن الله نوع العبادات في التكليف؛ ليختبر المكلف كيف يكون امتثاله لهذه الأنواع، فهل يمتثل ويقبل ما يوافق طبعه، أو يمتثل ما به رضا الله عزّ وجل؟
فإذا تأملنا العبادات: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وجدنا أن بعضها بدني محض، وبعضها مالي محض، وبعضها مركب، حتى يتبين الشحيح من الجواد، فربما يهون على بعض الناس أن يصلي ألف ركعة، ولا يبذل درهماً، وربما يهون على بعض الناس أن يبذل ألف درهم ولا يصلي ركعة واحدة، فجاءت الشريعة بالتقسيم والتنويع حتى يعرف من يمتثل تعبداً لله، ومن يمتثل تبعاً لهواه.
فالصلاة مثلاً عبادة بدنية محضة، وما يجب لها مما يحتاج إلى المال، كماء الوضوء الذي يشتريه الإنسان، والثياب لستر العورة تابع، وليس داخلاً في صلب العبادة.
والزكاة مالية محضة، وما تحتاج إليه من عمل بدني كإحصاء المال وحسابه، ونقل الزكاة إلى الفقير والمستحق فهو تابع، وليس داخلاً في صلب العبادة.
والحج مركب من مال وبدن إلا في أهل مكة فقد لا يحتاجون إلى المال، لكن هذا شيء نادر، أو قليل بالنسبة لغير أهل مكة.
والجهاد في سبيل الله مركب من مال وبدن، ربما يستقل بالمال وربما يستقل بالبدن.
فالجهاد من حيث التركيب أعم العبادات؛ لأنه قد يكون بالمال فقط، وقد يكون بالبدن فقط، وقد يكون بهما.
والتكليف أيضاً ينقسم من وجه آخر، إلى: كف عن المحبوبات، وإلى بذل للمحبوبات، وهذا نوع من التكليف أيضاً.
كف عن المحبوبات مثل الصوم، وبذل للمحبوبات كالزكاة؛ لأن المال محبوب إلى النفس، فلا يبذل المال المحبوب إلى النفس إلا لشيء أحب منه.
وكذلك الكف عن المحبوبات، فربما يهون على المرء أن ينفق ألف درهم، ولا يصوم يوماً واحداً أو بالعكس، ومن ثم استحسن بعض العلماء استحساناً مبنياً على اجتهاد، لكنه سيء حيث أفتى بعض الأمراء أن يصوم شهرين متتابعين بدلاً عن عتق الرقبة في الجماع في نهار رمضان.
وقال: إن ردع هذا الأمير بصيام شهرين متتابعين، أبلغ من ردعه بإعتاق رقبة؛ لأنه ربما يعتق ألف رقبة ولا يهون عليه أن يصوم يوماً واحداً.
لكن هذا اجتهاد فاسد لأنه مقابل للنص، ولأن المقصود بالكفارات التهذيب والتأديب وليس تعذيب الإنسان، بل تطهيره بالإعتاق، فقد أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أن من أعتق عبداً فإن الله يعتق بكل عضو منه عضواً من النار» [(273)] فهو فكاك من النار، فيكون أفضل وأعظم، فالحاصل أنك إذا تأملت الشريعة الإسلامية والتكاليف الإلهية وجدتها في غاية الحكمة والمطابقة للمصالح.
يَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ بِرُؤْيَةِ هِلاَلِهِ، فَإِنْ لَمْ يُرَ مَعَ صَحْوِ لَيْلَةِ الثَّلاَثِينَ أَصْبَحُوا مُفْطِرِينَ، وَإِنْ حَالَ دُونَهُ غَيْمٌ، أوْ قَتَرٌ فَظَاهِرُ المَذْهَبِ يَجِبُ صَوْمَهُ .........
قوله: «يجب صوم رمضان برؤية هلاله» هذه الجملة لا يريد بها بيان وجوب الصوم؛ لأنه مما علم بالضرورة، ولكن يريد أن يبين متى يجب، فذكر أنه يجب بأحد أمرين:
الأول: رؤية هلاله: أي هلال رمضان
1 ـ لقوله تعالى: {{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}} [البقرة: 185] .
2 ـ وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتموه فصوموا» [(274)].
وعلم منه أنه لا يجب الصوم بمقتضى الحساب، فلو قرر علماء الحساب المتابعون لمنازل القمر أن الليلة من رمضان، ولكن لم ير الهلال، فإنه لا يصام؛ لأن الشرع علق هذا الحكم بأمر محسوس وهو الرؤية.
وقال بعض المتأخرين: إنه يجب العمل بالحساب إذا لم تمكن الرؤية، وبه فسر حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ وفيه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فإن غُمّ عليكم فاقدروا له» ، وقال: إنه مأخوذ من التقدير، وهو الحساب ولكن الصحيح أن معنى (اقدروا له) مفسر بكلام النبي صلّى الله عليه وسلّم وأن المراد به إكمال شعبان ثلاثين يوماً.
وقوله: «برؤية هلاله» يعم ما إذا رأيناه بالعين المجردة أو بالوسائل المقربة؛ لأن الكل رؤية .
الثاني: إتمام شعبان ثلاثين يوماً؛ لأن الشهر الهلالي لا يمكن أن يزيد عن ثلاثين يوماً، ولا يمكن أن ينقص عن تسعة وعشرين يوماً، وعلى المذهب يزيد أمر ثالث، وهو أن يحول دون منظره غيم أو قتر، وسيأتي البحث فيه.
قوله: «فإن لم ير مع صحو ليلة الثلاثين أصبحوا مفطرين» أي: من شعبان، فإن لم ير الهلال مع صحو السماء، بأن تكون خالية من الغيم، والقتر والدخان والضباب، ومن كل مانع يمنع الرؤية ليلة الثلاثين من شعبان أصبحوا مفطرين؛ حتى وإن كان هلَّ في الواقع، وفي هذه الحال لا يصومون إما على سبيل التحريم وإما على سبيل الكراهة؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه» [(275)].
قوله: «وإن حال دونه غيم، أو قتر فظاهر المذهب يجب صومه» أي: إن حال دون رؤية الهلال غيم، والغيم هو السحاب.
وقوله: «أو قتر» وهو التراب الذي يأتي مع الرياح، وكذلك غيرهما مما يمنع رؤيته.
وقوله: «فظاهر المذهب» هذا التعبير غريب من المؤلف لأنه ليس من عادته، ولأنه كتاب مختصر فلعله عبر به لقوة الخلاف.
وقوله: «المذهب» المراد به هنا المذهب الاصطلاحي لا الشخصي، وذلك لأن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ ليس عنه نص في وجوب صوم هذا اليوم خلافاً لما قاله الأصحاب.
وقوله: «يجب صومه» أي وجوباً ظنياً، احتياطياً.
فالوجوب هنا مبني على الاحتياط والظن، لا على اليقين والقطع؛ لأنه ربما يكون الهلال قد هَلَّ، لكن لم ير، وذلك لوجود الغيم أو القتر، أو غير ذلك ويحتمل أنه لم يظهر.
هذا هو المشهور من المذهب عند المتأخرين[(276)] حتى قال بعضهم: إن نصوص أحمد تدل على الوجوب، واستدلوا بما يلي:
1 ـ حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له» [(277)].
فقوله: (فاقدروا له) من القدر وهو الضيق وبهذا فسره الأصحاب فقالوا: اقدروا له: أي ضيقوا عليه، قالوا: ومنه قوله تعالى: {{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}} [الطلاق: 7] أي: من ضُيق عليه، قالوا: والتضييق أن يجعل شعبان تسعة وعشرين يوماً.
2 ـ أن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: «كان إذا كان ليلة الثلاثين من شعبان، وحال دونه غيم أو قتر أصبح صائماً» [(278)].
3 ـ أنه يحتمل أن يكون الهلال قد هَلَّ، ولكن منعه هذا الشيء الحاجب، فيصوم احتياطاً.
ويجاب عما استدلوا به:
أما حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ فيقال: إذا سلمنا ما قلتم فلماذا لا نقول القدر أن يجعل رمضان تسعة وعشرين فتجعل التضيق على رمضان لأنه لم يهل هلاله إلى الآن، فليس له حق في الوجود فيبقى مضيقاً عليه، ولكننا نقول: الصواب أن المراد بالقدر هنا ما فسرته الأحاديث الأخرى، وهو إكمال شعبان ثلاثين يوماً إن كان الهلال لرمضان وإكمال رمضان، ثلاثين يوماً إن كان الهلال لشوال.
أما الاحتياط:
فأولاً: إنما يكون فيما كان الأصل وجوبه، وأما إن كان الأصل عدمه، فلا احتياط في إيجابه.
ثانياً: ما كان سبيله الاحتياط، فقد ذكر الإمام أحمد وغيره أنه ليس بلازم، وإنما هو على سبيل الورع والاستحباب، وذلك لأننا إذا احتطنا وأوجبنا فإننا وقعنا في غير الاحتياط، من حيث تأثيم الناس بالترك، والاحتياط هو ألا يؤثم الناس إلا بدليل يكون حجة عند الله تعالى.
وأما أثر ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ، فلا دليل فيه أيضاً على الوجوب لأن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قد فعله على سبيل الاستحباب؛ لأنه لو كان على سبيل الوجوب لأمر الناس به، ولو أهله على الأقل.
القول الثاني: يحرم صومه[(279)] واستدل هؤلاء بما يأتي:
1 ـ قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه» [(280)] وإن لم يكن يصوم صوماً فصام هذا اليوم الذي فيه شك فقد تقدم رمضان بيوم.
2 ـ وبحديث عمار بن ياسر ـ رضي الله عنهما ـ الذي علقه البخاري، ووصله أصحاب السنن ـ: «من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم» [(281)] ولا شك أن هذا يوم يشك فيه؛ لوجود الغيم والقتر.
3 ـ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» [(282)] فقوله: «أكملوا العدة ثلاثين» أمر، والأصل في الأمر الوجوب، فإذا وجب إكمال شعبان ثلاثين يوماً حرم صوم يوم الشك.
4 ـ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «هلك المتنطعون» [(283)] فإن هذا من باب التنطع في العبادة، والاحتياط لها في غير محله.
القول الثالث: أن صومه مستحب، وليس بواجب.
واستدلوا: بفعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما[(284)].
القول الرابع: أن صومه مكروه، وليس بحرام[(285)] ولعله لتعارض الأدلة عندهم.
القول الخامس: أن صومه مباح، وليس بواجب، ولا مكروه، ولا محرم ولا مستحب[(286)] لتعارض الأدلة عندهم.
القول السادس: العمل بعادة غالبة فإذا مضى شهران كاملان فالثالث ناقص، وإذا مضى شهران ناقصان فالثالث كامل، فإذا كان شهر رجب وشعبان ناقصين، فرمضان كامل، وإذا كان رجب وجمادى الثانية ناقصين، فشعبان كامل[(287)].
القول السابع: أن الناس تبعٌ للإمام[(288)]، فإن صام الإمام صاموا، وإن أفطر أفطروا، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس» [(289)].
وأصح هذه الأقوال هو التحريم، ولكن إذا رأى الإمام وجوب صوم هذا اليوم، وأمر الناس بصومه، فإنه لا ينابذ، ويحصل عدم منابذته بألا يظهر الإنسان فطره، وإنما يفطر سراً.
والمسألة هنا لم يثبت فيها دخول الشهر، أما لو حكم ولي الأمر بدخول الشهر فالصوم واجب.
وَإِنْ رُئيَ نَهَاراً فَهْوَ للَّيْلَةِ المُقْبِلَةِ.
قوله: «وإن رئي نهاراً فهو لليلة المقبلة» الضمير يعود على الهلال، والمؤلف لم يرد الحكم بأنه لليلة المقبلة، ولكنه أراد أن ينفي قول من يقول: إنه لليلة الماضية، فإن بعض العلماء يقول: إذا رئي الهلال نهاراً قبل غروب الشمس من هذا اليوم فإنه لليلة الماضية، فيلزم الناس الإمساك.
وفصل بعض العلماء بين ما إذا رئي قبل الزوال أو بعده.
والصحيح أنه ليس لليلة الماضية، اللهم إلا إذا رئي بعيداً عن الشمس بينه وبين غروب الشمس مسافة طويلة، فهذا قد يقال: إنه لليلة الماضية، ولكنه لم ير فيه لسبب من الأسباب، لكن مع ذلك لا نتيقن هذا الأمر.
وقوله: «لليلة المقبلة» ليس على إطلاقه أيضاً؛ لأنه إن رئي تحت الشمس بأن يكون أقرب للمغرب من الشمس فليس لليلة المقبلة قطعاً؛ لأنه سابق للشمس، والهلال لا يكون هلالاً إلا إذا تأخر عن الشمس.
فمثلاً: إذا رئي قبل غروب الشمس بنصف ساعة، وغرب قبل غروبها بربع ساعة، فلا يكون للمقبلة قطعاً لأنه غاب قبل أن تغرب الشمس، وإذا غاب قبل أن تغرب الشمس فلا عبرة برؤيته؛ لأن العبرة برؤيته أن يُرى بعد غروب الشمس متخلفاً عنها.
وَإِذَا رَآهُ أَهْلُ بَلَدٍ لَزِمَ النَّاسَ كُلَّهُم الصَّوْمُ.
قوله: «وإذا رآه أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم» المراد بأهل البلد هنا من يثبت الهلال برؤيته، فهو عام أريد به خاص، فليس المراد به جميع أهل البلد، من كبير وصغير وذكر، وأنثى، فإذا ثبتت رؤيته في مكان لزم الناس كلهم الصوم في مشارق الأرض ومغاربها، ويدل على ذلك:
1 ـ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» [(290)]؛ والخطاب موجه لعموم الأمة.
2 ـ أن ذلك أقرب إلى اتحاد المسلمين، واجتماع كلمتهم، وعدم التفرق بينهم بحيث لا يكون هؤلاء مفطرين وهؤلاء صائمين، فإذا اجتمعوا وكان يوم صومهم ويوم فطرهم واحداً كان ذلك أفضل وأقوى للمسلمين في اتحادهم، واجتماع كلمتهم، وهذا أمر ينظر إليه الشرع نظر اعتبار.
وعلى ذلك إذا ثبتت رؤيته وقت المغرب في أمريكا وجب الصوم على الموجودين في الصين رغم تباعد مطالع الهلال.
القول الثاني: لا يجب إلا على من رآه، أو كان في حكمهم بأن توافقت مطالع الهلال، فإن لم تتفق فلا يجب الصوم.
قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: تختلف مطالع الهلال باتفاق أهل المعرفة بالفلك، فإن اتفقت لزم الصوم، وإلا فلا، واستدلوا بالنص والقياس.
أما النص فهو:
1 ـ قوله تعالى: {{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}} [البقرة: 185] ، والذين لا يوافقون من شاهده في المطالع لا يقال إنهم شاهدوه لا حقيقة؛ ولا حكماً، والله تعالى أوجب الصوم على من شاهده.
2 ـ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» [(291)] فعلل الأمر في الصوم بالرؤية، ومن يخالف من رآه في المطالع لا يقال إنه رآه لا حقيقة، ولا حكماً.
3 ـ حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وفيه أن أم الفضل بنت الحارث بعثت كريباً إلى معاوية بالشام فقدم المدينة من الشام في آخر الشهر فسأله ابن عباس عن الهلال فقال: رأيناه ليلة الجمعة فقال ابن عباس: لكننا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقال: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم[(292)].
وأما القياس فلأن التوقيت اليومي يختلف فيه المسلمون بالنص والإجماع، فإذا طلع الفجر في المشرق فلا يلزم أهل المغرب أن يمسكوا لقوله تعالى: {{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ}} [البقرة: 187] ، ولو غابت الشمس في المشرق، فليس لأهل المغرب الفطر.
فكما أنه يختلف المسلمون في الإفطار والإمساك اليومي، فيجب أن يختلفوا كذلك في الإمساك والإفطار الشهري، وهذا قياس جلي
وهذا القول هو القول الراجح، وهو الذي تدل عليه الأدلة.
ولهذا قال أهل العلم: إذا رآه أهل المشرق وجب على أهل المغرب المساوين لهم في الخط أن يصوموا؛ لأن المطالع متفقة، ولأن الهلال إذا كان متأخراً عن الشمس في المشرق فهو في المغرب من باب أولى؛ لأن سير القمر بطيء كما قال الله تعالى: {{وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا *}} [الشمس].
وإذا رآه أهل المغرب هل يجب الصيام على أهل المشرق؟ الجواب: لا؛ لأنه ربما في سير هذه المسافة تأخر القمر.
القول الثالث: أن الناس تبع للإمام فإذا صام صاموا، وإذا أفطر أفطروا، ولو كانت الخلافة عامة لجميع المسلمين فرآه الناس في بلد الخليفة، ثم حكم الخليفة بالثبوت لزم من تحت ولايته في مشارق الأرض أو مغاربها، أن يصوموا أو يفطروا لئلا تختلف الأمة وهي تحت ولاية واحدة، فيحصل التنازع والتفرق، هذا من جهة المعنى.
ومن جهة النص: فلقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الصوم يوم يصوم الناس والفطر يوم يفطر الناس» [(293)]، فالناس تبع للإمام، والإمام عليه أن يعمل ـ على القول الراجح ـ باختلاف المطالع.
وعمل الناس اليوم على هذا أنه إذا ثبت عند ولي الأمر لزم جميع من تحت ولايته أن يلتزموا بصوم أو فطر، وهذا من الناحية الاجتماعية قول قوي، حتى لو صححنا القول الثاني الذي نحكم فيه باختلاف المطالع فيجب على من رأى أن المسألة مبنية على المطالع، ألا يظهر خلافاً لما عليه الناس.
القول الرابع: أنه يلزم حكم الرؤية كل من أمكن وصول الخبر إليه في الليلة، وهذا في الحقيقة يشابه المذهب في الوقت الحاضر؛ لأنه يمكن أن يصل الخبر إلى جميع أقطار الدنيا في أقل من ليلة، لكن يختلف عن المذهب فيما إذا كانت وسائل الاتصالات مفقودة.
مسألة: الأقليات الإسلامية في الدول الكافرة، إن كان هناك رابطة، أو مكتب، أو مركز إسلامي؛ فإنها تعمل بقولهم، وإذا لم يكن كذلك، فإنها تخيَّر، والأحسن أن تتبع أقرب بلد إليها.
ويُصَامُ بِرُؤْيَةِ عَدْلٍ وَلَوْ أُنْثَى. فَإنْ صَامُوا بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ ثَلاثِينَ يَوْماً، فَلَمْ يُرَ الهِلاَلَ، أَوْ صَامُوا لأَجْلِ غَيْمٍ لَمْ يُفْطِرُوا.
قوله: «ويصام» مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى رمضان.
قوله: «برؤية عدل» وبعضهم يعبر بقوله: «برؤية ثقة» وهذا أعم.
والمراد بسبب رؤية العدل يثبت الشهر.
والدليل حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: «تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلّى الله عليه وسلّم أني رأيته فصامه وأمر الناس بصيامه» [(294)].
وكذلك حديث الأعرابي الذي أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه رأى الهلال فقال: أتشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. قال: نعم فقال لبلال: «قم يا بلال فأذن بالناس أن يصوموا غداً» [(295)]. فهذان الحديثان وإن كانا ضعيفين لكن أحدهما يسند الآخر. والصيام بشهادة واحد مقتضى القياس؛ لأن الناس يفطرون بأذان الواحد ويمسكون بأذان الواحد، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» [(296)].
والعدل في اللغة: هو المستقيم، وضده المعوج.
وفي الشرع: من قام بالواجبات، ولم يفعل كبيرة، ولم يصر على صغيرة.
والمراد بالقيام بالواجبات أداء الفرائض كالصلوات الخمس.
والمراد بالكبيرة كل ذنب رتب عليه عقوبة خاصة، كالحد والوعيد واللعن ونحو ذلك مثاله النميمة، وهي نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض لقصد الإفساد بينهم، كأن يذهب شخص لآخر فيقول له: فلان قال فيك كذا وكذا، مما يؤدي إلى العداوة والبغضاء بينهم، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يدخل الجنة قتات »[(297)] أي: نمام، وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: «مرّ النبي صلّى الله عليه وسلّم بقبرين، فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» [(298)] فإذا نم الإنسان مرة واحدة ولم يتب فليس بعدل.
ومن الكبائر أيضاً الغيبة وهي ذكرك أخاك بما يكره من عيب خلقي، أو خُلقي، أو ديني.
فالخلقي كأن تقول: إن هذا الرجل أعور، أو أنفه معوج، أو فمه واسع، وما أشبه ذلك.
والديني مثل أن تقول: هذا متهاون بالصلاة، وهذا لا يبر والديه، وما أشبه ذلك.
والخُلُقي كأن تقول: هذا أحمق، سريع الغضب، عصبي، وما أشبه ذلك إذا كان في غيبته أما إذا كان في حضوره، فإنه يسمى سبّاً وليس بغيبة، والفقهاء يزيدون على ذلك في وصف العدل ألا يخالف المروءة، فإن خالف المروءة فإنه ليس بعدل، ومثلوا لذلك بمن يأكل في السوق، وبمن يتمسخر بالناس أي: يقلد أصواتهم أو حركاتهم وما أشبه ذلك.
وقياس كلام أحمد في قوله: إن من ترك الوتر فهو رجل سوء لا ينبغي أن تقبل له شهادة، أن من ترك عبادة مؤكدة أنه تسقط عدالته.
ولكن ينبغي أن يقال: إن الشهادة في الأموال ليست كالشهادة في الأخبار الدينية، ففي الأموال يجب أن نشدد، لا سيما في هذا العصر لكثرة من يشهدون زوراً، لكن في الشهادة الدينية يبعد أن يكذب الإنسان فيها، إلا أن يكون هناك مغريات توجب أن يكذب.
مثل ما يقال في بعض الدول إذا شهد شخص بدخول رمضان أعطوه مكافأة، أو بشهادة شوال أخذ مكافأة هذه الأشياء ربما تغري ضعيف الإيمان فيشهد بما لا يرى.
ولو قلنا بقول الفقهاء لم نجد عدلاً؛ فمن يسلم من الغيبة، والسخرية بالناس، والتهاون بالواجبات، وأكل المحرم، وغير ذلك؛ ولهذا كان الصحيح بالنسبة للشهادة أنه يقبل منها ما يترجح أنه حق وصدق؛ لقوله تعالى: {{مِمَنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}} [البقرة: 282] ؛ ولأن الله لم يأمرنا برد شهادة الفاسق بل أمرنا بالتبين فقال تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}} [الحجرات: 6] .
ويشترط مع العدالة أن يكون قوي البصر بحيث يحتمل صدقه فيما ادعاه، فإن كان ضعيف البصر لم تقبل شهادته، وإن كان عدلاً؛ لأنه إذا كان ضعيف البصر وهو عدل، فإننا نعلم أنه متوهم.
والدليل على ذلك أن القوة والأمانة شرطان أساسيان في العمل، ففي قصة موسى مع صاحب مدين قالت إحدى ابنتيه: {{يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}} [القصص: 26] وقال العفريت من الجن الذي التزم أن يأتي بعرش ملكة سبأ {{وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}} [النمل: 39] ومن ذلك الشهادة لا بد فيها من الأمانة التي تقتضيها العدالة، ولا بد فيها من القوة التي يحصل بها إدراك المشهود به ففات المؤلف هنا أن يقول: قوي البصر، لكن لو أراد شخص أن يعتذر عن المؤلف، فيقول: إن العدل إذا كان ضعيف البصر فلا يمكن أن يشهد بما لا يرى.
فنقول: هذا ليس بعذر؛ لأن العدل إذا توهم أنه رأى الهلال فسوف يصر على أنه رآه؛ لما عنده من الدين الذي يرى أنه من الواجب عليه أن يبلغ ليصوم الناس أو يفطروا، لذلك فلا بد من إضافة قوي البصر.
مسائل:
الأولى: لو تراءى عدل الهلال مع جماعة كثيرين، وهو قوي البصر ولم يره غيره فهل يصام برؤيته؟
الجواب: نعم يصام، وهذا هو المشهور من مذهبنا وعليه أكثر أهل العلم، وقال بعض العلماء: إنه إذا لم يره غيره مع كثرة الجمع فإنه لا يعتبر قوله؛ لأنه يبعد أنه ينفرد بالرؤية دونهم.
والصحيح الأول لعدالته وثقته.
الثانية: من رأى الهلال وهو ممن يفعل الكبيرة، كشرب الخمر يلزمه أن يخبر أنه رأى الهلال، ولا يخبر أنه يفعل كبيرة؛ لأن الأحكام تتبعّض.
الثالثة: على المذهب لا تقبل شهادة مستور الحال؛ للجهل بعدالته.
وعندي أن القاضي إذا وثق بقوله فلا يحتاج للبحث عن عدالته.
قوله: «ولو أنثى» «لو» غالباً تأتي إشارة للخلاف، والمسألة هنا كذلك فإن بعض العلماء قال: إن الأنثى لا تقبل شهادتها لا في رمضان، ولا في غيره من الشهور؛ لأن الذي رأى الهلال في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل[(299)]؛ ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا» [(300)] والمرأة شاهدة وليست شاهداً.
لكن الأصحاب يقولون: إن هذا خبر ديني يستوي فيه الذكور والإناث، كما استوى الذكور والإناث في الرواية، والرواية خبر ديني؛ ولهذا لم يشترطوا لرؤية هلال رمضان ثبوت ذلك عند الحاكم، ولا لفظ الشهادة، بل قالوا لو سمع شخصاً ثقة يحدث الناس في مجلسه بأنه رأى الهلال فإنه يلزمه أن يصوم بخبره.
