المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شرح مقدمة التفسير للعلامة محمد ابن صالح العثيمين رحمه الله



أبو يوسف عبدالله الصبحي
08-Jul-2010, 02:54 PM
بسم الله الرحمن الرحيم


المقدمة




رب يسر وأعن برحمتك




الحمد لله نستعينه ونستغفره ،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً.

الشرح

هذه الخطبة تسمي خطبة الحاجة، يخطبها الإنسان عندما يريد أن يتكلم عن حاجة يريدها ، سواء كانت زواجاً أو أي شيء مما يحتاجه من أمور دينه ودنياه، ولهذا تسمي خطبة الحاجة، وهذه الخطبة ننبه على فقرات فيها.
فقوله: (مَنْ يَهْدِه اللَّهُ فلا مضل له) أي من يقدر له الهداية فلا أحد يستطيع أن يضله ، وكذلك لا أحد يستطيع أن يخرجه من الهداية إذا هدى هداية التوفيق.
وقوله :( ومَنْ يُضْلِلِ فَلا هَادِيَ لَهُ ) أي : من يقدر له الضلالة فلا أحد يهديه، سواء كان في الضلالة وأراد أحد أن ينتشله منها أم لا .
وقوله: ( أَشْهَدُ) مع أن الأفعال التي قبلها لضمير العظمة: ( إن الحمد لله نستعينه ونسنغفره) قالوا: لأن الإفراد يناسب التوحيد ( وأشهد أن لا إله إلا الله)، هذا توحيد لله عز وجل، فالأنسب أن يوحد لفظ الفعل ( أشهد) ولا يؤتي بالنون الدالة على العظمة ، أو على المتكلم ومعه غيره.

فقد سألني بعض الإخوان أن أكتب له مقدمة تتضمن قواعد كليه، تعين على فهم القرآن ومعرفة تفسيره ومعانيه والتمييز - في منقول ذلك ومعقوله- بين الحق وأنواع الأباطيل ، والتنبيه على الدليل الفاصل بين الأقاويل.
الشرح

يعني المؤلف (1) بهذا الكلام أن تأليفه للكتاب له سبب، وسببه سؤال بعض الإخوان أن يكتب له في هذا الموضوع، والتأليف قد يكون ابتدائيا من المؤلف، حين يرى حاجة الناس إلي موضوع معين، فيكتب فيه، وقد يكون له سبب مثل سؤال بعض الناس له أن يكتب في هذا الموضوع المعين ، فالأول يكون مسؤولاً بلسان الحال، والثاني يكون مسؤولاً بلسان المقال.
فإن العالم إذا رأى الناس محتاجين إلي شيء وألفَ فيه، فإن حال الناس تستدعي أن يبين لهم هذا الأمر الذي وقعوا فيه، حتى يعرفوا حكمه ، ويتعبدوا لله فيه على بصيرة، وكذلك قد يسأل عن أمر معين.
يقول المؤلف: (قواعد كليه)، القواعد جمع قاعدة، وهي أساس الشيء، ومنها قواعد البيت أي أساساته، فهي الأساسات التي تعين على فهم القرآن، وحينئذ نعرف أن هذه القواعد قواعد في التفسير؛ لتفسير القرآن، لأن فهم القرآن أحد الأمور الثلاثة التي قصدت بإنزال القرآن.
فالقرآن الكريم نزل لأمور ثلاثة: التعبد بتلاوته، وفهم معانيه والعمل به، ولهذا كان الصحابة - رضي الله عنهم- لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها، وما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً.
أما لفظ القرآن فلا يكاد يشكل على أحد ، أو يعسر عليه؛ لأنه يقرؤه العامي والعالم والمتعلم، وأما فهمه فهو الذي يحتاج إلي تعلم وتفكر وتدبر، وأما العمل به فهو أشد على النفوس وأعظم؛ لأن النفس تحتاج إلي مجاهدة في إلزامها بما تقتضيه الحال؛ من تصديق الخبر، وامتثال الأمر، واجتناب النهي. وتأمل قوله تعالي: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ) (صّ:29) حتى يتبين لك أنه لا بد من فهم القرآن، ولابد من العمل به.
وقول المؤلف رحمه الله في هذا المقام: ( ومعرفة تفسيره ومعانيه) كل هذا من باب عطف التفسير أو عطف المترداف ، كقول الشاعر:
فألفى قولها كذباً ومينا

وذلك لأن فهم القرآن ومعرفة تفسيره ومعانيه أمور متقاربة، وإن كان فهم القرآن يتضمن فهم معناه،وفهم حكمه وأسراره، لأن القرآن له معاني،ولهذا المعاني والأحكام حكم واسرار، ثم قد يقال : إن التفسير غير المعنى، فالتفسير تفسير اللفظ، والمعنى هو ما يراد بالكلام، وسيأتي من ذلك أمثلة إن شاء الله.
فالتفسير هو تفسير اللفظ فقط، كأن يفسر هذه الكلمة كما فسرها صاحب القاموس، فمثلاً قوله تعالي: ( أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا )(الأنعام: 158) ، تفسيرها اللفظي أن تقول: يوم يأتي شيء من آيات الله الدالة على قدرته مثلا والمراد بها طلوع الشمس من مغربها، فهنا صار فرق بين المعني اللفظي، أي: التفسير اللفظي والتفسير المعنوي الذي يراد ، ولهذا فالقرآن يفسر على الناحيتين تفسيراً لفظياً مطابقاً للفظ فقط، وتفسيراً معنوياً، وهو ما يراد به ، ثم قد يتوافقان وقد يختلفان.
فالمهم أننا إذا أردنا أن نجعل العطف في كلام المؤلف على التأسيس لا التوكيد والترداف، فنقول: إن فهم القرآن يريد به الحكم والأسرار التي يتضمنها ، ومعرفة تفسيره، يعني اللفظ فقط، ومعانيه، أي: معرفة المراد به.
وقوله: ( والتمييز في منقول ذلك ومعقوله بين الحق وأنواع الأباطيل) أفاد المؤلف- رحمه الله- أن تفسير القرآن نوعان: نقلي وعقلي، ولكن يجب أن يكون التفسير العقلي غير مخالف للتفسير النقلي؛ لأن التفسير النقلي مقدم عليه، وذلك لأن العقول يلحقها من الشبهات والشهوات ما يحرمها الوصول إلي معرفة الحق بخلاف المنقول، ومع ذلك ففي المنقول شيء من الباطل ، ففيه إسرائيليات كثيرة أدخلت في التفسير، وفيه أحاديث موضوعه وضعيفة أدخلت أيضاً في التفسير، فاحتاج الإنسان إلي أن يعرف ما يميز بين الحق وأنواع الأباطيل.
وقوله: (والتنبيه على الدليل الفاصل بين الأقاويل) ، أي: سواء كان الدليل نقلياً أم عقلياً؛ لأنه يجب أن نعتبر الدليل العقلي في القرآن ما لم يخالف المنقول ، وإلا فالعقل لا شك أن له مدخلاً كبيراً في فهم القرآن ولهذا يأمرنا عز وجل بالتفكير في كثير من آيات القرآن الكريم، بل إن التدبر في قوله تعالي: ( لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِه)(صلي الله عليه وسلم:29) ، يدخل فيه المعنى العقلي الذي يدركه الإنسان بعقله.




* * *



فإن الكتب المصنفة في التفسير مشحونة بالغث والسمين، والباطل الواضح والحق المبين.
والعلم إما نقل مصدق عن معصوم، وإما قول عليه دليل معلوم، وما سوى ذلك فإما مزيف مردود، وإما موقوف لا يعلم أنه بهرج ولا منقود.

الشرح

(العلم الحقيقي هو إما نقل مصدق عن معصوم) وهو الرسول صلي الله عليه وسلم وإما قول عليه دليل معلوم، يعني قول لبعض من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، لكن عليه دليل معلوم من المعقول أو المنقول، ولهذا نحن نثبت دليل القياس، وهو من الدليل العقلي.
وهذه ينبغي أن نجعلها قاعدة لمعرفة العلم الحقيقي، فالعلم إما نقل مصدق عن معصوم، وإما قول عليه دليل معلوم.
وما سوى ذلك فإما مزيف مردود، وإما موقوف لا يعلم أنه بهرج ولا منقود في هذا الكلام سجع، والسجع إذا لم يكن متكلفاً فإنه لا شك يزين الكلام ويحببه إلي النفس ، ولهذا يقع أحياناً في كلام الرسول عليه الصلاة والسلام لكن بدون تكلف.
والمؤلف يقول: (وما سوي ذلك) المشار إليه أي: النقل المصدق عن معصوم والقول الذي عليه دليل( فإما مزيف مردود) وهذا يكون في مقابل النقل المصدق ، ( وإما موقوف لا يعلم أنه بهرج ولا منقود ) يعني أننا نتوقف فيه.
فالأقسام حينئذ ثلاثة: ما علمت صحته وهو الأول، وما علم بطلانه وهو الثاني، وما يجب التوقف فيه وهو الثالث، الذي لا نعلم هل هو من النقل المصدق عن معصوم ، أو من القول الذي عليه دليل معلوم، أو أنه مزيف ومردود، فلا نعلم هذا ولا هذا، فالأول مقبول، والثاني مردود، والثالث متوقف فيه.
والبهرج هو المغشوش ، وبهرج النقود من الذهب والفضة هي المغشوشة ، والمنقودة أي : السالمة من الغش.



* * *



وحاجة الأمة ماسة إلى فهم القرآن الذي هو حبل الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق على كثيرة الترديد ولا تنقضي عجائبه.
الشرح

هنا يقول المؤلف- رحمه الله-: إن الناس محتاجون إلي فهم كتاب الله ، وهذا واضح ، فحاجة الناس إلي فهم كتاب الله ظاهرة جداً، فإنهم في حاجة بل في ضرورة إلي فهم كتاب الله؛ لأنه الكتاب الذي أمروا باتباعه، والإنسان لو يؤمر باتباع كتاب مؤلف من المؤلفين احتاج إلي معرفته وشرحه فكيف بكتاب الله عز وجل.
ثم وصف المؤلف القرآن الكريم بعدة أوصاف ، فقال عنه: (( الذي هو حبل الله المتين)) حبل الله لأن الله تعالي هو الذي وضعه، والحبل في الأصل: ما يتوصل به إلي غيره، كالسبب تقريباً؛ ولهذا فسر قوله تعالي: ( فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ )(الحج: 15)، أي: بحبل ووصف بأنه حبل الله لأنه موصل إلي الله عز وجل.
ووصفه بقوله: (( والذكر الحكيم)) وقد أخذ المؤلف- رحمه الله- هذا الوصف من قول الله تعالي: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) (آل عمران:58) ، فهو ذكر، لأنه مذكر، وهو ذكر، لأن فيه الذكري لمن تمسك به ورفع ذكره، كما قال تعالي: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِك)(الزخرف: 44)يعني رفعة وشرفاً. والحكيم : معناه المحكم أو المتضمن للحكمة البالغة في أحكامه.
وقوله: ((والصراط المستقيم)) الصراط معناه الطريق، والمستقيم معناه المعتدل الذي ليس فيه ميل.
وقوله: (( والذي لا تزيغ به الأهواء)) الزيغ: معناه الميل، ومنه: زاغت الشمس إذا مالت، يعني أن أهواء الناس مهما عظمت لا يمكن أن تزيغ به، بل إنه باق ثابت مهما سلط الناس عليه من الأهواء فإنها لا تزيغ به لأنه هدى.
وقوله: (( ولا تلتبس به الألسن)) تلتبس: أي تختلط ، لأنه بلسان عربي مبين فلا يمكن أن تختلط به الألسن، ولهذا حتى الإنسان الأعجمي لو قرأه يقرؤه بلسان عربي، ولهذا كان من غير الممكن أن يترجم القرآن ترجمة حرفية أبداً.
وقوله: (( ولا يخلق من كثرة الترديد)) معني يخلق: أي يبلى، فهو على جدته، مهما كرره الإنسان فكأنه لم يقرأه من قبل ، لكن الإنسان إذا كرر أبلغ قصيدة من قصائد العرب- من المعلقات السبع أو غيرها- أو كرر أبلغ خطبة خطبها الخطباء كما يكرر القرآن لمل وسئم ، لكن من القرآن ما نقرؤه في الصلاة الواحدة أكثر من مرة ومع ذلك لا نمل، وهذه من آيات الله عز وجل في هذا القرآن الكريم.
وقوله: (( ولا تنقضي عجائبه)) لا تنقضي عجائبه لمن أعطاه الله تعالي فهماً لكتابه، فإنه يتذوق فيه المعاني العظيمة الكثيرة، أما المعرض عنه فإنه قد لا يرى فيه عجباً واحداً، لكننا هنا نصف القرآن من حيث هو قرآن، بقطع النظر عن القارئ.



* * *



ولا يشبع منه العلماء من قال به صدق ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي صراط مستقيم، ومن تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله.
الشرح

كل هذه الأوصاف حق يعرفها المتأمل ، فإن العلماء لا يشبعون منه، وكلما كان الإنسان بالله أعلم وبشرعه أعلم كان لكتابه أحب، فتجده دائماً يفكر ويتدبر هذا القرآن ، سواء كان في مجلس العلم، أو وهو يمشي، أو في أي مكان، فالإنسان لا يشبع منه أبداً.
وكذلك أيضاً: (( من قال به صدق)) لأنه قال قولاً هو أصدق الأقوال،فإذا قال قائل: إن الكافر في نار جهنم فقد صدق؛ لأنه قال بماء جاء به القرآن.
وقوله : (( ومن عمل به أجر)) يعني أثيب على عمله.
وقوله: (( ومن حكم به عدل)) من حكم به عدل سواء كان الحكم فصلاً بين الناس ،أو كان هذا الحكم حكماً مطلقاً فمن قال: إن الميتة حرام، فقد عدل ، ومن قال: إنه يجب العدل بين الزوجات مثلاً فقد عدل؛ لأن هذا الحكم في القرآن، ومن قال: ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ )(البقرة:194) ،فقد عدل.
كذلك يقول: (( ومن دعا إليه هدي إلي صراط مستقيم))، يعني هداه الله، فالإنسان إذا دعا إلى القرآن ، فقد هدي إلي صراط مستقيم، أما إذا دعا إلي الهوي، وحرف القرآن من أجل هواه فإنه يضل، ولهذا قال: (( ومن ابتغي الهدى في غيره أضله الله)).
(( ومن تركه من جبار قصمه الله))ومعني قصمه: في الأصل يغني قطع ظهره، ولكن لا يرد علينا أننا نجد من الجبابرة الآن من ترك القرآن،لأننا نقول: إن القصم قد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة، فهذا إن فاته في الدنيا لم يفته في الآخرة.




* * *



قال تعالي: ( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاى فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى(123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً(125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (طـه:123-126).




الشرح



قوله: ( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ ) هذه الجملة جملة شرطية، لأن أصلها إن ما، وما زائدة للتوكيد، وفعل الشرط: يأتينكم ، وجواب الشرط جملة: ( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاى) وهذه الجملة أيضاً جملة شرطية ، فالجملة الشرطية الثانية- من فعل الشرط وجوابه- جواب للشرط الأول.
وقوله تعالي: ( فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) أي: لا يضل في علمه ، ولا يشقي في عمله ، وقيل: لا يضل في الدنيا ولا يشقي في الآخرة ، والمعنيان متلازمان، لكن الغالب أن الضلال في مقابلة العلم والهدي، وأن الشقاء في مقابلة السعادة.
وقوله تعالي: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طـه:124) قيل : إن المراد بالمعيشة الضنك عذاب القبر، وأنه يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه.
وقيل: إن المراد بالمعيشة الضن معيشته في الدنيا، وأنه وإن كان في سرور ظاهر، فإن قلبه في ضيق وضنك، كما قال الله تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء)(الأنعام:125) وكما قال تعالى: .(مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً )(النحل:97) ،فإن هذا يدل على أن من ليس كذلك فحياته غير طيبة.
وقوله تعالي:( وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) ، وذلك حساً ومعني، ولهذا يقول: ( رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) (قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا)يعني تركتها ولم تعمل بها،( وَكَذَلِكَ الْيَوْم تُنْسَى) يعني تترك.
والشاهد أن هذا فيه دليل على أن التمسك بهذا القرآن سبب للسعادة في الدنيا والآخرة، وأن المتمسك به لا يضل ولا يشقى، وأن الإعراض عنه سبب للشقاء في الدنيا والآخرة.





·* *




وقال تعالي: ( قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)(15) (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة:15-16) .



الشرح




علم من هذا القرآن موحى به، وأنه سبب الهداية بإذن الله، وأن المهتدي به من اتبع رضوان الله،كما قال تعالي: ( هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)(البقرة: م2)وقال تعالي: (يَايُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (يونس:57).
ثم يقول: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ)(المائدة: 16 ) وسبل السلام مفعول ثان ليهدي ، لأن((يهدي)) فعل ينصب مفعولين؛ الأول: من اتبع، والثاني: سبل السلام.
وفي هذه الآية قال تعالي: ((يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ)) مع أن سبيل الله واحد كما قال الله تعالي: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)(الأنعام: 153) والجمع بين الآيتين أن يقال: إن سبيل الحق واحد، لكن له فروع وشعب، من صلاة، وزكاة، وصوم، وحج، وجهاد، وبر، وصلة وما أشبه ذلك ، فهذه سبل لكنها تجتمع كلها في سبيل واحد، وأيضاً لا يمكن أن تطلق سبل ويراد بها الإسلام، وإنما تضاف كما في قوله: (سُبُلَ السَّلامِ) فإذا كانت كلها مؤدية إلي السلام فهي الإسلام.
وقوله عز وجل: ( وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِه) أي : المعنوية ؛ لأن القرآن هدايته معنوية، فيخرجهم من الظلمات أي: ظلمات الجهل، وظلمات القصد ، وظلمات الجهل ألا يكون عند الإنسان علم، وظلمات القصد أن يكون عنده علم لكن لا يريد الحق ولا يؤمن به، إذاً فالنور نور العلم ونور العمل.
وقوله: ( بِإِذْنِه) في الآية:(يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ) قد يقول قائل: كيف قال الله تعالى يهدي به بإذنه مع أن الله تعالى لا يهدي إلا بعد أن يريد؟ فيقال: إن قوله: ( بِإِذْنِه) متعلق بقوله : ((مَنِ اتَّبَعَ )) يعني من اتبع رضوانه بإذنه؛ لأن الإنسان لا يستقل بعمله ولا رأيه، فهو لا يفعل إلا بإذن الله.
وقوله تعالي: ( وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، هذا من باب عطف الصفة، لأن قوله (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ) هو معني قوله تعالي : (وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) إلا أن تفسر الهداية الأولي بهداية التوفيق،والثانية بهداية الدلالة ، ولهذا عديت الثانية بإلي وعديت الأولي بنفسها، ويكون المعني: أن من اهتدي بالإسلام زاده الله تعالي علماً، كما في قوله تعالي: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً)(محمد: 17).




* **



وقال تعالي: (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(1)اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ )(ابراهيم: 1-2).




الشرح



هذا كالأول تقريباً لكن فيه فائدة ، وهي صحة إضافة الشيء إلي سببه المعلوم لقوله: لِتُخْرِجَ يعني أنت، مع أن المخرج حقيقة هو الله، ولهذا قيده بقوله: (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) ، حتى لا يظن أن السبب مستقل ، فإضافة الشي إلي سببه المعلوم أمر جائز ، ولا أحد ينكره، فقد جاءت به السنة، وجاء به القرآن إذا كان السبب معلوماً، إما بالشرع وإما بالحس والواقع، ولكن هذا السبب يجب إذا اعتقدت أنه يحصل به الشي فيجب أن تعلم أن هذا السبب ليس مؤثراً بنفسه، بل بإذن الله الذي جعله سبباً، ولهذا قال هنا: (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) .
وقوله : (الْحَمِيدِ) بوزن الفعيل، وهل هو بمعني فاعل أو بمعني مفعول أو بمعناهما؟ الجواب أنه بمعناهما،فهو محمود سبحانه وتعالى على أفعاله وصفاته، وهو حامد لعباده الذين يستحقون الحمد والثناء.
وقوله: (اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأرْضِ ) لفظ الجلالة هنا بدل من العزيز.



* * *



وقال تعالي: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ (52) مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (الشورى:52-53) .