قوله: «فإن صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوماً، فلم ير الهلال أو صاموا لأجل غيم لم يفطروا» «إن صاموا» أي: الناس «بشهادة واحد» أي: في دخول شهر رمضان ولم يروا هلال شوال، فإنهم لا يفطرون فيصومون واحداً وثلاثين يوماً؛ لأنه لا يثبت خروج الشهر إلا بشهادة رجلين، وهنا الصوم مبني على شهادة رجل فهو مبني على سبب لا يثبت به خروج الشهر، فلو أفطروا لكانوا قد بنوا على شهادة واحد وهذا لا يكون في الفطر، هذا هو المشهور من المذهب[(301)].
وقال بعض أهل العلم: بل إذا صاموا ثلاثين يوماً بشهادة واحد لزمهم الفطر؛ لأن الفطر تابع للصوم ومبني عليه، والصوم ثبت بدليل شرعي وقد صاموا ثلاثين يوماً، ولا يمكن أن يزيد الشهر على ثلاثين يوماً، أو يقال يلزمهم الفطر تبعاً للصوم؛ لأنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً وهذا القول هو الصحيح.
وقوله: «أو صاموا لأجل غيم لم يفطروا» إذا صاموا لأجل غيم، فإنهم لا يفطرون؛ لأن صيامهم في أول الشهر ليس مبنياً على بينة، وإنما هو احتياط.
وعلى القول الصحيح لا ترد هذه المسألة؛ لأنه لن يصام لأجل غيم، فهذه المسألة إنما ترد على قول من يلزمهم بالصيام لأجل الغيم.
تنبيه: كل الأشياء المعلقة بدخول شهر رمضان لا تحل في ليلة الثلاثين من شعبان إذا كان غيم أو قتر، وإنما يجب الصوم فقط لأن الشهر لم يثبت دخوله شرعاً، وإنما صمنا احتياطاً، مثال ذلك، لو قال رجل لزوجته: إذا دخل رمضان فأنت طالق، فإنه لا يقع الطلاق بتلك الليلة، وكذا الديون المؤجلة إلى دخول شهر رمضان فإنها لا تحل بتلك الليلة، وكذا المعتدة بالأشهر إذا كانت عدتها تنتهي بتمام شعبان فإنها لا تنتهي بتلك الليلة.
مسألة: لو صام برؤية بلد، ثم سافر لبلد آخر قد صاموا بعدهم بيوم، وأتم هو ثلاثين يوماً ولم ير الهلال في تلك البلد التي سافر إليها، فهل يفطر، أو يصوم معهم؟
الصحيح أنه يصوم معهم، ولو صام واحداً وثلاثين يوماً، وربما يقاس ذلك على ما لو سافر إلى بلد يتأخر غروب الشمس فيه، فإنه يفطر حسب غروب الشمس في تلك البلد التي سافر إليها.
وقيل: ـ وهو المذهب ـ إنه يفطر سراً؛ لأنه إذا رؤي في بلد لزم الناس كلهم حكم الصوم والفطر.
وَمَنْ رَأَى وَحْدَهُ هِلاَلَ رَمَضَانَ، وَرُدَّ قَولُهُ، أوْ رَأى هِلاَلَ شَوَّالٍ صَام ..........
قوله: «ومن رأى وحده هلال رمضان، ورد قوله، أو رأى هلال شوال صام» «وحده» أي: منفرداً عن الناس، سواء كان منفرداً بمكان أو منفرداً برؤية.
مثال ما إذا كان منفرداً بمكان، إذا كان الإنسان في برية ليس معه أحد فرأى الهلال، وذهب إلى القاضي فرد قوله إما لجهالته بحاله، أو لأي سبب من الأسباب.
ومثال الانفراد بالرؤية، أن يجتمع معه الناس لرؤية الهلال فيراه هو، ولا يراه غيره لكن رد قوله فيلزمه الصوم؛ لقوله تعالى: {{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}} [البقرة: 185] ولقول النبي صلّى الله عليه وسلّم «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» [(302)] وهذا الرجل رآه فوجب عليه الصوم، وكل ما يترتب على دخول الشهر؛ لأنه رآه.
وقال بعض العلماء: لو رأى هلال رمضان وحده لم يلزمه الصوم؛ لأن الهلال ما هلَّ واشتهر لا ما رئي.
وقوله: «أو رأى هلال شوال صام» أي: وجوباً ففرق المؤلف بين من انفرد برؤية هلال رمضان، ورد قوله بأنه يصوم مع مفارقته الجماعة، وبين من انفرد برؤية هلال شوال فإنه يصوم ولا يفطر برؤيته؛ ووجه ذلك أن هلال شوال لا يثبت شرعاً إلا بشاهدين، وهنا لم يشهد به إلا واحد، فلا يكون داخلاً شرعاً فيلزمه الصوم مع أنه رآه.
وأما هلال رمضان فيثبت بشهادة واحد وقد شهد به فلزمه الصوم.
وقال بعض العلماء: بل يجب عليه الفطر سراً لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» وهذا الرجل قد رآه فيلزمه الفطر، ولكن يكون سراً؛ لئلا يظهر مخالفة الجماعة.
واختار شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في هاتين المسألتين أنه يتبع الناس؛ فلو رأى وحده هلال رمضان لم يصم؛ ولو رأى هلال شوال وحده لم يفطر؛ لأن الهلال ما هَلَّ واستهل، واشتهر، لا ما رئي.
والذي يظهر لي في مسألة الصوم في أول الشهر ما ذكره المؤلف أنه يصوم، وأما في مسألة الفطر فإنه لا يفطر تبعاً للجماعة، وهذا من باب الاحتياط، فنكون قد احتطنا في الصوم والفطر، ففي الصوم قلنا له: صم، وفي الفطر قلنا له: لا تفطر بل صم.
مسألة: تبين مما سبق أن دخول رمضان يثبت بشهادة واحد، ودليل ذلك حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: «تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلّى الله عليه وسلّم أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه» [(303)].
وهلال شوال وغيره من الشهور لا يثبت إلا بشاهدين لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا» [(304)] ومثله دخول شهر ذي الحجة لا يثبت إلا بشاهدين، فلو رآه شخص وحده لم يثبت دخول الشهر بشهادته؛ وعلى هذا فإذا وقف رجل بعرفة في اليوم التاسع عنده الذي هو الثامن عند الناس فإن ذلك لا يجزئه. وإن أراد أن يصوم اليوم التاسع عنده الذي هو عند الناس الثامن بنية أنه يوم عرفة، فإن ذلك لا يجزئه عن صوم يوم عرفة، ولو صام اليوم التاسع عند الناس الذي هو العاشر عنده، هل يجوز أن يصومه؟
الجواب: نعم يجوز أن يصومه؛ لأنه وإن كان عنده حسب رؤيته العاشر فإنه عند الناس التاسع، فلم يثبت شرعاً دخول شهر ذي الحجة بشهادة هذا الرجل، وعلى هذا فإذا وقف في العاشر عنده، وهو التاسع عند الناس أجزأه الوقوف.
وقول المؤلف هنا: «ومن رأى وحده هلال رمضان، ورد قوله» ولم يقل في هلال شوال ورد قوله؟ لأن هلال شوال لا يثبت برؤية واحد مطلقاً حتى لو قبل وصدق، بخلاف هلال رمضان.
وَيَلْزَمُ الصَّوْمُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ قَادِرٍ. .........
قوله: «ويلزم الصوم لكل مسلم مكلف قادر» هذا شروع في بيان شروط من يلزمه الصوم قوله (لكل مسلم) اللام زائدة، أي: يلزم كل مسلم.
هذا هو الشرط الأول، والإسلام ضده الكفر، فالكافر لا يلزمه الصوم، ولا يصح منه.
ومعنى قولنا لا يلزمه أننا لا نلزمه به حال كفره، ولا بقضائه بعد إسلامه، والدليل على ذلك قوله تعالى: {{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ *}} [التوبة] .
فإذا كانت النفقات ونفعها متعد لا تقبل منهم لكفرهم، فالعبادات الخاصة من باب أولى.
وكونه لا يقضي إذا أسلم؛ دليله قوله تعالى: {{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}} [الأنفال: 38] ، وثبت عن طريق التواتر عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه كان لا يأمر من أسلم بقضاء ما فاته من الواجبات.
ولكن هل يعاقب على تركها في الآخرة إذا لم يسلم؟
الجواب: نعم، يعاقب على تركها في الآخرة، وعلى ترك جميع واجبات الدين؛ لأنه إذا كان المسلم المطيع لله الملتزم بشرعه قد يعاقب عليها، فالمستكبر من باب أولى، وإذا كان الكافر يعذب على ما يتمتع به من نعم الله من طعام وشراب ولباس، ففعل المحرمات وترك الواجبات من باب أولى.
والدليل ما ذكره الله تعالى عن أصحاب اليمين أنهم يقولون للمجرمين: {{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ *قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ *وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ *وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ *وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ *}} [المدثر] . فذكروا أربعة أسباب منها ترك واجبات
فإن قال قائل: تكذيبهم بيوم الدين كفر وهو الذي أدخلهم سقر؟
فالجواب: أنهم ذكروا أربعة أسباب ولولا أن لهذه المذكورات، مع تكذيبهم بيوم الدين أثراً في إدخالهم النار، لم يكن في ذكرها فائدة، ولو أنهم لم يعاقبوا عليها ما جرت على بالهم.
فالسبب الأول: {{لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}}الصلاة.
والثاني: {{وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ *}} الزكاة.
والثالث: {{وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ *}} مثل الاستهزاء بآيات الله.
والرابع: {{وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ *}}.
وقوله: «مكلف» هذا هو الشرط الثاني، وإذا رأيت كلمة مكلف في كلام الفقهاء فالمراد بها البالغ العاقل؛ لأنه لا تكليف مع الصغر ولا تكليف مع الجنون.
والبلوغ يحصل بواحد من ثلاثة بالنسبة للذكر: إتمام خمس عشرة سنة وإنبات العانة، وإنزال المني بشهوة، وللأنثى بأربعة أشياء هذه الثلاثة السابقة ورابع، وهو الحيض، فإذا حاضت فقد بلغت حتى ولو كانت في سن العاشرة.
والعاقل ضده المجنون، أي: فاقد العقل، من مجنون ومعتوه ومهزرٍ؛ فكل من ليس له عقل بأي وصف من الأوصاف فإنه ليس بمكلف، وليس عليه واجب من واجبات الدين لا صلاة ولا صيام ولا إطعام بدل صيام، أي: لا يجب عليه شيء إطلاقاً، إلا ما استثني كالواجبات المالية، وعليه فالمهذري أي: المخرف لا يجب عليه صوم، ولا إطعام بدله لفقد الأهلية وهي العقل.
وهل مثل المهذري من أضل عقله بحادث؟
فالجواب أنه إن كان كالمغمى عليه فإنه يلزمه الصوم؛ لأن المغمى عليه يلزمه الصوم فيقضيه بعد صحوه، وإن وصل به فقد العقل إلى الجنون، ومعه شعوره فله حكم المجنون، وكذلك من كان يجن أحياناً، ففي اليوم الذي يجن فيه لا يلزمه الصوم، وفي اليوم الذي يكون معه عقله يلزمه.
ودليل ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم «رفع القلم عن ثلاثة النائم حتى يستيقظ وعن الصغير حت يبلغ وعن المجنون حتى يفيق» [(305)].
وقوله: «قادر» هذا هو الشرط الثالث، أي: قادر على الصيام احترازاً من العاجز، فالعاجز ليس عليه صوم لقول الله تعالى: {{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}} [البقرة: 184] .
لكن بالتتبع والاستقراء تبين أن العجز ينقسم إلى قسمين: قسم طارئ، وقسم دائم.
فالقسم الطارئ هو الذي يرجى زواله، وهو المذكور في الآية فينتظر العاجز حتى يزول عجزه ثم يقضي لقوله تعالى: {{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}}.
والدائم هو الذي لا يرجى زواله وهو المذكور في قوله تعالى: {{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}} [البقرة: 184] حيث فسرها ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بالشيخ والشيخة إذا كانا لا يطيقان الصوم فيطعمان عن كل يوم مسكيناً[(306)]، والحقيقة أنه بالنظر إلى ظاهر الآية ليس فيها دلالة على ما فسره ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ؛ لأن الآية في الذين يطيقون الصوم {{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}} [البقرة: 184] وهذا واضح أنهم قادرون على الصوم، وهم مخيرون بين الصوم والفدية، وهذا أول ما نزل وجوب الصوم كان الناس مخيرين إن شاؤوا صاموا، وإن شاؤوا أفطروا وأطعموا، وهذا ما ثبت في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع ـ رضي الله عنه ـ قال: «لما نزلت هذه الآية: {{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}} كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها»[(307)].
لكن غور فقه ابن عباس وعلمه بالتأويل يدل على عمق فقهه ـ رضي الله عنه ـ؛ لأن وجه الدلالة من الآية أن الله تعالى جعل الفدية عديلاً للصوم لمن قدر على الصوم، إن شاء صام وإن شاء أطعم، ثم نسخ التخيير إلى وجوب الصوم عينا، فإذا لم يقدر عليه بقي عديله وهو الفدية، فصار العاجز عجزاً لا يرجى زواله، يجب عليه الإطعام عن كل يوم مسكيناً.
أما كيفية الإطعام، فله كيفيتان:
الأولى: أن يصنع طعاماً فيدعو إليه المساكين بحسب الأيام التي عليه، كما كان أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ يفعله لما كبر.
الثانية: أن يطعمهم طعاماً غير مطبوخ، قالوا: يطعمهم مد برٍ أو نصف صاع من غيره، أي: من غير البر، ومد البر هو ربع الصاع النبوي، فالصاع النبوي أربعة أمداد، والصاع النبوي أربعة أخماس صاعنا، وعلى هذا يكون صاعنا خمسة أمداد، فيجزئ من البر عن خمسة أيام خمسة مساكين، لكن ينبغي في هذه الحال أن يجعل معه ما يؤدمه من لحم أو نحوه، حتى يتم قوله تعالى: {{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}}.
وأما وقت الإطعام فهو بالخيار إن شاء فدى عن كل يوم بيومه، وإن شاء أخر إلى آخر يوم لفعل أنس رضي الله عنه.
وهل يقدم الإطعام قبل ذلك؟
الجواب لا يقدم؛ لأن تقديم الفدية كتقديم الصوم، فهل يجزئ أن تقدم الصوم في شعبان؟
الجواب: لا يجزئ.
الشرط الرابع: أن يكون مقيماً، ولم يذكره المؤلف ـ رحمه الله ـ اعتماداً على ما سيذكره في حكم الصوم في السفر، فإن كان مسافراً فلا يجب عليه الصوم؛ لقوله تعالى: {{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}} [البقرة: 185] وقد أجمع العلماء أنه يجوز للمسافر الفطر، واختلفوا فيما لو صام، فذهبت الظاهرية وبعض أهل القياس إلى أنه لا يصح صوم مسافر، وأنه لو صام فقد قدم الصوم على وقته وكان كمن صام رمضان في شعبان.
وحجتهم في هذا قوله تعالى: {{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}} [البقرة: 185] لأن «عدة» مبتدأ خبرها محذوف والتقدير فعليه عدة من أيام أخر، والأخر بمعنى المغايرة وقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «ليس من البر الصوم في السفر» [(308)] وإذا لم يكن براً صار إثماً.
ولكن قولهم ضعيف، فلقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صام في سفره في رمضان، وثبت أن الصحابة كانوا يصومون في سفرهم في رمضان فلا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم[(309)]، وكذلك حديث حمزة بن عمرو الأسلمي ـ رضي الله عنه ـ أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إنه يصادفني هذا الشهر وأنا في سفر فقال له: «إن شئت فصم وإن شئت فأفطر» [(310)]، وحيئذ يكون المراد بالآية بيان البدل أن عليه عدة من أيام أخر، لا وجوب أن تكون عدة من أيام أخر.
وعليه فإن المسافر لا يلزمه الصوم، لكن يلزمه القضاء كالمريض.
وأيهما أفضل للمريض والمسافر أن يصوما، أو يفطرا؟
نقول: الأفضل أن يفعلا الأيسر، فإن كان في الصوم ضرر كان الصوم حراماً لقوله تعالى {{وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}} [النساء: 29] فإن هذه الآية تدل على أن ما كان ضرراً على الإنسان كان منهياً عنه.
فإذا قال قائل: هذا في القتل فقط لا في مطلق الضرر؟
فالجواب: نعم هذا ظاهر الآية، لكن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ استدل بها على نفي الضرر فأقره النبي صلّى الله عليه وسلّم على ذلك، وذلك أنه بعثه مع سرية فأجنب فتيمم ولم يغتسل، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أصليت بأصحابك وأنت جنب؟» فقال: يا رسول الله ذكرت قول الله تعالى {{وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}}، وكانت الليلة باردة فتيممت، فضحك الرسول صلّى الله عليه وسلّم[(311)] تقريراً لفعله، وهذا يدل على أن الآية تتضمن النهي عن قتل النفس، وكل ما كان فيه ضرر.
وعليه فنقول: إذا كان الصوم يضر المريض كان الصوم حراماً عليه.
فإذا قال قائل: ما مقياس الضرر؟
قلنا: إن الضرر يعلم بالحس، وقد يعلم بالخبر؛ أما بالحس فأن يشعر المريض بنفسه أن الصوم يضره، ويثير عليه الأوجاع، ويوجب تأخر البرء، وما أشبه ذلك.
وأما الخبر فأن يخبره طبيب عالم ثقة بذلك، أي: بأنه يضره؛ فإن أخبره عامي ليس بطبيب فلا يأخذ بقوله، وإن أخبره طبيب غير عالم، ولكنه متطبب، فلا يأخذ بقوله، وإن أخبره طبيب غير ثقة فلا يأخذ بقوله.
وهل يشترط أن يكون مسلماً لكي نثق به؛ لأن غير المسلم لا يوثق؟
فيه قولان لأهل العلم، والصحيح أنه لا يشترط، وأننا متى وثقنا بقوله عملنا بقوله في إسقاط الصيام؛ لأن هذه الأشياء صنعته، وقد يحافظ الكافر على صنعته وسمعته، فلا يقول إلا ما كان حقاً في اعتقاده، والنبي صلّى الله عليه وسلّم وثق بكافر في أعظم الحالات خطراً، وذلك حين هاجر من مكة إلى المدينة استأجر رجلاً مشركاً من بني الدَيَّل، يقال له: عبد الله بن أريقط؛ ليدله على الطريق[(312)] وهذه المسألة خطرة؛ لأن قريشاً كانت تبحث عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وجعلت مائة ناقة لمن يدل عليه، ولكن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان واثقاً منه، فدل هذا على أن المشرك إذا وثقنا منه فإننا نأخذ بقوله.
مسألة: هل الأولى للمسافر أن يصوم أو الأولى ألا يصوم؟
فالجواب أما مذهب الحنابلة[(313)] فالأولى ألا يصوم؛ بل كرهوا الصوم للمسافر وقال الشافعية: الأولى أن يصوم، وقال آخرون: إنه على التخيير، لا نفضل الفطر ولا الصوم.
والصحيح التفصيل في هذا، وهو أنه إذا كان الفطر والصيام سواء، فالصيام أولى لوجوه أربعة:
الأول: أن ذلك فعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم كما في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في يوم شديد الحر حتى إن أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم، إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعبد الله بن رواحة [(314)].
الثاني: أنه أسرع في إبراء الذمة.
الثالث: أنه أيسر على المكلف وما كان أيسر فهو أولى.
الرابع: أنه يصادف صيامه رمضان، ورمضان أفضل من غيره وعلى هذا نقول الأفضل الصوم.
وإذا كان يشق عليه الصيام فالفطر أولى، والدليل على هذا: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان صائماً في السفر، ولم يفطر إلا حين قيل له إن الناس قد شق عليهم الصيام، وينتظرون ما ستفعل، ولم يفطروا ـ يريدون التأسي بالرسول صلّى الله عليه وسلّم ـ فدعا الرسول صلّى الله عليه وسلّم بقدح من الماء بعد العصر ورفعه على فخذه حتى رآه الناس، فشرب، والناس ينظرون إليه ليقتدوا به، فجيء إليه وقيل: إن بعض الناس قد صام، فقال عليه الصلاة والسلام: «أولئك العصاة أولئك العصاة» [(315)]، لأنهم صاموا مع المشقة، ولأنهم خالفوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث أفطر وبقوا هم صياماً.
وإن كانت المشقة شديدة يخشى منها الضرر فالصوم حرام لقوله تعالى: {{وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}}.
وأما قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «ليس من البر الصوم في السفر» [(316)] الذي استدل به الحنابلة، فهذا خاص بالرجل الذي رآه النبي صلّى الله عليه وسلّم قد ظلل عليه والناس حوله، فقال صلّى الله عليه وسلّم: ما هذا؟ فقالوا: هذا صائم، فقال: «ليس من البر الصوم في السفر».
فإن قيل: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؟
فنقول: الخصوصية نوعان:
خصوصية شخصية، وخصوصية نوعية.
فالخصوصية الشخصية: أن يقال: إن هذا الحكم خاص بهذا الرجل لا يتعداه إلى غيره وهذا يحتاج إلى دليل خاص، وهذا هو الذي تقول فيه: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فآية اللعان وردت في قصة رجل معين، وآية الظهار كذلك، فالعبرة بالعموم فكل أحد يثبت له هذا الحكم.
والخصوصية النوعية: وإن شئت فقل الخصوصية الحالية، أي: التي لا يثبت بها العموم إلا لمن كان مثل هذا الشخص، أي مثل حاله، فيقال: ليس من البر الصوم في السفر لمن شق عليه، كهذا الرجل، ولا يعم كل إنسان صام.
الشرط الخامس: الخلو من الموانع، وهذا خاص بالنساء، فالحائض لا يلزمها الصوم، والنفساء لا يلزمها الصوم؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم مقرراً ذلك: «أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم» [(317)] فلا يلزمها إجماعاً ولا يصح منها إجماعاً، ويلزمها قضاؤه إجماعاً، فهذه ثلاثة إجماعات، والنفساء كالحائض في هذا.
وإذا قَامَتْ البَيِّنَةُ في أثْنَاءِ النَّهارِ وَجَبَ الإِمْسَاكُ والقَضَاءُ عَلى كلِّ مَن صَارَ في أثْنائِهِ أهلاً لِوُجوبِهِ .........
قوله: «وإذا قامت البينة في أثناء النهار وجب الإمساك والقضاء على كل من صار في أثنائه أهلاً لوجوبه» قوله: البينة أي: بينة دخول الشهر، إما بالشهادة وإما بإكمال شعبان ثلاثين يوماً. وقوله «وجب الإمساك» يعني الإمساك عن المفطرات.
ودليل ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين أمر الناس بصيام عاشوراء في أثناء اليوم أمسكوا في حينه[(318)]؛ ولأنه ثبت أن هذا اليوم من رمضان فوجب إمساكه.
وقوله «والقضاء» أي يلزم قضاء ذلك اليوم الذي قامت البينة في أثنائه أنه من رمضان، ووجه ذلك أن من شرط صحة صيام الفرض أن تستوعب النية جميع النهار، فتكون من قبل الفجر والنية هنا كانت من أثناء النهار فلم يصوموا يوماً كاملاً، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» [(319)].
ووجوب القضاء في هذه المسألة ـ أي: ما إذا قامت البينة أثناء النهار ـ هو قول عامة العلماء، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: يلزمهم الإمساك ولا يلزمهم القضاء ووجه ذلك أن أكلهم وشربهم قبل قيام البينة كان مباحاً، قد أحله الله لهم فلم ينتهكوا حرمة الشهر، بل كانوا جاهلين بنوا على أصل وهو بقاء شعبان فيدخلون في عموم قوله تعالى: {{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا}} فهم كمن أكل ظاناً بقاء الليل فتبين أن الفجر قد طلع، أو أكل ظاناً غروب الشمس فتبين أنها لم تغرب وقد ثبت في صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: أفطرنا في يوم غيم على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم طلعت الشمس [(320)]، ولم ينقل أنهم أمروا بالقضاء.
وأجاب ـ رحمه الله ـ عن كونهم لم ينووا قبل الفجر بأن النية تتبع العلم ولا علم لهم بدخول الشهر، وما ليس لهم به علم فليس بوسعهم، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولهذا لو أخروا النية بعد علمهم بدخول الشهر لم يصح صومهم.
وتعليله وجوابه ـ رحمه الله ـ قوي ولكن لا تطيب النفس بقوله، وقياسه على من أكل يظن بقاء الليل أو غروب الشمس، فيه نظر؛ لأن هذا كان عنده نية للصوم لكن أكل يظن الليل باقياً أو يظنه داخلاً، ولهذا كان الخلاف في المسألتين أشهر من الخلاف في المسألة الأولى.
وقوله «على كل من صار في أثنائه أهلاً لوجوبه» أي: بأن كان مسلماً بالغاً عاقلاً.
وهذه المسألة لها ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون من أهل الوجوب من قبل الفجر فيلزمه الإمساك بمجرد قيام البينة في أثناء النهار.
الثانية: أن يصير من أهل الوجوب في أثناء النهار قبل قيام البينة مثل أن يسلم أو يبلغ أو يفيق في الضحى، ثم تقوم البينة بعد الظهر فحكمها كالأولى.
الثالثة: أن يصير من أهل الوجوب بعد قيام البينة مثل أن تقوم البينة في الضحى، ويسلم أو يبلغ أو يفيق بعد الظهر، فلا يلزمه الإمساك بمجرد قيام البينة، بل حتى يصير من أهل الوجوب.
(تتمة) أفادنا المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ أن من قام به سبب الوجوب أثناء نهار رمضان مثل أن يسلم الكافر أو يبلغ الصغير أو يفيق المجنون فإنه يلزمهم الإمساك والقضاء، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد وهو قول أبي حنيفة وسبق دليله وتعليله.
القول الثاني: لا يلزمهم إمساك ولا قضاء وهو الرواية الثانية عن أحمد.
والقول الثالث: يلزمهم الإمساك دون القضاء وذكر رواية عن أحمد واختيار الشيخ تقي الدين (شيخ الإسلام ابن تيمية) وهو مذهب مالك وهو الراجح؛ لأنهم لا يلزمهم الإمساك في أول النهار لعدم شرط التكليف وقد أتوا بما أمروا به حين أمسكوا عند وجود شرط التكليف، ومن أتى بما أمر به لم يكلف الإعادة.
وَكَذا حَائِضٌ وَنَفْسَاءُ طَهرَتَا وَمُسافِرٌ قَدِمَ مُفْطِراً وَمَنْ أَفْطَرَ لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ أَطْعَمَ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِيناً.
قوله: «وكذا حائض ونفساء طهرتا ومسافر قدم مفطراً» أي: ومثل الذي كان أهلاً للوجوب في أثناء النهار من حيث وجوب الإمساك والقضاء، حائض ونفساء طهرتا ومسافر قدم مفطراً، فهذه ثلاثة مسائل وثمت مسألة رابعة وهي مريض برئ ويعبر عن هذه المسائل بما إذا زال مانع الوجوب في أثناء النهار، فهل يجب الإمساك والقضاء؟
والجواب أما القضاء فلا شك في وجوبه لأنهم أفطروا من رمضان فلزمهم قضاء ما أفطروا لقوله تعالى: {{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}} [البقرة: 185] وقوله عائشة رضي الله عنها: «كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة» [(321)] تعني الحيّض.
وأما الإمساك فكلام المؤلف ـ رحمه الله ـ يدل على وجوبه وهو المذهب؛ لأنهم إنما أفطروا لمانع وقد زال والحكم يزول بزوال علته، وعن أحمد رواية أخرى لا يلزمهم الإمساك؛ لأنهم يجوز لهم الفطر في أول النهار ظاهراً وباطناً، فقد حل لهم في أول النهار الأكل والشرب وسائر ما يمكن من المفطرات، ولا يستفيدون من هذا الإمساك شيئاً، وحرمة الزمن قد زالت بفطرهم المباح لهم أول النهار، وقد روي عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: «من أكل أول النهار فليأكل آخره» [(322)] يعني أن من حل له الأكل في أول النهار حلَّ له الأكل في آخره، وهذا القول هو الراجح وعلى هذا لو قدم المسافر إلى بلده مفطراً ووجد زوجته قد طهرت أثناء ذلك اليوم من الحيض وتطهرت جاز له جماعها.
وإذا أفطر لإنقاذ غريق فأنقذه لم يلزمه الإمساك آخر النهار.
وإذا أفطرت مرضع خوفاً على ولدها ثم مات في أثناء اليوم لم يلزمها إمساك بقيته.
والقاعدة على هذا القول الراجح أن من أفطر في رمضان لعذر يبيح الفطر، ثم زال ذلك العذر أثناء النهار لم يلزمه الإمساك بقية اليوم.
قوله: «ومن أفطر لكبر أو مرض لا يرجى برؤه أطعم لكل يوم مسكيناً» قوله «من أفطر لكبر» اللام هنا للتعليل أي: بسبب الكبر، فإن الإنسان إذا كبر فإنه يشق عليه الصوم، والكبر لا يرجى برؤه؛ لأن الرجوع إلى الشباب متعذر، فالكبير لا يمكن أن يرجع شاباً. كما قال الراجز:
ليتَ وهل ينفعُ شيئاً ليتُ
ليتَ شباباً بُوعَ فاشتريتُ
فإذا أفطر لكبر فإنه ميؤوس من قدرته على الصوم، ولذلك فإنه يلزمه الفدية، وكذلك من أفطر لمرض لا يرجى برؤه، ويمثل له كثير من العلماء فيما سبق بالسل يقولون: إنه لا يرجى برؤه، لكن هذا المثال في الوقت الحاضر لا ينطبق؛ لأن السل صار مما يمكن برؤه، لكن يمكن أن نمثل له في وقتنا هذا بالسرطان، فإن السرطان لا يرجى برؤه، فإذا مرض الإنسان بمرض السرطان، وعجز عن الصوم صار حكمه كحكم الكبير الذي لا يستطيع الصوم، فيلزمه فدية عن كل يوم.
وهنا نحتاج إلى أمرين:
الأول: أن وجه سقوط الصوم عنه عدم القدرة الدائم، وليس كالمريض الذي قال الله فيه: {{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}} [البقرة: 184] لأن هذا يرجى برؤه، والآخر لا يرجى برؤه فسقط وجوب الصوم عنه للعجز عنه.
الثاني: إن قيل: ما الدليل على وجوب الفدية، مع أنه اتقى الله ما استطاع في قوله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] ؟ فالجواب: ما ثبت عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال في الشيخ والشيخة إذا لم يطيقا الصوم: «يطعمان لكل يوم مسكيناً» وقد استدل على ذلك بقوله تعالى: {{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}}[(323)] [البقرة: 184] ، والقول هنا صادر من صحابي، ومعروف خلاف العلماء في قول الصحابي، هل هو حجة أو ليس بحجة؟ لكنه هنا قول صحابي في تفسير آية، وإذا كان في تفسير آية، فقد ذهب بعض العلماء إلى أن تفسير الصحابي له حكم الرفع، وإن كان هذا القول ضعيفاً، ولكن لا شك أنه إذا قال الصحابي قولاً واستدل بآية، فإن استدلاله أصح من استدلال غيره.
فما وجه الاستدلال بالآية؟
فالجواب: أن استدلال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بهذه الآية استدلال عميق جداً، ووجهه أن الله قال: {{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}} [البقرة: 184] فجعل الفدية معادلة للصوم، وهذا في أول الأمر لما كان الناس مخيرين بين الصوم والفدية، فلما تعذر أحد البديلين ثبت الآخر، أي: لما تعذر الصوم ثبتت الفدية، وإلا فمن أخذ بظاهر الآية قال: إن الآية لا تدل على هذا، فالآية تدل على أن الذي يطيق الصيام، إما أن يفدي أو يصوم، والصوم خير ثم نسخ هذا الحكم.
والجواب: أن الله تعالى لما جعل الفدية عديلاً للصوم في مقام التخيير دل ذلك على أنها تكون بدلاً عنه في حال تعذر الصوم، وهذا واضح، وعلى هذا فمن أفطر لكبر، أو مرض لا يرجى برؤه، فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً.
ولكن ما الذي يُطْعَم، وما مقداره؟
الجواب: كل ما يسمى طعاماً من تمر أو بر أو رز أو غيره.
وأَمَّا مقداره فلم يقدر هنا ما يعطى فيرجع فيه إلى العرف، وما يحصل به الإطعام، وكان أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ عندما كبر يجمع ثلاثين فقيراً ويطعمهم خبزاً وأدماً[(324)] وعلى هذا فإذا غدّى المساكين أو عشاهم كفاه ذلك عن الفدية.
وقال بعض العلماء: لا يصح الإطعام؛ بل لا بد من التمليك[(325)]، وعليه فاختلفوا فقال بعضهم: إن الواجب مُدٌ من البر أو نصف صاع من غيره.
وقيل: بل الواجب نصف صاع من أي طعام كان.
فالذين قالوا بالأول قالوا: إن مُد البر يساوي نصف صاع من الشعير؛ لأنه أطيب وأغلى في نفوس الناس.
والذين قالوا إنه نصف صاع على كل حال، قالوا: لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لكعب بن عجرة في فدية الأذى: «أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع» [(326)]، قالوا: وهذا نص في تقدير النبي صلّى الله عليه وسلّم فيقاس عليه في كل فدية، ويكون نصف صاع.
فإن قيل: ما المراد بنصف الصاع، هل يرجع فيه إلى العرف، أو يرجع فيه إلى الصاع النبوي؟
فالجواب: لم أعلم أن أحداً من العلماء قال: إنه يرجع في الصاع إلى العرف، حتى شيخ الإسلام لم يرجع في الأصواع إلى العرف، وإنما رجع فيها إلى صاع النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وعلى هذا فنقول: المراد نصف صاع من صاع النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقد حرر علماؤنا الصاع القصيمي، فوجدوه يزيد على الصاع النبوي ربعاً، أي الصاع النبوي أربعة أخماس الصاع القصيمي، فصاعنا الموجود خمسة أمداد نبوية، وصاع النبي صلّى الله عليه وسلّم أربعة أمداد.
أما عدد المساكين فعلى عدد الأيام، فلا يجزئ أن يعطي المسكين الواحد من الطعام أكثر من فدية يوم واحد، ويدل لهذا القراءة المشهورة السبعية الثانية {{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}} بالجمع فإنها تدل على أنه لا بد أن يكون عن كل يوم مسكين.
والخلاصة أن من عجز عن الصوم عجزاً لا يرجى زواله وجب عليه الإطعام، عن كل يوم مسكيناً، سواء أطعمهم أو ملكهم على القول الراجح.
مسألة: إذا أعسر المريض الذي لا يرجى برؤه أو الكبير، فإنها تسقط عنهما الكفارة؛ لأنه لا واجب مع العجز، والإطعام هنا ليس له بدل.
ويُسَنُّ لِمَرِيضٍ يَضُرُّهُ،........
قوله: «ويسن لمريض يضره» الضمير في قوله «يسن» يعود على الفطر، فإذا كان الإنسان مريضاً يضره الصوم فالإفطار في حقه سنة، وذلك على ما قاله المؤلف ـ رحمه الله ـ وإن لم يفطر فقد عدل عن رخصة الله ـ سبحانه وتعالى ـ والعدول عن رخصة الله خطأ، فالذي ينبغي للإنسان أن يقبل رخصة الله.
والصحيح أنه إذا كان الصوم يضره فإن الصوم حرام، والفطر واجب؛ لقول الله تعالى: {{وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}} [النساء: 29] والنهي هنا يشمل إزهاق الروح، ويشمل ما فيه الضرر.
والدليل على أنه يشمل ما فيه الضرر، حديث عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ «عندما صلى بأصحابه وعليه جنابة، ولكنه خاف البرد فتيمم، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صليت بأصحابك وأنت جنب؟ قال: يا رسول الله ذكرت قوله تعالى: {{وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}} [النساء: 29] وإني خفت البرد ، فأقره النبي صلّى الله عليه وسلّم على ذلك»[(327)].
والمريض له أحوال:
الأول: ألا يتأثر بالصوم، مثل الزكام اليسير، أو الصداع اليسير، أو وجع الضرس، وما أشبه ذلك، فهذا لا يحل له أن يفطر، وإن كان بعض العلماء يقول: يحل له لعموم الآية {{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا}} [البقرة: 185] ولكننا نقول: إن هذا الحكم معلل بعلة، وهي أن يكون الفطر أرفق به فحينئذ نقول له الفطر، أما إذا كان لا يتأثر فإنه لا يجوز له الفطر ويجب عليه الصوم.
الحال الثانية: إذا كان يشق عليه الصوم ولا يضره، فهذا يكره له أن يصوم، ويسن له أن يفطر.
الحال الثالثة: إذا كان يشق عليه الصوم ويضره، كرجل مصاب بمرض الكلى أو مرض السكر، وما أشبه ذلك، فالصوم عليه حرام.
ولكن لو صام في هذه الحال هل يجزئه الصوم؟
قال أبو محمد ابن حزم رحمه الله: لا يجزئه الصوم؛ لأن الله ـ تعالى ـ جعل للمريض عدة من أيام أخر، فلو صام في مرضه فهو كالقادر الذي صام في شعبان عن رمضان، فلا يجزئه ويجب عليه القضاء.
وقول أبي محمد هذا مبني على القاعدة المشهورة، أن ما نهي عنه لذاته فإنه لا يقع مجزئاً، فإذا قلنا بالتحريم فإنَّ مقتضى القواعد أنه إذا صام لا يجزئه؛ لأنه صام ما نهي عنه كالصوم في أيام التشريق، وأيام العيدين لا يحل، ولا يصح، وبهذا نعرف خطأ بعض المجتهدين من المرضى الذين يشق عليهم الصوم وربما يضرهم، ولكنهم يأبون أن يفطروا فنقول: إن هؤلاء قد أخطأوا حيث لم يقبلوا كرم الله ـ عزّ وجل ـ، ولم يقبلوا رخصته، وأضروا بأنفسهم، والله ـ عزّ وجل ـ يقول: {{وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}} [النساء: 29] .
ولمُسافرٍ يَقْصُر .........
قوله: «ولمسافر يقصر» أي: يسن الفطر لمسافر يحل له القصر، وهو الذي يكون سفره بالغاً لمسافة القصر، فأما المسافر سفراً قصيراً فإنه لا يفطر، وسفر القصر على المذهب ورأي جمهور العلماء يقدر بمسافة مسيرة يومين قاصدين للإبل، وهي مسافة ستة عشر فرسخاً، ومقدارها بالكيلو، واحد وثمانون كيلو وثلاثمائة وسبعة عشر متراً بالتقريب لا بالتحديد، فعلى هذا نقول: إذا نوى الإنسان سفر هذه المسافة فإنه يحل له القصر، وحينئذ يسن له أن يفطر.
فإذا قال قائل: لو صام المسافر فما الحكم؟
فالجواب: اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ هل الفطر أفضل، أو أن الصوم مكروه، أو أن الصوم حرام، فعلى رأي أبي محمد الصوم حرام[(328)] ولو صام لم يجزئه، ولكن هذا قول بعيد من الصواب؛ لأن هذا من باب الرخصة.
والدليل على هذا: أن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم «يصومون ويفطرون مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في السفر، ولم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم» [(329)]، والنبي صلّى الله عليه وسلّم نفسه كان يصوم.
فالصواب أن المسافر له ثلاث حالات:
الأولى: ألا يكون لصومه مزية على فطره، ولا لفطره مزية على صومه، ففي هذه الحال يكون الصوم أفضل له للأدلة الآتية:
أولاً: أن هذا فعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ: «كنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في رمضان في يوم شديد الحر حتى إن أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعبد الله بن رواحة» [(330)] والصوم لا يشق على الرسول صلّى الله عليه وسلّم هنا؛ لأنه لا يفعل إلا الأرفق والأفضل.
ثانياً: أنه أسرع في إبراء الذمة؛ لأن القضاء يتأخر.
ثالثاً: أنه أسهل على المكلف غالباً؛ لأن الصوم والفطر مع الناس أسهل من أن يستأنف الصوم بعد، كما هو مجرب ومعروف.
رابعاً: أنه يدرك الزمن الفاضل، وهو رمضان، فإنَّ رمضان أفضل من غيره؛ لأنه محل الوجوب، فلهذه الأدلة يترجح ما ذهب إليه الشافعي ـ رحمه الله ـ أن الصوم أفضل في حق من يكون الصوم والفطر عنده سواء.
الحال الثانية: أن يكون الفطر أرفق به، فهنا نقول: إن الفطر أفضل، وإذا شق عليه بعض الشيء صار الصوم في حقه مكروهاً؛ لأن ارتكاب المشقة مع وجود الرخصة يشعر بالعدول عن رخصة الله عزّ وجل.
الحال الثالثة: أن يشق عليه مشقة شديدة غير محتملة فهنا يكون الصوم في حقه حراماً.
والدليل على ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لما شكى إليه الناس أنه قد شق عليهم الصيام، وأنهم ينتظرون ما سيفعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم دعا بإناء فيه ماء بعد العصر، وهو على بعيره فأخذه وشربه، والناس ينظرون إليه، ثم قيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام فقال: «أولئك العصاة، أولئك العصاة» [(331)] فوصفهم بالعصيان.
فهذا ما يظهر لنا من الأدلة في صوم المسافر.
ويتفرع على هذا مسألة، وهي لو سافر من لا يستطيع الصوم لكبر أو مرض لا يرجى زواله فماذا يصنع؟
الجواب: قال بعض العلماء: إنه لا صوم ولا فدية عليه؛ لأنه مسافر، والفدية بدل عن الصوم، والصوم يسقط في السفر، ولا صوم عليه؛ لأنه عاجز[(332)].
لكن هذا التعليل عليل؛ لأن هذا الذي على هذه الحال، لم يكن الصوم واجباً في حقه أصلاً، وإنما الواجب عليه الفدية، والفدية لا فرق فيها بين السفر والحضر، وعلى هذا فإذا سافر من لا يرجى زوال عجزه فإنه كالمقيم يلزمه الفدية، فيطعم عن كل يوم مسكيناً، وهذا هو القول الصحيح، والقول بأنه يسقط عنه الصوم والإطعام قول ضعيف جداً لما تقدم.
وَإِنْ نَوَى حَاضِرٌ صِيَامَ يَوْمٍ، ثُمَّ سَافَرَ فِي أَثْنَائِهِ فَلَهُ الفِطْرُ ..........
قوله: «وإن نوى حاضر صيام يوم، ثم سافر في أثنائه فله الفطر» الحاضر يجب عليه أن يصوم، فإذا سافر في أثناء اليوم، فهل له أن يفطر أو لا يفطر؟ في هذه المسألة قولان لأهل العلم:
القول الأول: أن له أن يفطر، ولكن بشرط كما سنذكره.
القول الثاني: أنه ليس له أن يفطر.
والقول الأول: هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله[(333)].
واستدلوا على ذلك: بعموم قول الله تعالى: {{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}} [البقرة: 184] يعني فأفطر فعدة من أيام أخر، وهذا الآن سافر، وصار على سفر فيصدق عليه أنه ممن رخص له بالفطر فيفطر.
واستدلوا أيضاً بما ثبت في السنة من إفطار النبي صلّى الله عليه وسلّم في أثناء النهار[(334)].
وأهل القول الثاني: عللوا بأن الإنسان شرع في الصوم الواجب فلزمه إتمامه، كما لو شرع في القضاء فإنه يلزمه أن يتمه، وإن كان لولا شروعه لم يلزمه أن يصوم، يعني لو أن إنساناً عليه يوم من رمضان، فقال: أصومه غداً أو بعد غد، نقول أنت بالخيار غداً أو بعد غد.
لكن إذا صامه غداً فليس له أن يفطر في أثنائه ليصوم بعد غد؛ لأن من شرع في واجب حرم على قطعه إلا لعذر شرعي.
والصحيح القول الأول أن له أن يفطر إذا سافر في أثناء اليوم لما سبق، وأما قياسه على من شرع في صوم يوم القضاء فقياس فاسد لوجهين، الأول أنه في مقابلة النص، والثاني أن من شرع في صوم القضاء شرع في واجب فلزمه، وأما صوم المسافر فغير واجب فلا يلزمه إتمامه.
ولكن هل يشترط أن يفارق قريته، إذا عزم على السفر وارتحل فهل له أن يفطر؟
الجواب: في هذا أيضاً قولان عن السلف.
ذهب بعض أهل العلم إلى جواز الفطر إذا تأهب للسفر ولم يبق عليه إلا أن يركب، وذكروا ذلك عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يفعله[(335)]، وإذا تأملت الآية وجدت أنه لا يصح هذا؛ لأنه إلى الآن لم يكن على سفر فهو الآن مقيم وحاضر، وعليه فلا يجوز له أن يفطر إلا إذا غادر بيوت القرية.
أما المزارع المنفصلة عن القرية فليست منها، فإذا كانت هذه البيوت والمساكن الآن، وانفصلت عنها المزارع فإنه يجوز الفطر، فالمهم أن يخرج عن البلد أما قبل الخروج فلا؛ لأنه لم يتحقق السفر.
فالصحيح أنه لا يفطر حتى يفارق القرية، ولذلك لا يجوز أن يقصر الصلاة حتى يخرج من البلد، فكذلك لا يجوز أن يفطر حتى يخرج من البلد.
وإذا جاز أن يفطر خلال اليوم، فهل له أن يفطر بالأكل والشرب أو بأي مفطر شاء؟
الجواب: له أن يفطر بالأكل والشرب وجماع أهله، وغير ذلك من المفطرات.
وَإِنْ أَفْطَرَتْ حَامِلٌ، أَوْ مُرْضَعٌ خَوْفاً عَلَى أَنْفُسِهِمَا قَضَتَاه فَقَطْ، وَعَلَى وَلَدَيْهِمَا قَضَتَاه وَأَطْعَمَتَا لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِيناً.
قوله: «وإن أفطرت حامل، أو مرضع خوفاً على أنفسهما قضتاه فقط، وعلى ولديهما قضتاه، وأطعمتا لكل يوم مسكيناً» أفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ أنه يجوز للحامل والمرضع أن تفطرا، وإن لم تكونا مريضتين وهذا يشمل أول الحمل وآخر الحمل، وأول الإرضاع وآخر الإرضاع؛ وذلك لأن الحامل يشق عليها الصوم من أجل الحمل، لا سيما في الأشهر الأخيرة، ولأن صيامها ربما يؤثر على نمو الحمل إذا لم يكن في جسمها غذاء، فربما يضمر الحمل ويضعف.
وكذلك في المرضع إذا صامت يقل لبنها فيتضرر بذلك الطفل، ولهذا كان من رحمة الله ـ عزّ وجل ـ أن رخص لهما في الفطر.
وإفطارهما قد يكون مراعاة لحالهما، وقد يكون مراعاة لحال الولد الحمل أو الطفل، وقد يكون مراعاة لحالهما مع الولد.
وعلى كل حال فيجب عليهما القضاء؛ لأن الله تعالى فرض الصيام على كل مسلم، وقال في المريض والمسافر: {{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}} [البقرة: 185] مع أنهما مفطران بعذر، فإذا لم يسقط القضاء عمن أفطر لعذر من مرض أو سفر، فعدم سقوطه عمن أفطرت لمجرد الراحة من باب أولى.
وأما الإطعام فله ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن تفطرا خوفاً على أنفسهما فتقضيان فقط، يعني أنه لا زيادة على ذلك.
الحال الثانية: أن تفطرا خوفاً على ولديهما فقط، فتقضيان، وتطعمان لكل يوم مسكيناً.
أما القضاء فواضح؛ لأنهما أفطرتا، وأما الإطعام فلأنهما أفطرتا لمصلحة غيرهما، فلزمهما الإطعام، وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في قوله:{{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}} [البقرة: 184] قال: «كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصيام يفطران ويطعمان عن كل يوم مسكيناً، والمرضع والحبلى إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا» ، رواه أبو داود[(336)].
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما[(337)].
الحال الثالثة: إذا أفطرتا لمصلحتهما، ومصلحة الجنين، أو الطفل فالمؤلف سكت عن هذه الحال، والمذهب أنه يُغلب جانب مصلحة الأم.
وعلى هذا فتقضيان فقط، فيكون الإطعام في حال واحدة وهي: إذا كان الإفطار لمصلحة الغير، الجنين أو الطفل، وهذا أحد الأقوال في المسألة[(338)].
والقول الثاني: أنه لا يلزمهما القضاء، وإنما يلزمهما الإطعام فقط سواء أفطرتا لمصلحتهما أو مصلحة الولد أو للمصلحتين جميعاً واستدلوا بما يأتي:
1 ـ حديث: «إن الله وضع الصيام عن الحبلى والمرضع» [(339)].
2 ـ أثر ابن عباس رضي الله عنهما: «... والمرضع والحبلى إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا» [(340)] ولم يذكر القضاء.
القول الثالث: التخيير بين القضاء والإطعام.
القول الرابع: يلزمها القضاء فقط دون الإطعام[(341)]، وهذا القول أرجح الأقوال عندي؛ لأن غاية ما يكون أنهما كالمريض، والمسافر، فيلزمهما القضاء فقط، وأما سكوت ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن القضاء فلأنه معلوم.
وأما حديث: «إن الله تعالى وضع الصيام عن الحبلى والمرضع» فالمراد بذلك وجوب أدائه، وعليهما القضاء.
وسبب الخلاف أنه ليس هناك نص قاطع صحيح وصريح في وجوب أحد هذه الأمور.
مسألة: إذا قال قائل: أرأيتم لو أفطر شخص لمصلحة الغير في غير مسألة الحبلى والمرضع، مثل أن يفطر لإنقاذ غريق أو لإطفاء حريق، فهل يلزمه القضاء والإطعام؟
الجواب: أما على القول الذي رجحناه من أنه ليس على الحامل والمرضع إلا القضاء، فليس على المنقذ إلا القضاء، وأما على القول بوجوب القضاء والإطعام عليهما في محله ففيه قولان:
القول الأول: يلزمه القضاء والإطعام، قياساً على الحامل والمرضع إذا أفطرتا لمصلحة الولد.
والقول الثاني: لا يلزمه إلا القضاء فقط، واستدل لذلك بأن النص إنما ورد في الحبلى والمرضع دون غيرهما.
وأجيب عن هذا بأنه، وإن ورد النص بذلك، فالقياس في هذه المسألة تام، وهو أنه أفطر لمصلحة الغير.
والإفطار لمصلحة الغير له صور منها:
1 ـ إنقاذ غريق، مثل أن يسقط رجل معصوم في الماء، ولا يستطيع أن يخرجه إلا بعد أن يشرب، فنقول: اشرب وأنقذه.
2 ـ إطفاء الحريق، كأن يقول: لا أستطيع أن أطفئ الحريق حتى أشرب، فنقول: اشرب وأطفئ الحريق.
وفي هذه الحال إذا أخرج الغريق وأطفأ الحريق، هل له أن يأكل ويشرب بقية اليوم؟
الجواب: نعم له أن يأكل ويشرب بقية اليوم، لأنه أذن له في فطر هذا اليوم، وإذا أذن له في فطر هذا اليوم، صار هذا اليوم في حقه من الأيام التي لا يجب إمساكها، فيبقى مفطراً إلى آخر النهار.
3 ـ وكذلك لو أن شخصاً احتيج إلى دمه، بحيث أصيب رجل آخر بحادث ونزف دمه، وقالوا: إن دم هذا الصائم يصلح له، وإن لم يتدارك هذا المريض قبل الغروب فإنه يموت، فله أن يأذن في استخراج دمه من أجل إنقاذ المريض، وفي هذه الحال يفطر بناءً على القول الراجح، في أن ما ساوى الحجامة فهو مثلها، وسيأتي الخلاف في هذه المسألة، وأن المذهب لا يفطر بإخراج الدم إلا بالحجامة فقط دون الفصد والشرط، والصحيح أن ما كان بمعناها يأخذ حكمها.