الشرح



قال تعالي: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا) ،(رُوحاً ) أي القرآن، وسماه الله تعالي روحاً، لأن به الحياة المعنوية، وإن شئت فقل الحقيقية أيضاً، لأن من اهتدي به فإن له الحياة الكاملة في الدنيا وفي الآخرة.
وقوله (رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا ) يعني مما نأمر به ونوحي به، وبهذا استدللنا على أن القرآن غير مخلوق، من قوله (ًمِنْ أَمْرِنَا) ووجه ذلك أن الله قال في آية أخري : (ِأَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر) فجعل الأمر قسيماً للخلق، والقرآن من الأمر لا من الخلق، فتبين بهذا أن القرآن غير مخلوق.
وقوله: ( مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ ) فالفعل تدري ينصب مفعولين علقت بما الاستفهامية ، وما: استفهام مبتدأ، والكتاب خبر، والجملة من المبتدأ والخبر في محل نصب سد مسد مفعولي تدري ؛ لأن الرسول صلي الله عليه وسلم ما كان يدري ما الكتاب ولا الإيمان قبل أن يوحي إليه.
وقوله: ( وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ ) يعني: صيرنا هذا الروح الذي أوحينا إليك نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا، وكلمة ( مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) عامة، ولا ندري من الذي يشاء الله أن يهديه بالقرآن، لكن إذا رجعنا إلي الآية التي قبلها صار الذي يهديه به الله من اتبع رضوانه من عباده.
وقوله :( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، قال هنا (نَهْدِي بِهِ ) وفي نفس الآية:( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي) ..لكن بين الهدايتين فرق، ( نَهْدِي بِهِ) هداية توفيق وهداية ولابة، ولهذا عديت بنفسها (تهدي به من) ، وأما ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاط) فهي هداية دلالة، فالرسول صلي الله عليه وسلم يهدي لله ، ولا يهدي من، قال تعالى: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت)(القصص: من الآية56) ، لكن ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاط) فهو عليه الصلاة السلام يدل الناس، لكن ليس بيده هداية التوفيق.
يقول تعالي: (صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْض) هنا أضيف الصراط إلي الله عز وجل وقد أضيف في سورة الفاتحة إلي غير الله، فقال تعالي(صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ولا تعارض بين الإضافتين ، فإن إضافته إلي الله باعتبار أنه هو الذي وضعه لعباده، وأنه موصل إليه، وإضافته إلي الناس في قوله: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) باعتبار أنهم أهله وسالكوه، فالإضافة مختلفة، فلهذا صح أن تضاف إلي هذا تارة وإلي هذا تارة.
وقوله:(أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) الأمور هنا أي الشؤون ، فكل الأمور الدنيوية والأخروية ، الشرعية والكونية، كلها تصير إلي الله سبحانه وتعالي، ولهذا لا مرجع للخلق إلا ربهم سبحانه وتعالي، في جميع أحوالهم وشؤونهم الدينية والدنيوية ، كما قال تعالي: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ)(الشوري:10) وكذلك الأمور الكونية (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (88)(سَيَقُولُونَ لِلَّه)(المؤمنون: من الآية88-89) .
وتصدير الجملة بألا في قوله تعالي: ( أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) للتنبيه الدال على الأهمية، وتقديم المتعلق يفيد الحصر، يعني: ألا إلي الله لا إلي غيره.




·* *



وقد كتبت هذه المقدمة مختصرة بحسب تيسير الله تعالى من إملاء الفؤاد، والله الهادي
إلى سبيل الرشاد.



الشرح



يقول المؤلف: (( وقد كتبت هذه المقدمة))، والمقدمة يجوز فيها وجهان: المقدمة
والمقدمة فالمقدمة باعتبار أن الكتاب قدمها بين يدي الكاتب، والمقدمة باعتبار أنها تقدمه للكتاب ، كأنها تقدم الكتاب.



* * *



(1) هو شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن الإمام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن أبي محمد بن عبدالله بن أبي القاسم بن محمد بن الخضر بن على بن عبد الله بن تيمية الحراني، ولد في 661هـ،وتوفي في 728هـ.
المصدر: موقع الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله

أبو يوسف عبدالله الصبحي
08-Jul-2010, 02:56 PM
فصل
في أن النبي صلي الله عليه وسلم بيَّن لأصحابه معاني القرآن

يجب أن يعلم أن النبي صلي الله عليه وسلم بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه؛ فقوله تعالي: ( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(النحل: 44) يتناول هذا وهذا.




الشرح

وكذلك قوله تعالي: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) (القيامة:19)، يتضمن هذا وهذا، أي: بيان لفظه وبيان معناه، وفي هذا رد واضح على أهل التفويض، الذين يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين معاني أسماء الله وصفاته، فإننا نقول لهم: قولكم هذا إما أن تعنوا أن الرسول صلي الله عليه وسلم جاهل بمعاني أسماء الله وصفاته،وإما أنه كاتم لما يعلمه من ذلك، فإن قلتم بالأول وصفتموه بالجهل، وإن قلتم بالثاني وصفتموه بالخيانة.
وقوله : ( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) اللام هذه للتعليل ، يعني لأجل هذا، وليست للأمر، والدليل على أنها ليست للأمر أن الفعل بعدها منصوب.




* * *

وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن، كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يحاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً (1)ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة.
وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدً في أعيننا (2)




الشرح

يعني صار جليلاً معظماً؛ لأنهم لا يحفظونه إلا إذا عرفوا معناه، معني ذلك أن الإنسان إذا كان يحفظ البقرة لفظاً ومعنى، وآل عمران لفظاً ومعنى ، فعنده علم كبير .



* * *

وأقام ابن عمر على حفظ البقرة عدة سنين- قيل: ثماني سنين- ذكره مالك (3)وذلك أن الله تعالي قال: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (صّ:29) وقال: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن)(محمد: 24) ، وقال: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْل)(المؤمنون:68) وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن، وكذلك قال تعالي: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف:2) وعقل الكلام متضمن لفهمه.



الشرح

قوله تعالي: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) فبركة القرآن في تلاوته وتدبره، والعمل به، وما يحصل فيه من التأثير على القلب لزيادة الإيمان ، ومعرفة الله عز وجل وأسمائه وصفاته وأحكامه، وكذلك ما حصل فيه من التأثير على الأمم، حيث فتح الله بهذا القرآن مشارق الأرض ومغاربها كل هذا من بركاته، وكذلك ما حصل للمتمسكين به من الرفعة والعزة والظهور على جميع الأمم، وكذلك ما يحصل للمتمسك به من صحة القصد، وسلامة المنهج ، والسعادة في الدنيا والآخرة،فالمهم أن بركات هذا القرآن لا تحصى.
وقوله: (لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) ، هذا فيه ثناء عظيم على من تذكر بالقرآن واتعظ به، وأنه هو صاحب اللب، أي العقل.
وقوله تعالي: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن) هذا فيه حث على تدبر القرآن؛ لأن الله وبخ هؤلاء الذين لا يتدبرونه، وقوله تعالي: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْل) كذلك، والمراد بالقول هنا القرآن، واقرأ قوله تعالي: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (المؤمنون 68،69) .فأتى بالقرآن وأتى بالسنة : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (المؤمنون:69) .
وقال تعالي: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف:2) لعل هذه للتعليل ، وتعقلون يعني تفهمونه فهماً كاملاً؛ لأنه من المعلوم أنه لو نزل على العرب بلغة غير العربية، ما عقلوه ولا فهموه، والعقل يأتي بمعني الفهم، كما قال الله تعالي: ( وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(البقرة: 75) .





1* *

ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك.
وأيضاً فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتاباً في فن من العلم، كالطب والحساب ولا يستشرحوه . فكيف بكلام الله تعالى الذي هو عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم؟!




الشرح

هذا كلام صحيح، فإننا لو كنا مثلاً ندرس كتاب زاد المستقنع، ونقرؤه ثم نمشي فإننا لا نستفيد، وكذلك لو قرأنا كتاباً مثلا في الطب أو في الكيمياء أو ما أشبه ذلك، بأن نقرأ ونمشي ، فإننا لن نستفيد أبداً، فلقد جرت العادة المؤكدة أنه لا يمكن أن نقرأ أي كتاب إلا ونستشرحه، بأن نطلب من يشرحه لنا، وإلا صارت قراءتنا له عبثاً.
ولا يقال إن القرآن يختلف عن ذلك لكون الإنسان يثاب على تلاوته، فيقال إن القرآن له جهتان: جهة تعبد وجهة عمل وتنفيذ ، فالأولى قد تحصل بأن يتعبد الإنسان لله عز وجل بقراءة القرآن. لكن الثانية التي نزل من أجلها (لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) مفقودة في حق من لم يعرف معني القرآن ولم يتعظ به.




* * *

ولهذا كان النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلاً جداً، وهو إن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة، فهو قليل بالنسبة إلى من بعدهم، وكلما كان العصر أشرف كان الاجتماع والائتلاف والعلم والبيان فيه أكثر.




الشرح

وجه كون النزاع في التفسير في الصحابة أقل لسبين:
السبب الأول: أن القرآن نزل بلغتهم التي لم تتغير، فكانوا أفهم الناس لمعانيه ، وأفضل له، ثم تغيرت الألسن بعدهم.
السبب الثاني: قلة الأهواء فيهم وسلامة قصدهم ، فما تجد الرجل ينتصر لهواه ورأيه، ولكن كان الواحد منهم لا يقصد إلا الحق أينما وجده أخذه ، حتى أن الخليفة يرجع إلي الحق الذي ذكرته به امرأة من النساء ، ولم يقل أنا الخليفة لا يرد علي فأنا أعلم منها ولم يقل: أنا لي السلطة.
فلهذين السببين كان الخلاف بين الصحابة- رضوان الله عليهم- في تفسير كلام الله أقل.
ثم جاء التابعون من بعدهم فحصل نقص لا في السبب الأول ولا في السبب الثاني، بل إن التابعين كثرت الفتوح في زمنهم، واختلط العربي بالعجمي وتغيرت الألسن، وقد ذكر أن أول تأليف للنحو كان في عهد على بن أبي طالب رضي الله عنه.
وقد كثرت الأهواء والفتن وانتصار الإنسان لرأيه ، حتى أدى ذلك إلي التطاحن والتقاتل بين المسلمين، وعلى هذا فيكون الخلاف بينهم في تفسير كلام الله أكثر من الخلاف بين الصحابة، ثم كلما بعد العهد عن عصر النبوة، صار البلاء أشد، والتباس بالباطل الحق أعظم، وكما نجد الآن في زماننا ، كل عمود في مسجد تحته عالم يرى نفسه أنه ابن تيمية، وكل خيمة في مني فيها عالم يرى نفسه أنه أحمد بن جنبل أو الشافعي.
ولهذا كثرت الأهواء حتى إنك لتجد في المسألة التي ليس فيها فيما سبق إلا قول واحد أو قولان، تجد فيها عدة أقوال؛ لأن العلم قليل والهوى كثير، فترتب على نقص العلم وكثرة الهوى الضياع والخلاف والشقاق وعدم الائتلاف.



* * *

ومن التابعين من تلقى جميع التفسير عن الصحابة ، كما قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس ، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها؛ ولهذا قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، ولهذا يعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري وغيرهما من أهل العلم، وكذلك الإمام أحمد وغيره ممن صنف في التفسير، يكرر الطرق عن مجاهد أكثر من غيره.
والمقصود أن التابعين تلقوا التفسير عن الصحابة كما تلقوا عنهم علم السنة، وإن كانوا قد يتكلمون في بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال كما يتكلمون في بعض السنن بالاستنباط والاستدلال.




الشرح

وهذا أمر لابد منه، يعني كون التابعين يزيدون على الصحابة في الاستدلال والاستنباط أمر لابد منه وضروري؛ لأنه حدثت أمور لم تكن معهودة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، وهكذا كلما طرأت أمور جديدة لم ينص على عينها في الكتاب والسنة فلا بد من أن يكون هناك استنباط واستدلال لعلماء العصر، حتى يطبقوها على ما في الكتاب والسنة؛ لأن الكتاب والسنة لم يأتيا بكل مسألة تحدث بعينها إلي يوم القيامة.
إذ لو أتى بذلك لكان المصحف أكبر مما هو عليه مائة مرة، وأيضاً لأتى الناس بما لا يعرفونه ، فمثلاً ستحدث عن الشيكات وعن البنوك وعن التأمينات، ومثل هذه الأشياء يتحدث عنها في عهد الصحابة وهم لا يعرفون ذلك، أما الآن فكلما حدثت أمور وجدت صار لعلماء المسلمين من النظر والاستدلال والاستنباط ما لم يكن لغيرهم، حتى يطبقوها على ما يقتضيه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .



* * *


(1) رواه بن أبي شيبة (6/ 117)
(2) رواه أحمد في المسند (3م120، 121، 122)
(3) رواه مالك في الموطأ (1م205)

أبو يوسف عبدالله الصبحي
08-Jul-2010, 02:57 PM
فصل


في اختلاف السلف في التفسير وأنه اختلاف تنوع

الخلاف بين السلف في التفسير قليل، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد وذلك صنفان:


الشرح

هنا أثبت المؤلف أن السلف قد يكون بينهم خلاف في تفسير القرآن، لكن خلافهم في تفسير القرآن أقل من خلافهم في الأحكام، لأن تفسير القرآن هو تبيين ألفاظه، معناها والمراد بهان وهذا شيء يقل فيه الخلاف، لكن الأحكام مبينة على الاجتهاد والنظر والقياس ، فصار الاختلاف فيها أكثر من الاختلاف في التفسير،وذلك لاختلاف الناس في العلم والفهم.
وقد سبق لنا القول بأن هناك فرقاً بين التفسير بالمعنى والتفسير باللفظ، فتفسير اللفظ شيء وتفسير المعني الذي يراد بالآية شيء آخر، يعنى أن اللفظ يفسر بمعناه بحسب الكلمة، ويفسر بالمراد به بحسب السياق والقرائن.
والفرق بين اختلاف التنوع واختلاف التضاد: أن اختلاف التضاد لا يمكن الجمع فيه بين القولين؛ لأن الضدين لا يجتمعان.
واختلاف التنوع يمكن الجمع فيه بين القولين المختلفين؛ لأن كل واحد منهما ذكر نوعاً، والنوع داخل في الجنس، وإذا اتفقا في الجنس فلا اختلاف.
وعلى ذلك فاختلاف التضاد معناه أنه لا يمكن الجمع بين القولين لا بجنس ولا بنوع، ولا بفرد من باب أولى، واختلاف التنوع معناه أنه يجمع بين القولين في الجنس ويختلفان في النوع ، فيكون الجنس اتفق عليه القائلان ولكن النوع يختلف، وحينئذ لا يكون هذا اختلافاً ؛ لأن كل واحد منهما ذكر نوعاً كأنه على سبيل التمثيل.
وسيذكر المؤلف أمثلة لذلك، لكننا لا بد لنا أن نعرف الفرق بين اختلاف التنوع واختلاف التضاد.


* * *

أحدهما : أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى، بمنزلة الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة.


الشرح

اختلاف التنوع جعله المؤلف صنفين:
الأول: أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، والضمير في قوله: (( منهم)) هنا يعود على الصحابة ، بل على السلف أعم، ليشمل الصحابة والتابعين ، فيعبر بعبارة غير عبارة صاحبه، لكن تدل على معني في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى ، فهما اتفقا على المراد لكن عبر كل واحد منهما عنه بتعبير غير الأول، وإلا فهما متفقان ، كما لو قال قائل في تعريف السيف: هو المهند، وقال الثاني: السيف هو الصارم، وقال الثالث: السيف ما تقطع به الرقاب ، وما أشبه ذلك، فهذا في الحقيقة ليس بخلاف.
وكذلك لو قال إنسان : الغضنفر الأسد، وقال الثاني: الغضنفر القسورة، وقال الثالث: الغضنفر الليث ، وما أشبه ذلك، فليس هذا خلافاً ولا تنوعاً أيضاً ، لكن كل لفظه تدل على معني لا تدل عليه اللفظة الأخرى والمسمى واحد.
وهذا هو المقصود بعبارة المؤلف : ( أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معني في المسمي غير المعني الآخر مع اتحاد المسمي).
ثم قال المؤلف: إنها بمنزلة الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة، فقوله: (( المتكافئة )) هذه فيها إشكال إلا إذا كان المؤلف رحمه الله يريد بها معنى آخر، فالأسماء المترادفة هي الدالة على معنى واحد، والأسماء المتباينة هي الدالة على معنيين. فهذه الأسماء باعتبار دلالتها على المسمى مترادفة، وباعتبار دلالتها على معني يختص بكل لفظ منها تكون متباينة.



* * *

كما قيل في اسم السيف الصارم والمهند، وذلك مثل أسماء الله الحسنى، وأسماء رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأسماء القرآن، فإن أسماء الله كلها تدل على مسمى واحد.



الشرح

أسماء الله- تعالي- كثيرة جداً، لكن مسماها واحد. فهي مترادفة من حيث دلالتها على الذات متباينة من حيث اختصاص كل اسم منها بالمعني الخاص به وكذلك أسماء الرسول صلي الله عليه وسلم متعددة، فهي باعتبار دلالتها على الذات مترادفة ، وباعتبار دلالة كل لفظ منها على معنى آخر متابينة. وكذلك القرآن يسمي القرآن ، والفرقان، التنزيل وغير ذلك، فهذه الألفاظ باعتبار دلالتها على القرآن مترادفة، وباعتبار أن كل واحد منها له معني خاص متباينة.



* * *

فليس دعاؤه باسم من أسمائه الحسنى مضاداً لدعائه باسم آخر، بل الأمر كما قال تعالى: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)(الاسراء:110)، وكل اسم من أسمائه يدل على الذات المسماة وعلى الصفة التي تضمنها الاسم، كالعليم يدل على الذات والعلم، والقدير يدل على الذات والقدرة، والرحيم يدل على الذات والرحمة.


الشرح

إذا هذه الأسماء الثلاثة باعتبار دلالتها على الذات مترادفة، وباعتبار دلالة الأول: على العلم، والثاني: على القدرة ، والثالث: على الرحمة، فهي متباينة.

ومن أنكر دلالة أسمائه على صفاته ممن يدعي الظاهر فقوله من جنس قول غلاة الباطنية القرامطة الذين يقولون : لا يقال هو حي ولا ليس بحي، بل ينفون عنه النقيضين، فإن أولئك القرامطة الباطنية لا ينكرون اسما هو علم محض، كالمضمرات، وإنما ينكرون ما في أسمائه الحسنى من صفات الإثبات، فمن وافقهم على مقصودهم كان- مع دعواه الغلو في الظاهر- موافقاً لغلاة الباطنية في ذلك، وليس هذا موضع بسط ذلك.


الشرح

والمؤلف رحمه الله لتشبعه بهذا العلم صار لا بد أن يذكره.
انقسم الناس في أسماء الله سبحانه وتعالي إلى أقسام فمنهم من جعلها أعلاماً محضة لا تدل على المعنى إطلاقاً، ومنهم من جعلها أعلاماً وأوصافاً، ومنهم من قال: لا نقول: إنه حي ولا نقول: إنه ليس بحي، فننكر هذا وهذا وهم الباطنية، ويجيبون بقولهم: إن الحياة والموت لا يصح نفيهما وإثباتهما إلا لمن هو قابل لذلك، والله تعالى ليس بقابل للحياة ولا للموت، ولهذا لا يوصف الجدار بأنه حي ولا ميت.
وللإجابة على ذلك نقول لهم: إن دعواكم إن الحياة والموت لا يوصف بها إلا من كان قابلاً لها مجرد دعوى أو عرف اصطنعتموه ، فالله سبحانه وتعالي وصف الأصنام بأنهم أموات، ونفى عنهم الحياة. فقال: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ) ( النحل:20،21) ، وهم يعبدون شجراً وحجراً وما أشبه ذلك، فانتقض قولهم بنص القرآن.
أما زعمهم أننا لو قلنا: إن الله حي شبهناه بالأحياء ، ولو قلنا: إنه ميت شبهناه بالأموات ،نقول: فإنكم على زعمكم هذا قد شبهتموه بالجمادات. فما دمتم تقولون: إنه غير قابل للحياة والموت كالحجر فقد شبهمتوه بالجماد.
ثم نقول لهم: هب أننا تنازلنا معكم، لكن أنتم تقولون: إننا لا نقول: إنه موجود ولا غير موجود ، فنفيتم عنه الوجود والعدم، وهذا مستحيل باتفاق العقلاء، لأن المقابلة بين الوجود والعدم مقابلة بين نقيضين يجب إذا ارتفع أحدهما أن يثبت الآخر، وأنتم تقولون: لا يجوز أن نقول: إن الله موجود، ولا يجوز أن نقول: إن الله ليس بموجود فإذا قلت: إنه موجود فقد ألحدت، وإن قلت: معدوم، فقد ألحدت، وهذا غير ممكن ، ونقول: الآن شبهتموه بالمستحيلات والمتنعات التي لا يمكن وجودها.
فهذا مذهب الباطنية في الله عز وجل، يقولون: لا يمكن أن نثبت لله اسماً ولا معنى بل ننفي عنه النقيضين.
والآخرون- وهم المعتزلة وأهل الظاهر الذين يغالون في إثبات الظاهر- يقولون : إنا نثبت الاسم لكن لا نثبت له معني،ونقول هذه الأسماء مجرد أعلام فقط، أي سميع بلا سمع، وعليم بلا علم، ورحيم بلا رحمة وهكذا، أي مجرد علم، كما أنك تقول لهذا الرجل محمد وهو مذمم ما فيه خصلة حميدة، وتقول لهذا الرجل عبد الله وهو من أكفر عباد الله ينكر وجود الله.
إذاً معنى قولنا: عبد الله مجرد علم يعين مسماه فقط، فهم يقولون : إن أسماء الله هكذا أعلام محضة، ليس لها معنى ولا تحمل معنى إطلاقاً.
وهذا الكلام الذي جاء به المؤلف جاء به استطراداً وليس له دخل في التفسير؛ لأنه قال: (( وليس هذا موضع بسط ذلك)) اللهم إلا أن يقال : قد يدخل في التفسير من حيث إن في القرآن أسماء كثيرة لله عز وجل.