تنبيه : قول المؤلف ـ رحمه الله ـ «أطعمتا لكل يوم مسكيناً» .
ظاهره أن الإطعام واجب على الحامل والمرضع، وهو ظاهر أثر ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
والمذهب أن الإطعام واجب على من تلزمه النفقة، فمثلاً إذا كان الأب موجوداً فالذي يطعم الأب؛ لأنه هو الذي يلزمه الإنفاق على ولده دون الأم، وعلى هذا فلا نخاطب الأم إلا بالصيام فقط، وأما الإطعام فنخاطب به الأب، ولو أن الأب لم يطعم، فليس على الأم في ذلك إثم، ولهذا يعتبر كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ مخالفاً للمذهب في هذه المسألة.
وَمَنْ نَوَى الصَّوْمَ، ثُمَّ جُنَّ أوْ أغْمِيَ عَلَيْهِ جَمِيعَ النَّهَارِ، وَلَم يُفِقْ جُزْءاً مِنهُ لَمْ يَصحَّ صَوْمُهُ، لاَ إن نَامَ جَمِيعَ النَّهَارِ، وَيَلْزَمُ المُغْمَى عَلَيهِ القَضَاءُ فَقط............
قوله: «ومن نوى الصوم، ثم جن أو أغمي عليه جميع النهار، ولم يفق جزءاً منه لم يصح صومه، لا إن نام جميع النهار، ويلزم المغمى عليه القضاء فقط» قوله: «فقط» في عبارته هذه فيه شيء من الخلل؛ لأن قوله: «فقط»، يوهم أن المراد بلا إطعام وليس هذا هو المراد، بل المراد أن المغمى عليه من بين هؤلاء الثلاثة هو الذي يلزمه القضاء، ولهذا لو قال: ويلزم المغمى عليه فقط القضاء لكان أبين.
هذه ثلاثة أشياء متشابهة: الجنون، والإغماء، والنوم، وأحكامها تختلف.
أولاً: الجنون، فإذا جن الإنسان جميع النهار في رمضان من قبل الفجر حتى غربت الشمس فلا يصح صومه؛ لأنه ليس أهلاً للعبادة، ومن شرط الوجوب والصحة العقل، وعلى هذا فصومه غير صحيح، ولا يلزمه القضاء، لأنه ليس أهلاً للوجوب.
ثانياً: المغمى عليه، فإذا أغمي عليه بحادث، أو مرض ـ بعد أن تسحر ـ جميع النهار، فلا يصح صومه؛ لأنه ليس بعاقل، ولكن يلزمه القضاء؛ لأنه مكلف، وهذا قول جمهور العلماء[(342)].
وقال صاحب الفائق أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية ويسمى ابن قاضي الجبل، وله اختيارات جيدة جداً، قال: إن المغمى عليه لا يلزمه القضاء كالإنسان الذي أغمي عليه أوقات الصلاة، فإن جمهور العلماء لا يلزمونه بالقضاء، وقال: إنه لا فرق بين الصلاة والصوم.
ولو فرض أن الرجل أغمي عليه قبل أذان الفجر، وأفاق بعد طلوع الشمس لصح صومه، وأما صلاة الفجر فلا تلزمه على القول الراجح؛ لأنه مر عليه الوقت وهو ليس أهلاً للوجوب[(343)].
الثالث: النائم ، فإذا تسحر ونام من قبل أذان الفجر، ولم يستيقظ إلا بعد غروب الشمس، فصومه صحيح، لأنه من أهل التكليف ولم يوجد ما يبطل صومه، ولا قضاء عليه.
والفرق بينه وبين المغمى عليه أن النائم إذا أوقظ يستيقظ بخلاف المغمى عليه.
وَيَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ لِصَوْمِ كُلِّ يَوْمٍ وَاجِبٍ، لاَ نِيَّةَ الفَرْضِيَّةِ. ........
قوله: «ويجب تعيين النية» النية، والإرادة، والقصد معناها واحد، فقصد الشيء يعني نيته، وإرادة الشيء يعني نيته، والنية لا يمكن أن تتخلف عن عمل اختياري، يعني أن كل عمل يعمله الإنسان مختاراً فإنه لا بد فيه من النية، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال بالنيات» [(344)] يعني أنه لا عمل بلا نية، حتى قال بعض العلماء: لو كلفنا الله عملاً بلا نية لكان من تكليف ما لا يطاق، يعني لو قال الله لنا توضؤوا بلا نية، أو صلوا بلا نية، أو صوموا بلا نية، أو حجوا بلا نية، لكان هذا من تكليف ما لا يطاق، فمن يطيق أن يفعل فعلاً مختاراً، ولا ينوي؟
وبذلك نعرف أن ما يحصل لبعض الناس من الوسواس؛ حيث يقول: أنا ما نويت! أنه وهم لا حقيقة له، وكيف يصح أنه لم ينو وقد فعل.
وذكروا عن ابن عقيل ـ رحمه الله ـ وهو من المتكلمين والفقهاء، أنه جاءه رجل فقال له: يا شيخ إنني أغتسل في نهر دجلة، ثم أخرج وأرى أنني لم أطهر؟ فقال له ابن عقيل: لا تصل، فقال: كيف؟ قال: نعم، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «رفع القلم عن ثلاثة... عن المجنون حتى يفيق» [(345)] وأنت تذهب إلى دجلة، وتنغمس فيه، وتغتسل من الجنابة، ثم تخرج وترى أنك ما تطهرت هذا الجنون، فارتدع الرجل عن هذا.
فإن قيل: ما هي النية؟
فالجواب النية تختلف، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» وبهذا التقرير يتبين أن الجملتين في الحديث ليس معناهما واحداً.
وقوله: «ويجب تعيين النية» أفادنا بهذه العبارة أن النية واجبة، وأنه يجب تعيينها أيضاً، فينوي الصيام عن رمضان، أو عن كفارة، أو عن نذر، أو ما أشبه ذلك.
قوله: «من الليل لصوم كل يوم واجب» أي: قبل طلوع الفجر، فيشمل ما كان قبل الفجر بدقيقة واحدة، وإنما وجب ذلك؛ لأن صوم اليوم كاملاً لا يتحقق إلا بهذا، فمن نوى بعد طلوع الفجر لا يقال إنه صام يوماً، فلذلك يجب لصوم كل يوم واجب، أن ينويه قبل طلوع الفجر، وهذا معنى قول المؤلف: «من الليل» ، وليس بلازم أن تبيت النية قبل أن تنام، بل الواجب ألا يطلع الفجر إلا وقد نويت، لأجل أن تشمل النية جميع أجزاء النهار، إذ أنه قد فرض عليك أن تصوم يوماً، فإذا كان كذلك، فلا بد أن تنويه قبل الفجر إلى الغروب.
ودليل ذلك حديث عائشة مرفوعاً: «من لم يبيِّت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له» [(346)] والمراد صيام الفرض أما النفل فسيأتي.
وقوله: «لصوم كل يوم واجب» أي: يجب أن ينوي كل يوم بيومه، فمثلاً في رمضان يحتاج إلى ثلاثين نية.
وبناءً على ذلك لو أن رجلاً نام بعد العصر في رمضان، ولم يستيقظ من الغد إلا بعد طلوع الفجر لم يصح صومه ذلك اليوم؛ لأنه لم ينو صومه من ليلته.
وهذا الذي ذكره المؤلف هو المشهور من المذهب.
وعللوا ذلك بأن كل يوم عبادة مستقلة، ولذلك لا يفسد صيام يوم الأحد بفساد صيام الاثنين مثلاً.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن ما يشترط فيه التتابع تكفي النية في أوله، ما لم يقطعه لعذر فيستأنف النية، وعلى هذا فإذا نوى الإنسان أول يوم من رمضان أنه صائم هذا الشهر كله، فإنه يجزئه عن الشهر كله، ما لم يحصل عذر ينقطع به التتابع، كما لو سافر في أثناء رمضان، فإنه إذا عاد للصوم يجب عليه أن يجدد النية.
وهذا هو الأصح؛ لأن المسلمين جميعاً لو سألتهم لقال كل واحد منهم: أنا ناو الصوم من أول الشهر إلى آخره، وعلى هذا فإذا لم تقع النية في كل ليلة حقيقة فهي واقعة حكماً؛ لأن الأصل عدم قطع النية، ولهذا قلنا: إذا انقطع التتابع لسبب يبيحه، ثم عاد إلى الصوم فلا بد من تجديد النية، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس ولا يسع الناس العمل إلا عليه.
مسألة: رجل عليه صيام شهرين متتابعين، يلزمه أن ينوي لكل يوم نية جديدة، على ما مشى عليه المؤلف، وعلى القول الذي اخترناه لا يلزمه؛ لأن هذا يلزم فيه التتابع، فإذا أمسك في أوله فهو في النية حكماً إلى أن ينتهي، وعليه فإذا نوى حينما شرع في صوم الشهرين المتتابعين فإنه يكفيه عن جميع الأيام، ما لم يقطع ذلك لعذر، ثم يعود إلى الصوم فيلزمه أن يجدد النية.
وبناءً على هذا القول لو نام رجل في رمضان بعد العصر، ولم يفق إلا من الغد بعد الفجر صح صومه؛ لأن النية الأولى كافية، والأصل بقاؤها ولم يوجد ما يزيل استمرارها.
قوله: «لا نية الفرضية» أي: لا تجب نية الفريضة، يعني لا يجب أن ينوي أنه يصوم فرضاً، لأن التعيين يغني عن ذلك، فإذا نوى صيام رمضان، فمعلوم أن صيام رمضان فرض، وإذا نوى الصيام كفارة قتل أو يمين، فمعلوم أنه فرض، كما قلنا في الصلاة إذا نوى أن يصلي الظهر لا يحتاج أن ينوي أنها فريضة؛ لأنه معروف أن الظهر فريضة، وعلى هذا فنية الفريضة ليست بشرط.
ولكن هل الأفضل أن ينوي القيام بالفريضة أو لا؟
الجواب: الأفضل أن ينوي القيام بالفريضة، أي: أن ينوي صوم رمضان على أنه قائم بفريضة؛ لأن الفرض أحب إلى الله من النفل.
قال في الروض: «من قال أنا صائم غداً إن شاء الله متردداً فسدت نيته، لا متبركاً» أي: إذا قال أنا صائم غداً إن شاء الله ننظر هل مراده الاستعانة بالتعليق بالمشيئة لتحقيق مراده، إن قال: نعم، فصيامه صحيح؛ لأن هذا ليس تعليقاً، ولكنه استعانة بالتعليق بالمشيئة لتحقيق مراده؛ لأن التعليق بالمشيئة سبب لتحقيق المراد، ويدل لهذا حديث نبي الله سليمان بن داود ـ عليهما الصلاة والسلام ـ حين قال: «والله لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تلد كل واحدة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقيل له: قل: إن شاء الله، فلم يقل، فطاف على تسعين امرأة يجامعهن، ولم تلد منهن إلا واحدة شق إنسان» فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو قال إن شاء الله لكان دركاً لحاجته» [(347)]، وإن قال ذلك متردداً يعني لا يدري هل يصوم أو لا يصوم، فإنه لا يصح؛ لأن النية لا بد فيها من الجزم، فلو بات على هذه النية بأن قال: أنا صائم غداً إن شاء الله متردداً، فإنّ صومه لا يصح إن كان فرضاً، إلا أن يستيقظ قبل الفجر وينويه.
وقال في الروض: «ويكفي في النية الأكل والشرب، بنية الصوم»[(348)] أي: لو قام في آخر الليل وأكل على أنه سحور لكفى؛ حتى قال شيخ الإسلام: إن عشاء الصائم الذي يصوم غداً يختلف عن عشاء من لا يصوم غداً، فالذي لا يصوم عشاؤه أكثر، لأن الصائم سوف يجعل فراغاً للسحور.
النَّفْلُ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ،........
قوله: «ويصح النفل بنية من النهار قبل الزوال أو بعده» أي: يصح صوم النفل بنية من النهار قبل الزوال أو بعده، وهذا مقابل قوله: «يجب تعيين النية من الليل لصوم كل يوم واجب» فصيام النفل يصح بنية أثناء النهار، ولكن بشرط ألا يأتي مفطِّراً من بعد طلوع الفجر، فإن أتى بمفطر فإنه لا يصح.
مثال ذلك: رجل أصبح وفي أثناء النهار صام، وهو لم يأكل، ولم يشرب، ولم يجامع، ولم يفعل ما يفطّر بعد الفجر، فصومه صحيح مع أنه لم ينو من قبل الفجر.
ودليل ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل ذات يوم على أهله فقال: «هل عندكم من شيء؟ قالوا: لا، قال فإني إذاً صائم» [(349)].
وقوله «إذاً» في الحديث ظرف للزمان الحاضر فأنشأ النية من النهار، فدل ذلك على جواز إنشاء النية في النفل في أثناء النهار، فإذا قال قائل: قد ننازع في دلالة هذا الحديث ونقول معنى «إني إذاً صائم» أي: ممسك عن الطعام، من الذي يقول: إن المراد بالصوم هنا الصوم الشرعي؟ قلنا: عندنا قاعدة شرعية أصولية وهي أن الكلام المطلق يحمل على الحقيقة في عرف المتكلم به، والحقيقة الشرعية في الصوم هي التعبد لله بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فلا يمكن أن نحمل لفظاً جاء في لسان الشارع على معناه اللغوي وله حقيقة شرعية.
نعم لو فرض أنه ليس هناك حقيقة شرعية حملناه على الحقيقة اللغوية، أما مع وجود الحقيقة الشرعية فيجب أن يحمل عليها، ولهذا لو قال قائل: والله لا أبيع اليوم شيئاً، فذهب فباع خمراً، هل عليه كفارة يمين؟ نقول ليس عليه كفارة يمين، لأن هذا البيع ليس بيعاً شرعياً فهو حرام وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وكل عقد ليس في كتاب الله فهو باطل، نعم إذا قال أنا قصدي بالبيع مطلق البيع شرعياً أو غير شرعي، حينئذ نقول هذا يصدق عليه أنه بيع، فيحنث؛ لأن النية مقدمة على دلالة اللفظ في باب الأيمان.
ولكن هل يثاب ثواب يوم كامل، أو يثاب من النية؟
في هذا قولان للعلماء:
القول الأول: أنه يثاب من أول النهار؛ لأن الصوم الشرعي لا بد أن يكون من أول النهار.
القول الثاني: أنه لا يثاب إلا من وقت النية فقط[(350)]، فإذا نوى عند الزوال، فأجره أجر نصف يوم.
وهذا القول هو الراجح لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» [(351)] وهذا الرجل لم ينو إلا أثناء النهار فيحسب له الأجر من حين نيته.
وبناءً على القول الراجح لو علق فضل الصوم باليوم مثل صيام الاثنين، وصيام الخميس، وصيام البيض، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، ونوى من أثناء النهار فإنه لا يحصل له ثواب ذلك اليوم.
فمثلاً صام يوم الاثنين ونوى من أثناء النهار، فلا يثاب ثواب من صام يوم الاثنين من أول النهار؛ لأنه لا يصدق عليه أنه صام يوم الاثنين.
وكذلك لو أصبح مفطراً فقيل له: إن اليوم هو اليوم الثالث عشر من الشهر، وهو أول أيام البيض، فقال: إذاً أنا صائم فلا يثاب ثواب أيام البيض؛ لأنه لم يصم يوماً كاملاً، وهذه مسألة يظن بعض الناس أن كلام المؤلف يدل على حصول الثواب حتى في اليوم المعين من النفل.
ويشترط في صحة النية من أثناء النهار في النفل ألا يفعل قبلها مفطراً، فلو أن الرجل أصبح مفطراً بأكل، وفي أثناء الضحى قال: نويت الصيام فلا يصح؛ لأنه فعل ما ينافي الصوم.
فلو قال قائل: ألستم تقولون إنه لا يثاب على أجر الصوم إلا من النية؟
قلنا: بلى، لكن لا يمكن أن يكون صومٌ، وقد أكل أو شرب في يومه.
وقوله: «قبل الزوال وبعده» إذا قال قائل: لا حاجة لقوله قبل الزوال وبعده لأنه قال: «يصح النفل بنية من النهار» فلا حاجة إلى قوله: «قبل الزوال وبعده» قلنا: نعم هذا صحيح، لكن احتاج المؤلف إلى هذا؛ لأن في المسألة قولاً آخر، وهو أنه لا يصح نية النفل بعد الزوال؛ وتعليلهم أنه مضى أكثر اليوم مفطراً بدون نية، والحكم في الأشياء للأغلب والأكثر، فما دام أكثر النهار مر عليه بدون نية فإذا نوى بعد الزوال لم يكن صوماً؛ ولهذا احتاج المؤلف أن يقول: «قبل الزوال وبعده» .
وَلَوْ نَوَى إِن كَانَ غَدَاً مِنْ رَمَضَانَ فَهُوَ فَرْضِي لَمْ يجْزِهِ............
قوله: «ولو نوى إن كان غداً من رمضان فهو فرضي لم يجزه» هذه مسألة مهمة ترد كثيراً، فلا يجزئ الإنسان إذا نوى أنه إذا كان غداً من رمضان فهو فرضي، سواء قال: وإلا فنفلٌ، أو قال: وإلا فأنا مفطر.
مثال ذلك: رجل نام في الليل مبكراً ليلة الثلاثين من شعبان، وفيه احتمال أن تكون هذه الليلة هي أول رمضان، فقال: إن كان غداً من رمضان فهو فرضي، أو قال: إن كان غداً من رمضان فأنا صائم، أو قال: إن كان غداً من رمضان فهو فرض، وإلا فهو عن كفارة واجبة، أو ما أشبه ذلك من أنواع التعليق.
فالمذهب أن الصوم لا يصح؛ لأن قوله: إن كان كذا فهو فرضي، وقع على وجه التردد، والنية لا بد فيها من الجزم، فلو لم يستيقظ إلا بعد طلوع الفجر، ثم تبين أنه من رمضان، فعليه قضاء هذا اليوم، على المذهب.
والرواية الثانية عن الإمام أحمد: أن الصوم صحيح إذا تبين أنه من رمضان، واختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ ولعل هذا يدخل في عموم قوله صلّى الله عليه وسلّم لضباعة بنت الزبير ـ رضي الله عنها ـ: «فإن لك على ربك ما استثنيت» [(352)] فهذا الرجل علقه لأنه لا يعلم أن غداً من رمضان، فتردده مبني على التردد في ثبوت الشهر، لا على التردد في النية، وهل يصوم أو لا يصوم؟ ولهذا لو قال من يباح له الفطر ليلة الواحد من رمضان، أنا غداً يمكن أن أصوم، ويمكن ألا أصوم، ثم عزم على الصوم بعد طلوع الفجر، لم يصح صومه لتردده في النية.
لكن إذا علق الصوم على ثبوت الشهر، فهذا هو الواقع فلو لم يثبت الشهر لم يصم، وعلى هذا فينبغي لنا إذا نمنا قبل أن يأتي الخبر ليلة الثلاثين من شعبان، أن ننوي في أنفسنا أنه إن كان غداً من رمضان فنحن صائمون، وإن كانت نية كل مسلم على سبيل العموم أنه سيصوم لو كان من رمضان، لكن تعيينها أحسن، فيقول في نفسه إن كان غداً من رمضان فهو فرضي، فإذا تبين أنه من رمضان بعد طلوع الفجر صح صومه.
ولو قال ليلة الثلاثين من رمضان إن كان غداً من رمضان فأنا صائم، وإلا فأنا مفطر قالوا: إن هذا جائز، مع أن فيه تردداً في النية ولكنه مبني على ثبوت الشهر، فإذا كان كذلك فينبغي أن يكون في أول الشهر كما كان في آخره، لكن فرقوا بأنه في أول الشهر الأصل عدم الصوم؛ لأنه لم يثبت دخول الشهر، وفي آخره بالعكس الأصل الصوم لأن الغد من رمضان ما لم يثبت خروجه، ولكن هذا التفريق غير مؤثر بالنسبة للتردد؛ فكلاهما متردد، والاحتمال في كليهما وارد، فيوم الثلاثين من شعبان فيه التردد هل يكون من رمضان أم لا؟ ويوم الثلاثين من رمضان فيه التردد هل يكون من رمضان أم لا؟
وَمَنْ نَوَى الإِْفْطَارَ أَفْطَرَ.
قوله: «ومن نوى الإفطار أفطر» والدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات» [(353)] فما دام ناوياً الصوم فهو صائم، وإذا نوى الإفطار أفطر، ولأن الصوم نية وليس شيئاً يفعل، كما لو نوى قطع الصلاة فإنها تنقطع الصلاة.
ومعنى قول المؤلف «أفطر» أي: انقطعت نية الصوم وليس كمن أكل أو شرب.
وبناء على ذلك لو نواه بعد ذلك نفلاً في أثناء النهار جاز، إلا أن يكون في رمضان، فإن كان في رمضان فإنه لا يجوز؛ لأنه لا يصح في رمضان صوم غيره.
مسائل:
الأولى: إنسان صائم نفلاً، ثم نوى الإفطار، ثم قيل له: كيف تفطر لم يبق من الوقت إلا أقل من نصف اليوم؟ قال: إذاً أنا صائم، هل يكتب له صيام يوم أو من النية الثانية؟
الجواب: من النية الثانية؛ لأنه قطع النية الأولى وصار مفطراً.
الثانية: إنسان صائم وعزم على أنه إن وجد ماء شربه فهل يفسد صومه؟
الجواب: لا يفسد صومه؛ لأن المحظور في العبادة لا تفسد العبادة به، إلا بفعله ولا تفسد بنية فعله.
وهذه قاعدة مفيدة وهي أن من نوى الخروج من العبادة فسدت إلا في الحج والعمرة، ومن نوى فعل محظور في العبادة لم تفسد إلا بفعله.
ولهذا أمثلة منها ما ذكرناه هنا في مسألة الصوم.
ومنها ما لو كان متحرياً لكلام من الهاتف فدخل في الصلاة ومن نيته أنه إن كلمه من يتحراه، أجابه، فلم يكلمه فصلاته لا تفسد.
الثالثة: سبق أن من نوى الإفطار أنه يفطر، فهل يباح له الاستمرار في الفطر بالأكل، والشرب، مثلاً؛ وهو في رمضان؟
الجواب: إن كان ممن يباح له الفطر؛ كالمريض والمسافر فلا بأس، وإن كان لا يباح له الفطر، فيلزمه الإمساك والقضاء، مع الإثم.
وقولنا يلزمه القضاء؛ لأنه لما شرع فيه ألزم نفسه به فصار في حقه كالنذر؛ بخلاف مَنْ لم يصم من الأصل متعمداً، فهذا لا يقضي، ولو قضاه لم يقبل منه؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» [(354)]. وأما حديث: «من أفطر يوماً من رمضان متعمداً لم يقضه صوم الدهر» [(355)] فهذا حديث ضعيف وعلى تقدير صحته، يكون المعنى أنه لا يكون كالذي فعل في وقته.
---------------------------------------------
[271] أخرجه البخاري في الإيمان/ باب سؤال جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم...(50)؛ ومسلم في الإيمان (8) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[272] أخرجه البخاري في الإيمان/ باب دعاؤكم أيمانكم...(8)؛ ومسلم في الإيمان/ باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام (16) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وتقديم الصيام على الحج رواية مسلم.
[273] أخرجه البخاري في العتق/ باب في العتق وفضله (2517)؛ ومسلم في العتق/ باب فضل العتق (1509) (22) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[274] سيأتي تخريجه ص(303).
[275] أخرجه البخاري في الصوم/ باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين (1914)؛ ومسلم في الصيام/ باب «لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين» (1082) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[276] «زاد المعاد» (2/42)، و«غاية المنتهى» (1/343).
[277] أخرجه البخاري في الصوم/ باب هل يقال: رمضان، أو شهر رمضان؟ ومن رأى كله واسعاً (1900) ومسلم في الصوم/ باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال وأنه إذا غم أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوماً (1080) (8).
[278] أخرجه أحمد (2/5، 13)؛ وأبو داود في الصيام/ باب الشهر يكون تسعاً وعشرين (2320)؛ والدارقطني (2/161)؛ والبيهقي (4/204).
وفي «الإرواء»: (4/9): «وإسناده صحيح على شرطهما».
[279] انظر: «زاد المعاد» (2/46)؛ و«الإنصاف» (2/269).
[280] سبق تخريجه ص(302).
[281] رواه البخاري في صحيحه معلقاً بصيغة الجزم في الصوم/ باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا» ووصله أبو داود في الصيام/ باب كراهية صوم يوم الشك (2334)؛ والترمذي في الصوم/ باب ما جاء في كراهية صوم يوم الشك (686)؛ والنسائي في الصيام/ باب صيام يوم الشك (4/153)؛ وابن ماجه في الصيام/ باب ما جاء في صيام يوم الشك (1645)؛ وصححه ابن خزيمة (1914)؛ وابن حبان (3585)؛ وأخرجه الدارقطني (2/157) وقال: «هذا إسناد حسن صحيح ورواته كلهم ثقات» وصححه أيضاً الترمذي.
[282] أخرجه البخاري في الصوم/ باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا» (1907) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[283] أخرجه مسلم في العلم/ باب هلك المتنطعون (2670) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[284] سبق تخريجه ص(304).
[285] انظر: «زاد المعاد» (2/46)؛ و«الإنصاف» (2/270).
[286] انظر: «الإنصاف» (2/270).
[287] انظر: «الإنصاف» (2/270).
[288] انظر: «الإنصاف» (2/270).
[289] أخرجه الترمذي في الصوم/ باب ما جاء في الفطر والأضحى متى يكون (802) عن عائشة رضي الله عنها، وقال: «حسن غريب، صحيح من هذا الوجه»، وأخرجه أبو داود في الصيام/ باب إذا أخطأ القوم الهلال (2324)؛ وابن ماجه في الصيام/ باب ما جاء في شهري العيد (1660) عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه: «الفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون» قال ابن مفلح في «الفروع» (2/14): و«الإسناد جيد».
[290] أخرجه البخاري في الصوم/ باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم الهلال فصوموا وإن رأيتموه فأفطروا» (1909)؛ ومسلم في الصيام/ باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال وأنه إذا غم أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوماً (1081) (19) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[291] سبق تخريجه ص(308).
[292] أخرجه مسلم في الصيام/ باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم، وأنهم إذا رأوا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم (1087).
[293] أخرجه الترمذي في الصوم/ باب ما جاء أن الصوم يوم تصومون (697)؛ والدارقطني (2/164) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أبو داود في الصيام/ باب إذا أخطأ القوم الهلال (2324)؛ وابن ماجه في الصيام/ باب ما جاء في شهري العيد (1660) ولفظه عندهما «الفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون».
[294] أخرجه أبو داود في الصيام/ باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان (2342)؛ وصححه ابن حبان (3447)؛ والحاكم (1/423).
[295] أخرجه أبو داود في الصيام/ باب في شهادة الوافد على رؤية هلال رمضان (2340)؛ والترمذي في الصيام/ باب ما جاء في الصوم بالشهادة (691)؛ والنسائي في الصوم/ باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان (4/132)؛ وابن ماجه في الصوم/ باب ما جاء في الشهادة على رؤية الهلال (1652) انظر: «نصب الراية» (2/443).
[296] أخرجه البخاري في الأذان/ باب أذان الأعمى...(617)؛ ومسلم في الصيام/ باب بيان أن الدخول في الصوم...(1092) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[297] أخرجه البخاري في الأدب/ باب ما يكره من النميمة (6056)؛ ومسلم في الإيمان/ باب بيان غلظ تحريم النميمة (105) (169)، عن حذيفة رضي الله عنه.
[298] أخرجه البخاري في الجنائز/ باب الجريدة على القبر (1361)؛ ومسلم في الطهارة/ باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه (292) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[299] سبق تخريجه (312)
[300] أخرجه أحمد (4/321)؛ والنسائي في الصوم/ باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان (4/133)؛ والدارقطني (2/167) عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وصححه في «الإرواء» (4/16).
[301] «المبدع» (3/9)؛ و«كشاف القناع» (2/305).
[302] سبق تخريجه ص(308).
[303] سبق تخريجه ص(312).
[304] سبق تخريجه ص(316).
[305] سبق تخريجه ص(201).
[306] أخرجه البخاري في التفسير/ باب قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}} (4505).
[307] أخرجه البخاري في التفسير/ باب: {{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}} (4507)؛ ومسلم في الصيام/ باب بيان نسخ قول الله تعالى: {{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} بقوله تعالى {{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}} (1145).
[308] أخرجه البخاري في الصوم/ باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لمن ظلل عليه واشتد الحر: «ليس من البر الصيام في السفر» (1946) ومسلم في الصيام/ باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية... (1115) عن جابر رضي الله عنه.
[309] أخرجه البخاري في الصوم/ باب لم يعب أصحاب النبي (ص) بعضهم بعضاً في الصوم والإفطار (1947)؛ ومسلم في الصيام/ باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر من غير معصية... (1118) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[310] أخرجه البخاري في الصوم/ باب الصوم في السفر والإفطار (1943)؛ ومسلم في الصيام/ باب التخيير في الصوم والفطر في السفر (1121) عن عائشة رضي الله عنها.
[311] أخرجه البخاري معلقاً بصيغة التمريض في التيمم/ باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت...، ووصله أبو داود في الطهارة/باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم؟ (334)، والدارقطني (1/178) وصححه ابن حبان (1315) والحافظ في الفتح.
[312] أخرجه البخاري في الإجارة/ باب استئجار المشركين عند الضرورة أو إذا لم يوجد أهل الإسلام (2263) عن عائشة رضي الله عنها.
[313] «الإنصاف» (3/289).
[314] أخرجه البخاري في الصوم (1945)؛ ومسلم في الصيام/ باب التخيير في الصوم والفطر في السفر (1122).
[315] أخرجه مسلم في الصيام/ باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية (1114) عن جابر رضي الله عنه.
[316] سبق تخريجه ص(327).
[317] أخرجه البخاري في الحيض/ باب ترك الحائض الصوم (304) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[318] البخاري في الصوم/ باب إذا نوى بالنهار صوماً (1924) عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
[319] سبق تخريجه ص(41).
[320] أخرجه البخاري في الصوم/ باب إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس (1959).
[321] سبق تخريجه ص(287).
[322] أخرجه ابن أبي شيبة (3/54).
[323] سبق تخريجه، ص(324).
[324] أخرجه الدارقطني (2/207) وصححه الألباني في «الإرواء» (4/21).
[325] وهو المذهب. «الروض مع حاشية ابن قاسم» (3/371).
[326] سبق تخريجه ص(185).
[327] سبق تخريجه ص(328).
[328] «المحلى» (6/247).
[329] سبق تخريجه ص(327).
[330] سبق تخريجه ص(330).
[331] سبق تخريجه، ص(330).
[332] وبه قال الأصحاب، ورتبوا على ذلك فقالوا: يعايا بها، فيقال: مسلم مكلف أفطر في رمضان لم يلزمه قضاء ولا كفارة.
وجوابه: كبير عاجز عن الصوم كان مسافراً.
[333] «الإنصاف» (3/289).
[334] سبق تخريجه ص(330).
[335] أخرجه البيهقي (4/247) وانظر: «الإرواء» (4/64).
[336] أخرجه أبو داود في الصيام/ باب من قال هي مثبتة للشيخ والحبلى (2318)، والدارقطني (2/207) وصححه.
[337] أخرجه الشافعي (1/266)؛ والدارقطني (2/207) وصححه؛ والبيهقي (4/230). وصححه في «الإرواء» (4/20).
[338] وهو المذهب.
[339] أخرجه الإمام أحمد (4/347)؛ وأبو داود في الصيام/ باب في الصوم في السفر (2408)؛ والترمذي في الصيام/ باب ما جاء في الرخصة في الإفطار للحبلى والمرضع (715)؛ والنسائي في الصوم/ باب وضع الصيام عن المسافر (4/180)؛ وابن ماجه في الصيام/ باب ما جاء في الإفطار للحامل والمرضع (1667) عن أنس بن مالك ـ أحد بني قُشَير ـ رضي الله عنه، وحسنه الترمذي، وفي تخريج «المشكاة» (2025) «سنده جيد».
[340] سبق تخريجه ص(348).
[341] وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما كما في «مصنف عبد الرزاق» (7564).
[342] وهو المذهب. وقال بعض الأصحاب: لا يلزمه، قال في «الفائق»: وهو المختار «الإنصاف» (3/293).
[343] انظر: وجوب القضاء على المغمى عليه في الجزء الثاني.
[344] سبق تخريجه ص(41).
[345] سبق تخريجه ص(201).
[346] أخرجه الدارقطني (2/172)؛ والبيهقي (4/203). ووثق رواته الدارقطني وأقرهُ البيهقي، وانظر: «الجوهر النقي» (4/203)؛ و«نصب الراية» (2/433)؛ و«التلخيص» (881)؛ و«الإرواء» (4/25).
[347] أخرجه البخاري في النكاح/ باب قول الرجل، لأطوفن الليلة على نسائي (5242)؛ ومسلم في الأيمان/ باب الاستثناء في اليمين وغيرها (1654) (23) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[348] «الروض المربع» (3/385).
[349] أخرجه مسلم في الصيام/ باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال (1154) (170) عن عائشة رضي الله عنها.
[350] وهو المذهب «الإنصاف» (3/298).
[351] سبق تخريجه ص(41).
[352] سيأتي تخريجه ص(524).
[353] سبق تخريجه ص(41).
[354] سبق تخريجه ص172.
[355] أخرجه البخاري معلقاً بصيغة التمريض عن أبي هريرة رضي الله عنه ـ مرفوعاً ـ في الصوم/ باب إذا جامع في رمضان؛ ووصله أبو داود في الصيام/ باب التغليظ فيمن أفطر عمداً (2396)؛ والترمذي في الصوم/ باب ما جاء في الإفطار متعمداً (723)؛ والنسائي في «الكبرى» (3265) ط/ الرسالة؛ وابن ماجه في الصيام/ باب ما جاء في كفارة من أفطر يوماً من رمضان (1672).
وروي موقوفاً على ابن مسعود رضي الله عنه أخرجه البخاري معلقاً في الصوم/ باب إذا جامع في رمضان، ووصله عبد الرزاق (7467)؛ وابن أبي شيبة (3/105)؛ والبيهقي (4/228)؛ وانظر: «تغليق التعليق» (3/169).
التعديل الأخير تم بواسطة إدارة منابر سبل الهدى السلفية ; 07-01-2014 الساعة 01:33 AM
http://www.subulhoda.com/salafi/clear.gif رد مع اقتباس (http://www.subulhoda.com/salafi/newreply.php?do=newreply&p=20505)
06-10-2014, 12:46 PM #2 (http://www.subulhoda.com/salafi/showthread.php?11037-شرح-(كتاب-الصيام)-من-الشرح-الممتع-على-زاد-المستقنع-لسماحة-الشيخ-العلامة-الفقيه-الإمام-محمد-بن-صالح-العثيمين-رحمه-الله-مفرغ&p=20506&viewfull=1#post20506)
أبو قتادة حسام بن أحمد العدني (http://www.subulhoda.com/salafi/member.php?5-أبو-قتادة-حسام-بن-أحمد-العدني)
http://www.subulhoda.com/salafi/images/primus/sandy/statusicon/user-offline.png
محظور تاريخ التسجيلAug 2012المشاركات1,228
http://www.subulhoda.com/salafi/images/icons/icon1.png بَابُ مَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَيُوجِبُ الكَفَّارَةَ
بَابُ مَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَيُوجِبُ الكَفَّارَةَ
مَنْ أَكَلَ،.......
قوله: «باب ما يفسد الصوم» أي: يبطله، والصوم يشمل الفرض والنفل.
والعلماء ـ رحمهم الله ـ لهم أساليب في تسمية الأبواب معناها واحد، ولكن تختلف لفظاً، ففي الوضوء يسمون المفسدات نواقض وفي الغسل يسمونها موجبات الغسل، وفي باب الصلاة يسمونها مبطلات الصلاة، وفي الصوم يسمونها مفسدات الصوم، وفي باب الإحرام يسمونها محظورات الإحرام، وكل هذه، المعنى فيها واحد.
والمفسد للصوم يسمى عند العلماء المفطرات، وأصولها ثلاثة ذكرها الله ـ عزّ وجل ـ في قوله: {{فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}} [البقرة: 187] . وقد أجمع العلماء على أن هذه الثلاثة تفسد الصوم، وما سوى ذلك سيأتي إن شاء الله الكلام عليه.
قوله: «ويوجب الكفارة» الكفارة «الـ» هنا للعهد الذهني، فهي الكفارة المعروفة: عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً.
قوله: «من أكل» «من» هذه شرطية وجوابه قوله «فسد صومه» ، والأكل هو إدخال الشيء إلى المعدة عن طريق الفم.
وقولنا إدخال الشيء يشمل ما ينفع وما يضر، وما لا يضر ولا ينفع، فما ينفع كاللحم والخبز وما أشبه ذلك، وما يضر كأكل الحشيشة ونحوها، ما لا نفع فيه ولا ضرر مثل أن يبتلع خرزة سبحة أو نحوها؛ ووجه العموم إطلاق الآية {{كُلُوا وَاشْرَبُوا}} وهذا يسمى أكلاً.
وقال بعض أهل العلم: إن ما لا يغذي لا فطر بأكله، وبناءً على هذا فإنّ بلع الخرزة أو الحصاة أو ما أشبههما لا يفطر.
والصحيح أنه عام، وأن كل ما ابتلعه الإنسان من نافع أو ضار، أو ما لا نفع فيه ولا ضرر فإنه مفطر لإطلاق الآية.
أَوْ شَرِبَ أوْ اسْتَعَطَ،........
قوله: «أو شرب» الشرب يشمل ما ينفع وما يضر، وما لا نفع فيه ولا ضرر، فكل ما يشرب من ماء، أو مرق، أو لبن، أو دم، أو دخان، أو غير ذلك، فإنه داخل في قول المؤلف «أو شرب» .
ويلحق بالأكل والشرب ما كان بمعناهما، كالإبر المغذية التي تغني عن الأكل والشرب.
قوله: «أو استعط» أي: تناول السعوط، والسعوط ما يصل إلى الجوف عن طريق الأنف، فإنه مفطر؛ لأن الأنف منفذ يصل إلى المعدة، ودليل ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً» [(356)] وهذا يدل على أن الصائم لا يبالغ في الاستنشاق، ولا نعلم لهذا علة إلا أن المبالغة تكون سبباً لوصول الماء إلى المعدة، وهذا مخل بالصوم، وعلى هذا فنقول: كل ما وصل إلى المعدة عن طريق الأنف أو الفم فإنه مفطر.
أوْ احْتَقَنَ،...........
قوله: «أو احتقن» الاحتقان هو إدخال الأدوية عن طريق الدبر، وهو معروف، ولا يزال يعمل، فإذا احتقن فإنه يفطر بذلك، لأن العلة وصول الشيء إلى الجوف، والحقنة تصل إلى الجوف، أي: تصل إلى شيء مجوف في الإنسان، فتصل إلى الأمعاء فتكون مفطرة، فإذا وصل إلى الجوف شيء عن طريق الفم، أو الأنف، أو أي منفذ كان، فإنه يكون مفطراً، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد[(357)]، وعليه أكثر أهل العلم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: لا فطر بالحقنة؛ لأنه لا يطلق عليها اسم الأكل والشرب لا لغة ولا عرفاً، وليس هناك دليل في الكتاب والسنة، أن مناط الحكم وصول الشيء إلى الجوف، ولو كان لقلنا: كل ما وصل إلى الجوف من أي منفذ كان فإنه مفطر، لكن الكتاب والسنة دلا على شيء معين وهو الأكل والشرب.
وقال بعض العلماء المعاصرين: إن الحقنة إذا وصلت إلى الأمعاء فإن البدن يمتصها عن طريق الأمعاء الدقيقة، وإذا امتصها انتفع منها، فكان ما يصل إلى هذه الأمعاء الدقيقة كالذي يصل إلى المعدة من حيث التغذي به، وهذا من حيث المعنى قد يكون قوياً.
لكن قد يقول قائل: إن العلة في تفطير الصائم بالأكل والشرب ليست مجرد التغذية، وإنما هي التغذية مع التلذذ بالأكل والشرب، فتكون العلة مركبة من جزأين:
أحدهما: الأكل والشرب.
الثاني: التلذذ بالأكل والشرب؛ لأن التلذذ بالأكل والشرب مما تطلبه النفوس، والدليل على هذا أن المريض إذا غذي بالإبر لمدة يومين أو ثلاثة، تجده في أشد ما يكون شوقاً إلى الطعام والشراب مع أنه متغذٍ.
فإن قيل: ينتقض قولكم إن العلة مركبة من جزأين إلى آخره أن السعوط مفطر مع أنه لا يحصل به تلذذ بالأكل والشرب. فالجواب أن الأنف منفذ معتاد لتغذية الجسم، فألحق بما كان عن طريق الفم.
وبناء على هذا نقول: إن الحقنة لا تفطر مطلقاً، ولو كان الجسم يتغذى بها عن طريق الأمعاء الدقيقة.
فيكون القول الراجح في هذه المسألة قول شيخ الإسلام ابن تيمية مطلقاً، ولا التفات إلى ما قاله بعض المعاصرين.
ومن الحقن المعروفة الآن ما يوضع في الدبر عند شدة الحمى، ومنها أيضاً ما يدخل في الدبر من أجل العلم بحرارة المريض وما أشبه ذلك، فكل هذا لا يفطر.
ثم لدينا قاعدة مهمة لطالب العلم، وهي أننا إذا شككنا في الشي أمفطر هو أم لا؟ فالأصل عدم الفطر، فلا نجرؤ على أن نفسد عبادة متعبد لله إلا بدليل واضح يكون لنا حجة عند الله عزّ وجل.
أوْ اكْتَحَلَ بِمَا يَصِلُ إِلَى حَلْقِهِ، أوْ أدْخَلَ إِلَى جَوْفِهِ شَيْئاً مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ .......
قوله: «أو اكتحل بما يصل إلى حلقه» الكحل معروف، فإذا اكتحل بما يصل إلى الحلق فإنه يفطر؛ لأنه وصل إلى شيء مجوف في الإنسان وهو الحلق، هذا هو تعليل من قال إن الكحل يفطر ولكن في هذا التعليل نظر، ولذلك ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ إلى أن الكحل لا يفطر ولو وصل طعم الكحل إلى الحلق[(358)]، وقال: إن هذا لا يسمى أكلاً وشرباً، ولا بمعنى الأكل والشرب، ولا يحصل به ما يحصل بالأكل والشرب، وليس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث صحيح صريح يدل على أن الكحل مفطر، والأصل عدم التفطير، وسلامة العبادة حتى يثبت لدينا ما يفسدها، وما ذهب إليه ـ رحمه الله ـ هو الصحيح.
وبناءً على هذا لو أنه قطر في عينه وهو صائم فوجد الطعم في حلقه، فإنه لا يفطر بذلك أما إذا وصل طعمها إلى الفم وابتلعها فقد صار أكلاً وشرباً.
قوله: «أو أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان» قوله: «إلى جوفه» أي: إلى مجوف في بدنه كحلقه وبطنه وصدره، والمراد أنه يفطر بذلك، فلو أن الإنسان أدخل منظاراً إلى المعدة حتى وصل إليها، فإنه يكون بذلك مفطراً.
والصحيح أنه لا يفطر إلا أن يكون في هذا المنظار، دهن أو نحوه يصل إلى المعدة بواسطة هذا المنظار فإنه يكون بذلك مفطراً، ولا يجوز استعماله في الصوم الواجب إلا للضرورة.
ولو أن الإنسان كان له فتحة في بطنه، وأدخل إلى بطنه شيئاً عن طريق هذه الفتحة، فعلى المذهب يفطر بذلك كما لو داوى الجائفة، والصحيح أنه لا يفطر بذلك إلا أن تجعل هذه الفتحة بدلاً عن الفم بحيث يدخل الطعام والشراب منها لانسداد المرئ أو تقرحه، ونحو ذلك فيكون ما أدخل منها مفطراً كما لو أدخل من الفم، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
غَيْرَ إحْلِيلِهِ، أوِ اسْتَقَاءَ أوْ اسْتَمْنَى، أَوْ بَاشَرَ فَأَمْنَى، أَوْ أَمْذَى، أو كَرَّرَ النَّظَرَ فَأَنْزَلَ،.........
وقوله: «غير إحليله» أي: قناة الذكر، فلو أدخل عن طريق الذكر خيطاً فيه طعم دواء فإنه لا يفطر؛ لأن الذكر لا يصل إلى الجوف ما دخل عن طريقه، فإن البول إنما يخرج رشحاً، هكذا علل الفقهاء ـ رحمهم الله ـ ومرادهم بذلك أن البول يجتمع في المثانة عن طريق الرشح؛ لأنه ليس لها إلا منفذ واحد.
والحمد لله نحن في غنى عن هذه التعليلات من الأصل إذا أخذنا بالقول الراجح، وهو أن المفطر هو الأكل والشرب، وما أدخل من طريق الإحليل فإنه لا يسمى أكلاً ولا شرباً، وإذا كانت الحقنة وهي التي تدخل عن طريق الدبر لا تفطر على القول الراجح، فما دخل عن طريق الإحليل من باب أولى.
قوله: «أو استقاء» أي: استدعى القيء، ولكن لا بد من قيء، فلو استدعى القيء ولكنه لم يقئ فإن صومه لا يفسد، بل لا يفسد إلا إذا استقاء فقاء، ولا فرق بين أن يكون القيء قليلاً أو كثيراً.
أما ما خرج بالتعتعة من الحلق فإنه لا يفطر، فلا يفطر إلا ما خرج من المعدة، سواء كان قليلاً أو كثيراً، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من استقاء عمداً فليقض، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه» [(359)]، «ذرعه» أي: غلبه.
واستدعاء القيء له طرق: النظر، الشم، والعصر، والجذب، وربما نقول السمع أيضاً.
أما النظر: فكأن ينظر الإنسان إلى شيءٍ كريهٍ فتتقزز نفسه ثم يقيء.
وأما الشم: فكأن يشم رائحة كريهة فيقيء.
وأما العصر: فكأن يعصر بطنه عصراً شديداً إلى فوق ثم يقيء.
وأما الجذب: بأن يدخل أصبعه في فمه حتى يصل إلى أقصى حلقه ثم يقيء.
أما السمع: فربما يسمع شيئاً كريهاً.
وقال بعض العلماء: إنه لا فطر في القيء ولو تعمده بناءً على قاعدة قعدوها، وهي: «الفطر مما دخل لا مما خرج، والوضوء مما خرج لا مما دخل»، وضعفوا حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ وقالوا: إنه مخالف للقياس مع ضعف سنده، والجواب: أن يقال أين الدليل على هذه القاعدة، فهذا لحم الإبل ينقض وهو داخل، فسيقولون لا ينقض الوضوء إلا على مذهب الإمام أحمد فقاعدتنا سليمة، قلنا لهم: إنزال المني من الصائم خارج، ويفسد الصوم.
والصواب أن القيء عمداً مفطر؛ لأن الحديث دل عليه والقاعدة التي أسسوها غير صحيحة، والحكمة تقتضي أن يكون مفطراً؛ لأن الإنسان إذا استقاء ضعف واحتاج إلى أكل وشرب فنقول له لا يحل لك في الصوم الواجب سواء رمضان أو غيره أن تتقيء إلا للضرورة، فإن اضطررت إلى القيء فتقيأ ثم أعد على بدنك ما يحصل به القوة من الأكل الشرب، فهذا القول كما هو مقتضى الحديث فهو مقتضى النظر الصحيح، أما رأيهم فهو يعارض النص، والرأي المقابل للنص المعارض له فاسد لا عبرة به، ونقول لصاحبه: أأنت أعلم أم الله؟ فما دام هذا حكم الله فإنه خير من الرأي.
قوله: «أو استمنى» .
أي: طلب خروج المني بأي وسيلة، سواء بيده، أو بالتدلك على الأرض، أو ما أشبه ذلك حتى أنزل، فإنّ صومه يفسد بذلك، وهذا ما عليه الأئمة الأربعة ـ رحمهم الله ـ مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد.
وأبى الظاهرية ذلك وقالوا: لا فطر بالاستمناء ولو أمنى[(360)]، لعدم الدليل من القرآن والسنة على أنه يفطر بذلك، فإن أصول المفطرات ثلاثة، وليس هذا منها فيحتاج إلى دليل، ولا يمكن أن نفسد عبادة عباد الله إلا بدليل من الله ورسوله (ص).
ولكن عندي والله أعلم أنه يمكن أن يستدل على أنه مفطر من وجهين:
الوجه الأول النص: فإن في الحديث الصحيح أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قال في الصائم: «يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي» [(361)] والاستمناء شهوة، وخروج المني شهوة، والدليل على أن المني يطلق عليه اسم شهوة قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «وفي بضع أحدكم صدقة قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر، كذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» [(362)] والذي يوضع هو المني.
الوجه الثاني: القياس، فنقول: جاءت السنة بفطر الصائم بالاستقاء إذا قاء، وبفطر المحتجم إذا احتجم وخرج منه الدم، وكلا هذين يضعفان البدن.
أما خروج الطعام فواضحٌ أنه يضعف البدن؛ لأن المعدة تبقى خالية فيجوع الإنسان ويعطش سريعاً.
وأما خروج الدم فظاهر أيضاً أنه يضعف البدن، ولهذا ينصح من احتجم أو تبرع لأحد بدم من جسمه، أن يبادر بالأكل السريع الهضم والسريع التفرق في البدن، حتى يعوض ما نقص من الدم، وخروج المني يحصل به ذلك فيفتر البدن بلا شك، ولهذا أمر بالاغتسال ليعود النشاط إلى البدن، فيكون هذا قياساً على الحجامة والقيء، وعلى هذا نقول: إن المني إذا خرج بشهوة فهو مفطر للدليل والقياس.
قوله: «أو باشر فأمنى» أي: باشر زوجته سواء باشرها باليد، أو بالوجه بتقبيل، أو بالفرج، فإنه إذا أنزل أفطر، وإذا لم يُنزل فلا فطر بذلك.
ونقول في الإنزال بالمباشرة ما قلنا في الإنزال بالاستمناء: إنه مفطر.
وعلم من كلام المؤلف، أنه لو استمنى بدون إنزال فإنه لا فطر، وأنه لو باشر بدون إنزال فإنه لا فطر في ذلك أيضاً، وسيأتي بيان حكم المباشرة.
قوله: «أو أمذى» أي: فإنه يفطر، والمذي هو ماء رقيق يحصل عقيب الشهوة بدون أن يحس به الإنسان عند خروجه، وهو بين البول والمني من حيث النجاسة، فالمني طاهر موجب لغسل جميع البدن، والبول نجس موجب لغسل ما أصاب من البدن والملابس، والمذي يوجب غسل الذكر والأنثيين، ولا يوجب الغسل إذا أصاب الملابس، بل يكفي فيه النضح كما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك[(363)].