1* *

وإنما المقصود أن كل اسم من أسمائه يدل على ذاته وعلى ما في الاسم من صفاته ، ويدل أيضاً على الصفة التي في الاسم الآخر بطريق اللزوم.


الشرح

إن الاسم يدل على الصفة التي تضمنها وعلى صفة أخرى تضمنها اسم آخر بطريق اللزوم، مثاله اسم الخالق دل على الذات وعلى صفة الخلق، ودل على العلم الذي تضمنه اسم العليم، وعلى القدرة التي تضمنها اسم القدير ودل اسم الخالق على العليم والقدير؛ لأنه لا يمكن أن يخلق إلا بعلم وقدرة، ولهذا قال الله عز وجل: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (الطلاق:12) ، وهذا واضح ؛ فلو أن أحداً صنع جهازاً من الأجهزة فلا يمكن أن يصنعه وهو لا يدري كيف يصنعه ولا يمكن أن يصنعه وهو أشل ؛ لأنه ليس قدرة.
وكذلك أسماء النبي صلى الله عليه وسلم مثل: محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب، وكذلك أسماء القرآن مثل: القرآن والفرقان والهدى والشفاء والبيان والكتاب ، وأمثال ذلك.
فإن كان مقصود السائل تعيين المسمى عبرنا عنه بأي اسم كان إذا عرف مسمي هذا الاسم،وقد يكون الاسم علماً وقد يكون صفة، كمن يسأل عن قوله : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي)(طـه: 124).ما ذكره ؛ فيقال له: هو القرآن مثلاً، أو هو ما أنزله من الكتب ، فإن الذكر مصدر، والمصدر تارة يضاف إلي الفاعل وتارة إلي المفعول ، فإذا قيل : ذكر الله بالمعني الثاني، كان ما يذكر به مثل قول اعبد: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر. وإذا قيل بالمعني الأول، كان ما يذكره هو، وهو كلامه، وهذا هو المراد في قوله: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي)(طـه: من الآية124).
لأنه قال قبل ذلك: ( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى)(طـه: 123) ، وهداه هو ما أنزله من الذكر. وقال بعد ذلك (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) (قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا )(طـه: :125،126)، والمقصود أن يعرف أن الذكر هو كلامه المنزل أو هو ذكر العبد له، فسواء قيل :ذكري :كتابي أو كلامي ،أو هداي ،أو نحو ذلك فإن المسمى واحد.


الشرح

هنا يقول المؤلف رحمه الله: إذا كان مقصود السائل- يعني الذي يسأل عن تفسير آية من القرآن_، تعيين المسمي عبرنا عنه بأي اسم كان إذا عرف مسمى هذا الاسم. فلو قال سائل: ما معني قوله تعالي: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي)؟ وهل المراد بذكري المضاف إلي الفاعل أو المضاف إلي المفعول؟ يعني هل المعنى من أعرض عن ذكره إياي أو المعنى من أعرض عن ذكري الذي أنزلته إليكم؟
والجواب على ذلك أنه يحتمل أن يكون المعنى من أعرض عن ذكري أي: عن ذكره إياي ، كما قال تعالي: ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) ، أي: لتذكرني بها، فالمعني لذكري أي: لذكره إياي، ويحتمل أن يكون المراد بذكري أي: ما أنزلته عليه من الذكر وهو القرآن، أو بعبارة أعم وهو أحسن ما أنزله الله من الكتب،فالمعنى من أعرض عن الكتب الذي أنزلتها ليذكر بها، وهذا المعني إلي اللفظ أو إلي السياق أقرب؛ لقوله: (ٌّفَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي )(طـه: 123،124)، فالمراد بذكري هنا هداه الذي أنزله؛ لأنه قال: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ ) ،(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ) ولكنه عبر في الإعراض عن ذكره؛ لأن فيما أنزله من الهدى تذكيراً للإنسان وإنذاراً له وتخويفاً.
فهنا إذا سأل عن الذكر فقيل له: الذكر قول سبحان الله، والحمد لله ، والله أكبر صار تفسيراً صحيحاً وإذا عن ذكري فقلنا له: ما أنزله من الكتب على عباده صار معنى صحيحاً ؛ لأن اللفظ صالح لهما جميعاً.وهذا اختلاف تنوع ، لأن المعني الثاني لا يضاد المعني الأول.فكل ما أنزله الله عز وجل فهو مستلزم لذكره وهو تذكير لعباده.


* * *

وإن كان مقصود السائل معرفة ما في الاسم من الصفة المختصة به، فلا بد من قدر زائد على تعيين المسمي مثل أن يسأل عن القدوس ، السلام، المؤمن ، وقد علم أنه الله، لكن مراده: ما معنى كونه قدوساً،سلاماً، مؤمناً ، ونحو ذلك.


الشرح


إذا قال : من هو القدوس؟ قلنا: الله. أو قال: من السلام؟ قلنا: الله لكن إذا قال ما القدوس؟ ما السلام؟ فهنا يختلف الجواب، لأن سؤاله ب (ما) يدل على أنه أراد المعنى، يعني ما معنى القدوس؟ وما معني السلام ؟ بخلاف ما إذا قال: من القدوس؟ فلا يمكن أن تفسر القدوس له، بل تعين المراد به المسمى بهذا الاسم، وهو الله سبحانه وتعالى.



* * *

إذا عرف هذا، فالسلف كثيراً ما يعبرون عن المسمى بعبارة تدل على عينه، وإن كان فيها من الصفة ما ليس في الاسم الآخر، كمن يقول: أحمد هوالحاشر، والماحي، والعاقب.
والقدوس هو :الغفور الرحيم أي: إن المسمى واحد لا أن هذه الصفة هي هذه.



الشرح

وهذا أيضاً جواب ثالث، إذا قال: من القدوس؟ من السلام؟ من المؤمن؟ فقلت: عالم الغيب والشهادة، أو الذي وسعت رحمته كل شيء، أو هو الغفور الرحيم، فهذا جواب ثالث غير السابقين، لكنه في المعنى مثل من عرفه بالذات؛ لأنني عندما أقول هو الغفور معناه ما ( فسرت له) معني القدوس، ففهم مني أني أريد تعيين المسمى الذي هو الذات، لكن بمعنى آخر جديد قد لا يطرأ على باله، فأتيت باسم يدل على صفة ليست في نفس الاسم المسؤول عنه.
وذلك مثلاً إذا كان السائل يعلم، أو سأل: من هو القدوس؟ من هو السلام؟ فأقول: هو شديد العقاب لمن عصاه ؛ لأني أعرف أن هذا الرجل يقيم على معصية الله، فأريد أن أذكره. أو مثلاً يكون السائل إنساناً مشفقاً على نفسه خائفاً، فأقول في معناها هو من كان على حسن ظن عبده به، وذلك لأذكره بحسن الظن بالله.
فهذه الآن ثلاثة أنواع، قد يكون التفسير للكلمة تفسيراً للمراد بها بقطع النظر عن صفته، وقد يكون التفسير للكلمة من حيث معناها الذي تضمنته، وقد يكون التفسير للكلمة بمعنى آخر يوصف به من يراد بها، مثل الغفور الرحيم السميع العليم..إلى آخره.


* * *

ومعلوم أن هذا ليس اختلاف تضاد كما يظنه بعض الناس، مثال ذلك تفسيرهم للصراط المستقيم فقال بعضهم: هو القرآن أي اتباعه لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث على الذي رواه الترمذي ورواه أبو نعيم من طرق متعددة (5) ، (( هو حبل الله المتين والذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم)) وقال بعضهم هو الإسلام لقوله صلي الله عليه وسلم في حديث النواس بن سمعان الذي رواه الترمذي وغيره: (( ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً وعلى جنتي الصراط سوران، وفي السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وداعٍ يدعو من فوق الصراط، وداع يدعو على راس الصراط، قال: فالصراط المستقيم هو الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، والداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن )) (6).
فهذان القولان متفقان؛ لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن، ولكن كل منهما نبّه على وصف غير الوصف الآخر، كما أن لفظ الصراط يشعر بوصف ثالث، وكذلك قول من قال: هو السنة والجماعة، وقول من قال: هو طريق العبودية، وقول من قال: هو طاعة الله ورسوله صلي الله عليه وسلم ، وأمثال ذلك.
فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة، لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها.



الشرح

عرفنا أنه إذا فسر السلف الكلمة بمعني، وفسرها آخرون منهم بمعنى آخر، باعتبار أن هذه الصفة تشمل هذا وهذا، فهو من باب اختلاف التنوع ، فقوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) ، معنى الصراط الطريق الواسع، لكن المراد بالصراط المستقيم الإسلام، هذا قول، وقول ثان هو القرآن، والمؤلف جاء لكل من هذين القولين بدليل من السنة، ومع ذلك فهما لا يتنافيان أبداً، لأن الإسلام هو ما في القرآن، وحينئذ فلا تضاد بينهما سواء فسر بأنه القرآن، أو فسر بأنه الإسلام.وواضح أن هذا الاختلاف اختلاف تنوع، وليس اختلاف تضاد، بدليل أن كل واحد منهما لا ينافي الآخر.



* * *

الصنف الثاني: أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل، وتنبيه المستمع على النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه، مثل سائل أعجمي سأل عن مسمى لفظ (( الخبز)) فأري رغيفاً، وقيل له: هذا فالإشارة إلي نوع هذا، لا إلى هذا الرغيف وحده.


الشرح

لو سأل أعجمي: ما هو الخبز؟ فقيل له: الخبز هو قرص يصنع من البر بعد طحنه وبله بالماء وعجنه فلن يعرف ما الخبز، ولكن إذا كان معك خبزة فقلت له هذا فهو لن يفهم أنه ليس في الدنيا خبز إلا الذي بيدك، بل سيعرف أن هذا على سبيل التمثيل،ولهذا لو ذهب إلي بقالة ووجد لفة خبز، فسيقول بكم لفة الخبز، فهذا التعيين ليس معناه أنه يراد أن يفسر اللفظ بهذا المعنى على وجه المطابقة، لا يزيد ولا ينقص، لكن على سبيل التمثيل.


* * *

مثال ذلك ما نقل في قوله: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَات)[فاطر: من الآية32].


الشرح

يقول تعالي: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا ) الاسم الموصول ليس وصفاً للكتاب، بل الصحيح أن الكتاب مفعول أول، والذين مفعول ثاٍن.
قال تعالي: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) ، والمراد بالذين اصطفى الله من عباده هذه الأمة الإسلامية ؛ لأن آخر كتاب نزل هو هذا القرآن.


* * *

فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات، والمنتهك للمحرمات والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات، والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات فالمقتصدون هم أصحاب اليمين، والسابقون السابقون أولئك المقربون.
ثم إن كلا منهم يذكر هذا في نوع من أنواع الطاعات، كقول القائل: السابق الذي يصلي في أول الوقت، والمقتصد الذي يصلي في أثنائه، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار.
أو يقول: السابق والمقتصد والظالم قد ذكرهم في آخر سورة البقرة ، فإنه ذكر المحسن بالصدقة، والظالم بأكل الربا ، والعادل بالبيع، والناس في الأموال إما محسن، وإما عادل وإما ظالم. فالسابق المحسن بأداء المستحبات مع الواجبات، والظالم آكل الربا أو مانع الزكاة، والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المفروضة ولا يأكل الربا وأمثال هذه الأقاويل.
فكل قول فيه ذكر نوع داخل في الآية إنما ذكر لتعريف المستمع بتناول الآية له وتنبيهه به على نظيره، فإن التعريف بالمثال قد يسهل أكثر من التعريف بالحد المطابق.


الشرح

صحيح هذا هو الغالب أن التعريف بالمثال أبين وأظهر من التعريف بالحد المطابق، فمثلاً لو قال لك قائل ما البعير؟ فقلت حيوان كبير الجسم، طويل العنق، ذو سنام ، له ذيل قصير وما أشبه ذلك من صفاته، فلن يعرفه ، حتى لو رآه ربما يشك فيه لعله يكون هناك شيء آخر يشابهه،لكن إذا قلت مثال البعير هذا اتضح ، والإيضاح بالمثال أكثر وضوحاً.
ولهذا ذهب كثير من الفقهاء رحمهم الله إلي التعريف بالحكم، وإن كان عند المناطقة يرونه عيباً، فمثلاً يقولون: الواجب هو ما أثيب فاعله واستحق العقوبة تاركه مثلاً، لكن لو قال: الواجب هو ما أمر به الشرع على سبيل الإلزام ،فقد يشكل على الإنسان أكثر.
والحاصل أن السلف فسروا ( الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ )،بأن الظالم لنفسه هو الذي يؤخر الصلاة عن وقتها، وأن المقتصد هو الذي يصليها في الوقت، وأن السابق بالخيرات هو الذي يصليها في أول الوقت، أو بعبارة أصح على وقتها، وذلك من أجل أن يشمل الذي يصليها في أول الوقت فيما يسن تقديمه وفي آخره فيما يسن تأخيره، ولهذا جاء حديث ابن مسعود: (( الصلاة على وقتها)) (7) ؛ لأن هناك بعض الصلوات يسن تأخيرها كالعشاء.
وإذا قيل المقتصد هو الذي يؤدي الزكاة الواجبة، والسابق بالخيرات هو الذي يؤدي الزكاة مع الصدقات المستحبة، والظالم لنفسه هو الذي لا يزكي، فليس بين القولين تناقض؛ لأن كل واحد منهم ذكر نوعاً يدخل في الآية ، مع أن الآية أعم من هذا حيث تشمل كل ما ينطبق عليه ظلم النفس والسبق والاقتصاد.



* * *

والعقل السليم يتفطن للنوع كما يتفطن إذا أشير له إلى رغيف فقيل له هذا هو الخبز.
وقد يجئ كثيراً من هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا لا سيما إذا كان المذكور شخصاً، كأسباب النزول المذكورة في التفسير ، كقولهم: إن آية الظهار نزلت في امرأة(( أوس بن الصامت)) وإن آية اللعان نزلت في عويمر العجلاني أو هلال بن أمية، وإن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله ، وإن قوله ((وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه))(المائدة: 49) نزلت في بني قريظة والنضير وإن قوله (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَه)(لأنفال: 16) ، نزلت في بدر، وإن قوله: ( شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْت)(المائدة: من الآية106) نزلت في قضية تميم الداري، وعدي بن بداء، وقول أبي أيوب إن قوله: ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(البقرة: من الآية195) ، نزلت فينا معشر الأنصار.. الحديث، ونظائر هذا كثير مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة ، أو في قوم من أهل الكتاب واليهود والنصاري، أو في قوم من المؤمنين .فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية مختص بأولئك الأعيان دون غيرهم، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق.
والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب، هل يختص بسببه أم لا ، فلم يقل أحد من علماء المسلمين إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص فتعم ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ.


الشرح

وهذا القول هو الصحيح : أنها تعم ذلك الشخص ؛ لأنها تختص بنوع ذلك الشخص أو تعم نوع ذلك الشخص فقط. مثال ذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (( ليس من البر الصيام في السفر)) (8).فهذا اللفظ عام، لكن سببه خاص بالنوع وخاص بالشخص، فهل نخصصه بذلك الشخص؟
يقول شيخ الإسلام: ما أحد قاله من المسلمين ، وهل نخصصه بذلك النوع؟ يمكن ذلك إذا علمنا أن العلة والسبب في ذلك النوع لا يتعداه لغيره فإننا نخصصه بذلك النوع، وإذا أخذنا بالعموم في حديث: (( ليس من البر الصيام في السفر)) ، قلنا: إن الصيام في السفر ليس من البر؛ سواء شق على الإنسان أم لم يشق. وإذا خصصناه بالشخص قلنا ليس من البر باعتبار ذلك الرجل الذي رآه النبي عليه الصلاة والسلام عليه زحام ظللاً عليه، كأنه قال ليس صومه من البر وهذا أيضاً خطأ لا أحد يقوله من المسلمين مثل ما قال الشيخ ، وإذا قلنا: إنه خاص بالنوع ، قلنا: ليس من البر الصيام في السفر فيمن حاله كحال ذلك الشخص يشق عليه، فإنه ليس من البر أن يصوم في السفر بخلاف من لا يشق، وهذا القول الوسط هو الصواب ، وأنه يجب أن يعدى الحكم الوارد على سبب معين إلي نوع ذلك المعين فقط لا إلى العموم، ولا أن يختص بنفس ذلك الشخص.
وهنا نشير إلي أن ربطه بعلته أولى من التعميم؛ لأننا لو عممناه لاحتجنا إلي دليل على التخصيص، لكن كأنه من العام الذي أريد به الخصوص.
وفرق بين قوله: (( ليس من البر)) وبين قول: (( البر ألا يصوم))، لأنه قول قال : (( ليس من البر)) فهو من الإثم.
والرخصة لا نؤثم من لم يفعلها، اللهم إلا إذا اعتقد في نفسه الاستغناء عن رخصة الله له فهذا شئ آخر، فيكون آثماً من هذا الوجه، وأما من قال: الحمد لله الذي رخص لي لكن أنا قوى ونشيط، فهذا غير.
والآية التي لها سبب معين إن كانت أمراً ونهياً فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته، وإن كانت خبراً بمدح أو ذم فهي متناوله لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته أيضاَ.
ومعرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب، ولهذا كان أصح قولي الفقهاء أنه إذا لم يعرف ما نواه الحالف رجع إلي سبب يمينه وما هيجها وآثارها.


الشرح

وكذلك إذا لم يعرف ما نواه المطلق رجع إلي سبب الطلاق، فمثلاً لو أن رجلاً رأى مع امرأته شخصاً فظنه أجنبياً، فقال لها: أنت طالق. بناء على أن الرجل الذي معها أجنبي، ثم تبين أنه أخوها فإنها لا تطلق؛ لأنه كأنه قال: أنت طالق لأنك صاحبتي رجلاً أجنبياً، وكذلك أيضاً الحالف لو قال: والله لا أزور فلاناً، لأنه قيل له إن الرجل فاسق، ثم تبين له أنه ليس بفاسق ، فإنه لا بأس أن يزوره ؛ لأن السبب في حلفه هذا أنه رجل فاسق، ثم تبين له بعد ذلك أنه ليس بفاسق فإذا زاره ، فإنه لا يحنث؛ لأن السبب كالمشروط فكأنه قال والله لا أزوره لأنه فاسق، فيكون هذا السبب كأنه مشروط، وبهذا لا يكفر لأنه زال حكم اليمين، فلو قال: والله لا أزوره بناء على أنه فاسق، فتبين أنه ليس بفاسق، فهذا يزوره ولا شيء عليه؛ لأن اليمين انحلت فتبين أنها غير مرادة، وهذه قاعدة تنفعك في باب الأيمان وفي باب الطلاق ، أن ما بني على سبب فتبين زوال السبب فلا حكم له، لكن لو قال الحالف أنا نويت والله لا أزور فلاناً مطلقاً، لا أزوره لشخصه ، سواء كان فاسقاً أم عدلاً، فإذا زاره حنث لأننا هنا علمنا مراده.
والقاعدة في ذلك: أن كل لفظ بني على سبب فتبين انتفاء ذلك السبب فإنه لا حكم له.
والمسبب هو الآية النازلة أو الحديث الوارد، فمثلاً: سبب نزول آية اللعان قذف هلال بن أمية زوجته بشريك بن سحماء (9) فهذا هو السبب ، والمسبب الذي حصل من أجل هذا السبب هو نزول الآية. فورود الحديث ونزول الآية هذا هو المسبب. فالآية أو الحديث قد يكون معناها خفياً إلا إذا عرفت سبب النزول.