فالمذهب أن خروج المذي مفسد للصوم كالمني، أي: إذا استمنى فأمذى، أو باشر فأمذى فإنه يفسد صومه، والذين يقولون لا يفسد بالمني يقولون لا يفسد بالمذي من باب أولى، والذين يقولون إن الصوم يفسد بالمني اختلفوا في المذي على قولين:
فالمذهب أنه يفطر، ولا دليل له صحيح، والصحيح القول الثاني أنه لا يفطر؛ لأن المذي دون المني لا بالنسبة للشهوة ولا بالنسبة لانحلال البدن، ولا بالنسبة للأحكام الشرعية حيث يخالفه في كثير منها بل في أكثرها أو كلها، فلا يمكن أن يلحق به.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ والحجة فيه عدم الحجة، أي عدم الحجة على إفساد الصوم به؛ لأن هذا الصوم عبادة شرع فيها الإنسان على وجه شرعي فلا يمكن أن نفسد هذه العبادة إلا بدليل.
قوله: «أو كرر النظر فأنزل» يعني فإنه يفسد صومه، وتكرار النظر يحصل بمرتين، فإن نظر نظرة واحدة فأنزل لم يفسد صومه لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لك الأولى وليست لك الثانية» [(364)]، ولأن الإنسان لا يملك أن يجتنب هذا الشيء، فإن بعض الناس يكون سريع الإنزال وقوي الشهوة؛ إذا نظر إلى امرأته أنزل، ولو قلنا: إنه يفطر بذلك لكان فيه مشقة.
فصار النظر فيه تفصيل، إن كرره حتى أنزل فسد صومه، وإن أنزل بنظرة واحدة لم يفسد، إلا أن يستمر حتى ينزل فيفسد صومه؛ لأن الاستمرار كالتكرار، بل قد يكون أقوى منه في استجلاب الشهوة والإنزال.
وأما التفكير بأن فكر حتى أنزل فلا يفسد صومه، لعموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم» [(365)] إلا إن حصل معه عمل يحصل به الإنزال كعبث بذكره ونحوه.
والخلاصة:
أولاً: المباشرة إذا أنزل فيها، فسد صومه وكذلك إذا أمذى على المذهب.
ثانياً: النظر.
إن كان واحدة فأنزل أو أمذى فلا شيء عليه في ذلك، وإن كرر فأمذى فلا شيء في ذلك، وإن كرَّر فأنزل فسد صومه.
وهنا فرَّق المؤلف ـ رحمه الله ـ بين الإمذاء والإمناء، فإذا كرر النظر فأمذى فلا يفسد صومه، وإذا كرره فأمنى فسد صومه.
والصواب أنه لا فرق بينهما في هذه الحال الثانية وغيرها؛ وأنه لا يفسد صومه بالإمذاء مطلقاً سواء كان بمباشرة أو بنظر.
ثالثاً: التفكير لا يفسد به صومه سواءٌ أمنى أو أمذى على ما سبق.
مسألة: لو تحدث الرجل مع امرأته حتى أنزل هل نلحقه بالمباشرة فنقول: يفسد صومه أو نلحقه بالنظر؟ الظاهر أنه يلحق بالنظر فيكون أخف من المباشرة، وعليه يلحق تكرار القول بتكرار النظر، فإن الإنسان مع القول قد يكون أشد تلذذاً من النظر.
أَوْ حَجَمَ أوْ احْتَجَمَ وَظَهَرَ دَمٌ ..........
قوله: «أو حجم أو احتجم وظهر دم» «حجم» أي: حجم غيره.
«احتجم» بمعنى طلب من يحجمه، فإذا حجم غيره أو احتجم، وظهر دم فسد صومه، فإن لم يظهر دم؛ لكون المحجوم قليل الدم ولم يخرج منه شيء لم يفسد صومه.
وظاهر قول المؤلف: «وظهر دم» أنه لا فرق بين أن يكون الدم الظاهر قليلاً أو كثيراً، وسواء كانت الحجامة في الرأس، أو في الكتفين، أو في أي مكان من البدن.
ومواضع الحجامة وأوقاتها وأحوال المحجوم، ومن يمكن أن يحجم، ومن لا يمكن معروفة عند الحجامين، ولهذا يجب على الإنسان إذا أراد الحجامة أن يحتاط، ويختار لمن يحجمه من هو معروف بالحِذْق، لئلا ينزف دمه من حيث لا يشعر.
وهذه المسألة اختلف العلماء فيها كثيراً وهي من مفردات الإمام أحمد، فأكثر أهل العلم يرون أن الحجامة لا تفطر ويستدلون بالآثار والنظر، فالآثار يقولون إنه ثبت في البخاري عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «احتجم وهو صائم، واحتجم وهو محرم» [(366)]، واستدلوا أيضاً بأحاديث أخرى من رواية أنس وغيره وفي بعضها التفصيل بأن الحجامة كانت من أجل الضعف[(367)]، ثم رخص فيها، واستدل القائلون بالإفطار بحديث شداد بن أوس وغيره أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أفطر الحاجم والمحجوم» [(368)].
وهذا الحديث ضعفه بعض أهل العلم، وقالوا: إنه لا يصح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فمن ضعفه فإنه لا يستدل به ولا يأخذ به؛ لأنه لا يجوز أن يحتج بالضعاف على أحكام الله ـ عزّ وجل ـ، ومن العلماء من صححه كالإمام أحمد، وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهما من الحفاظ، وعلى هذا يكون الحديث حجة.
فإذا كان حجة وقلنا: إنه يفطر بالحجامة الحاجم والمحجوم، فما هي الحكمة؟
الجواب قال الفقهاء ـ رحمهم الله ـ: إن هذا من باب التعبد[(369)]، والأحكام الشرعية التي لا نعرف معناها تسمى عند أهل الفقه تعبدية، بمعنى أن الواجب على الإنسان أن يتعبد لله بها سواء عَلِمَ الحكمة أم لا.
ولكن هل لها حكمة معلومة عند الله؟
الجواب: نعم لا شك؛ لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قال: {{ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}} [الممتحنة: 10] فما من حكم من أحكام الشريعة إلا وله حكمة عند الله ـ عزّ وجل ـ لكن قد تظهر لنا بالنص أو بالإجماع أو بالاستنباط، وقد لا تظهر لقصورنا، أو لتقصيرنا في طلب الحكمة.
وهذه الأحكام التعبدية لها أصل أشارت إليه أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ حين سألتها معاذة بنت عبد الله العدوية قالت: «ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة» [(370)] فوكلت الأمر إلى حكم الله ورسوله، ولم تقل: لأن الصلاة تتكرر، والصيام لا يتكرر، وما أشبه ذلك مما ذكره الفقهاء، ولأن المؤمن إذا قيل له هذا حكم الله انقاد، فهذه هي الحكمة لقول الله تعالى: {{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}} [الأحزاب: 36] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ[(371)]: إن إفطار الصائم بالحجامة له حكمة، أما المحجوم فالحكمة هو أنه إذا خرج منه هذا الدم أصاب بدنه الضعف، الذي يحتاج معه إلى غذاء لترتد عليه قوته، لأنه لو بقي إلى آخر النهار على هذا الضعف فربما يؤثر على صحته في المستقبل، فكان من الحكمة أن يكون مفطراً، وعلى هذا فالحجامة للصائم لا تجوز في الصيام الواجب إلا عند الضرورة، فإذا جازت للضرورة جاز له أن يفطر، وإذا جاز له أن يفطر جاز له أن يأكل، وحينئذ نقول احتجم وكل واشرب من أجل أن تعود إليك قوتك وتسلم، مما يتوقع من مرض بسبب هذا الضعف.
أما إذا كان الصوم نفلاً فلا بأس بها؛ لأن الصائم نفلاً له أن يخرج من صومه بدون عذر، لكنه يكره لغير غرض صحيح.
وأما الحكمة بالنسبة للحاجم، فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: إن الحاجم عادة يمص قارورة الحجامة، وإذا مصها فإنه سوف يصعد الدم إلى فمه، وربما من شدة الشفط ينزل الدم إلى بطنه من حيث لا يشعر، وهذا يكون شرباً للدم فيكون بذلك مفطراً، ويقول: هذا هو الغالب ولا عبرة بالنادر.
وقوارير الحجامة عبارة عن قارورة من حديد يكون فيها قناة دقيقة يمصها الحاجم، ويكون في فمه قطنة إذا مصها سدها بهذه القطنة؛ لأنه إذا مصها تفرغ الهواء، وإذا تفرغ الهواء فلا بد أن يجذب الدم، وإذا جذب الدم امتلأت القارورة ثم سقطت، وما دامت لم تمتلئ فهي باقية.
والحكمة إذا كانت غير منضبطة فإنه يؤخذ بعمومها، ولهذا قال: لو أنه حجم بآلات منفصلة لا تحتاج إلى مص، فإنه لا يفطر بذلك.
أما الذين قالوا العلة تعبدية فيقولون: إن الحاجم يفطر، ولو حجم بآلات منفصلة لعموم اللفظ.
والذي يظهر لي ـ والعلم عند الله ـ أن ما ذهب إليه شيخ الإسلام أولى، فإذا حجم بطريق غير مباشر ولا يحتاج إلى مص فلا معنى للقول بالفطر؛ لأن الأحكام الشرعية ينظر فيها إلى العلل الشرعية.
فإن قيل: العلة إذا عادت على النص بالإبطال دل ذلك على فسادها، وهذا حاصل في قول شيخ الإسلام إذا حجم الشخص بآلات منفصلة؟
فالجواب أن يقال: إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يتكلم عن شيء معهود في زمنه، فتكون «أل» في «الحاجم» للعهد الذهني المعروف عندهم.
والقول بأن الحجامة مفطرة هو مذهب الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ، وهو منفرد به عن المذاهب، وانفراد الإمام أحمد عن المذاهب لا يعني أن قوله ضعيف؛ لأن قوة القول ليست بالأكثرية، بل تعود إلى ما دل عليه الشرع، وإذا انفرد الإمام أحمد بقول دل عليه الشرع فإنه مع الجماعة[(372)].
مسألة: هل يلحق بالحجامة الفصد، والشرط، والإرعاف، وما أشبه ذلك، كالتبرع بالدم؟
الفصد: قطع العرق، والشرط: شق العرق.
فإن شققته طولاً فهو شرط، وإن شققته عرضاً فهو فصد.
فالمذهب لا يلحق بالحجامة؛ لأن الأحكام التعبدية لا يقاس عليها، وهذه قاعدة أصولية فقهية «الأحكام التعبدية لا يقاس عليها»؛ لأن من شرط القياس اجتماع الأصل والفرع في العلة، وإذا لم تكن معلومة فلا قياس، فيقولون: إن الفطر بالحجامة تعبدي، فلا يلحق به الفصد والشرط والإرعاف ونحوها فتكون هذه جائزة للصائم فرضاً ونفلاً.
أما على ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أن علة الفطر بالحجامة معلومة، فيقول: إن الفصد والشرط يفسدان الصوم، وكذلك لو أرعف نفسه حتى خرج الدم من أنفه، بأن تعمد ذلك ليخف رأسه، فإنه يفطر بذلك، وقوله ـ رحمه الله ـ أقرب إلى الصواب.
وأما مغالاة العامة بحيث إن الإنسان لو استاك وأدمت لثته قالوا: أفطر، ولو حك جلده حتى خرج الدم قالوا: أفطر، ولو قلع ضرسه وخرج الدم قالوا: أفطر، ولو رعف بدون اختياره قالوا: أفطر، فكل هذه مبالغة، فقلع الضرس لا يفطر ولو خرج الدم؛ لأن قالع ضرسه لا يقصد بذلك إخراج الدم، وإنما جاء خروج الدم تبعاً، وكذلك لو حك الإنسان جلده، أو بط الجرح حتى خرجت منه المادة العفنة فكل ذلك لا يضر.
عامداً ذَاكِراً لِصَوْمِهِ فَسد لا ناسياً ..........
قوله: «عامداً» حال من فاعل «أكل» وما عطف عليه، اشترط المؤلف لفساد الصوم بما ذكر شرطين:
الشرط الأول: أن يكون عامداً، وضده غير العامد، وهو نوعان، أحدهما: أن يحصل المفطر بغير اختياره بلا إكراه، مثل أن يطير إلى فمه غبار أو دخان أو حشرة أو يتمضمض، فيدخل الماء بطنه بغير قصد فلا يفطر، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}} [الأحزاب: 5] وهذا لم يتعمد قلبه فعل المفسد فيكون صومه صحيحاً.
الثاني: أن يفعل ما يفطر مكرهاً عليه فلا يفسد صومه لقوله تعالى: {{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *}} [النحل] فإذا كان حكم الكفر يعفى عنه مع الإكراه، فما دون الكفر من باب أولى، وعلى هذا فلو أكره الرجل زوجته على الجماع وهي صائمة، وعجزت عن مدافعته فصيامها صحيح، ويشترط لرفع الحكم أن يفعل هذا الشيء لدفع الإكراه لا للاطمئنان به، يعني أنه شرب أو أكل دفعاً للإكراه لا رضاً بالأكل أو الشرب بعد أن أكره عليه، فإن فعله رضاً بالأكل أو الشرب بعد أن أكره عليه فإنه لا يعتبر مكرهاً، هذا هو المشهور من المذهب، وقيل: بل يعتبر مكرهاً؛ لأن أكثر الناس لا سيما العوام لا يفرقون بين أن يفعلوا هذا الشيء لدفع الإكراه أو أن يفعلوه اطمئناناً به؛ لأنهم أكرهوا وعموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» [(373)] يشمل هذه الصورة، وهذا اختيار شيخ الإسلام.
قوله: «ذاكراً لصومه فسد لا ناسياً» .
هذا هو الشرط الثاني: أن يكون ذاكراً، وضده الناسي.
فلو فعل شيئاً من هذه المفطرات فاسداً، فلا شيء عليه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه» [(374)].
وقوله صلّى الله عليه وسلّم «وهو صائم» يشمل الفريضة، والنافلة.
وانظر قوله في الحديث «أطعمه الله» فلم ينسب الفعل إلى الفاعل، بل إلى الله؛ لأنه ناسٍ لم يقصد المخالفة والمعصية، ولهذا نُسب فعله إلى من أنساه وهو الله ـ عزّ وجل ـ وهذا دليل خاص.
ولدينا دليل عام وهو قاعدة شرعية من أقوى قواعد الشريعة وهي قوله تعالى: {{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا}} [البقرة: 286] فقال الله تعالى: «قد فعلت».
فصار في النسيان دليلان عام وخاص، وإذا اجتمع في المسألة دليلان عام وخاص فالأولى أن نستدل بالخاص؛ لأننا إذا استدللنا بالعام، فإنه قد يقول قائل هذا عام والمسألة هذه مستثناة من العموم، فقد يدعي هذا، مع أنه لو ادعاه لكانت الدعوى مردودة؛ لأن الأصل أن العموم شامل لجميع أفراده؛ والدليل على أن العام شامل لجميع أفراده؛ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنكم إذا قلتم السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فقد سلمتم على كل عبد صالح في السماء والأرض» [(375)] لأن «عباد الله الصالحين» عامة؛ ولذلك قال: «فقد سلمتم على كل عبد صالح في السماء والأرض» فلو استدللنا على أن الناسي إذا أكل أو شرب لا يفسد صومه بآية البقرة، فإنه استدلال صحيح، ولو ادعى مدعٍ أن هذا خارج عن العموم قلنا له أين الدليل؟ لأن الأصل أن العام شامل لجميع أفراد العموم.
لكن لو أكل ناسياً أو شرب ناسياً، ثم ذكر أنه صائم واللقمة في فمه، فهل يلزمه أن يلفظها؟
الجواب: نعم يلزمه أن يلفظها؛ لأنها في الفم وهو في حكم الظاهر، ويدل على أنه في حكم الظاهر، أن الصائم لو تمضمض لم يفسد صومه، أما لو ابتلعها حتى وصلت ما بين حنجرته ومعدته لم يلزمه إخراجها، ولو حاول وأخرجها، لفسد صومه لأنه تعمد القيء.
أفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ بعموم كلامه أن الجماع كغيره، والجماع على المشهور من المذهب لا يشمله هذا الحكم والصحيح أنه كغيره والدليل عدم الدليل على الفرق، ونحن لا نفرق إلا ما فرق الله ورسوله (ص) بينه، ولم يفرق الله، ـ عزّ وجل ـ ورسوله (ص) بين الجماع وغيره إلا في مسألة واحدة وهي الكفارة.
أَوْ مُكْرهاً .........
قوله: «أو مكرهاً» يعني أنه إذا كان مكرهاً على المفطرات، فإنه لا يفطر، فيشترط أن يكون عمداً، لقول الله تعالى: {{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}} [الأحزاب: 5] [(376)].
قال في الروض: «ولو بوجور مغمى عليه معالجة» أي: إذا أغمي عليه وهو صائم، فصبوا في فمه ماء لعله يصحو فصحا فلا يفطر بهذا؛ لأنه غير قاصد، فالذي صب في فمه الماء شخص آخر، وهو مغمى عليه لا يحس، كما لو أتيت إلى شخص نائم وصببت في فمه ماء فإنه لا يفطر؛ لأنه بغير قصد، وإذا صببت في فمه الماء فسوف يبتلعه وهو نائم، ولكنه يبتلعه وهو غير تام الشعور فلا يفسد صومه.
ومقتضى كلام المؤلف، أنه لا يشترط أن يكون عالماً؛ لأنه لم يذكر إلاّ شرطين، العمد والذكر، فإن كان جاهلاً فإنه يفطر.
والصحيح اشتراط العلم، لدلالة الكتاب والسنة عليه، فتكون شروط المفطرات ثلاثة: العلم، والذكر، والعمد.
وضد العلم الجهل، والجهل ينقسم إلى قسمين:
1 ـ جهل بالحكم الشرعي، أي: لا يدري أن هذا حرام.
2 ـ جهل بالحال، أي: لا يدري أنه في حال يحرم عليه الأكل والشرب، وكلاهما عذر.
والدليل لذلك قوله تعالى: {{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا}} [البقرة: 286] وإذا انتفت المؤاخذة انتفى ما يترتب عليها، وهذا دليل عام.
وهناك دليل خاص في هذه المسألة للنوعين من الجهل:
أما الجهل بالحكم، فدليله حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه «أنه أراد أن يصوم وقرأ قول الله تعالى: {{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ}} [البقرة: 187] فأتى بعقال أسود، ـ حبل تربط به يد البعير ـ وأتى بعقال أبيض، وجعلهما تحت وسادته، وجعل يأكل وينظر إلى الخيطين حتى تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود» فهذا أخطأ في فهم الآية؛ لأن المراد بها أن الخيط الأبيض بياض النهار، والأسود سواد الليل، فلما جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبره قال له: «إن وسادك لعريض أن وسع الخيط الأبيض والأسود» [(377)] ولم يأمره بالقضاء؛ لأنه جاهل لم يقصد مخالفة الله ورسوله (ص)، بل رأى أن هذا حكم الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فعذر بهذا.
وأما الجهل بالحال: فقد ثبت في الصحيح عن أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ قالت: «أفطرنا في يوم غيم على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم طلعت الشمس» [(378)] فأفطروا في النهار بناءً على أن الشمس قد غربت فهم جاهلون، لا بالحكم الشرعي ولكن بالحال، لم يظنوا أن الوقت في النهار، ولم يأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقضاء، ولو كان القضاء واجباً لأمرهم به، لأنه من شريعة الله وإذا كان من شريعة كان محفوظاً تنقله الأمة؛ لأنه مما تتوافر الدواعي لنقله، فلما لم يحفظ، ولم ينقل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فالأصل براءة الذمة، وعدم القضاء.
وهذه قاعدة مهمة أشرنا إليها من قبل وهي أننا إذا شككنا في وجوب شيء أو تحريمه فالأصل عدمه، إلا في العبادات فالأصل فيها التحريم.
ولكن من أفطر قبل أن تغرب الشمس إذا تبين أن الشمس لم تغرب، وجب عليه الإمساك، لأنه أفطر بناءً على سبب، ثم تبين عدمه، وهذا يجرنا إلى مسألة مهمة وهي أن من بنى قوله على سبب، تبين أنه لم يوجد فلا حكم لقوله، وهذه لها فروع كثيرة من أهمها:
ما يقع لبعض الناس في الطلاق، يقول لزوجته مثلاً: إن دخلت دار فلان فأنت طالق، بناءً على أنه عنده آلات محرمة مثل المعازف أو غيرها، ثم يتبين أنه ليس عنده شيء من ذلك، فهل إذا دخلت تطلق أو لا؟
الجواب: لا تطلق، لأنه مبني على سبب تبين عدمه، وهذا هو القياس شرعاً وواقعاً.
مسألة: لو أن رجلاً صائماً أكل ناسياً حتى بقي عليه قليل من الطعام، فأكله متأولاً بأنه، إن كان ما سبق أكلُهُ ناسياً لا يفطر مع أنه أكثر، فأقله لا يفطر تبعاً، وإن كان ما سبق مفطراً فهو الآن غير صائم فله أكل البقية، فهل يكون معذوراً بذلك؟ فالمذهب أنه غير معذور بالجهل فلا يكون هذا معذوراً، وعلى القول الراجح وهو العذر بالجهل يحتمل أن يكون معذوراً لتأوله، ويحتمل ألاّ يكون معذوراً لتفريطه؛ لأن الواجب عليه هنا أن يسأل، وعلى كل حال فقضاء الصوم أحوط، والله أعلم.
أوْ طَارَ إِلَى حَلْقِه ذُبَابٌ، أوْ غُبَارٌ،..........
قوله: «أو طار إلى حلقه ذباب، أو غبار» أي: فلا يفطر؛ لأنه بغير قصد، لكن لو طار إلى أقصى الفم فإنه يمكنه أن يخرجه، إنما لو ذهب إلى الحلق فلا يمكن أن يخرجه، وربما لو حاول إخراجه تقيأ، لذلك يعفى عنه، وكذلك إذا طار إلى حلقه غبار، فإنه لا يفطر؛ لعدم القصد، ولا يقال للعامل الذي يعمل في التراب لا تعمل وأنت صائم؛ لأنك لو عملت وأنت صائم لطار إلى حلقك غبار؛ لأننا نقول: إن طيران الغبار إلى حلقه ليس بمقصود، لكن أفلا يقال: ما دام هذا العمل سبباً لإفطاره لا يجوز أن يعمل؟
الجواب: ليس هذا سبباً لإفطاره؛ لأنه إذا طار إلى حلقه غبار بلا قصد فإنه لا يفطر.
أوْ فَكَّرَ فَأَنْزَلَ، أوْ احْتَلَمَ، أَوْ أَصْبَحَ فِي فِيهِ طَعامٌ فَلَفَظَهُ ...........
قوله: «أو فكر فأنزل» أي: فكر في الجماع، فأنزل سواء كان ذا زوجة ففكر في جماع زوجته، أو لم يكن ذا زوجة ففكر في الجماع مطلقاً، فأنزل فإنه لا يفسد صومه بذلك.
ودليله: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم» [(379)] وهذا لم يعمل، ولم يتكلم إنما حدث نفسه وفكر فأنزل.
وعُلم من كلامه «فكر فأنزل» أنه لو حصل منه عمل فإنه يفطر بأن تدلك بالأرض حتى أنزل، أو حرك ذكره حتى أنزل، أو قبل زوجته حتى أنزل، أو ما أشبه ذلك فإنه يفطر.
قوله: «أو احتلم» أي: فلا يفطر حتى لو نام على تفكير، واحتلم في أثناء النوم؛ لأن النائم غير قاصد، وقد رفع عنه القلم، وأحياناً يستيقظ الإنسان حينما يتحرك الماء الدافق، فهل يلزمه في هذه الحال أن يمسكه؟
الجواب: لا؛ لأنه انتقل من محله ولا يمكن رده؛ لأن حبسه بالضغط على الذكر مضر، كما لو تحركت معدته ليتقيأ، فإنه لا يلزمه أن يحبسها لما في ذلك من الضرر.
قوله: «أو أصبح في فيه طعام فلفظه» أي: لا يفسد صومه؛ لأنه لم يبتلع طعاماً بعد طلوع الفجر.
ويتصور ذلك إذا كان الإنسان مثلاً يأكل تمراً، وصار في أقصى فمه شيء من التمر، ولم يحس به إلا بعد طلوع الفجر ففي هذه الحال يلفظه، وصومه صحيح ولا بأس.
أوْ اغْتَسَلَ، أوْ تَمَضْمَضَ، أو اسْتَنْثَرَ أوْ زَادَ عَلَى الثَّلاَثِ، أَوْ بَالَغَ فَدَخَلَ المَاءُ حَلْقَهُ لَمْ يَفْسُدْ.
قوله: «أو اغتسل» أي: اغتسل فدخل الماء إلى حلقه، فإنه لا يفطر بذلك لعدم القصد.
قوله: «أو تمضمض» أي: فدخل الماء إلى حلقه، حتى وصل إلى معدته، فإنه لا يفطر؛ لعدم القصد.
قوله: «أو استنثر» والمراد استنشق؛ لأن الاستنثار يخرج الماء من الأنف، فإما أن يكون هذا من المؤلف سبقة قلم، أو سهواً، أو أراد الاستنثار بعد الاستنشاق، ولكن حتى لو أراد هذا لم يستقم؛ لأن الاستنثار إخراج ما في الأنف لا إدخال شيء إليه.
فإذا استنشق الماء في الوضوء مثلاً، ثم نزل الماء إلى حلقه فإنه لا يفطر لعدم القصد.
قوله: «أو زاد على الثلاث» أي: في المضمضة، أو الاستنشاق، فدخل الماء إلى حلقه، فإنه لا يفسد صومه.
وأتى المؤلف بقوله: «زاد على الثلاث» لأن ما قبل الثلاث في المضمضة والاستنشاق مشروع ومأذون فيه، والقاعدة عند العلماء أن ما ترتب على المأذون فليس بمضمون، فإذا تمضمض في الأولى والثانية والثالثة، فوصل الماء إلى حلقه، فإنه لا يفطر بذلك؛ لأنه لم يفعل إلا شيئاً مشروعاً، وهذا ترتب على شيء مشروع فلا يضر.