* * *

وقولهم : (( نزلت هذه الآية في كذا)) يراد به تارة أنه سبب النزول.


الشرح

المؤلف رحمه الله دائماً يستطرد في مؤلفاته ، فهنا استطرد للتعبير عن سبب النزول، وهو ثلاثة أنواع:
فتارة يقول: (( حصل كذا وكذا، فأنزل الله كذا))، وتارة يقول: (( سبب نزول الآية الفلانية كذا وكذا)) وتارة يقول: (( نزلت هذه الآية في كذا وكذا)) فهذه ثلاث صيغ.
أما قوله: (( سبب نزول الآية كذا)) فهي صريحة في أن هذا سبب النزول.
وأما قوله: (( كان كذا وكذا فأنزل الله)) فهي ظاهرة أيضاً- وليست بصريحة ، ظاهرة في أن هذا سبب النزول؛ لأن حمل الفاء في مثل هذا التعبير على السببية أولي من حمله على العطف المجرد والترتيب، فيكون ظاهرها أن هذه الحادثة سبب النزول.
الثالث أن يقول ((نزلت هذه الآية في كذا)) فهذه فيها احتمال متساوي الطرفين، بين أن يكون المراد أن هذه الآية معناها كذا وكذا فيكون تفسيراً للمعنى، وبين أن يكون ذلك ذكرا لسبب النزول، فعلى الاحتمال الأول تكون (( في)) للظرفية، والظرف هنا معنوي، وعلى الاحتمال الثاني تكون (( في)) للسببية، أي بسبب كذا وكذا، و(( في )) معروف أنها تكون للسببية، ومثال ذلك : (( دخلت امرأة النار في هرة حبستها)) (10) ، (( في)) بمعنى بسبب، وليس المعني أنها دخلت في جوفها.
والحاصل أن العبارات التي يعبر بها عن أسباب النزول تنقسم ثلاثة أقسام: صريحة، وظاهرة، ومحتملة، فالصيغة الصريحة أن يقول: (( سبب نزول الآية كذا وكذا)) والظاهرة(( كان كذا فنزلت)) والمحتملة : (( نزلت في كذا)).
ولهذا يقول المؤلف رحمه الله: وقولهم نزلت هذه الآية في كذا يراد به تارة أنه سبب النزول، ويراد به تارة أن هذا داخل في الآية وإن لم يكن السبب.


* * *

ويراد به تارة أن هذا داخل في الآية وإن لم يكن السبب، كما تقول: عني بهذه الآية كذا.
وقد تنازع العلماء في قول الصاحب: (( نزلت هذه الآية في كذا)) هل يجري مجرى المسند كما لو ذكر السبب الذي أنزلت لأجله، أو يجرى مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند، فالبخاري يدخله في المسند، وغيره لا يدخله في المسند، وأكثر المسانيد على هذا الاصطلاح، كمسند أحمد وغيره، بخلاف ما إذا ذكر سبباً نزلت عقبه فإنهم يدخلون مثل هذا في المسند.



الشرح

قول الصاحب: (( نزلت في كذا)) إذا أجريناه مجرى المسند صار معناه أن الأمر حدث في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فنزلت الآية تفسيراً له، أو بياناً لحكمه، وأما إذا جعلناه ليس جارياً مجري المسند، صار ذلك تفسيراً منه للآية، وقد يكون صواباً وقد يخالفه غيره.



* * *

فإذا عرف هذا فقول أحدهم: (( نزلت في كذا)) لا ينافي قول الآخر : (( نزلت قي كذا)) إذا كان اللفظ يتناولهما كما ذكرناه في التفسير بالمثال. وإذا ذكر أحدهم لها سبباً نزلت لأجله، وذكر الآخر سبباً، فقد يمكن صدقهما بأن تكون نزلت عقب تلك الأسباب، أو تكون نزلت مرتين مرة لهذا السبب، ومرة لهذا السبب.



الشرح

ولكن الأول أقرب، إذا ذكر كل واحد منهما سبباً لنزول الآية بلفظ صريح أو بلفظ ظاهر على حسب ما شرحناه ، فهل نقول: إن السبب متعدد والمسبب واحد؟ أو نقول: إن السبب متعدد والمسبب متعدد وأن الآية صار لنزولها سببان؟ والأقرب الأول؛ لأن تكرر نزول الآية خلاف الأصل ، فالأصل أن الآية إذا نزلت ، نزلت مرة واحدة، فتكون الأسباب سابقة على نزول الآية، يعني معناه وجد سبب وسبب وسبب ، ثم أنزل الله الآية مبينة لحكم هذه الأمور. مع أنه نادر أن تنزل الآية مرتين وهذا إن صح.
وقد ذكر أن سورة الفاتحة نزلت مرة في مكة، ومرة في المدينة ،والله أعلم. لكن الكلام على أنه إذا تعدد ذكر الأسباب الصريحة في نزول الآية فإنها تحمل عل أحد أمرين: إما أن الأسباب متعددة والنزول واحد، وإما أن الأسباب متعددة والنزول متعدد. هذا إذا كان كل من الصيغتين صريحا في النزول، أما لو قال أحدهم: (( نزلت في كذا)) وقال الآخر: (( كان كذا فنزلت الآية)) فمعلوم أننا نقدم الثاني؛ لأنه ظاهر، وكذلك لو قال أحدهم: (( سبب نزولها كذا)) والآخر قال: (( نزلت في كذا)) فإننا نقدم الذي قال: (( سبب نزول الآية )) لأنه صريح.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأول الذي ذكر صريحاً فهو قطعاً سبب النزول ، وأما الثاني فنقول: هذا ذكر للمعنى يعني أن هذا الشيء داخل في معناه، مثل لو قيل إن قوله تعالي: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ(4)الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) (الماعون:4،5) ، نزلت هذه الآية في الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، فليس معناها أنه كان تأخير الصلاة عن وقتها سبباً لنزولها ؛ بل معناها الظاهر المتبادر أن هذا هو المراد من الآية، فيكون مثل هذا القول تفسيراً وليس ذكراً لسب النزول.


* * *

وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير- تارة لتنوع الأسماء والصفات، وتارة لذكر بعض أنواع المسمى وأقسامه كالتمثيلات هما الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه مختلف.


الشرح

مثال لما ذكره المؤلف رحمه الله من تنوع الأسماء والصفات مثل صارم، ومهند، ومسلول، وسيف وما أشبه ذلك، وتارة لذكر بعض أنواع المسمى، مثل تفسير: ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ) ، حيث فسر بعضهم هذا بالمصلين وهذا فسره بالمتصدقين..


* * *

ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ فيه محتملاً للأمرين ، إما لكونه مشتركاً في اللغة كلفظ: ( قَسْوَرَةٍ) الذي يراد به الرامي ويراد به الأسد، ولفظ ( عَسْعَسَ) الذي يراد به إقبال الليل وإدباره.


الشرح

اللفظ المشترك سبق أن عرفناه بأنه ما اتحد لفظه وتعدد معناه؛ لأن هذا اللفظ مشترك بين معنيين، ومثاله: (( القسورة)) ، فهو مشترك بين الرامي وبين الأسد. قال تعالي: (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) (المدثر:50،51) ، حمر الوحش إذا رأت الرامي فرت، والحمر الأهلية إذا رأت الأسد فرت، فهل المراد بالقسورة الرامي، أو المراد بذلك الأسد؟ بعضهم قال: المراد الأسد، وبعضهم قال: المراد الرامي، وما دام اللفظ صالحاً للمعنيين بدون تناقض؛ فإنه يحمل على المعنيين جميعاً.
كذلك : (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) (17)(وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) (التكوير:17،18) ، عسعس : بعضهم يقول: يعني أدبر، وبعضهم يقول: عسعس يعني أقبل، واللفظ محتمل. إن وجد ما يرجح أحد المعنيين أخذنا به، وإلا قلنا اللفظ صالح للأمرين، فهو شامل. فيكون الله أقسم بالليل عند إقباله وعند إدباره وإذا قلنا عسعس : بمعني اقبل ليقابل قوله : (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) (التكوير:18) ، صار من هذه الناحية أرجح.
ومثال الألفاظ المشتركة أيضاً : (القرء ) يراد به الحيض، ويراد به الطهر.



* **


وإما لكونه ، متواطئا في الأصل ، لكن المراد به أحد النوعين أو أحد الشيئين كالضمائر في قوله: ( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى) (7)(فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (لنجم:8،9)



الشرح

يقول تعالي: (ذو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى) (6)(وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى) (7)(ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى) (8)(فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى)(9) (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) (لنجم:6-10) ، الضمير في (( دنا)) يعود على جبريل ، وفي قوله: (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) الضمير يعود على الله. وهذا هو الصحيح من أقوال المفسرين ، وبعضهم قال: إن الضمائر واحدة لله.
وعلى هذا القول يكون تعالي دنا دنوا يليق بجلالة عز وجل ، مثل ما قال: (( يدنو ربنا عز وجل إلي السماء الدنيا…الحديث)) (11).
(فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) متعلقة بدنا، ويصح أن نقول: دنو الله قاب قوسين مثل ما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (( إن الذي تدعون هو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)) (12) .
(أَوْ أَدْنَى) (( أو)) هذه معناها عند المفسرين ، بمعني بل، أو للتحقيق، كقوله: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) (الصافات:147) ، أي: بل يزيدون . وبعضهم قال: إن (( أو)) هذه لتحقيق ما سبق كأنه يقول: إن لم يزيدوا لم ينقصوا ، كما تقول عندي ألف درهم أو أكثر، فإن الناس يفهمون من المعنى أن الذي عندك لا ينقص عن ألف درهم؛ بل إما أن يزيد أو يكن بقدره.


* * *

وكلفظ الفجر، والشفع ، والوتر ، وليال عشر، وما أشبه ذلك. فمثل هذا قد يجوز أن يراد به كل المعاني التي قالها السلف، وقد لا يجوز ذلك.
فالأول: إما لكون الآية نزلت مرتين فأريد بها هذا تارة وهذا تارة، وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنياه ، إذ قد جوز ذلك أكثر فقهاء المالكية والشافعية والحنبلية وكثير من أهل الكلام، وإما لكون اللفظ متواطئا فيكون عاما إذا لم يكن لتخصيصه موجب، فهذا النوع إذا صح فيه القولان كان من الصنف الثاني.



الشرح

يقول المؤلف: ومن التنازع الموجود بينهم ما يكون اللفظ فيه محتملاً للأمرين: وذكر أن اللفظ يكون محتملاً للأمرين بإحدى واسطتين:
الأولي: أن يكون اللفظ مشتركاً؛ كلفظ العين وما أشبهها.
والثانية: أن يكون متواطئا في الأصل لكن المراد به أحد النوعين أو أحد الشيئين، والمتواطئ هو الذي طابق لفظه معناه، مثل إنسان ،حجر، شمس، قمر، وما أشبهها، فهذا نسميه متواطئاً، لأن اللفظ يطابق المعني، فهما متواطئان أي: متفقان، يقول المؤلف: إما متواطئ لكن المراد به أحد النوعين، وهذا عندما يكون في متواطئ له نوعان فيراد به أحدهما، ولكن هذا في الواقع قليل جداً، إلا أنه قد يوجد ويكون تعيين أحد النوعين بحسب السياق.
فمثلاً كلمة(مع) في اللغة العربية هي متواطئة في معناها، إذ معناها المقارنة والمصاحبة ، لكنها أنواع بحسب ما تضاف إليه، فإذا قلت: الماء مع اللبن فهو مختلط، وإذا قلت الزوجة مع زوجها، فمعناه بقاء عقد الزواج بينهما، وإذا قلت الضابط مع الجند فمعناه أنه يراعيهم، وليس بلازم أن يصاحبهم بذاته، بل يراعيهم ويلاحظهم، فكلمة (مع) الآن تجد أنها كلمة مطابقة فيها مصاحبة، لكنها اختلفت هذه المصاحبة في أنواعها باعتبار ما تضاف إليه.
ومن ذلك، الضمائر التي أشار إليها المؤلف، فإذا اختلفوا فيها فإننا نقول: إذا كانت الضمائر صالحة للمعنيين، فهو اختلاف تنوع وكل واحد منهم ذكر نوعا، وإذا لم تكن صالحة، فهو اختلاف تضاد، ثم إنه تعرض المؤلف -رحمه الله -إلى أن المشترك هل يجوز أن يراد به معنياه؟ والصواب أنه يجوز أن يراد به معنياه إذا لم يتنافيا، مثل ما مضي في (قسورة) يجوز أن يراد بها المعنيان، ويكون كل معنى كالمثال ، فيكون الله عز وجل أراد بقوله : (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) .أي: من الرامي فهم كحمر الوحش إذا رأت الرامي، أو المراد به الأسد فهم كالحمير الأهلية إذا رأت الأسد فرت ، لأنه ليس عندنا قرينة تؤيد أحد المعنيين واللفظ صالح لهما ولا مناقضة بينهما .
أما لو كان بينهما مناقضة فإنه لا يمكن أن يراد به المعنيان ، مثل (القرء) بمعنى الطهر وبمعني الحيض، فلا يمكن أن نقول الآية صالحة للمعنيين جميعاً، لأنه يختلف الحكم ولا يمكن أن يجتمعا , ومثل (( من راح في الساعة الأولى)) (13) الرواح يطلق على المسير بعد زوال الشمس ، ويطلق على مجرد المسير، فهو مشترك بين مطلق الذهاب وبين نوع معين من الذهاب وهو المسير بعد زوال الشمس، ولذلك لا يمكن الجمع بينهما؛ لأنك لو قلت: من راح في الساعة الأولى معناه أن الساعات بعد الزوال، فمعناه لا تبتدئ رواحك للجمعة إلا بعد زوال الشمس، وعلى هذا تكون الساعات دقائق، لأن الإمام إذا زالت الشمس حضر، وإذا قلنا بأن الرواح مطلق الذهاب صار الرواح يبتدئ من أول النهار، أي من طلوع الشمس.
قوله: (وَالْفَجْرِ) (1)(وَلَيَالٍ عَشْرٍ) (الفجر:1،2) ،(وَلَيَالٍ عَشْرٍ) ، فيها قولان:
فبعضهم قال: هي ليالي عشر رمضان، وبعضهم قال: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) هي عشر ذي الحجة، فصار فيها قولان لاشتراك اللفظ، كذلك (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) (الفجر:3) بعضهم قال الوتر: الله، والشفع:المخلوق ، لأنه قال: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْن)(الذريات: 49)
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (( إن الله وتر)) (14) وبعضهم قال: (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) هو العدد ، لأن كل الخلائق متعددة إما إلي شفع وإما إلي وتر، واللفظ صالح للمعنيين جميعاً.
والصلاة وتر، لأن صلاة الليل تختم بالوتر فتكون وترا، وصلاة النهار تختم بالوتر فتكون وتراً، ولا ينافي ذلك كون صلاة الظهر أربع ركعات وصلاة العصر أربع ركعات، فإن صلاة المغرب وتر، وهذه أوترت تلك، يعني أن المغرب جعلت ما سبق وتراً، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (( إنها وتر النهار)) (15) . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (( إذا خشي أحدكم الصبح صلي واحدة فأوترت له ما قد صلي )) (16) والراجح أنها شاملة للمعنيين؛ لأنه كلما كانت الآية تتضمن معنيين لا يتنافيان تحمل عليهما.

ومن الأقوال الموجودة عنهم ويجعلها بعض الناس اختلافاً أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة لا مترادفة الأقوال ، فإن الترادف في اللغة قليل، وأما في ألفاظ القرآن فإما نادر وإما معدوم، وقل أن يعبر عن لفظ واحد بلفظ واحد يؤدي جميع معناه، بل يكون فيه تقريب لمعناه، وهذا من أسباب إعجاز القرآن.


الشرح

يقول المؤلف رحمه الله: الترادف في اللغة العربية قليل، لأن الترادف في الحقيقة عبارة عن تضخم اللفظ، وكلام المؤلف صحيح بالنسبة للمعاني، أما بالنسبة للأعيان فإن الترادف فيها كثير، فكم للهر من اسم؟ وكم للأسد من اسم؟ وهكذا، المعاني صحيح أن الترادف فيها قليل ولكن مع ذلك موجود ولا يمكن أن ينكر، فمثلاً بر، وقمح، وحب، وعندنا باللغة العامية عيش هذا مترادف وهو كثير. وفي القرآن يقول: إنه نادر بمعنى أنه لا يمكن أن تأتي كلمة بمعنى كلمة في القرآن،ولكن هناك كلمة (( الشك))في قوله تعالي: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ)(يونس: 94) وهناك كلمة ( رَيْبَ) ، (( لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ))(البقرة:2) يظن بعض الناس أن الشك والريب معناهما واحد وليس كذلك كما سيذكر المؤلف، فحينئذ الترادف من كل وجه يقول إنه نادر أو معدوم. قوله: ( وقل أن يعبر عن لفظ واحد ،بلفظ واحد يؤدي جميع معناه) قوله: (( بلفظ واحد)) يعني مغاير أي غير الأول(( عن لفظ واحد بلفظ آخر )) يعني آخر لو ،وقال المؤلف: (( عن لفظ واحد بلفظ واحد )) لكان أبين وأوضح ، وهذا هو مراده.


* * *

فإذا قال القائل: (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً) (الطور:9) إن المور هو الحركة ،كان تقريباً، إذ المور حركة خفيفة سريعة. وكذلك إذا قال: الوحي الإعلام، أو قيل: ( أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) أنزلنا إليك، أو قيل: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيل)(الاسراء: من الآية4) أي أعلمنا. وأمثال ذلك فهذا كله تقريب لا تحقيق فإن الوحي هو إعلام سريع خفي، والقضاء إليهم أخص من الإعلام ، فإن فيه إنزالاً إليهم وإيحاء إليهم والعرب تضمن الفعل معنى الفعل وتعديه تعديته.


الشرح

يعنى الذين قالوا: إن معنى قوله تعالي: (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً) أي: تتحرك ، يقول هذا تقريباً، لأن المور حرك خفيفة سريعة وليست مطلق حركة، كذلك إذا قال الوحي هو الإعلام .أوحى الله إلى نبيه يعني أعلمه بكذا، فهذا أيضاً تفسير تقريبي، أو قال: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيل) يقول: أي أعلمنا إليهم، هذا أيضاً تقريبي؛ لأن معني قضينا إليهم أخص من أعلمنا؛ لأن معناها قضينا إليهم، يعني قضاء قدرياً واصلاً إليهم فهو ليس بمعنى مجرد الإعلام.
وبين المؤلف ذلك فقال: (( فإن الوحي هو إعلام سريع خفي. والقضاء إليهم أخص من الإعلام فإن فيه إنزالاً إليهم وإيحاء إليهم والعرب تضمن الفعل معني الفعل وتعديه تعديته)) وهذا معروف وهو التضمين، بأن يضمن فعل معني فعل فيكون متعدياً تعدي ذلك الفعل.
ومثال ذلك وهو من أوضح الأمثلة قوله تعالي: (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّه)(الانسان: 6)، فالفعل يشرب ضمن معني يروي بها؛ لأنه ليس معقولاً أنهم يشربون بالعين، بل إنهم يشربون بالكاس، فبعضهم قال: إن معني (( بها)) أي: منها، وبعضهم قال: معني يشرب أي يروى بها، فيكون الفعل هنا مضمناً للشرب إعدالاً عن الشرب بلفظه ودالاً على المعنى وهو الري بمتعلقه وهو قوله( بها).


* * *

ومن هنا غلط من جعل بعض الحروف تقوم مقام بعض كما يقولون في قوله: (قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ)(صّ: 24) أي مع نعاجه و(( مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّه)(آل عمران: 52)أي مع الله ونحو ذلك والتحقيق ما قاله نحاة البصرة من التضمين فسؤال النعجة يتضمن جمعها وضمها إلي نعاجه.


الشرح

وذلك لأن علماء النحو اختلفوا فيما إذا تعدى الفعل بغير ما يتعدى به في الأصل . هل يكون التجوز في الحرف أو أنه في الفعل، والصحيح كما قال أنه بالفعل ، فيضمن الفعل معنى يتعدى بمثله إلي ما هو متعد إليه الآن وهنا (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ) أي: بضم السؤال هنا ضمن معني الضم، أي: ضم نعجتك إلي نعاجه، وليس المعنى بسؤال نعجتك مع نعاجه. أي ليس المعنى أن نجعل إلي بمعنى مع، كذلك ( مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّه) ، يقول : ( مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّه) أي مع الله، أي من أنصاري مع الله، وليس الأمر كذلك، بل المعني من ينيب معي إلى الله؛ لأن أنصاري إلي الله يعني منيبين إليه، كما قال تعالى: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ )(الروم: 31).


* * *

وكذلك قوله: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْك)(الاسراء: 73) ضمن معني يزيغونك ويصدونك ، وكذلك قوله(وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا)(الانبياء:77) ضمن معني نجيناه وخلصناه ، وكذلك قوله ( يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّه)(الانسان:6)، ضمن يروي بها، ونظائره كثيرة.



الشرح

لماذا هنا قلنا إن تضمين الفعل أولى من التجوز بمعنى الحرف؟ لأن تضمين الفعل يؤدي معنى زائداً على معنى الفعل، بخلاف ما إذا جعلنا الحرف متجوزاً فيه فإنه يبقي الفعل على دلالته لمعناه فقط، ونحول معنى الحرف إلي معنى يناسب لفظ الفعل، فالتضمين إذاً أوضح وأولى.
قوله تعالي: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ) (المعارج:1) ، على رأي من يرى التجوز بالحرف يقول: سأل سائل عن عذاب واقع،وعلى القول الثاني سأل سائل مهتما بعذاب واقع. فيكون ضمن سأل بمعنى اهتم به وبحث ، حتى سأله عنه، أو يقال : سأل سائل أخبر بعذاب واقع، فيكون السؤال هنا مضمناً معنى الإخبار، يعني: سأل عن العذاب فأخبر بالعذاب.


* * *

ومن قال: (( لا ريب)) لا شك) فهذا تقريب . وإلا فالريب فيه اضطراب وحركة كما قال: (( دع ما يريبك إلي ما لا يريبك)) (17) وفي الحديث: أنه مر بظبي حاقف فقال: (( لا يريبه أحد)) (18) ، فكما أن اليقين ضمن السكون والطمأنينة ، فالريب ضده(( ضمن الاضطراب والحركة)) لفظ الشك وإن قيل : إنه يستلزم هذا المعنى لكن لفظه لا يدل عليه. وكذلك إذا قيل: ( ذلك الْكِتَاب)(البقرة: 2) هذا القرآن فهذا تقريب؛ لأن المشار إليه وإن كان واحداً، فالإشارة بجهة الحضور غير الإشارة بجهة البعد والغيبة، ولفظ (( الكتاب)) يتضمن من كونه مكتوباً مضموماً ما لا يتضمنه لفظ القرآن من كونه مقروءا مظهراً باديا. فهذه الفروق موجودة في القرآن.


الشرح

أفادنا المؤلف رحمه الله في هذا الكلام أن العلماء قد يفسرون اللفظ بما يقاربه لا بما يطابقه، تقريباً للأذهان فمثلاً، (ذَلِكَ الْكِتَاب) إذا قال أي: هذا القرآن فهذا التفسير تقريبي، لأن إبداله ذلك بهذا يختلف به المعنى، فالإشارة بالبعد تتضمن من المعنى ما لا تتضمنه الإشارة بالقرب، والكتاب يتضمن ما لا يتضمنه القرآن،من كون الكتاب مجموعاً ، وهذا معني قول المؤلف مضموناً، فإن الكتاب من الكتب بمعنى الجمع، ومنه الكتيبة لجماعة الخيل؛ لأنها مجتمعة.



* * *

فإذا قال أحدهم: (( أن تبسل)) أي: تحبس ، وقال الآخر، ترتهن ونحو ذلك لم يكن من اختلاف التضاد، وإن كان المحبوس قد يكون مرتهنا وقد لا يكون، إذ هذا تقريب للمعنى، كما تقدم.
وجمع عبارات السلف في مثل هذا نافع جداً؛ لأن مجموع عباراتهم أدل على المقصود من عبارة أو عبارتين.


الشرح

وذلك لأن عباراتهم المختلفة في اللفظ توجب للإنسان أن يحيط بكل ما تحتمله الكلمة من معنى قاله السلف، ومن أجمع ما يكون في ذلك تفسير ابن جرير- رحمه الله- فإنه جمع من ألفاظهم ما لم يجتمع في غيره، وتفسير ابن كثير كالمختصر له؛ لأنه إذا قال معنى الآية كذا وكذا قال: هكذا قال فلان وفلان وفلان، وعدد المفسرين القائلين بذلك، الذين أتى بهم ابن جرير بالسند، فشيخ الإسلام رحمة الله يقول: (( جمع العبارات في هذا نافع)) لأن مجموع عباراتهم أدل على المقصود من عبارة أو عبارتين.


* * *

ومع هذا فلا بد من اختلاف محقق بينهم كما يوجد مثل ذلك في الأحكام.
ونحن نعلم أن عامة ما يضطر إليه عموم الناس من الاتفاق (19) معلوم: بل متواتر عند العامة أو الخاصة، كما في عدد الصلوات ومقادير ركوعها ومواقيتها، وفرائض الزكاة ونصبها، وتعيين شهر رمضان، والطواف، والوقوف، ورمي الجمار، والمواقيت وغير ذلك، ثم إن اختلاف الصحابة في الجد والإخوة وفي المشركة ونحو ذلك لا يوجب ريباً في جمهور مسائل الفرائض، بل ما يحتاج إليه عامة الناس هو عمود النسب من الآباء والأبناء ، والكلالة من الإخوة والأخوات، ومن نسائهم كالأزواج، فإن الله أنزل في الفرائض ثلاث آيات مفصلة. ذكر في الأولى الأصول والفروع، وذكر في الثانية الحاشية التي ترث بالفرض؛ كالزوجين وولد الأم، وفي الثالثة الحاشية الوارثة بالتعصيب وهم الإخوة لأبوين أو لأب ، واجتماع الجد والإخوة نادر، ولهذا لم يقع في الإسلام إلا بعد موت النبي صلي الله عليه وسلم .
والاختلاف قد يكون لخفاء الدليل أو لذهول عنه، وقد يكون لعدم سماعه، وقد يكون لغلط في فهم النص، وقد يكون لاعتقاد معارض راجح، فالمقصود هنا التعريف بمجمل الأمر دون تفاصيله.



الشرح

المؤلف رحمه الله يقول: هذا الاختلاف قد يكون لأحد الأسباب لكن هذه الأسباب ليست شاملة؛ لأن أسباب اختلاف العلماء ذكرها رحمه الله في كتاب (( رفع الملام عن الأئمة الأعلام)) أكثر من هذه الأسباب ، فهنا يقول : (( قد يكن لخفاء الدليل)) ، ويخفي الدليل بمعنى أنه لا يظن أن هذا دليل على كذا، فهو سمعه لكن خفي عليه أنه دليل، وقد يذهل عنه، أي: يكون ذاكراً له ولكن نسيه، وقد يكون لعدم سماعه وهذا هو الجهل، وقد يكون الغلط في فهم النص، وهذا قصور الفهم، وقد يكون لاعتقاد معارض راجح، يعني أنه فاهم الدليل، وعالم به لكنه اعتقد أن هناك معارضاً راجحاً يمنع القول بهذا الدليل، إما تخصيص ، أو نص، أو تقييد، أو ما أشبه ذلك، ومن أراد البسط في هذا فليرجع إلي كتاب المؤلف رحمه الله وهو: (( رفع الملام عن الأئمة الأعلام)) ، وكذلك كتاب لنا صغير كالملخص لكن فيه زيادة تمثيل واسمه: (( الخلاف بين العلماء أسبابه وموقفنا منه)).


* * *

(5) رواه الترمذي ،كتاب فضائل القرآن باب ما جاء في فضل القرآن، رقم (2906)، والدارمي ، كتاب فضائل القرآن باب فضل من قرأ القرآن، (3331).
(6) رواه الترمذي كتاب الأمثال ، باب ما جاء في مثل الله لعباده، (2859).
(7) رواه البخاري ، كتاب مواقيت الصلاة باب فضل الصلاة لوقتها ، (725) ومسلم ، كتاب الإيمان باب كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال ، (85).
(8) رواه البخاري، كتاب الصوم باب قول النبي صلي الله عليه وسلم لمن ظلل عليه …، (1946)، ومسلم، كتاب الصيام باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر (1115).
(9)رواه أبو داود، كتاب الطلاق باب في اللعان، (2254).
(10) رواه البخاري، كتاب المساقاةباب فضل سقي الماء (2365)، ومسلم، كتاب التوبة باب في سعة الله تعالى وأنها سبقت غضبه(2619).
(11) رواه الطبراني في الدعاء(1/59)
(12) رواه أحمد في المسند( 4/402)
(13) رواه مالك في الموطأ (1/101).
(14) رواه البخاري ، كتاب الدعوات باب لله مائة اسم غير واحد، (6410)، ومسلم، كتاب الذكر ، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها (2677).
(15) رواه الترمذي، كتاب الجمعة باب ما جاء في التطوع في السفر، ( 0552).
(16) رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب الحلق والجلوس في المسجد، رقم (472)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل مثني مثني، رقم (749).
(17) رواه البخاري ، كتاب البيوع باب تفسير المشبهات بدون رقم.
(18) أخرجه النسائي، كتاب مناسك الحج، باب ما يجوز للمحرم أكله من الصيد ، رقم (2817).
(19) قال شيخنا: عندي في حاشية نسختي: (( لعله من الأحكام)) وهذه الرسالة قرأتها على سماحة شيخنا عبدالعزيز بن باز، والتعليق من إملائه، وعندي (( من الاتفاق)) أحسن.

أبو يوسف عبدالله الصبحي
08-Jul-2010, 03:01 PM
فصل
في نوعي الاختلاف في التفسير المستند إلى النقل وإلى طريق الاستدلال


الاختلاف في التفسير على نوعين: منه ما مستنده النقل فقط، ومنه ما يعلم بغير ذلك إذ العلم إما نقل مصدق ، وإما استدلال محقق، والمنقول إما عن المعصوم وإما عن غير المعصوم ، والمقصود بيان جنس المنقول سواء كان المعصوم أو غير المعصوم ، وهذا هو النوع الأول، فمنه ما يمكن معرفة الصحيح منه والضعيف، ومنه ما لا يمكن معرفة ذلك فيه.
وهذا القسم الثاني من المنقول :وهو ما لا طريق لنا إلي الجزم بالصدق منه عامته مما لا فائدة فيه والكلام فيه من فضول الكلام. وأما ما يحتاج المسلمون إلي معرفته فإن الله تعالى نصب على الحق فيه دليلاً، فمثال ما لا يفيد ولا دليل على الصحيح منه اختلافهم في لون كلب أصحاب الكهف، وفي البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة.


الشرح

وهذا صحيح فاختلافهم في لون كلب أصحاب الكهف ليس فيه فائدة ، سواء كان أحمر أو أبيض أو أسود، فلا فائدة لنا من معرفته، وليس لنا طريق إلي العلم به، إلا عن طريق الإسرائليين، والإسرائيليون ليسوا موثوقين ، ولا فائدة لنا في العلم بلونه إذ لا يهم كونه اسود أو أبيض أو أحمر.
وكذلك أيضاً في البعض الذي ضرب به موسى من البقرة، في قوله تعالي: (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا) هل البعض هو اليد أم الرجل أم الرقبة أم الرأس؟ فلا ندري.


* * *

وفي مقدار سفينة نوح، وما كان خشبها.


الشرح

فليس هناك فائدة في معرفة من أين خشبها ومما كان، هل كان من الأثل، أم من السمر، أم من الساج؟ وما كان مقدارها وطولها في السماء وطولها في الأرض وعرضها؟ كل هذا لا يهمنا.



* * *

وفي اسم الغلام الذي قتله الخضر ، ونحو ذلك، فهذه الأمور طريق العلم بها النقل، فما كان من هذا منقولاً نقلاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم - كاسم صاحب موسى أنه الخضر- (20)، فهذا معلوم، وما لم يكن كذلك بل كان مما يؤخذ عن أهل الكتاب- كالمنقول عن كعب ،ووهب ،ومحمد بن إسحاق (21) وغيرهم ممن يأخذ عن أهل الكتاب- فهذا لا يجوز تصديقه ولا تكذيبه إلا بحجة.
كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بالله ورسله، فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه ، وإما أن أهل يحدثوكم بباطل فتصدقوه)) (22) .
وكذلك ما نقل عن بعض التابعين ، وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض ، وما نقل في ذلك عن بعض الصحابة نقلاً صحيحاً، فالنفس إليه أسكن مما نقل عن بعض التابعين؛ لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلي الله عليه وسلم أو من بعض من سمعه منه أقوى ، ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين.
ومع جزم الصحابي بما يقوله فكيف يقال إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا تصديقهم ، والمقصود أن مثل هذا الاختلاف الذي لا يعلم صحيحه ولا تفيد حكاية الأقوال فيه هو كالمعرفة لما يروى من الحديث الذي لا دليل على صحته وأمثال ذلك.
وأما القسم الأول الذي يمكن معرفة الصحيح منه فهذا موجود فيما يحتاج إليه ولله الحمد،فكثيراً ما يوجد في التفسير والحديث والمغازى أمور منقوله عن نبينا صلي الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، والنقل الصحيح يدفع ذلك؛ بل هذا موجود فيما مستنده النقل، وفيما يعرف بأمور أخرى غير النقل.
فالمقصود أن المنقولات التي يحتاج إليها في الدين قد نصب الله الأدلة على بيان ما فيها من صحيح وغيره، ومعلوم أن المنقول في التفسير أكثره كالمنقول في المغازي، والملاحم، ولهذا قال الإمام أحمد: (( ثلاثة أمور ليس لها إسناد: التفسير والملاحم والمغازي)) ويروي: (( ليس لها أصل)) أي: إسناد؛ لأن الغالب عليها المراسيل ، مثل ما يذكره عروة بن الزبير (23) ، والشعبي (24) ، والزهري (25) ،وموسى بن عقبة (26) ،وابن إسحاق (27) ،ومن بعدهم ، كيحيي بن سعيد الأموي (28) والوليد بن مسلم، والواقدي (29) ونحوهم من كتاب المغازي.
فإن أعلم الناس بالمغازى أهل المدينة ، ثم أهل الشام، ثم أهل العراق.



الشرح

هذه فائدة مهمة جداً لأن أهل كل بلد وطائفة قد يكونون أعلم من البلد الآخر والطائفة الأخرى في شيء من مسائل الدين، فإذا قيل لك: من أعلم الناس بالمغازى؟ فكما قال الشيخ رحمة الله أهل المدينة، ثم أهل الشام ثم أهل العراق، وعلل الشيخ ذلك فقال:



* * *

فأهل المدينة أعلم بها؛ لأنها كانت عندهم، وأهل الشام كانوا أهل غزو وجهاد فكان لهم من العلم بالجهاد والسير ما ليس لغيرهم، ولهذا عظم الناس كتاب أبي إسحاق الغزاري الذي صنفه في ذلك، جعلواالأوزاعي(30) أعلم بهذا الباب من غيره من علماء الأمصار.


الشرح

عنى المؤلف هنا خاصة بأبي إسحاق الفزازي والأوزاعي.


* **

وأما التفسير فإن أعلم الناس به أهل مكة؛ لأنهم أصحاب ابن عباس؛ كمجاهد (31) وعطاء بن أبي رباح (32) وعكرمه (33) مولي ابن عباس ، وغيرهم من أصحاب ابن عباس؛ كطاووس (34) ، وأبي الشعثاء (35) وسعيد بن جبير (36) وأمثالهم وكذلك أهل الكوفة من أصحاب عبد الله بن مسعود.


الشرح

يقول المؤلف رحمه الله: إن التفسير أعلم الناس به أهل مكة بخلاف المغازى فأعلم الناس بها أهل المدينة ويعلل ذلك فيقول: لأنهم أصحاب ابن عباس رضي الله عنه وعن أبيه، كمجاهد وعطاء بن أبي رباح.


* * *

ومن ذلك ما تميزوا به على غيرهم، وعلماء أهل المدينة في التفسير مثل زيد بن اسلم (37) الذي أخذ عنه مالك التفسير وأخذه عنه أيضا ابنه عبد الرحمن وأخذه من عبد الرحمن عبد الله بن وهب.
والمراسيل إذا تعددت طرقها وخلت عن المواطأة قصداً أو اتفاقاً بغير قصد، كانت صحيحة قطعاً، فإن النقل إما أن يكون صدقا مطابقاً للخبر، وإما أن يكون كذباً تعمد صاحبه الكذب أو أخطأ فيه، فمتى سلم من الكذب العمد والخطأ كان صدقاً بلا ريب.



الشرح

المراسيل هل تكون صدقاً أو هل تكون صحيحة أم لا ؟ والمراسيل هي: التي رفعها إلي النبي صلى الله عليه وسلم من لم يسمع منه؛ من تابعي أو صحابي ، فالمرسل: هو ما رفعه التابعي أو الصحابي الذي لم يسمع من النبي صلي الله عليه وسلم ، فلو روى محمد بن أبي بكر حديثاً عن النبي صلي الله عليه وسلم سميناه مرسلاً، لأنه لم يسمع منه قطعاً، فمحمد ابن أبي بكر ولد في عام حجة الوداع. ومع ذلك قال أهل العلم : إن مراسيل الصحابة حجة، وأما مرسل التابعي فالتابعون يختلفون فمنهم من يقبل مرسله، ومنهم من لا يقبل ، فالذين تتبعوا وعرف أنهم لا يرسلون إلا عن صحابي مثل سعيد بن المسيب، فإنه قد قيل إنه لا يرسل إلا عن أبي هريرة فيكون مرسله صحيحاً، والذين ليسوا على هذه الحال ينظر في المرسل نفسه، إذا تعددت طرقه وتلقته الأمة بالقبول فإنه يكون صحيحاً ومثال ذلك حديث عمرو بن حزم، أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلي أهل اليمن كتاباً فيه ذكر الديات والزكاة، ومنه (( وأن لا يمس القرآن إلا طاهر (38))).




* * *

فإذا كان الحديث جاء من جهتين أو جهات وقد علم أن المخبرين لهم يتواطؤوا على اختلافه، وعلم أن مثل ذلك لا تقع الموافقة فيه اتفاقاً بلا قصد ، علم أنه صحيح ، مثل شخص يحدث عن واقعة جرت ويذكر تفاصيل ما فيها من الأقوال والأفعال، ويأتي شخص آخر قد علم أنه لم يواطئ الأول فيذكر مثل ما ذكره الأول من تفاصيل القوال والأفعال، فيعلم قطعاً أن تلك الواقعة حق في الجملة ، فإنه لو كان كل منهما كذب بها عمداً أو خطأ لم يتفق في العادة أن يأتي كل منهما بتلك التفاصيل التي تمنع العادة اتفاق الاثنين عليها بلا مواطأة من أحدهما لصاحبه ، فإن الرجل قد يتفق أن ينظم بيتاً وينظم الآخر مثله، أو يكذب كذبة ويكذب الآخر مثلها، أما إذا أنشأ قصيدة طويلة ذات فنون على قافية وروى فلم تجر العادة بأن غيره ينشئ مثلها لفظاً ومعنى مع الطول المفرط، بل يعلم بالعادة أنه أخذها منه، وكذلك إذا حدث حديثاً طويلاً فيه فنون وحدث آخر بمثله، فإنه إما أن يكون واطأه عليه أو أخذه منه أو يكون الحديث صدقاً، وبهذه الطريق يعلم صدق عامة ما تتعدد جهاته المختلفة على هذا الوجه من المنقولات، وإن لم يكن أحدها كافياً إما لإرساله وإما لضعف ناقله.