والزيادة على الثلاث في الوضوء إما محرمة، وإما مكروهة كراهة شديدة لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من زاد على ذلك فقد أساء وتعدى وظلم» [(380)] فأدنى أحوالها أنها مكروهة، فإذا زاد على الثلاث ووصل الماء إلى حلقه، فإنه لا يفطر لعدم القصد؛ لأنك لو سألت هذا الذي تمضمض أكثر من ثلاث، أتريد أن يصل الماء إلى حلقك؟ لقال: لا.
قوله: «أو بالغ فدخل الماء حلقه لم يفسد» أي: لو بالغ في الاستنشاق أو المضمضة، مع أنه مكروه للصائم أن يبالغ فيهما، ودخل الماء حلقه فإنه لا يفطر بذلك لعدم القصد.
تنبيه: ذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ ست مسائل علق الحكم فيها بوصول الماء إلى حلق الصائم، فجعل مناط الحكم وصول الماء إلى الحلق لا إلى المعدة، وظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية أن مناط الحكم وصول المفطر إلى المعدة، ولا شك أن هذا هو المقصود إذ لم يرد في الكتاب والسنة أن مناط الحكم هو الوصول إلى الحلق، لكن الفقهاء ـ رحمهم الله ـ قالوا: إن وصوله إلى الحلق مظنة وصوله إلى المعدة، أو إن مناط الحكم وصول المفطر إلى شيء مجوف والحلق مجوف.
مسألة: لو يبس فمه كما يوجد في أيام الصيف، ومع بعض الناس بحيث يكون ريقه قليلاً ينشف فمه، فيتمضمض من أجل أن يبتل فمه، أو تغرغر بالماء ونزل إلى بطنه، فلا يفطر بذلك؛ لأنه غير مقصود، إذ لم يقصد الإنسان أن ينزل الماء إلى بطنه، وإنما أراد أن يبل فمه، ونزل الماء بغير قصد.
ويتفرع على هذا هل يجوز للصائم أن يستعمل الفرشة والمعجون أو لا؟
الجواب: يجوز، لكن الأولى ألا يستعملهما؛ لما في المعجون من قوة النفوذ والنزول إلى الحلق، وبدلاً من أن يفعل ذلك في النهار يفعله في الليل، أو يستعمل الفرشة بدون المعجون.
وَمَنْ أَكَلَ شَاكّاً فِي طُلُوع الفَجْرِ صَحَّ صَوْمُهُ، لاَ إِنْ أَكَلَ شَاكّاً في غُرُوبِ الشَّمْسِ أَوْ مُعْتَقِداً أَنَّهُ لَيْلٌ فَبَانَ نَهَاراً.
قوله: «ومن أكل شاكاً في طلوع الفجر صح صومه» أي: من أتى مفطراً، وهو شاك في طلوع الفجر فصومه صحيح، لأن الله سبحانه وتعالى قال: {{فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}} [البقرة: 187] وضد التبين الشك والظن، فما دمنا لم يتبين الفجر لنا فلنا أن نأكل ونشرب؛ لقوله تعالى: {{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا}} [البقرة: 286] وهذا من الخطأ.
ولحديث أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ حيث أكلوا يظنون غروب الشمس، ثم طلعت[(381)]؛ وإذا كان هذا في آخر النهار فأوله من باب أولى؛ لأن أوله مأذون له في الأكل والشرب حتى يتبين له الفجر.
وهذه المسألة لها خمسة أقسام:
1 ـ أن يتيقن أن الفجر لم يطلع، مثل أن يكون طلوع الفجر في الساعة الخامسة، ويكون أكله وشربه في الساعة الرابعة والنصف فصومه صحيح.
2 ـ أن يتيقن أن الفجر طلع، كأن يأكل في المثال السابق في الساعة الخامسة والنصف فهذا صومه فاسد.
3 ـ أن يأكل وهو شاك هل طلع الفجر أو لا، ويغلب على ظنه أنه لم يطلع؟ فصومه صحيح.
4 ـ أن يأكل ويشرب، ويغلب على ظنه أن الفجر طالع فصومه صحيح أيضاً.
5 ـ أن يأكل ويشرب مع التردد الذي ليس فيه رجحان، فصومه صحيح.
كل هذا يؤخذ من قوله تعالى: {{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}} [البقرة: 187] .
وهل يقيد هذا فيما إذا لم يتبين أنه أكل بعد طلوع الفجر؟
الراجح أنه لا يقيد، حتى لو تبين له بعد ذلك أن الفجر قد طلع، فصومه صحيح بناءً على العذر بالجهل في الحال.
وأما على المذهب فإذا تبين أن أكله كان بعد طلوع الفجر فعليه القضاء بناءً على أنه لا يعذر بالجهل، والصواب أنه لا قضاء عليه ولو تبين له أنه بعد الصبح؛ لأنه كان جاهلاً؛ ولأن الله أذن له أن يأكل حتى يتبين، ومن القواعد الفقهية المقررة أن ما ترتب على المأذون فليس بمضمون، أي: ليس له حكم لأنه مأذون فيه.
قوله: «لا إن أكل شاكاً في غروب الشمس» أي: فلا يصح صومه؛ لأن الله يقول: {{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}} فلا بد أن يتم إلى الليل، ولقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أقبل الليل من هاهنا وأشار بيده إلى الشرق وأدبر النهار من هاهنا وأشار إلى المغرب وغربت الشمس» فلا بد أن تغرب الشمس «فقد أفطر الصائم» [(382)].
والفرق بين من أكل شاكاً في طلوع الفجر، ومن أكل شاكاً في غروب الشمس، أن الأول بانٍ على أصل وهو بقاء الليل، والثاني أيضاً بان على أصل وهو بقاء النهار، فلا يجوز أن يأكل مع الشك في غروب الشمس، وعليه القضاء ما لم نعلم أنه أكل بعد غروب الشمس، فإن علمنا أن أكله كان بعد الغروب، فلا قضاء عليه.
ويجوز أن يأكل إذا تيقن، أو غلب على ظنه أن الشمس قد غربت، حتى على المذهب إذا غلب على ظنه أن الشمس قد غربت، فله أن يفطر ولا قضاء عليه ما لم يتبين أنها لم تغرب.
مسألة: إن أكل ظاناً أن الشمس غربت، ولم يتبين الأمر فصومه صحيح، وهذا يؤخذ من قول المؤلف «شاكاً في غروب الشمس» فعُلم منه أنه لو أكل وقد ظن أن الشمس قد غربت، فإنه يصح صومه ما لم يتبين أنها لم تغرب.
فإن تبين أنها لم تغرب فالصحيح أنه لا قضاء عليه، والمذهب أن عليه القضاء.
فإن قال قائل: ما الدليل على أنه يجوز الفطر بالظن مع أن الأصل بقاء النهار؟
فالجواب: حديث أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ قالت: «أفطرنا في يوم غيم على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم» [(383)] وإفطارهم بناءً على ظن قطعاً؛ لقولها في هذا الحديث «ثم طلعت الشمس» ، فدل ذلك على أنه يجوز أن يُفطر بظن الغروب، ثم إن تبين أن الشمس غربت فالأمر واضح، أو لم يتبين شيء فالأمر أيضاً واضح، وإن تبين أنها لم تغرب وجب القضاء على المذهب، وعلى القول الراجح لا يجب القضاء.
مسألة: رجل غابت عليه الشمس وهو في الأرض وأفطر وطارت به الطائرة ثم رأى الشمس؟
نقول: لا يلزم أن يمسك؛ لأن النهار في حقه انتهى، والشمس لم تطلع عليه بل هو طلع عليها، لكن لو أنها لم تغب وبقي خمس دقائق ثم طارت الطائرة ولما ارتفعت، إذ الشمس باقٍ عليها ربع ساعة أو ثلث، فإن صيامه يبقى؛ لأنه ما زال عليه صومه.
قوله: «أو معتقداً أنه ليل فبان نهاراً» أي: لو أكل يعتقد أنه في ليل، فبان نهاراً لم يصح صومه، سواء من أول النهار أو آخره، أكل يعتقد أنه ليل بناءً على ظنه، أو بناءً على الأصل فبان نهاراً فعليه القضاء، فالفقهاء ـ رحمهم الله ـ لا يعذرون بالجهل ويقولون العبرة بالواقع.
مثاله: أكل السحور يعتقد أن الفجر لم يطلع، فتبين أنه طالع فالمذهب يجب عليه القضاء، وهذا يقع كثيراً، يقوم الإنسان من فراشه ويقرب سحوره ويأكل ويشرب، وإذا بالصلاة تقام فيكون قد أكل في النهار، فعليه القضاء على المذهب.
والقول الراجح أنه لا قضاء عليه وسبق دليله.
وكذلك إذا أكل يعتقد أن الشمس غربت، ثم تبين أنها لم تغرب فهو أكل يعتقد أنه في ليل فبان أنه في نهار، فيلزمه على المذهب القضاء، وعلى القول الراجح لا يلزمه.
ودليله حديث أسماء السابق، حيث لم يأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقضاء، وهذا دليل خاص، ومن الأدلة العامة قوله تعالى: {{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا}} [البقرة: 286] .
إذاً الفرق بين أول النهار وآخره، أنه يجوز في أول النهار الأكل مع الشك، وفي آخر النهار لا يجوز الأكل مع الشك.
مسألة: الناس الذين على الجبال أو في السهول والعمارات الشاهقة، كلٌ منهم له حكمه، فمن غابت عنه الشمس حل له الفطر، ومن لا فلا.
فَصْلٌ
وَمَنْ جَامَعَ فِي نَهَارِ رَمَضَان فِي قُبُلٍ أوْ دُبُرٍ فَعَلَيْهِ القَضَاءُ والكَفَّارَةُ، وَإِنْ جَامَعَ دُونَ الفَرجِ فأَنْزَلَ أَوْ كَانَتِ المرأةُ معذورةً أوْ جَامَعَ مَنْ نَوَى الصَّوْمَ فِي سَفَرِهِ أفْطَرَ وَلاَ كَفَّارَةَ.
قوله: «فصل» عقد المؤلف ـ رحمه الله ـ فصلاً خاصاً للجماع، لكونه أعظم المفطرات تحريماً وأكثرها تفصيلاً، ولهذا وجبت فيه الكفارة.
والجماع من مفطرات الصائم، ودليله الكتاب، والسنة، والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: {{فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}} [البقرة: 187] .
وأما السنة فستأتي.
وأما الإجماع فهو منعقد على أنه مفطر.
قوله: «ومن جامع في نهار رمضان» «من» من صيغ العموم؛ لأنها اسم شرط، فيشمل كل من جامع في نهار رمضان وهو صائم، وجوابها قوله (فعليه القضاء والكفارة) ، ولكن ليس هذا على العموم بل لا بد من شروط:
الشرط الأول: أن يكون ممن يلزمه الصوم، فإن كان ممن لا يلزمه الصوم، كالصغير، فإنه لا قضاء عليه ولا كفارة.
الشرط الثاني: ألاَّ يكون هناك مسقط للصوم، كما لو كان في سفر، وهو صائم، فجامع زوجته، فإنه لا إثم عليه، ولا كفارة، وإنما عليه القضاء فقط لقوله تعالى: {{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}} [البقرة: 185] .
مثال آخر: رجل مريض صائم وهو ممن يباح له الفطر بالمرض، لكنه تكلف وصام، ثم جامع زوجته فلا كفارة عليه، لأنه ممن يحل له الفطر.
الشرط الثالث: أن يكون في قبل أو دبر وإليه الإشارة.
بقوله: «في قبل أو دبر فعليه القضاء والكفارة» والقبل يشمل الحلال والحرام، فلو زنى فهو كما لو جامع في فرج حلال.
وقوله: «أو دبر» الجماع في الدبر غير جائز لكن العلماء يذكرون المسائل بقطع النظر عن كونها حلالاً أو حراماً.
وقوله: «فعليه القضاء» ؛ لأنه أفسد صومه الواجب فلزمه القضاء كالصلاة، وهذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم، وذهب بعض العلماء إلى أن من أفسد صومه عامداً بدون عذر، فلا قضاء عليه وليس عدم القضاء تخفيفاً، لكنه لا ينفعه القضاء، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ لكن لو قال قائل يرد على هذا القول: إنكم إذا قلتم بذلك فمعناه أن المفطرات لا فائدة منها؛ لأنكم تشترطون في المفطرات أن يكون متعمداً وأنتم تقولون: إذا أفطر متعمداً فلا قضاء فكيف ذلك؟
الجواب: نقول على هذا الرأي تكون المفطرات نافعة فيما إذا جاز الفطر لعذر، أما إذا كان لغير عذر فإن هذه المفطرات تفسد صومه ولا يلزمه القضاء، لكن جمهور أهل العلم على أنه يلزمه القضاء، ولو تعمد الفطر بخلاف الرجل الذي لم يصم ذلك اليوم أصلاً وتركه متعمداً، فإن الراجح ما ذهب إليه شيخ الإسلام من أنه لا ينفعه القضاء، والفرق بين هذه المسألة وبين من شرع في الصوم أن من شرع في الصوم فقد التزمه وألزم نفسه به، فإذا أفسده ألزم بقضائه كالنذر بخلاف من لم يصم أصلاً.
وقوله: «والكفارة» احتراماً للزمن، وبناء على ذلك لو كان هذا في قضاء رمضان، فعليه القضاء لهذا اليوم الذي جامع فيه وليس عليه كفارة؛ لأنه خارج شهر رمضان.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا فرق بين أن ينزل أو لا ينزل، فإذا أولج الحشفة في القبل أو الدبر، فإنه يلزمه القضاء والكفارة.
قوله: «وإن جامع دون الفرج فأنزل، أو كانت المرأة معذورة» هاتان مسألتان:
الأولى: إذا جامع دون الفرج فأنزل، فقد ذكر المؤلف أن عليه القضاء دون الكفارة، لأنه أفسد صومه بغير الجماع، ومثاله أن يجامع بين فخذي امرأته وينزل، وعن أحمد رواية أنه تلزمه الكفارة؛ لأن الإنزال موجب للغسل فكان موجباً للكفارة كالجماع، ولكن هذا القياس فيه نظر؛ لأن الإنزال دون الجماع وإن كان موجباً للغسل فلو أن إنساناً تمتع بامرأة حتى أنزل فإنه لا يقام عليه الحد ولو جامعها أقيم عليه الحد، ولو أن إنساناً باشر امرأة حتى أنزل، في الحج لم يفسد حجه بخلاف الجماع، ولو أنه فعل ذلك في الحج فأنزل لم يكن عليه بدنة على القول الراجح؛ لأنه دون الجماع فالإنزال دون الجماع بالاتفاق فلا يمكن أن يلحق به؛ لأن من شرط القياس مساواة الفرع للأصل، فإذا لم يساوه امتنع القياس، فالمذهب هو الصحيح في هذه المسألة.
الثانية: إذا كانت المرأة معذورة بجهل، أو نسيان، أو إكراه؛ فإن عليها القضاء دون الكفارة وسيأتي الكلام عليها.
وعُلم من قوله: «أو كانت المرأة معذورة» أنه لو كانت مطاوعة فعليها القضاء والكفارة كالرجل.
فإن قال قائل: ما الدليل على وجوب الكفارة بالجماع؟
فالجواب: حديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين «أن رجلاً أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: هلكت، قال: ما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان وأنا صائم، فسأله النبي صلّى الله عليه وسلّم هل تجد رقبة؟ فقال: لا، قال: هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: هل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا، ثم جلس الرجل، فجيئ إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بتمر فقال: خذ هذا تصدق به، قال: أعلى أفقر مني يا رسول الله، والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني، فضحك النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: «أطعمه أهلك»[(384)] فرجع إلى أهله بتمر.
فإن قال قائل: ما الدليل على وجوب الكفارة على المرأة، والنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يذكر في هذا الحديث أن على المرأة كفارة، مع أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يمكن، أي لا يمكن أن يؤخر النبي صلّى الله عليه وسلّم بيان الحكم مع دعاء الحاجة إليه؟
فالجواب: أن هذا الرجل استفتى عن فعل نفسه، والمرأة لم تستفت، وحالها تحتمل أن تكون معذورة بجهل أو إكراه، وتحتمل أن تكون غير معذورة، فلما لم تأت وتستفت سكت عنها النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يذكر أن عليها كفارة، والفتوى لا يشترطُ فيها البحث عن حال الشخص الآخر، ولهذا لما جاءت امرأة أبي سفيان للنبي صلّى الله عليه وسلّم تشتكيه بأنه لا ينفق لم يطلب أبا سفيان ليسأله، بل أذن لها أن تأخذ من ماله ما يكفيها ويكفي ولدها[(385)].
فإذا قال قائل: ما الدليل على الوجوب عليها؟ أليس الأصل براءة الذمة؟
فالجواب: الدليل على ذلك أن الأصل تساوي الرجال والنساء في الأحكام إلا بدليل، ولهذا لو أن رجلاً قذف رجلاً بالزنى لجلد ثمانين جلدة إذا لم يأت بالشهود، مع أن الآية في النساء {{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}} [النور: 4] .
فالمرأة مسكوت عنها فهي قضية عين لا يمكن أن تستدل بها على انتفاء الوجوب في حق المرأة، ولا على الوجوب ولكن القياس يقتضي أن تكون مثله، فإذا كان الفعل واحداً وكان موجباً لحد الزنى على المرأة، والحد كفارة للزاني فإنه يلزم أن يكون موجباً للكفارة هنا، كما يجب على الزوج وهذا هو الأقرب من أقوال أهل العلم، وبعض العلماء يقول لا كفارة عليها للسكوت عنها في الحديث، وبعضهم يقول: إذا أكرهت فكفارتها على الزوج لأنه هو الذي أكرهها، ولكن الصواب أنها إذا أكرهت لا شيء عليها.
فإذا قال قائل: ظاهر كلام المؤلف أنه لو كان الرجل هو المعذور بجهل أو نسيان فإنّ الكفارة لا تسقط عنه؟
قلنا: نعم هذا ظاهر قوله؛ لقوله: «أو كانت المرأة معذورة» ففهم منه أنه لو كان الرجل هو المعذور فإنّ الكفارة لا تسقط عنه، وهذا المشهور من المذهب.
والصحيح أن الرجل إذا كان معذوراً بجهل، أو نسيان، أو إكراه، فإنه لا قضاء عليه ولا كفارة، وأن المرأة كذلك إذا كانت معذورة بجهل أو نسيان أو إكراه، فليس عليها قضاء ولا كفارة.
والمذهب أن عليها القضاء، وليس عليها الكفارة، وهذا من غرائب العلم أن تعذر في أحد الواجبين دون الآخر؛ لأن مقتضى العذر أن يكون مؤثراً فيهما جميعاً، أو غير مؤثر فيهما جميعاً وقد علمت الصحيح في ذلك.
مسألة مهمة: وهي: أن الفقهاء ـ رحمهم الله ـ، قالوا: لا يمكن الإكراه على الجماع من الرجل، أي: لا يمكن أن يكره الرجل على الجماع؛ لأن الجماع لا بد فيه من انتشار وانتصاب للذكر، والمكره لا يمكن أن يكون منه ذلك.
فيقال: هذا غير صحيح؛ لأن الإنسان إذا هُدد بالقتل أو بالحبس أو ما أشبه ذلك، ثم دنا من المرأة فلا يسلم من الانتشار، وكونهم يقولون هذا غير ممكن نقول: بل هذا ممكن.
فإن قال قائل: الرجل الذي جاء إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم أليس جاهلاً؟
فالجواب: هو جاهل لما يجب عليه، وليس جاهلاً أنه حرام، ولهذا يقول «هلكت» [(386)]، ونحن إذا قلنا إن الجهل عذر، فليس مرادنا أن الجهل بما يترتب على هذا الفعل المحرم، ولكن مرادنا الجهل بهذا الفعل، هل هو حرام أو ليس بحرام، ولهذا لو أن أحداً زنى جاهلاً بالتحريم، وهو ممن عاش في غير البلاد الإسلامية، بأن يكون حديث عهد بالإسلام، أو عاش في بادية بعيدة لا يعلمون أن الزنى محرّم فزنى فإنه لا حدّ عليه، لكن لو كان يعلم أنّ الزنى حرام، ولا يعلم أن حده الرجم، أو أن حده الجلد والتغريب، فإنه يحد لأنه انتهك الحرمة، فالجهل بما يترتب على الفعل المحرم ليس بعذر، والجهل بالفعل هل هو حرام أو ليس بحرام، هذا عذر.
قوله: «أو جامع من نوى الصوم في سفره أفطر ولا كفارة» قوله: «من نوى الصوم في سفره» أي كان صائماً في سفره أفطر أي: فسد صومه بجماعه.
مثاله: إنسان مسافر سفراً يبيح الفطر فصام، ثم في أثناء النهار جامع زوجته، فهذا يُفطر لأنه جامع، والجماع من المفطرات وليس عليه كفارة؛ لأنه لم ينتهك حرمة الصوم حيث إن الصوم لا يجب عليه في السفر ويلزمه القضاء، وعليه فالذين يذهبون إلى العمرة في رمضان ويصومون هناك، ثم يجامع أحدهم زوجته في النهار ليس عليه كفارة؛ لأنه مسافر، والمسافر يباح له الفطر فيباح له الجماع والأكل، هذا إذا نوى أقل من أربعة أيام، أما إذا نوى أكثر من أربعة أيام، فالمسألة خلافية معروفة.
والصحيح أنه مسافر حتى لو أقام الشهر كله يجوز له الفطر.
وقوله: «أفطر ولا كفارة» هذا جواب الشرط وهو يشمل الصور الثلاث:
1 ـ إذا جامع دون الفرج فأنزل.
2 ـ إذا كانت المرأة معذورة.
3 ـ إذا جامع من نوى الصوم في سفره.
وإنْ جَامَعَ فِي يَوْمَيْنِ، أَوْ كَرَّرَهُ فِي يَوْمٍ وَلَمْ يُكَفِّر فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ في الثانية، وفي الأولَى اثْنَتَانِ، وإنْ جَامَعَ ثُمَّ كَفَّرَ، ثُمَّ جَامَعَ فِي يَوْمِهِ فَكَفَّارَةٌ ثَانِيَةٌ.
قوله: «وإن جامع في يومين، أو كرره في يوم ولم يكفر فكفارة واحدة في الثانية وفي الأولى اثنتان وإن جامع ثم كفر ثم جامع في يومه فكفارة ثانية» .
ذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ مسألتين:
المسألة الأولى: إذا جامع في يومين بأن جامع في اليوم الأول من رمضان، وفي اليوم الثاني فإنه يلزمه كفارتان، وإن جامع في ثلاثة أيام فثلاث كفارات، وإن جامع في كل يوم من الشهر فثلاثون كفارة أو تسع وعشرون حسب أيام الشهر؛ وذلك لأن كل يوم عبادة مستقلة، ولهذا لا يفسد صوم اليوم الأول، بفساد صوم اليوم الثاني.
وقيل: لا يلزمه إلا كفارة واحدة إذا لم يكفر عن الأول وهو وجه في مذهب الإمام أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة؛ وذلك لأنها كفارات من جنس واحد فاكتفي فيها بكفارة واحدة، كما لو حلف على أيمان متعددة ولم يكفر، فإنه إذا حنث في جميعها فعليه كفارة واحدة، وكما لو أحدث بأحداث متنوعة، فإنه يجزئه وضوء واحد، ويقال هذا أيضاً في كفارة الظهار إذا لم يكفر عن الأول.
وأما قتل النفس فتتعدد الكفارة؛ لأنها عوض عن النفس، كما لو قتل المحرم صيوداً في الحرم.
وهذا القول وإن كان له حظ من النظر والقوة، لكن لا تنبغي الفتيا به؛ لأنه لو أفتي به لانتهك الناس حرمات الشهر كله، لكن لو رأى المفتي الذي ترجح عنده عدم تكرر الكفارة مصلحة في ذلك، فلا بأس أن يفتي به سراً، كما يصنع بعض العلماء فيما يفتون به سراً كالطلاق الثلاث.
المسألة الثانية: إذا جامع في يوم واحد مرتين، فإن كفر عن الأول لزمه كفارة عن الثاني، وإن لم يكفر عن الأول أجزأه كفارة واحدة؛ وذلك لأن الموجَب والموجِب واحد، واليوم واحد، فلا تتكرر الكفارة.
ومذهب الأئمة الثلاثة وهو قول في المذهب لا يلزمه عن الثاني كفارة؛ لأن يومه فسد بالجماع الأول، فهو في الحقيقة غير صائم، وإن كان يلزمه الإمساك، لكن ليس هذا الإمساك مجزئاً عن صوم، فلا تلزمه الكفارة؛ لأن الكفارة تلزم إذا أفسد صوماً صحيحاً، وهذا القول له وجه من النظر أيضاً.
مثاله: رجل جامع في أول النهار بعد طلوع الشمس بربع ساعة، ثم كفر بعتق رقبة، ثم جامع بعد الظهر، فعلى المذهب يلزمه كفارة ثانية؛ لأنه كفر عن الأولى، وهو الآن وإن كان ليس صائماً صوماً شرعياً لكنه يلزمه الإمساك، وعلى القول الثاني لا تلزمه الكفارة؛ لأن الجماع لم يرد على صوم صحيح، وإنما ورد على إمساك فقط، وإذا تأملت المسألة وجدت أن القول الثاني أرجح وأنه لا يلزمه بعد أن أفسد صومه كفارة؛ لأنه ليس صائماً الآن، أما الإمساك فيلزمه الإمساك؛ لأن كل من أفطر لغير عذر حرم عليه أن يستمر في فطره.
ولا فرق بين أن يكون الجماع واقعاً على امرأة واحدة أو اثنتين؛ فلو جامع الأولى في أول النهار، والثانية في آخره، ولم يكفر عن الأول، فعليه كفارة واحدة.
وَكَذَا مَنْ لَزِمَه الإِمْسَاكُ إِذَا جَامَعَ وَمَنْ جَامَعَ وَهُوَ مُعَافَى، ثُمَّ مَرِضَ، أوْ جُنَّ، أَوْ سَافَرَ لَمْ تَسْقُطْ. .........