الشرح

المؤلف رحمه الله يقول: إن المراسيل إذا تعددت طرقها، وليس فيها اتفاق أو مواطأة عليها، فإنه يعلم بأنها صحيحة، ثم ضرب مثلاً: لو أن رجلاً أخبرك بخبر عن واقعة وفصل ما فيها تفصيلاً كاملاً عن كل ما جرى فيها من قول وفعل وإن زدت فقل ومن حضور ، وهذا الرجل ضعيف عندك لا تثق بخبره، لكن جاءك رجل آخر وحدثك بنفس الحديث وأنت تعلم أنه ما حصل بينه وبين الأول مواطأة ولا اتفاق، ثم جاء ثالث ورابع وهكذا، وإن كان هؤلاء كلهم ضعافاً لكن كون كل واحد منهم يذكر القصة على وجه مطابق للآخر مع طولها هذا يبعد أن يكون الخبر مختلفاً، لكن لو كانت القضية واقعة صغيرة مثلاً، وجاء إنسان وحدث بها، ثم آخر وهكذا، وكلهم ضعاف فإنها قد لا تصل إلي العلم وإلي الجزم بأنها حق؛ لأن مثل الكذبة الواحدة قد تقع، فقد يقولها قائل، ثم يقولها الثاني، ثم يقولها الثالث وهي لست لها أصل، مثل أن يكون أناس يريدون أن يروعوا الناس فقالوا: إنه سقطت مثلاً قذيفة في مكان، ولكن ما وصفوها، وقال آخرون مثل ذلك، وهكذا، فربما يكون هؤلاء قصدوا بذلك الترويع وكذبوا في هذا، لكن يأتون يكون لنا قصة بتفاصيلها القولية والفعلية هذا يبعد أن يكون ذلك على سبيل الكذب إلا إذا علمنا أن بينهم اتفاقاً أو مواطأة على ذلك.
وهذا هو حاصل ما ذكره المؤلف رحمه الله، وكل ذلك يريد به أن يؤيد أن المراسيل إذا تعددت طرقها وعلم أنه ليس هناك مواطأة ولا اتفاق فإنها تكون صحيحة؛ لأن كلا منهم يذكرها عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وكونهم يتفقون على هذا من طرق متعددة يدل على أن لها أصلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه يبعد في العادة أن مثل هؤلاء كلهم ينسبونها إلي الرسول عليه الصلاة والسلام بدون أن تصل إليهم من طريق مرفوع.
ثم اذكر أيضاً أن المؤلف رحمه الله يقول العادة ويكررها، وذلك لأن مثل هذه المسائل الخبرية- كما قال ابن حجر- لا مدخل للعقل فيها، ولو أننا أخذنا بكل احتمال عقلي ما بقي علينا خبر يمكن تصديقه ولا حكم يمكن إثباته ؛ لأنه في المجادلة كل إنسان يورد لك احتمالاً ويقول يحتمل كذا وكذا.


* **

لكن مثل هذا لا تضبط به الألفاظ والدقائق التي لا تعلم بهذه الطريق بل يحتاج ذلك إلى طريق يثبت بها مثل تلك الألفاظ والدقائق.


الشرح

والمعنى أن هذه الطريق التي ذكرها المؤلف رحمه الله لا يمكن أن تثبت بها الألفاظ والدقائق التي لا تعلم إلا بطريق آخر أصح منها.فالمؤلف رحمه الله هنا لا يتكلم عن المراسيل،بل يتكلم عن هذه الحادثة التي وقعت وحصل فيها التفصيل ، فإن الألفاظ والدقائق التفصيلية من هذه الحادثة لا تثبت بهذه الطريق ،بل يحتاج إلي نقل صحيح يعتمد عليه لإثباتها ، أما هذه التفاصيل في ظل الحادثة- ونحن نتكلم عن الحادثة عموماً- تثبت بهذه الطريق التي توافقوا فيها، لكن الدقائق والتفاصيل لا تثبت إلا بطريق يثبت به مثل هذه الدقائق والتفاصيل.



* * *

ولهذا ثبتت غزوة بدر بالتواتر وأنها قبل أحد، بل يعلم قطعا أن حمزة وعلياً وابا عبيدة برزوا إلي عتبة وشيبة والوليد، وأن علياً قتل الوليد، وأن حمزة قتل قرنه، ثم يشك في قرنه هل هو عتبة أم شيبة؟!.
وهذا الأصل ينبغي أن يعرف، فإنه أصل نافع في الجزم بكثير من المنقولات في الحديث والتفسير والمغازي وما ينقل من أقوال الناس وأفعالهم وغير ذلك، ولهذا إذا روى الحديث الذي يتأتى فيه ذلك عن النبي صلي الله عليه وسلم من وجهين- مع العلم بأن أحدهما لم يأخذه عن الآخر- جزم بأنه حق، لا سيما إذا علم أن نقلته ليسوا ممن يتعمد الكذب، وإنما يخاف على أحدهم النسيان والغلط، فإن من عرف الصحابة كابن مسعود، وأبي بن كعب، وابن عمر، وجابر، وأبي سعيد ، وأبي هريرة وغيرهم علم يقينا أن الواحد من هؤلاء لم يكن ممن يتعمد الكذب على رسول الله .صلى الله عليه وسلم فضلاً عمن هو فوقهم، كما يعلم الرجل من حال من جربه وخبره خبرة باطنة طويلة أنه ليس ممن يسرق أموال الناس، ويقطع الطريق ويشهد بالزور، ونحو ذلك.
وكذلك التابعون بالمدينة ومكة والشام والبصرة، فإن من عرف مثل أبي صالح السمان (39) والأعرج (40) وسليمان بن يسار (41) وزيد بن أسلم وأمثالهم علم قطعاً أنهم لم يكونوا ممن يتعمد الكذب في الحديث ، فضلاً عمن هو فوقهم مثل محمد بن سرين (42) والقاسم بن محمد (43) أو سعيد بن المسيب (44) أو علقمه (45) أو الأسود (46) أو نحوهم.
وإنما يخاف على الواحد من الغلط فإن الغلط والنسيان كثيراً ما يعرض للإنسان، ومن الحفاظ من قد عرف الناس بعده عن ذلك جداً، كما عرفوا حال الشعبي والزهري وعروة وقتادة (47) والثوري (48) وأمثالهم ، لا سيما الزهري في زمانه والثوري في زمانه.
فإنه قد يقول القائل: إن ابن شهاب الزهري، لا يعرف له غلط مع كثرة حديثه وسعة حفظه (49).
والمقصود أن الحديث إذا روي مثلاً من وجهين مختلفين من غير مواطأة امتنع عليه أن يكون غلطاً كما امتنع أن يكون كذباً، فإن الغلط لا يكون في قصة طويلة متنوعة وإنما يكون في بعضها ، فإذا روى هذا قصة طويلة متنوعة ، ورواها الآخر مثلما رواها الأول من غير مواطأة امتنع الغلط في جميعها، كما امتنع الكذب في جميعها من غير مواطأة، ولهذا إنما يقع في مثل ذلك غلط في بعض ما جرى في القصة مثل حديث اشتراء النبي صلي الله عليه وسلم البعير من جابر فإن من تأمل طرقه علم قطعاً أن الحديث صحيح (50) ، وإن كانوا قد اختلفوا في مقدار الثمن.




الشرح

وهذا هو الذي قلناه قبل قليل . إذا كان في القصة شيء من الدقائق فلا يكفي هذا النقل بل لا بد من طريق آخر يثبت به.


* * *

وقد بين ذلك البخاري في صحيحه ، فإن جمهور ما في البخاري ومسلم مما يقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله؛ لأن غالبه من هذا النحو . ولأنه قد تلقاه أهل العلم بالقبول والتصديق . والأمة لا تجتمع على خطأ، فلو كان الحديث كذباً في نفس الأمر والأمة مصدقة له قابلة له: لكانوا قد أجمعوا على تصديق ما هو في نفس الأمر كذب. وهذا إجماع على الخطأ وذلك ممتنع ، وإن كنا نحن بدون الإجماع نجوز الخطأ أو الكذب على الخبر فهو كتجويزنا قبل أن نعلم الإجماع على العلم الذي ثبت بظاهر أو قياس ظني أن يكون الحق في الباطل بخلاف ما اعتقدناه، فإذا اجمعوا على الحكم جزمنا بأن الحكم ثابت باطناً وظاهراً.


الشرح

وهذا واضح ، فأحياناً يمر عليك الحديث وتعلم أن معناه كذا وكذا، لكن فيه احتمال أن يكون خلاف ذلك، بأن يكون معناه الباطن-الذي هو خلاف الظاهر- على خلاف ما فهمت ، فإذا انعقد الإجماع على ما يقتضيه ظاهر الحديث علمنا بأنه لا يحتمل المعنى الباطن الذي نقدره في أذهاننا، لأن الأمة لا تجتمع على خطأ.
فمثلاً اختلاف الرواة في مقدار ثمن جمل جابر لا يجعله مضطرباً، لأن هذا الاضطراب لا يعود إلي أصل الحديث، وإنما يعود إلي مسألة جزئية فيه وهو لا يضر، وكذلك اختلافهم في حديث فضالة بن عبيد في قيمة القلادة. هل هي اثنا عشر ديناراً أو أقل أو اكثر؟ فهذا أيضاً لا يضر؛ لأن هذا الاختلاف ليس في اصل القصة.


* * *

ولهذا كان جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً له أو عملاً به أنه يوجب العلم ، وهذا هو الذي ذكره المصنفون في أصول الفقه من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، إلا فرقة قليلة من المتأخرين اتبعوا في ذلك طائفة من أهل الكلام أنكروا ذلك، ولكن كثيراً من أهل الكتاب أو أكثرهم يوافقون الفقهاء وأهل الحديث والسلف على ذلك، وهو قول أكثر الأشعرية؛ كأبي إسحاق وابن فورك، وأما ابن الباقلاني فهو الذي أنكر ذلك ، وتبعه مثل أبى المعالي، وأبو حامد وابن عقيل ، وابن الجوزي، وأبن الخطيب، والآمدي ونحو هؤلاء. والأول هو الذي ذكره الشيخ أبو حامد ، وأبو الطيب ، وأبو إسحاق، وأمثاله من أئمة الشافعية ، وهو الذي ذكره القاضى عبد الوهاب ، وأمثاله من الماكية، وهو الذي ذكره شمس الدين السرخسي، وأمثاله من الحنفية، وهو الذي ذكره أبو يعلي وأبو الخطاب ، وأبو الحسن ابن الزاغوني، وأمثالهم من الحنبلية.




الشرح


وبهذا يكون المؤلف رحمه الله ذكر عن علماء المذاهب الأربعة وهو يدل على سعة إطلاعه- رحمه الله- وهذه المسألة من مسائل أصول الفقه وأصول الحديث، أي في المصطلح وفي أصول الفقه. فخبر الآحاد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً له إن كان خبراً، وعملا به إن كان طلبا. هل ذلك يفيد العلم واليقين؟ وهذا فيه الخلاف الذي ذكره المؤلف، ولكن جمهور علماء المسلمين على أنه يفيد العلم واليقين، وذكر ابن حجر أنه يفيد العلم بالقرائن وهذا هو الحق، فإن أحداً لا يتطرق إليه الشك في أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي)) (51) مع أنه خبر آحاد، ولا نشك في أن الرسول صلي الله عليه وسلم قال: (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) (52) مع أنه خبر آحاد، إلى غير ذلك مما هو خبر آحاد ومع ذلك يفيد العلم اليقيني لكثرة الشواهد التي تثبته ولتلقي الأمة له بالقبول.


* * *


وإذا كان الإجماع على تصديق الخبر موجباً للقطع به؛ فالاعتبار في ذلك بإجماع أهل العلم بالحديث ، كما أن الاعتبار بالإجماع على الأحكام بإجماع أهل العلم بالأمر والنهي والإباحة.


الشرح

والمؤلف رحمه الله يريد بهذا أن إجماع كل ذي فن بفنه، فمثلاً في علم الحديث نرجع إلى إجماع أهل الحديث ،فإذا أجمع أهل الحديث على أن خبر الواحد إذا تلقي بالقبول واحتفت به القرائن أفاد العلم فلا يهمنا من خالفهم من الفقهاء، كذلك أيضاً الاعتبار للإجماع في الأحكام الشرعية-كالواجب والحرام والمندوب والمكروه والمباح- المعتبر في ذلك علماء الأحكام الفقهاء. كذلك الإجماع في مسألة نحوية ،الاعتبار بإجماع أهل النحو، وعلى هذا فقس، لأن صاحب كل علم أدري بما يحصل فيه، فالإنسان الفقيه لا يعرف إجماع أهل النحو، ولا يعرف إجماع أهل الحديث، ولا الأصوليين مثلاً، فالمهم أننا نعتبر إجماع كل قوم في علمهم وفنهم الذي يجمعون عليه ، فإذا قال لنا قائل مثلاً: إن الفقهاء أو إن أهل الكلام خالفوا في خبر الواحد،وقالوا : لا يمكن أن يفيد العلم، قلنا لا يهمنا مخالفتهم،إنما نحن ننظر إلي إجماع أهل الحديث وعلى هذا فقس.



* * *

والمقصود هنا أن تعدد الطرق مع عدم التشاور أو الاتفاق في العادة يوجب العلم بمضمون المنقول، لكن هذا ينتفع به كثيراً في علم أحوال الناقلين.



الشرح

لو جاء واحد مثلاً من أهل النحو وقال: أجمع العلماء على وجوب ستر العورة في الصلاة، فنقول له: ما هذا عشك فادرجي. قل أجمع العلماء على رفع الفاعل ونصب المفعول به، نقول: نعم سمعاً وطاعة، ولهذا يقول المؤلف رحمه الله: لكن هذا ينتفع به كثيراً من علم أحوال الناقلين.هل الناقل لهذا الكلام من الفقهاء أم من الأصوليين أم من النحويين ؟


* * *

وفي مثل هذا ينتفع برواية المجهول والسيء الحفظ، وبالحديث المرسل ونحو ذلك ، ولهذا كان أهل العلم يكتبون مثل هذه الأحاديث ويقولون : إنه يصلح للشواهد والاعتبار ما لا يصلح لغيره، قال أحمد: (( قد أكتب حديث الرجل لأعتبره)) ومثل ذلك بعبد الله بن لهيعة ، قاضي مصر فإنه كان من أكثر الناس حديثاً ومن خيار الناس، ولكن بسبب احتراق كتبه وقع في حديثه المتأخر غلط فصار يعتبر بذلك ويتشهد به وكثيراً ما يقترن هو والليث بن سعد والليث حجة ثبت إمام.


الشرح

ذكر المؤلف - رحمه الله- أن الإمام أحمد يقول: (( قد أكتب حديث الرجل لأعتبره)). وليس معنى لأعتبره: أحتج به، لكن المعنى أنني أطلب له شواهد ومتابعات ، ولهذا قال ابن حجر في النخبة: (( وتتبع الطرق لذلك يسمي الاعتبار)) الشاهد هو الاعتبار ، فهنا شاهد ومتابع، فالشاهد أن يأتي حديث مستقل بغير هذا السند يكون شاهداً للحديث الذي نحن نطلب له ما يؤيده.
والمتابعات تكون في السند بمعنى أن الراوى يجد متابعاً له في الحديث عن هذا الرجل الثقة، فلو روى إنسان غير ثقة عن الزهرى مثلاً، والزهري ثقة. روي عنه إنسان غير ثقه، فنحتاج أن نرى أحداً تابع هذا الراوي عن الزهري في روايته عن الزهري، فإذا وجدنا متابعاً قوي الحديث، أو مثلاً حديثاً آخر من طريق آخر غير طريق الزهرى يشهد لهذا الحديث فيسمى هذا شاهداً، وتتبعنا للطرق لأجل وجود متابع أو شاهد يسمى الاعتبار، وهذا معنى قول الإمام أحمد : (( لأعتبره)) أي لأجل أن أنظر هل له من يتابعه أو له حديث شاهد.


***

ولهذا عبد الله بن لهيعة يكثر الإمام أحمد من الرواية عنه في المسند كثيراً جداً لكن عبد الله بن لهيعة هذا من علم أنه سمع منه قبل احتراق كتبه كان حجة، ومن علم أنه سمع منه بعد ذلك كان مشكوكاً فيه وغير موثوق به؛ لأنه رحمه الله اختلفت حاله بعد احتراق كتبه، وإذا شككنا هل هو ممن سمع منه قبل أو بعد ؛ فإننا نتوقف فيه بدون أن نرجح، لكن القسم الثاني نرجح أنه خطأ.


* * *



وكما أنهم يستشهدون ويعتبرون بحديث الذي فيه سوء حفظ، فإنهم أيضاً يضعفون من حديث الثقة الصدوق الضابط أشياء تبين لهم غلطه فيها بأمور يستدلون بها، ويسمون هذا: (( علم علل الحديث) وهو من أشرف علومهم ، بحيث يكون الحديث قد رواه ثقة ضابط وغلط فيه، وغلطه فيه عرف،إما بسبب ظاهر؛ كما عرفوا أن النبي صلي الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال (53) وأنه صلى في البيت ركعتين (54) وجعلوا رواية ابن عباس لتزوجها وهو محرم (54)، ولكونه لم يصل مما وقع فيه الغلط، وكذلك أنه اعتمر أربع عمر (55) وعلموا أن قول ابن عمر: إنه اعتمر في رجب مما وقع فيه الغلط.


الشرح

إذا مع أن هؤلاء كلهم ثقات لكن الغلط لا يسلم منه أحد، وعلى هذا فالنبي صلي الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال؛ لأنها هي بنفسها قالت: إنه تزوجها وهو حلال، وكذلك قال ابو رافع وهو السفير بينهما: إنه تزوجها وهو حلال، وأما صلاته في البيت يعني: في الكعبة فهذا لا شك فيه ثابت، ونفي ابن عباس له يحمل على أنه نفى علمه به، وأما رواية أنه أعتمر أربع عمر فهو ثابت أيضاً.
فالنبي صلي الله عليه وسلم اعتمر أربع مرات؛ العمرة الأولي : عمرة الحديبية ، والثانية عمرة القضاء، والثالثة عمرة الجعرانة، والرابعة: العمرة التي كانت مع حجه، فإنه كان قارناً، فهذه أربع عمر، ولم يعتمر النبي عليه الصلاة والسلام سواها أبداً، فقول ابن عمر: إنه اعتمر في رجب هذا مما وهم فيه رضي الله عنه.


* * *


وعلموا أنه تمتع وهو آمن في حجة الوداع، وأن قول عثمان لعلي: كنا يومئذ خائفين
(56) مما وقع فيه الغلط.


الشرح

عثمان رضي الله عنه لا يري التمتع ، ويقول إن الرسول عليه الصلاة والسلام تمتع؛
لأنه كان خائفاً، ولكن هذا ليس بصواب ، فإن الرسول كان تمتع وهو آمن ما يكون وليس فيه خوف.


* * *


وأن ما وقع في بعض طرق البخاري(( إن النار لا تمتلئ حتى ينشئ الله لها خلقاً آخر (57)، مما وقع فيه الغلط وليس فيه خوف.



الشرح


هذا أيضاً مما نعلم أنه غلط وهو أن النار يبقى فيها فضل عمن دخلها، فينشئ الله لها أقواماً فيدخلهم النار، فهذا ليس بصواب، بل النار لا تزال يوضع فيها وهي تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع الله عليها رجله- سبحانه وتعالى- فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط (58) ولأن النار لو أنشأ لها أقواماً لإحراقهم بها لكان ذلك منافياً للعدل والرحمه ، فهذا مما يعلم أنه ليس بصواب حتى وإن ورد في صحيح البخاري، وقال هذا الراوي فيه وهم والطريق الآخر اصح منه.


* * *


والناس في هذا الباب طرفان: طرف من أهل الكلام ونحوهم ممن هو بعيد عن معرفة الحديث وأهله، لا يميز بين الصحيح والضعيف فيشك في صحة أحاديث أو في القطع بها مع كونها معلومة مقطوعاً بها عند أهل العلم به، وطرف ممن يدعي اتباع الحديث والعلم به كلما وجد لفظاً في حديث قد رواه ثقة أو رأي حديثا بإسناد ظاهره الصحة يريد أن يجعل ذلك من جنس ما جزم أهل العلم بصحته.


الشرح


وهذا الذي قاله الشيخ أخيراً ، وحكم بأنه طرف يقع فيه كثير من الناس اليوم، فتجدهم يعتمدون على ظاهر الإسناد ، ويصححون الحديث بناء على ظاهره، ولا ينظرون إلي الأحاديث الصحيحة التي تعتبر في السنة كالجبال ، وهذه المسألة دائما أحذر منها، وأقول: إن مثل هذه الأحاديث التي ليست في الكتب المعروفة المتلقاة عن أهل العلم إذا وردت ولو بسند ظاهر الصحة وهي تعارض الأحاديث الواضحة البينة المتلقاة بالقبول ؛ فإنه لا ينبغي للإنسان أن يعتمد عليها، فكما أننا لا نعتمد على ظاهر الإسناد-لا تصحيحاً ولا تضعيفاً -فإنه يجب أن نحيل هذه المسائل إلي القواعد العامة في الشريعة والأحاديث التي تعتبر جبالاً راسية، فالشيخ الآن بين رحمه الله أنه قد يكون السند صحيحاً والمتن غير صحيح كما سبق من ذكر الأوهام، كذلك بعض الناس الذين يدعون علم الحديث وانهم أهله ورجاله تجدهم يعتمدون على حديث رواته ثقة، وظاهره الصحة فيجعلونه معرضاً للأحاديث المتلقاة بالقبول المتفق على صحتها.