قوله: «وكذا من لزمه الإمساك إذا جامع» أي: وكالصائم الذي كرر الجماع أو فعله مرة واحدة من لزمه الإمساك إذا جامع.
هذا له صور منها:
لو قامت البينة في أثناء النهار بدخول الشهر، وكان الرجل قد جامع زوجته في أول النهار قبل أن يعلم بالشهر، فيجب عليه القضاء، وتجب عليه الكفارة، لأنه لزمه الإمساك في هذا اليوم، ولذلك يقول الفقهاء: يكره للإنسان أن يجامع زوجته في يوم الثلاثين من شعبان؛ لاحتمال أن تقوم البينة أثناء النهار، ثم يلزم بالكفارة، وهذا القول ضعيف لقوله تعالى: {{فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}} [البقرة: 187] ولقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتموه فصوموا» [(387)].
ومنها لو كان الرجل مسافراً وكان مفطراً فقدم إلى بلده، فالمذهب يلزمه أن يمسك، مع أن هذا الإمساك لا يعتد به، ولو جامع فيه فإن عليه الكفارة؛ لأنه يلزمه الإمساك.
ومثل ذلك أيضاً إذا كان مريضاً يباح له الفطر وقد أفطر، ثم شفاه الله وزال عنه المرض الذي استباح به الفطر، فإنه على المذهب يلزمه الإمساك، فإن جامع فعليه الكفارة.
وكذلك بالنسبة للمرأة لو طهرت من الحيض في أثناء النهار فيلزمها على المذهب الإمساك، فلو جامعها زوجها الذي يباح له الفطر فعليها الكفارة.
والقول الثاني: أنه لا يلزمهم الإمساك؛ لأن هذا اليوم في حقهم غير محترم، إذ إنهم في أوله مفطرون بإذن من الشرع، وليس عندنا صوم يجب في أثناء النهار، إلا إذا قامت البينة، فهذا شيء آخر وعلى هذا لا تلزمهم الكفارة إذا حصل الجماع.
وهذا هو القول الراجح، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «من أفطر أول النهار فليفطر آخره» [(388)] أي: من أبيح له أن يفطر في أول النهار، أبيح له أن يفطر في آخر النهار.
تنبيه: ظاهر قوله: من لزمه الإمساك إذا جامع، يشمل ما إذا جامع في أول النهار قبل ثبوت دخول الشهر، ثم ثبت دخوله بعد ذلك فيلزمه الإمساك والكفارة، والصحيح أن الكفارة لا تلزمه لأنه جاهل.
مسألة: من أفسد صومه بالأكل والشرب، يجب عليه الإمساك والقضاء مع الإثم، ولو جامع زوجته فعليه الكفارة؛ لأن أكله وشربه محرم عليه.
قوله: «ومن جامع وهو معافى، ثم مرض، أو جن، أو سافر لم تسقط» .
هذه عكس المسألة السابقة، أي: أنه جامع وهو معافى صائم، ثم مرض في أثناء النهار بمرض يبيح له الفطر فتلزمه الكفارة، مع أنه في آخر النهار يباح له أن يفطر، لكن هو حين الجماع كان ممن لم يؤذن له بالفطر فلزمته الكفارة.
وكذلك أيضاً من جامع وهو عاقل، ثم جن في أثناء النهار، فالصوم يبطل بالجنون وعليه الكفارة؛ لأنه حين الجماع من أهل الوجوب.
وكذلك من جامع في أول النهار، ثم سافر في أثنائه، فإنه يباح له الفطر، وتلزمه الكفارة.
فإذا قال: قد أذن لي بالفطر آخر النهار فلا كفارة علي، كالذي أذن له بالفطر أول النهار وجامع في آخره ورجحتم أنه لا كفارة عليه فما الفرق؟
فالجواب: أن الفرق ظاهر جداً، فأنت حينما جامعت لم يؤذن لك بالفطر، بل أنت ملزم بالصوم، وما طرأ من العذر فهو طارئ بعد انتهاكك لحرمة الزمن، فظهر الفرق.
وَلاَ تَجِبُ الكَفَّارَةُ بِغَيْرِ الجِمَاعِ فِي صِيَامِ رَمَضَانَ. ........
قوله: «ولا تجب الكفارة بغير الجماع في صيام رمضان» أراد المؤلف ـ رحمه الله ـ أن يبين ما تجب به الكفارة من المفطرات، فبين أنها لا تجب بغير الجماع في صيام رمضان فهذان شرطان:
الأول: أن يكون مفسد الصوم جماعاً، والثاني: أن يكون في صيام رمضان، ونزيد شرطين آخرين أحدهما: أن يكون الصيام أداء، والثاني: أن يكون ممن يلزمه الصوم.
فلا تجب الكفارة بالجماع في صيام النفل، أو في صيام كفارة اليمين، أو في صيام فدية الأذى، أو في صيام المتعة لمن لم يجد الهدي، أو في صيام النذر، ولا تجب الكفارة إذا جامع في قضاء رمضان، ولا تجب إذا جامع في رمضان وهو مسافر، ولا تجب الكفارة في الإنزال بقبلة، أو مباشرة، أو نحو ذلك؛ لأنه ليس بجماع.
وإنما نص المؤلف على هذه المسألة مع أن الأصل عدمها، وقد ذكرت سابقاً؛ لأن الفقهاء إذا نفوا حكماً معلوماً انتفاؤه، فإنما يريدون الإشارة إلى الخلاف أي خلافاً لمن قال بذلك، وهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الفطر بالإنزال كالجماع لأنه من جنسه فيقولون: تجب الكفارة فيما إذا أفطر بالإنزال من مباشرة أو تقبيل أو ما أشبه ذلك، وهو رواية عن الإمام أحمد ولكنها ضعيفة.
القول الثاني: أنه إذا قصد انتهاك حرمة رمضان، فإنه يلزمه القضاء والكفارة، لأن هذا لم يقصد مجرد الفطر بل قصد انتهاك الحرمة وهذا ضعيف أيضاً.
القول الثالث: أن الكفارة لازمة بالأكل والشرب إن كان للغذاء أو للدواء بخلاف الأكل والشرب الذي ليس للدواء ولا للغذاء، فإنه يفطر لكن ليس فيه كفارة، وكل هذه أقوال مبنية على آراء ليس لها أصل لا من الكتاب ولا من السنة، والصواب أن الكفارة لا تجب إلا بالجماع في نهار رمضان؛ لأن الكفارة لم ترد إلا في هذه الحال، والأصل براءة الذمة وعدم الوجوب، فنقتصر على ما جاء به النص فقط.
وظاهره أن الكفارة تجب بالجماع، وإن لم يحصل إنزال، وهو كذلك؛ لأن الكفارة مرتبة على الجماع؛ لقوله في حديث الأعرابي: «وقعت على امرأتي» فجعل العلة الوقاع ولم يذكر الإنزال.
مسألتان:
الأولى: قال في الروض: «والنزع جماع»: أي لو كان الرجل يجامع زوجته في آخر الليل، ثم أذن مؤذن، وهو ممن يؤذن على طلوع الفجر، فنزع في الحال، فإنه يترتب عليه ما يترتب على الجماع من القضاء والكفارة، وهذا من غرائب العلم؛ فكيف يكون الفارُّ من الشيء كالواقع فيه؟!! ولهذا كان القول الراجح أنه ليس جماعاً بل توبة، وأنه لا يفسد الصوم وليس عليه كفارة.
الثانية: وقال في الروض أيضاً: «والإنزال بالمساحقة كالجماع»؛ والمساحقة تكون بين المرأتين، فلو أنزلتا فليس عليهما إلا القضاء، ولا كفارة، وإن أنزلت إحداهما فعليها القضاء فقط دون الكفارة، هذا على الصحيح.
وَهْيَ عِتْقُ رَقْبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِيِّنَ مِسْكِيناً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سَقَطَتْ.
قوله: «وهي» أي: كفّارة الوطء في نهار رمضان.
قوله: «عتق رقبة» أي: فكّها من الرّق، ووجه المناسبة هو أنّ هذا الرجل لمّا جامع في نهار رمضان مع وجوب الصوم عليه استحقّ أن يعاقب ففدى نفسه بعتق الرقبة.
قوله: «فإن لم يجد» يعني إن لم يجد رقبة، أو لم يجد ثمنها.
قوله: «فصيام شهرين متتابعين» : «فصيام» الفاء رابطة للجواب وصيام مبتدأ وخبره محذوف، والتقدير فعليه صيام شهرين متتابعين بدلاً عن عتقه الرقبة.
قوله: «فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً» أي: فعليه إطعام ستين مسكيناً، والمسكين هنا يشمل الفقير والمسكين؛ لأن الفقير والمسكين إذا ذكرا جميعاً كان الفقير أشد حاجة، وإذا أفرد أحدهما عن الآخر صارا بمعنى واحد، فإذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا.
ودليل ذلك أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال للرجل الذي قال إنّه أتى أهله في رمضان «اعتق رقبة»، فقال: لا أجد، قال: صم شهرين متتابعين، فقال: لا أستطيع، قال: أطعم ستين مسكيناً، قال: لا أجد»[(389)] فجعلها النبي صلّى الله عليه وسلّم مرتبةً، وهذه أغلظ الكفّارات، ويساويها كفّارة الظهار الذي وصفه الله بأنّه منكر من القول وزور، ويليها كفّارة القتل؛ لأن القتل ليس فيه إلاّ خصلتان، العتق والصيام وليس فيه إطعام.
وقوله: «صيام شهرين متتابعين» هل المعتبر الأهلّة، أو المعتبر الأهلّة في شهر كامل والأيام في الشهر المجَزَّأ؟
في هذا قولان للعلماء، والصحيح أن المعتبر الأهلّة؛ سواء في الشهر الكامل، أو في الشهر المجَزَّأ.
فإن قيل: ما الفرق بين القولين؟
فالجواب: يظهر ذلك بالمثال، فإذا ابتدأ الإنسان هذين الشهرين من أول ليلة ثبت فيها الشهر ـ ولنقل إنّه شهر جُمادى الأولى ـ ابتدأه من أول يوم منه فيختمه في آخر يوم من شهر جمادى الآخرة، ولنفرض أن جُمادى الأولى تسعة وعشرون يوماً، وكذلك جمادى الآخرة ـ فيكون صومه ثمانية وخمسين يوماً، وهذا لا شك أنّه يعتبر بالهلال.
لكن إذا ابتدأ الصوم من نصف شهر جمادى الأولى فجمادى الآخرة معتبرة بالهلال لأنّه سوف يدرك أوّل الشهر وآخر الشهر فيعتبر بالهلال يقيناً.
أما الشهر الثاني الذي ابتدأهُ بالخامس عشر من جُمادى الأولى فيكمله ثلاثين يوماً، ويكون آخر صومه اليوم الخامس عشر من رجب على القول الثاني الذي يعتبر الشهر المجزأ ثلاثين يوماً، أمّا على القول الراجح الذي يعتبر الأهلّة مطلقاً: فإنّ آخر أيام صومه هو الرابع عشر من شهر رجب، إذا كان شهر جمادى الأولى تسعة وعشرين يوماً؛ فإذا قدرنا أن شهر جمادى الأولى ناقص، وكذلك شهر جمادى الثانية فيكون صومه ثمانية وخمسين يوماً.
وقوله: «متتابعين» أي: يتبع بعضهما بعضاً بحيث لا يفطر بينهما يوماً واحداً، إلاّ لعذر شرعيّ كالحيض والنفاس بالنسبة للمرأة، وكالعيدين وأيام التشريق، أو حسّي كالمرض والسفر للرجل والمرأة بشرط ألا يسافر لأجل أن يفطر، فإن سافر ليفطر انقطع التتابع.
وقول المؤلّف: «فإطعام ستين مسكيناً» : هنا قدّر الطاعم دون المُطعم فهل المطعم مقدّر؟
المشهور من المذهب أنّه مُقدّر وهو مدٌّ من البر أو نصف صاع من غيره لكل مسكين، والمد ربع الصاع، أعني صاع النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعلى هذا فتكون الأصواع لستين مسكيناً خمسة عشر صاعاً بصاع النبي صلّى الله عليه وسلّم، من البر، وصاع النبي صلّى الله عليه وسلّم ينقص عن الصاع المعروف الآن هنا في القصيم الخمس، وعلى هذا يكون الصاع في القصيم خمسة أمداد، ويكون إطعام ستين مسكيناً اثني عشر صاعاً بأصواع القصيم.
وقيل: بل يطعم نصف الصاع من البر أو غيره، واحتج هؤلاء بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لكعب بن عجرة ـ رضي الله عنه ـ حين حلق رأسه في العمرة، قال: «أطعم ستّة مساكين لكل مسكين نصف صاع» [(390)] وأطلق، ولم يقل من التمر أو من البر، وهذا يقتضي أن يكون المقدر نصف الصاع، وإذا كان كذلك فزد على ما قلنا النصف، فيكون بالنسبة لصاع النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثين صاعاً، وبالنسبة لصاعنا أربعة وعشرين صاعاً.
والأمر في هذا قريب، فلو أن الإنسان احتاط وأطعم لكل مسكين نصف صاع لكان حسناً.
وقيل: إنه لا يتقدر بل يطعم بما يعد إطعاماً فلو أنه جمعهم وغداهم أو عشاهم أجزأ ذلك؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال للرجل الذي جامع أهله في نهار رمضان: هل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً[(391)]؟ وهذا هو الصحيح.
مسألة: الطعام والمُطْعَم ينقسم في الشرع إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما قُدر فيها الطعام دون المطعم.
الثاني: ما قدر فيها المطعم دون الطعام.
الثالث: ما قدر فيها الطعام والمطعم.
مثال الأول: زكاة الفطر فإنها صاع من طعام تعطى لواحد أو اثنين أو تجمع صاعين أو ثلاثة لواحد، لا مانع.
مثال الثاني: هذه المسألة ومثل كفارة اليمين.
مثال الثالث: مثل فدية الأذى، كحلق الرأس في الإحرام، قال تعالى: {{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}} [البقرة: 196] وانظر إلى الآية يقول الله: {{صَدَقَةٍ}} لم يقل أو إطعام وبينها الرسول صلّى الله عليه وسلّم فقال لكعب بن عجرة: تطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع[(392)]، والمشهور من المذهب يقولون إن الإطعامات المطلقة تحمل على هذا المقيد، فكل إطعام لا بد أن يكون نصف صاع، لكن يقال لهم: أنتم تقولون نصف صاع من غير البر، ومدٌّ من البر، مع أن حديث كعب بن عجرة نصف صاع مطلقاً، فأنتم الآن قستم ولا قستم، والصواب أن ما لم يُقيد يكفي فيه الإطعام.
قوله: «فإن لم يجد سقطت» أي: الكفّارة، ودليل ذلك من الكتاب، والسنّة، أمّا من الكتاب فقوله تعالى: {{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا}} [الطلاق: 7] ، وهذا الرجل الفقير ليس عنده شيءٌ فلا يكلّف إلاّ ما آتاه الله، والله ـ عزّ وجل ـ بحكمته لم يؤته شيئاً، ودليل آخر قوله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] ، ودليلٌ ثالثٌ العموم، عموم القاعدة الشرعيّة، وهي أنّه لا واجب مع عجزٍ، فالواجبات تسقط بالعجز عنها، وهذا الرجل الذي جامع لا يستطيع عتق الرقبة ولا الصيام ولا الإطعام، نقول إذاً لا شيء عليك وبرئت ذمّتك.
فإن أغناه الله في المستقبل فهل يلزمه أن يكفر أو لا؟
فالجواب: لا يلزمه لأنها سقطت عنه، وكما أنّ الفقير لو أغناه الله لم يلزمه أن يؤدي الزكاة عمّا مضى من سنواته لأنّه فقير فكذلك هذا الذي لم يجد الكفارة إذا أغناه الله تعالى لم يجب عليه قضاؤها.
أمّا الدليل من السنّة فهو أن الرجل لمّا قال: (لا أستطيع أن أطعم ستين مسكيناً) لم يقل النبي صلّى الله عليه وسلّم أطعمهم متى استطعت، بل أمره أن يطعم حين وجد، فقال: (خذ هذا تصدّق به، فقال: أعلى أفقر مني يا رسول الله... فقال: أطعمه أهلك)، ولم يقل: والكفارة واجبة في ذمتك، فدل هذا على أنها تسقط بالعجز.
وقال بعض العلماء: إنها لا تسقط بالعجز، واستدلوا بالحديث، قالوا: لأن الرجل قال: لا أجد، فلمّا جاء النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم التمرُ، قال: خذ هذا تصدّق به، ولو كانت ساقطة بالعجز لم يقل خذ هذا تصدّق به.
فيقال: الجواب: إِنَّ هذا وجده في الحال، يعني وجده في المجلس الذي أفتاه النبي صلّى الله عليه وسلّم به، فكان كالواجد قبل ذلك، ولهذا لمّا قال: أطعمه أهلك، لم يقل: وعليك كفّارة إذا اغتنيت.
والقول الراجح أنّها تسقط، وهكذا أيضاً نقول في جميع الكفارات، إذا لم يكن قادراً عليها حين وجوبها فإنها تسقط عنه، إمّا بالقياس على كفارة الوطء في رمضان، وإما لدخولها في عموم قوله تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] {{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا}} [الطلاق: 7] وما أشبه ذلك، وعلى هذا فكفّارة الوطء في الحيض إذا قلنا: إن الوطء في الحيض يوجب الكفّارة، فإنّها تسقط.
وفدية الأذى إذا لم يجد ولم يستطع الصوم تسقط، وهكذا جميع الكفارات بناءً على ما استدللنا به لهذه المسألة، وبناءً على القاعدة العامة الأصوليّة التي اتفق عليها الفقهاء في الجملة، وهي أنّه (لا واجب مع عجز).
والغريب أن بعض العلماء سلك مسلكاً غريباً وقال: إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال له: «أطعمه أهلك» أي: كفارة، لا أنه دفعٌ لحاجتهم، وهذا ليس بصواب لأمرين:
أولاً: أنه لا يمكن أن يكون الرجل مصرفاً لكفارته كما لا يكون مصرفاً لزكاته، أرأيت لو أن شخصاً عنده دراهم تجب فيها الزكاة، وهو مدين فإنه لا يصرف زكاته في دينه، وهذا أيضاً لا يمكن أن يصرف كفارته لنفسه.
ثانياً: أن الكفارة إطعام ستين مسكيناً، وهذا الرجل ـ الذي يظهر والله أعلم ـ أنه ليس عنده إلا زوجته أو ولد أو ولدان أو أكثر، ولو كانت كفارة لقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: هل عندك ستون شخصاً تعولهم حتى يثبت الأمر فهذا المسلك مسلك ضعيف.
والمذهب لا يسقط من الكفّارات بالعجز إلاّ اثنتان: كفّارة الوطء في الحيض، وكفّارة الوطء في رمضان، وباقي الكفارات لا تسقط بالعجز بل تبقى في ذمته؛ لأن الدين لا يسقط بالعجز عنه أرأيت لو أن شخصاً يطلبك دراهم وعجزت، فلا يسقط دينه بل يبقى في ذمتك، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «دين الله أحق بالقضاء» [(393)].
مسألة: كلما جاءت الرقبة مطلقة فلا بد من شرط الإيمان؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما جاء معاوية بن الحكم يستفتيه في جارية غضب عليها ولطمها فأراد أن يعتقها، فدعاها الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقال: أين الله؟ فقالت: في السماء، فقال: اعتقها فإنها مؤمنة [(394)]؛ ولأن إعتاق الكافرة قد يستلزم ذهابها إلى الكفار؛ لأنها تحررت فتذهب إلى بلاد الكفر ولا يرجى لها إسلام.
مسألة: اشتراط سلامة الرقبة من العيوب فيه خلاف:
فقيل بالاشتراط، وقيل: لا نشترط سوى ما اشترط الله وهو: الإيمان، واستدل من قال بالاشتراط، أن إعتاق المعيب عيباً يخل بالعمل خللاً بيناً فإن إعتاقه يكون به عالة على غيره، وعدم إعتاقه أحسن له.
والمسألة تحتاج لتحرير، لكن الذي يظهر لي أنه لا يشترط.
------------------------------------
[356] أخرجه أبو داود في الطهارة/ باب في الاستنثار (142)، والنسائي في الطهارة/ باب المبالغة في الاستنشاق (1/66) والترمذي في الصوم/ باب ما جاء في كراهية مبالغة الاستنشاق للصائم... (788)، وصححه ابن خزيمة (150)، وابن حبان (1087).
[357] «الإنصاف» (3/299).
[358] «حقيقة الصيام»، ص(37).
[359] أخرجه أحمد (2/498)؛ وأبو داود في الصيام/ باب الصائم يتقيء عمداً (2380)؛ والترمذي في الصوم/ باب ما جاء فيمن استقاء عمداً (720)؛ وابن ماجه في الصيام/ باب ما جاء في الصائم يقيء (1676)؛ والنسائي في «الكبرى» (3117)؛ وصححه ابن خزيمة (1960)؛ وابن حبان (3518)؛ والحاكم (1/427)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[360] «المحلى» (6/203).
[361] أخرجه البخاري في الصوم/ باب فضل الصوم (1894)؛ ومسلم في الصيام/ باب حفظ اللسان للصائم (1151) (164) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[362] أخرجه مسلم في الزكاة/ باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (1006) عن أبي ذر رضي الله عنه.
[363] أخرجه البخاري في العلم/ باب من استحيا فأمر غيره بالسؤال (132)، ومسلم في الحيض/ باب المذي (303) عن علي رضي الله عنه.
[364] أخرجه الإمام أحمد (5/351)؛ وأبو داود في النكاح/ باب في ما يؤمر به من غض البصر (2149)؛ والترمذي في الأدب/ باب ما جاء في نظرة الفجاءة (2777)؛ والحاكم (2/194)، عن بريدة رضي الله عنه ولفظه: «وليست لك الآخرة».
وقال الترمذي: «حسن غريب»، وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي وحسنه الألباني في «غاية المرام» (183).
[365] أخرجه البخاري في العتق/ باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه (2528)؛ ومسلم في الإيمان/ باب إذا هم العبد بحسنة (127) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[366] أخرجه البخاري في الصوم/ باب الحجامة والقيء للصائم (1938).
[367] أخرجه البخاري في الصوم/ باب الحجامة والقيء للصائم (1940).
[368] أخرجه أحمد (4/123)؛ وأبو داود في الصيام/ باب في الصائم يحتجم (2368)؛ والنسائي في «السنن الكبرى» (3126) ط/الرسالة؛ وابن ماجه في الصيام/ باب ما جاء في الحجامة للصائم (1681)؛ وصححه ابن حبان (3533)؛ والحاكم (1/428).
وقال عبد الله بن أحمد في مسائله (682): «سمعت أبي يقول: هذا من أصح حديث يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في إفطار الحاجم والمحجوم».
ونقل الحاكم عن إسحاق بن راهويه تصحيحه، وصححه علي بن المديني والبخاري كما في «التلخيص» للحافظ (2/193).
وقال النووي في «شرح المهذب» (6/350): «على شرط مسلم»، وانظر في طرق هذا الحديث «السنن الكبرى» للنسائي.
[369] «المبدع» (3/16).
[370] سبق تخريجه ص(287).
[371] «حقيقة الصيام» ص(81، 82، 83، 84).
[372] وللإمام أحمد مفردات منظومة شرحها الشيخ منصور البهوتي، وهي مفيدة.
[373] أخرجه ابن ماجه في الطلاق/ باب طلاق المكره والناسي (2043) عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ، ولفظه: «إن الله تجاوز لي عن أمتي...»؛ وأخرجه عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ (2045) ولفظه: «إن الله وضع عن أمتي...» وصححه ابن حبان (7219)، وصححه الحاكم (2/198) على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
[374] أخرجه البخاري في الصوم/ باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً (1933)؛ ومسلم في الصيام/ باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر (1155).
[375] أخرجه البخاري في الأذان/ باب التشهد في الآخرة (831) ومسلم في الصلاة/ باب التشهد في الصلاة (402) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[376] وقد تقدم الكلام على هذا الشرط عند قول المؤلف: «عامداً».
[377] أخرجه البخاري في التفسير/ باب {{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}} (4509)؛ ومسلم في الصيام/ باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر (1090) عن عدي بن حاتم رضي الله عنه.
[378] سبق تخريجه ص(333).
[379] سبق تخريجه ص(377).
[380] أخرجه أحمد (2/180)؛ وأبو داود في الطهارة/ باب الوضوء ثلاثاً ثلاثاً (135)؛ والنسائي في الطهارة/ باب الاعتداء في الوضوء (1/88)؛ وابن ماجه في الطهارة/ باب ما جاء في القصد من الوضوء وكراهية التعدي (422)؛ وصححه ابن خزيمة (174)؛ وصححه الحافظ في «التلخيص» (82).
[381] سبق تخريجه ص(333).
[382] أخرجه البخاري في الصوم/ باب متى يحل فطر الصائم (1954)؛ ومسلم في الصيام/ باب بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار(1100) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[383] سبق تخريجه ص(333).
[384] أخرجه البخاري في الصوم/ باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر (1936)؛ ومسلم في الصيام/ باب تحريم الجماع في شهر رمضان... (1111).
[385] أخرجه البخاري في البيوع/ باب من أجرى الأمصار على ما يتعارفون بينهم... (2211)؛ ومسلم في الأقضية/ باب قضية هند(1714) عن عائشة رضي الله عنها.
[386] سبق تخريجه ص(402).
[387] سبق تخريجه ص(303).
[388] أخرجه ابن أبي شيبة (3/54).
[389] سبق تخريجه ص(402).
[390] سبق تخريجه ص(185).
[391] سبق تخريجه ص(402).
[392] سبق تخريجه ص(185).
[393] سبق تخريجه ص(46).
[394] أخرجه مسلم في المساجد/ باب تحريم الكلام في الصلاة (537).