* **

حتى إذا عارض الصحيح المعروف أخذ يتكلف له التأويلات الباردة أو يجعله دليلاً له في مسائل العلم، مع أن أهل العلم بالحديث يعرفون أن مثل هذا غلط.
وكما أن على الحديث أدلة يعلم بها أنه صدق، وقد يقطع بذلك، فعليه أدلة يعلم بها أنه كذب ويقطع بذلك مثل ما يقطع بكذب ما يرويه الوضاعون من أهل البدع والغلو في الفضائل، مثل حديث يوم عاشوراء، وأمثاله مما فيه أن من صلي ركعتين كان له كأجر كذا وكذا نبيا ، وفي التفسير من هذه الموضوعات قطعة كبيرة مثل الحديث الذي يرويه الثعلبي والواحدي والزمخشري في فضائل سور القرآن سورة سورة فإنه موضوع باتفاق أهل العلم.
والثعلبي هو في نفسه كان فيه خير ودين، ولكنه كان حاطب ليل ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع.



الشرح

حاطب الليل لا يميز بين الرطب واليابس ، وبين الحطب والحية وغيرها فيلتقط ما يجده.



* * *

والواحدي صاحبه كأن أبصر منه بالعربية لكن هو أبعد عن السلامة واتباع السلف، والبغوي تفسيره مختصر من الثعلبي، لكنه صان تفسيره عن الأحاديث الموضوعة والآراء المبتدعة والموضوعات في كتب التفسير كثيرة.



الشرح

هذا تقويم من شيخ الإسلام - رحمه الله- لهذه الكتب فتكلم عن الثعلبي والواحدي والبغوى . ومتقضى كلامه أن تفسير البغوي أحسن هذه التفاسير.
وإذا سأل أحدكم: هل سياق الإسناد قبل الحديث الموضوع يبرر الإتيان به في كتاب التفسير؟ فأقول هذا وإن كانت تبرأ ذمته به لكنه لا ينبغي أن يأتي بالموضوعات ، هذا في الموضوع ، أما الضعيف فأهون. إذاً فالموضوع لا ينبغي أن يأتي به.



* * *

منها الأحاديث الكثيرة الصريحة في الجهر بالبسملة (59) وحديث على الطويل في تصدقه بخاتمه في الصلاة فإنه موضوع باتفاق أهل العلم (60).



الشرح

تكلم المؤلف- رحمه الله- على حديث على الطويل ، وهذا الحديث روي من عدة طرق أخرجها الطبري وغيره في تفسير قوله تعالي: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (المائدة:55) ، وفحواها أن علياً رضي الله عنه مر به سائل في حال ركوعه فأعطاه خاتمه فنزلت الآية. قال ابن كثير في هذه الروايات: وليس يصح شيء منها بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها، وعلق المرحوم الشيخ أحمد شاكر على هذه الآثار التي أخرجها الطبري بقوله: (( وهذه الآثار جميعاً لا تقوم بها حجة في الدين)).
وشيخ الإسلام - رحمه الله- يرى أنه موضوع ، والموضوع هو المكذوب على الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومثل ما روي في قوله: ( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)(الرعد: 7) ، أنه على (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)(الحاقة: 12)، أذنك يا علي.



الشرح

والظاهر أن هذا من تفسير الرافضة ، فهم الذين يدسون مثل هذه الأشياء، ولا شك أن لكل قوم هادياً، لكن ليس هو على فقط، كل قوم يسر الله لهم من يهديهم ، وعلى رأس الهداة الرسل عليهم الصلاة والسلام. (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) هذه في أي أذن واعية، تعي القول وتفهمه فهي داخلة في هذه الآية.
ومثل هذا ما أخرجه ابن جرير، وابن مردوية، وأبو نعيم وغيرهم من حديث ابن عباس ، قال لما نزلت: (ِإِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)(الرعد: 7) وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره فقال: (( أنا المنذر ، وأوما بيده إلي منكب على فقال: أنت الهادي يا على. بك يهتدي المهتدون من بعدي (61) ، قال الحافظ ابن كثير: وهذا الحديث فيه نكارة شديدة (62) .



فصل
في النوع الثاني: الخلاف الواقع في التفسير من جهة الاستدلال


وأما النوع الثاني من سببي الاختلاف وهو ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل، فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين حدثتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان ، فإن التفاسير التي يذكر فيها كلام هؤلاء صرفا لا يكاد يوجد فيها شيء من هاتين الجهتين، مثل تفسير عبد الرزاق (63) ووكيع (64) وعبد بن حميد (65) وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم، ، ومثل تفسير الإمام أحمد، وإسحاق بن راهوية ، وبقي بن مخلد ، وأبي بكر بن المنذر ، وسفيان بن عيينه، وسنيد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي سعيد الأشج، وأبي عبد الله بن ماجه، وابن مردويه.
: قوم اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها.
والثاني: قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن والمنزل عليه والمخاطب به.


الشرح

إذا القسم الأول: وهم الذين اعتقدوا شيئاً فأرادوا أن يحملوا معاني الكلام عليه، وهذا كما يكون في العقائد والأمور العلمية يكون كذلك في الأحكام والأمور العملية، تجد الرجل يعتنق مذهباً معيناً ثم يحاول أن يصرف معاني النصوص إلي ذلك المعنى المعين الذي كان يعتنقه سواء في أسماء الله وصفاته، أو في التوحيد، أو ما أشبه ذلك.
فمثلاً: يقول أنا أجيز التوسل حتى بالجن والشياطين، لأن الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَة)(المائدة: 35) فأتوسل بكل شيء ، وكذلك أيضاً ينكر صفات الله عز وجل ويقول لأن الله يقول ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشوري :11) وأنا إذا أثبت الصفة مثلت، يكون معتقداً هذا الاعتقاد ثم يحمل القرآن على ذلك.
القسم الثاني: ليس عنده اعتقاد سابق لكنه يفسر القرآن بحسب ما يدل عليه اللفظ، بقطع النظر به وهو الله، وعن المنزل عليه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعن المخاطب به وهم المرسل إليهم، ينظر إلي الكلام من حيث هو كلام فقط، وهذا أيضاً خطأ، فإنه بلا شك عند جميع الناس أن الكلام يختلف معناه بحسب المتكلم به، وبحسب المخاطب به أيضاً.
فمثلاً لو جاءتك كلمة نابية من شخص محترم، وجاءتك مثل هذه الكلمة من شخص ساقط فإن كلمة الأول أشد تاثيراً، لأن كلمة المحترم لها وزن، فإذا وصفني بعيب مثلاً فمعناه أنه حط من قدري، لكن إذا جاء شخص ساقط يسب كل أحد وسبني فلن يهمني كثيراً . مع أن الكلمة واحدة.
كذلك أيضاً، لو أن واحداً تكلم مع شخص فقال: والله هذا رجيل ‍! ورجيل تصغير رجل- وهو يتحدث عن صبي صغير، صارت مدحاً له، ولكن لو قالها لرجل عاقل كبير صارت ذماً.
إذاً فالكلمة الواحدة تجدها تختلف بحسب المخاطب بها، حتى إن الكلمة التي تصغر تكون أحياناً معناها عظيماً وكبيراً كما قيل:

وكل أناس سوف تدخل بينهـــــم
دويهية تصفر منها الأنامـــل

فبعض الناس يأخذ القرآن والحديث ويفسره بحسب ما يقتضيه ذلك اللفظ الظاهر بقطع النظر عن المتكلم به والمخاطب والمنزل عليه وقرائن الأحوال، وهذا خطأ.



* * *

فالأولون راعوا المعنى الذي من غير نظر إلي ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان والآخرون راعوا مجرد اللفظ وما يجوز أن يريد به عندهم العربي من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم به والسياق الكلام ، ثم هؤلاء كثيراً ما يغلطون في احتمال اللفظ لذلك المعني في اللغة كما يغلط في ذلك الذين قبلهم، كما أن الأولين كثيراً ما يغلطون في صحة المعني على الذي فسروا به القرآن كما يغلط في ذلك الآخرون ، وإن كان نظر الأولين إلي المعنى أسبق ، ونظر الآخرين إلي اللفظ أسبق.


الشرح

ولكن الواجب على الإنسان أن ينظر إلى اللفظ وينظر إلى قرائنه المحيطة به، من حال المتكلم به والمخاطب والمنزل عليه وما أشبه ذلك ، وهذا شيء معروف لكل أحد؛ بل إن الكلام يختلف حتى في نبرات المتكلم، فلو تكلم مثلاً بعنف واحمرار عين وانتفاخ أوداج وانتشار شعر فليس كمن تكلم بهدوء ، تجد الأول كأنما يرمي بشرر والثاني ليس كذلك.
فالشيخ رحمه الله هنا جعلهم على قسمين: قسم ينظرون إلى المعنى لكن يحاولون أن يجعلوه على ما يريدونه هم، وقسم ينظرون إلي اللفظ فقط، ليس عندهم اعتقاد سابق لكن ينظرون إلى مجرد اللفظ بقطع النظر عن الأحوال والقرائن. فهؤلاء ينظرون إلي المعنى وهؤلاء ينظرون إلي اللفظ، ويقصد بالأولين الذين عندهم اعتقاد القسم الأول.



* * *


والأولون صنفان تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به، وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يرد به. وفي كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعنى باطلاً فيكون خطؤهم في الدليل والمدلول، وقد يكون حقا فيكون خطؤهم في الدليل لا في المدلول، وهذا كما أنه وقع في تفسير القرآن فإنه وقع أيضاً في تفسير الحديث.
فالذين أخطأوا في الدليل والمدلول مثل طوائف من أهل البدع اعتقدوا مذهبا يخالف الحق الذي عليه الأمة الوسط الذين لا يجتمعون على ضلالة كسلف الأمة وأئمتها.
وعمدوا إلي القرآن فتأولوه على آرائهم، تارة يستدلون بآيات علي مذهبهم ولا دلالة فيها، وتارة يتأولون ما يخالف مذهبهم بما يحرفون به الكلم عن مواضعه.


الشرح

والفرق بين الأمرين أنهم تارة يستدلون بآيات على مذهبهم ولا دلالة فيها، وتارة يتأولون ما يخالف مذهبهم ويحرفون الكلام عن مواضعه. ونضرب مثلاً لذلك بالمعطلة ، حيث يقولون : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )، هذا يدل على أننا لا نثبت أي صفة تكون للمخلوق، وليس صحيحاً أن الآية تدل على ما قالوا. وتارة يحرفون الكلم فيقولون: إن المراد باليد: القدرة أو النعمة. فهم يثبون هذا لكن يحرفونه، فتارة يحملون اللفظ، ما لا يحتمله ، وتارة يصرفونه عن معناه.
ومن هذا ما وقع أخيراً من أولئك الذين فسروا القرآن بما يسمي بالإعجاز العلمي، حيث كانوا يحملون القرآن أحياناً ما لا يتحمل، صحيح أن لهم استنباطات جيدة تدل على أن القرآن حق ومن الله عز وجل، وتنفع في دعوة غير المسلمين إلي الإسلام ممن يعتمدون على الأدلة الحسية في تصحيح ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام ، لكنهم أحياناً يحملون القرآن ما لا يتحمله، مثل قولهم: إن قوله تعالي: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) (الرحمن:33) ، إن هذا يعني الوصول إلى القمر وإلى النجوم وما أشبه ذلك ، لأن الله قال: ( لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) والسلطان عندهم العلم. وهذا لا شك أنه تحريف، وأنه حرام ان يفسر كلام الله بهذا، لأن من تدبر الآية وجدها تتحدث عن يوم القيامة، والسياق كله يدل على هذا. ثم إنه يقول:( أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا) وهؤلاء ما نفذوا من أقطار السموات ، بل ما وصلوا إلي السماء ، وأيضاً يقول:(يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ) وهؤلاء لم يرسل عليهم.
والحاصل أن من الناس من يتجاوز ويغلو في إثبات أشياء من القرآن ما دل عليها القرآن، ومنهم من يفرط وينفي أشياء دل عليها القرآن ، لكن يقول هذا ما قاله العلماء السابقون ولا نقبله. لا صرفاً ولا عدلاً ، وهذا خطأ أيضاً، فإذا دل القرآن على ما دل عليه العلم الآن من دقائق المخلوقات ، فلا مانع من أن نقبله وأن نصدق به إذا كان اللفظ يحتمله، أما إذا كان اللفظ لا يحتمله فلا يمكن أن نقول به.


* * *

ومن هؤلاء فرق الخوارج والروافض والجهمية والمعتزلة والقدرية والمرجئة وغيرهم. وهذا كالمعتزلة مثلاً فإنهم من أعظم الناس كلاماً وجدالاً.


الشرح

فالخوارج مثلاً يأخذون بنصوص الوعيد وما ظاهره الكفر، فيكفرون المسلمين بالكبائر.
والرافضة يحرفون القرآن أيضاً فيقولون في قوله تعالي: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ) (الرحمن:19)، المراد بذلك على وفاطمة، ويقولون (( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ)) (الاسراء: 60) المراد بها بنو أمية. ولهم تفاسير غريبة منكرة -والعياذ بالله-فهم يحرفون الكلم عن مواضعه في تفسير الآيات الدالة على الذم وتأويلها إلي خصومهم، والآيات الدالة على المدح يجعلونها لمن ينتصرون لهم.
وكذلك الجهمية - والعياذ بالله- أصحاب الجهم بن صفوان يحرفون كل آيات الصفات، لأنهم يعتقدون أن الله ليس له صفة، وأن أسماءه مجرد إعلام، ومنهم من يقول: إنه ليس له اسم ولا صفة وأما هذه الأسماء فهي أسماء لمخلوقاته، ليست أسماء له وعلى كل حال الحمد لله (ْفَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ)(البقرة: 213)، وأما المعتزلة أصحاب واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد فهم كما قال شيخ الإسلام رحمه الله من أعظم الناس كلاماً وجدالاً؛ لأنهم دائماً يرجعون إلي العقل ولا يعبؤن بالنصوص إطلاقاً، حتى فيما لا تدركه العقول يحكمون العقل، والقاعدة عندهم في الصفات يقولون: إن ما أثبته العقل فهو ثابت سواء كان موجوداً في الكتاب والسنة أو لم يكن موجوداً، وما نفاه العقل فهو منفي سواء كان موجوداً في الكتاب والسنة أم لا ، وما لا يقتضي العقل إثباته ولا نفيه ، فأكثرهم نفاه ؛ لأنه قال : لا نثبت إلا ما أثبته العقل ، وبعضهم توقف فيه ، فما دام العقل لا يدل على إثباته ولا نفيه نتوقف ، وهم يجادلون في هذا جدالا عظيماً ، وإذا رأيتهم تعجبك أقوالهم ، ولكنها أقوال باطلة ، كما قيل فيها :

حجج تهافت كالزجاج تخالـــــها


حقا وكل كاســــر مكســــور

فهم يتناقضون فتجد الواحد منهم يرى أن من الواجب أن يوصف الله بكذا ، والآخر يرى أنه من المستحيل أن يوصف الله بكذا ، وتناقض الأقوال يدل على بطلانها .


وقد صنفوا تفاسير على أصول مذهبهم ، مثل تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم شيخ إبراهيم بن إسماعيل بن علية الذي كان يناظر الشافعي ، ومثل كتاب أبي على الجبائي ، والتفسير الكبير للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني ، والجامع لعلم القرآن لعلي بن عيسى الرماني ، والكشاف لأبي القاسم الزمخشري ، فهؤلاء وأمثالهم اعتقدوا مذاهب المعتزلة .



الشرح

الكشاف لأبي القاسم الزمخشري كتاب معروف متداول ، وهو جيد في اللغة والبلاغة ، لكنه على أصول المعتزلة مثل ما قال الشيخ ، ولا تكاد تعرف كلامه في ذلك إلا إذا كان عندك علم بمذهب المعتزلة ومذهب أهل السنة والجماعة ؛ لأنه رجل جيد وبليغ ، يدخل عليك الشيء وأنت لا تشعر به ، حتى كأنك تظن أن هذا هو الكلام الصحيح السداد ، لكن فيه بلاء ، فمثلا : قال : ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ)(آل عمران: 185) ، قال أي : فوز أعظم من دخول الجنة والنجاة من النار ؟ ! وهذا كلام طيب . لكنه يريد نفي رؤية الله عز وجل ؛ لأن رؤية الله عز وجل أعلى شيء ، كما قال تعالى : ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ )(يونس: 26) ، فأنت إذا قرأت هذا الكلام فستجده صحيحا ، فليس هناك فوز أعظم من دخول الجنة والنجاة من النار ، ولن تدري أن هذا الرجل يشير إلى أنه لا رؤية ، وأن الله لا يرى ؛ لأن رؤية الله اعظم من دخول الجنة ، وأعظم من كل شيء . وله أشياء عجيبة وتصرف يتلاعب بالعقول . إذا لم يكن عندك حذر منه ومعرفة بأصول المعتزلة ، وأصول أهل السنة والجماعة ، فإنك تضل . هذا إذا تكلم فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته وما يتعلق بمذهبهم ، أما إذا تكلم في البلاغة والعربية فهو جيد .


وأصول المعتزلة خمسة يسمونها هم : التوحيد ، والعدل ، والمنزلة بين المنزلتين ، وإنفاذ الوعيد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وتوحيدهم هو توحيد الجهمية الذي مضمونه نفي الصفات .



الشرح

فهم يقولون : نحن نوحد الله ونقول من أصولنا التوحيد . ولكن التوحيد الذي يريدون له معنى آخر .
وكذلك أيضا : العدل ، والعدل أيضا أصل عظيم ، قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإحْسَانِ )(النحل: 90) .
والثالث : المنزلة بين المنزلتين ، ولكي نعرف هذا الأصل عندهم نضرب مثلا فنقول : هناك رجل محافظ على الطاعات متجنب للمعاصي ، ورجل آخر يفعل الكبائر وهو مؤمن ، ورجل ثالث : كافر . فهل تجعل الثلاثة سواء ؟ فإذا أجبتهم : بلا ، يقولون : إذا هذا المؤمن الذي يفعل الكبائر يصير في منزلة بين المنزلتين ، فلا نقول مؤمن ولا كافر .
أما الأصل الرابع فهو إنفاذ الوعيد ، فهم يقولون : إن الله عز وجل يتوعد على فعل المعاصي التي لا تخرج من الإسلام مثل : ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء:93) ، ومثل : (( ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن الخمر ، قاطع الرحم ، والمنان بما أعطى ))(66) ، ومثل : (( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب )) (67). فيقولون نحن ننفذ هذا الوعيد ؛ لأن الذي قال هذا الوعيد الله عز وجل وهو قادر فلابد من إنفاذه ، فهم يقولون ننفذ الوعيد .
والأصل الخامس : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذا من أصولهم ، ونعم الأصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لكن سيأتينا ما يريدون بهما من معنى باطل ، وما يلبسون به على الناس ، فهذه الأصول إذا قرأتها تقول هذه أصول حق لكن عندما تفسر تجد أنها باطلة .
وتوحيدهم هم توحيد الجهمية الذي مضمونه نفي الصفات وغير ذلك ، قالوا إن الله لا يرى ، وإن القرآن مخلوق ، وإنه تعالى ليس فوق العالم . وإنه لا يقوم به علم ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر ولا كلام ولا مشيئة ولا صفة من الصفات .



الشرح

وعلى هذا صار التوحيد عندهم تجريد الله من صفاته ، يقولون : وحد الله ، يعني جرده من صفاته ؛ لأنك إذا أثبت له صفة مثلته بغيره وحينئذ لم تكن موحدا ؛ لأن التوحيد مبناه على أمرين : على النفي والإثبات ؛ لأنه من وحد يوحد ، فلا توحيد في إثبات فقط ولا توحيد في نفي فقط ، لأن النفي المجرد تعطيل ، والإثبات المجرد لا يمنع المشاركة ، فلا توحيد إلا بنفي وإثبات .
فإذا قلت : لا قائم ، فهذا نفي ، وبهذا فقد نفيت القيام عن كل أحد فهو تعطيل ، وإذا قلت زيد قائم فهذا إثبات ، لكن لا يمنع المشاركة ، قد يكون عمرو قائما ، وخالد قائما . وإذا قلت لا قائم إلا زيد صار الآن توحيدا ، وجعلت القائم واحدا وهو زيد .
ومثل ذلك لا إله إلا الله . فهؤلاء يقولون إن التوحيد أن لا تثبت لله صفة أبدا ـ نسأل الله العافية ـ فلا سمع ولا بصر ولا قدرة ولا حياة ولا علم ولا شيء أبدا .


وأما عدلهم فمن مضمونه أن الله لم يشأ جميع الكائنات ولا خلقها كلها ولا هو قادر عليها كلها ؛ بل عندهم أن أفعال العباد لم يخلقها الله لا خيرها ولا شرها ، ولم يرد إلا ما أمر به شرعاً ، وما سوى ذلك فإنه يكون بغير مشيئته .



الشرح

وهذا هو العدل عندهم . يقولون : إن الله لا يشاء كل شيء ، وأفعال العباد لا يشاؤها ، ولا خلق كل شيء . يقولون : لو كان الله يشاء أفعال العباد ويخلقها ثم يعذبهم فهذا ظلم ، فإذا قلنا لم يشاؤه ولم يخلقها ، ويعذبهم لأنهم هم الذين شاؤوها أوجدها صار ذلك عدلا . وهذا لو تأتي به لعامي وتحدثه بهذا الحديث وافقك فورا ، وقال هذا صحيح ، كيف الله يشاء أفعالهم ويخلق أفعالهم ثم يعذبهم عليها ، فهم قالوا : هذا ظلم . إذا فالله عز وجل لم يشأ أفعال العبد ولا خلقها .
ونقول لهم رداً على قولهم : هذا في الحقيقة تعطيل وتنقص للخالق ؛ أن يكون في ملة ما لا يشؤه ولا يريده ، أو أن يكون هناك خلق لم يقم به ، وليس الله هو الذي خلقه ، وهذا معنى قوله : (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء)(الزمر: 62) ، ثم نقول :إن الظلم منتف بأمرين : معقول ، ومنقول .
أما المعقول فلأن الله سبحانه وتعالى أعطى الإنسان عقلاً يدرك به ويعرف به ما يضره وينفعه ، وهو ليس كالبهيمة ؛ بل له عقل يتصرف به ، ولم يحجزه عن عقله أبداً .
وأما المنقول فقد أرسل إليه الرسل ، وبين له الحق من الباطل ، وأقام عليه الحجة ( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ )(النساء: 165) .
والظلم الحقيقي أن يقول لك افعل ، ثم تفعل ثم يعاقبك ، أما أن يقول : لا تفعل ثم تفعل فيعاقبك فهذا ليس ظلما أبداً ، ولو أن رجلا قال لولده : لا تفعل ثم فعل فعاقبه لعده الناس عدلا وتقويما لهذا الابن ، فانظر إلى تلبيسهم ـ والعياذ بالله ـ ومجادلتهم ، وإلى باطلهم .
ثم هم يقولون : إن الله تعالى لا يريد إلا ما أمر به فقط ، فجعلوا الإرادة بمعنى الأمر ، أي : الأمر الشرعي ، وهذا باطل ، لو قلنا إنه لا يريد إلا ما أمر به شرعا لكان أكثر الناس يعملون بغير إرادته ؛ لأن تسعمائة وتسعاً وتسعين بالألف كلهم لا ينفذون مراد الله الشرعي ، ولا شك أن هناك فرقا بين الرضا التابع للأمر وبين المشيئة الشاملة لما أمر به وما لم يأمر به.



***

وقد وافقهم على ذلك متأخروا الشيعة ؛ كالمفيد ، وأبي جعفر الطوسي وأمثالهما .



الشرح

عبر الشيخ ـ رحمه الله ـ هنا بالشيعة وكان فيما سبق يعبر بالروافض ، فهم شيعة بحسب قولهم إنهم شيعة لعلي بن أبي طالب ، وهم روافض لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين رحمه الله حين اجتمعوا إليه ، وقالوا : ما تقول في أبي بكر وعمر فأثنى عليهما خيرا وقال هما وزيرا جدي ، يعني بجده الرسول عليه الصلاة والسلام . فلما قال ذلك رفضوه واعتزلوه ومن ثم سموا رافضة .
والحقيقة أن أهل السنة والجماعة هم شيعة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ومن آمن من آل البيت ؛ لأن المؤمن هو ولي لكل مؤمن ، قال الله تعالى : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ )(التوبة: 71) ، فكل من كان أكثر إيمانا بالله عز وجل ، فإنه أكثر ولاية للمؤمنين من آل البيت ولغيرهم ، وعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ برئ مما ينسب إليه من هذه الأقوال الباطلة ، بل إنه ـ رضي الله عنه ـ حرق غاليتهم بالنار ، لما جاءوا إليه وقالوا له : أنت الله ـ نعوذ بالله ـ فما صبر ، وأمر بالأخاديد فخدت وبالحطب فجمع ثم ألقاهم في النار شر قتلة ،والعياذ بالله لأنهم جعلوه إلهاً ، والذين لا يجعلونه إلها باللفظ قد يجعلونه إلهاً بالمعنى ، ويعتقدون أنه مدبر للكون ، وأنه ما من ذرة في الأرض ولا في السماء إلا والذي يدبرها علي بن أبي طالب قطب الأقطاب .
وعلى كل حال فنحن نقول : نشهد الله عز وجل على محبة المؤمنين من آل البيت ، ونرى أن المؤمن من آل البيت له حقان علينا : الحق الأول : إيمانه ، والثاني : قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونرى أنهم ما شرفوا إلا لقربهم من الرسول عليه الصلاة والسلام ، وليس الرسول هو الذي شرف بهم ؛ بل هم شرفوا بقربه ، ونرى أيضا أنهم مراتب ومنازل ، وأنهم وإن تميزوا بهذه الخصيصة -وهي القرب من الرسول عليه الصلاة والسلام- فلا يعني ذلك أن لهم الفضل المطلق على من فضلهم في العلم والإيمان ، فأبوبكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم هؤلاء أفضل من علي بن أبي طالب الفضل المطلق ، وإن كان علي ابن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ يمتاز عنهم في بعض الخصوصيات ، لكن هذا لا يلزم منه التفضيل المطلق ؛ لأن هناك فرقا بين الإطلاق وبين التقييد .
وبالنسبة لإحراقهم بالنار فهو ـ رضي الله عنه ـ رأى أن هذا أعظم عقوبة ، مثل ما فعل أبو بكر رضي الله عنه في الأمر بتحريق اللوطي ، وإن كان الإنسان قد يخفى عليه بعض الشيء أحيانا ، ولهذا قال ابن عباس : لو أنه في مقام علي بن أبي طالب لقتلهم ؛ لقول النبي صلي الله عليه وسلم : (( من بدل دينه فاقتلوه ))(68) وما أحرقتهم بالنار ؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم نهى أن يعذب بالنار(69) ، فقيل إنه قال : ما أسقط ابن أم الفضل على الهنات يعني على العيب والخطأ .



***

لأبي جعفر هذا تفسير على هذه الطريقة لكن يضم إلى ذلك قول الإمامية الاثني عشرية ، فإن المعنزلة ليس فيهم من يقول بذلك ، ولا من ينكر خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي .

ومن أصول المعتزلة مع الخوارج إنفاذ الوعيد في الآخرة ، وأن الله لا يقبل في أهل الكبائر شفاعة ولا يخرج منهم أحداً من النار . ولا ريب أنه قد رد عليهم طوائف من المرجئة والكرامية والكلابية وأتباعهم فأحسنوا تارة وأساؤوا أخرى حتى صاروا في طرفي نقيض كما قد بسط في غير هذا الموضع .



الشرح

وهذا يكون أحيانا يرد بعض الناس على بعض البدع ولكن يكون في طرفي نقيض مع الآخرين فيأتي هو أيضاً ببدعة ، مثل ما ذهب إليه بعض الناس من أنه ينبغي في عاشوراء التوسعة على الأهل وإدخال الفرح والسرور ، ليقابلوا بذلك الرافضة الذين يجعلون يوم عاشوراء يوم غم وحزن ، وهذا خطأ ؛ لأن البدعة لا يجوز أن تقابل ببدعة ؛ بل يكفي في البدعة منعها ، بأن توضح أن هذا غير مشروع ، وأن كل بدعة ضلالة ، وأما أن تحدث شيئا يقابلها فلا يمكن هذا ، ولا ينفع ولا يذهب البدعة إلا السنة فقط .



***

والمقصود أن مثل هؤلاء اعتقدوا رأيا ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه ، وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا من أئمة المسلمين ، ولا في رأيهم ولا في تفسيرهم .
وما من تفسير من تفاسيرهم الباطلة إلا وبطلانه يظهر من وجوه كثيرة ، وذلك من جهتين : تارة من العلم بفساد قولهم ، وتارة من العلم بفساد ما فسروا به القرآن ، إما دليلا على قولهم أو جوابا على المعارض لهم .
ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة فصيحاً ويدس البدع ، في كلامه ـ وأكثر الناس لا يعلمون ـ كصاحب الكشاف ونحوه ، حتى إنه يروج على خلق كثير ، ممن لا يعتقد الباطل من تفاسيرهم الباطلة ما شاء الله ، وقد رأيت من العلماء المفسرين وغيرهم من يذكر في كتابه وكلامه من تفسيرهم ما يوافق أصولهم التي يعلم أو يعتقد فسادها ولا يهتدي لذلك .


الشرح

ذلك لأنهم كانوا أقوياء في الأساليب ، فتجد ظاهر كلامهم أنه جيد وليس فيه شيء ، لكنهم يدسون فيه السم ، فهؤلاء الذين ينقلون من تفاسيرهم ما ينقلون وهم يعلمون فساد قولهم هؤلاء قد اغتروا بأساليبهم وألفاظهم ولم يهتدوا إلى ما كانوا عليه من الباطل ، وقد سبق لنا أن بينا أن سبب ذلك أنهم كانوا يعتقدون رأياً ثم يستدلون لرأيهم، أو يستدلون بنصوص الكتاب والسنة على ما لا تدل عليه .


***

ثم إنه بسبب تطرف هؤلاء وضلالهم دخلت الرافضة الإمامية ثم الفلاسفة ثم القرامطة وغيرهم فيما هو أبلغ من ذلك ، وتفاقم الأمر في الفلاسفة والقرامطة فإنهم فسروا القرآن بأنواع لا يقضي منها العالم عجبا ، فتفسير الرافضة كقولهم : (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) (المسد:1) وهما أبو بكر وعمر .



الشرح

يعني يجعلون أبا بكر وعمر اليدين ، يدان لأبي لهب - نسأل الله العافية - وهذا مما يدل على أن الرافضة في الحقيقة عندهم من الغل والحقد على الصحابة رضي الله عنهم ؛ بل وعلى دين الإسلام ما يتسترون بظاهر حالهم من أنهم مسلمون وأنهم أهل الإسلام ، وهم والعياذ بالله في باطن أمرهم من أشد عداوة وبغضاً لأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام ، فرجل يقول إنه مؤمن وإنه مسلم ، ثم يقول إن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر، وهما أشرف الأمة على الإطلاق ، فإذا كانت مثل هذه الآيات تنزل فيهما فما بقي للمسلمين شأن بعد ذلك .


***

و( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ )(الزمر: 65) ، أي بين أبي بكر وعمر وعلى في الخلافة

.


الشرح

والمراد لئن أشركت بالله في عبادته (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ )(الزمر: 65) ، وهم يقولون : لئن أشركت بين هؤلاء الثلاثة في الخلافة ، يعني لئن جعلتهم خلفاء فإن عملك يبطل ، وعلى هذا فقد حرفوا القرآن أعظم تحريف ،والعياذ بالله .

( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَة) هي عائشة حسب زعمهم .



الشرح

قاتلهم الله ، فالذي يقول هذا هو موسى لقومه ، ومع ذلك قالوا: إن المراد عائشة أمرنا الله تعالى أن نذبحها ، وعندي أن أي إنسان يرى مثل هذه التفاسير ، لا يشك في كفرهم والعياذ بالله ، ولا يشك أنهم حتى ما عندهم حياء من الله ولا يستحيون من عباد الله (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً)(البقرة: 67 ) ، أين عائشة من موسى حتى ينزل كلام رب العالمين على هذه المعاني ؟
هذا قول الرافضة المتقدمين ، وكذلك المتأخرين ، فإنهم يأخذون عنهم ويجادلون عنهم.
وليس بصحيح قول من يقول إن الرافضة المتقدمين يرون إمامة أبي بكر وعمر ، فإني قد رأيت أمراً عجبا منهم ، لكن ليس من كلهم حيث يقول: إن أبا بكر كافر، وعمر كافر وعثمان كافر، وعلي كافر ، الثلاثة الأولون قالوا كفرة لأنهم ظلمة ، والرابع علي، لأنه لم يدافع عن الحق واستسلم للباطل ، فكفر برضاه بالباطل .

و ( فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ )(التوبة: 12) ، طلحة والزبير .



الشرح

وهذا لا يستقيم ، يقول تعالى : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ )(التوبة: 12 ) هذا في المعاهدين الذين عاهدهم الرسول عليه الصلاة والسلام ، والحكم ينسحب على غيرهم بالقياس ، والآية ليست لما أراد هؤلاء المحرفون والعياذ بالله ، لكنهم لا يبالون ولا يستحيون لا من الله ولا من عباد الله ولا من أحد .

و(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ) (الرحمن:19) ، علي وفاطمة ، و( اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ)(الرحمن: 22) الحسن والحسين .



الشرح

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ(20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) (الرحمن) إذا كان بينهما برزخ لا يبغيان فهل علي مع فاطمة بينه وبينها برزخ ؟ لكن هذه سخافة مثل ما قال الشيخ -رحمه الله- يقضي العالم منها العجب من سوء الفهم وسوء القصد ، فتفاسيرهم هذه جامعة بين أمرين : بين سوء الفهم وبين سوء القصد .
والمراد بالبحرين كما قال العلماء معناه المالح والعذب ، والبرزخ الذي بينهما قيل إنه ما يرى عند مصب النهر في البحر فإن النهر يأتي مندفعا بقوة ويكون أمامه كالحاجز فلا يمتزج بالبحر عند المصب ، وقال بعض أهل العلم : إن المراد بالبرزخ الذي بينهما هو اليابس من الأرض ، وأن هذا من قدرة الله عز وجل لأن الأرض كروية وكيف أن الله عز وجل أمسك هذا البحر فيها حتى لا يبغي . ولا يبغي بمعنى لا يطغى على اليابس وقال بعضهم : إن هذا البرزخ هو برزخ دقيق بين البحر المحيط والبحار الأخرى التي تعتبر كالخلجان بالنسبة له . فبينها برزخ ، ويقولون إنه يحس به بالأسماك التي تعيش في هذا ولا تعيش في الثاني أو بالعكس ، وهذا يدل على أنها متنوعة على الرغم من أنها متلاصقة ، فبينهما برزخ .
فهذه ثلاثة أقاويل في معنى هذا ، ولم يقل ا حد من أهل العلم ـ لا السابقون ولا اللاحقون ـ إن المراد به فاطمة وعلي بن أبي طالب ، لكن هذه من خرافات الرافضة والعياذ بالله .

( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)(يس 12:) في علي بن أبي طالب .



الشرح

أين هذا من اللفظ ؟ ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) أي في كتاب يأتم به الإنسان ويأخذ به ويراه ويشاهد عمله ، فأين هذا من علي بن أبي طالب ؟ لكن هم يقولون علي إمام ومبين وفصيح ومظهر للحق ، فكل شيء أحصاه الله في هذا الرجل ، وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ، وهذا واضح في أنهم يدعون أن علي بن أبي طالب يعلم الغيب ؛لأنهم يقولون كل شيء أحصيناه وأين مكانه ؟ في هذا الإمام ، أي كائن في هذا الإمام ، فعلى هذا يعتقدون أن عند علي بن أبي طالب من علم الغيب والشهادة ما عند الله، فكل ما أحصاه الله من الأمور فإنه كائن في هذا الإمام في علي بن أبي طالب .

(عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ) (1) عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ) (النبأ:1،2 ) ، علي بن أبي طالب .



الشرح

(عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ) (1) عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ(2 ) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) يقولون :إن هذا علي ابن أبي طالب لأن الناس مختلفون فيه ما بين مادح وقادح ومحب ومبغض ، ولكن هل علي نبأ أم منبأ به ؟ ثم هذا الخلاف ( الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) كائن لأنه لم يقل الذي هم فيه يختلفون أو سيختلفون ، وعلي بن أبي طالب حين نزلت الآية ما اختلف الناس فيه .

( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (المائدة:55) ، هو علي ، ويذكرون الحديث الموضوع بإجماع أهل العلم ، وهو تصدقه بخاتمه في الصلاة (70).



الشرح

وليس ذلك بصحيح ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) المقصود كل مؤمن فهو ولي لله ورسوله ، قال تعالى : (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا)(البقرة: 257) ، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول : (( أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ))(71) ، فهذه الولاية الحقيقية ، ولا ريب أن علي بن أبي طالب له حظ من هذه الآية كغيره من المؤمنين ، وأنه ممن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويركع ويسجد ـ رضي الله عنه ـ ولكن لا يمكن أن نقول إن هذا خاص به لا يتناول غيره ، فعلي ـ رضي الله عنه ييدخل في الآية ، وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وخالد بن الوليد ، وغيرهم من الصحابة كلهم داخلون في هذه الآية .
والزبير بن العوم قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام : (( إن لكل نبي حواري وإن حواري الزبير (72)، ومع ذلك فهم يقولون إن الزبير من أئمة الكفر،فإذا كان الزبير من أئمة الكفر وهو حواري الرسول صلى الله عليه وسلم ، فكيف يكون أصحاب الرسول صلي الله عليه وسلم الخاصون به هم أئمة الكفر؟ وما ظنك برجل يكون أصحابه الخاصون به أئمة الكفر ؟ يكون مثلهم إما بطريق اللزوم، وإما بطريق الاصطحاب ، ولهذا جاء في الحديث وإن كان فيه نظر: (( الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل))(73).


* * *

وكذلك قوله: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ)(البقرة: من الآية157)، نزلت في على لما أصيب بحمزة.


الشرح

يا سبحان الله العظيم أيهما أعظم مصاباً الرسول صلى الله عليه وسلم أم على بحمزة؟ الرسول صلي الله عليه وسلم . ولكنهم يقولون: إن عليا هو الذي أصيب بحمزة، وهو الذي له هذه الآية، فيكون من كذبهم وافترائهم على بن أبي طالب اشد حزناً على فقد حمزة من رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وكذبوا والله في ذلك، فأعظم من أصيب به بلا شك هو الرسول عليه الصلاة والسلام.

ومما يقارب هذا في بعض الوجوه ما يذكره كثير من المفسرين في مثل قوله: (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) (آل عمران:17) ، إن الصابرين رسول الله، والصادقين أبو بكر، والقانتين عمر، والمنفقين عثمان، والمستغفرين على,



الشرح

وهذا جهل أيضاً؛ لأن هذه الأوصاف يصح أن تنطبق على موصوف واحد، أما توزيعها فهذا غير صحيح، وأيضاً : (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ) الذي يظهر أن القانت أفضل منهم. فكيف يكون الرسول صلى الله عليه وسلم في مرتبة الصبر، وهذا في مرتبة الصدق، وهذا في مرتبة القنوت؟! فالرسول عليه الصلاة والسلام هو أفضل من اتصف بهذه الصفات، فهو أصبر الصابرين ، وأصدق الصادقين من الخلق ، وكذلك أفضل القانتين، وهو أجود المنفقين، حتى إنه يعطي عطاء من لا يخشي الفاقة (74)، ويبيت طاويا عليه الصلاة والسلام (75)، وأما استغفاره فناهيك به؛ كان يستغفر الله ويتوب في اليوم مائة مرة (76)، وكان يقوم الليل حتى تتورم قدماه ويقول: (( أفلا أكون عبداً شكورا))(77).

وفي مثل قوله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) أبو بكر ( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّار) عمر (ِرُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) عثمان ( تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً )(الفتح: 29) .


الشرح

وهذا التوزيع ليس بتفسير الرافضة لكنه تفسير قاصر بلا شك، يقول: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) لأن ابا بكر معه في الغار( إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا )(التوبة: 40) وعمر، (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ لأن اشد الناس في دين الله عمر، وعثمان مشهور بالرحمة واللين والعطف، ( رُكَّعاً سُجَّداً ) وعلى بن أبي طالب رضي الله عنه من الراكعين الساجدين، لكن عثمان أيضاً شهر عنه أنه كان يقوم الليل، وأنه كثير القيام.
والحاصل أن هذا خطأ وأن قوله: ( وَالَّذِينَ مَعَه) يشمل كل الصحابة، وقوله: ( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) ينطبق على الجميع.


* * *

وأعجب من ذلك قول بعضهم (وَالتِّينِ)أبو بكر ، ( وَالزَّيْتُونِ) عمر (وَطُورِ سِينِينَ) عثمان ، (َوهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) على.



الشرح

هذا كتاب تفسير، والشيخ رحمه الله ينقل عن تفسير، فالتين: أبو بكر ، والزيتون : عمر، وطور سينين : عثمان ، وهذا البلد الأمين : على بن أبي طالب . سماهم كلهم بمأكول ومسكون . نسأل الله العافية ، ولعله لما قدم التين وكان أبو بكر رضي الله عنه مقدما بدأ به، فقال ما دام أبو بكر أفضلهم والله بدأ بالتين، ثم بالزيتون على حسب ترتيبهم في الخلافة والأفضلية.
وقال: إن هذه أربع كلمات، وهؤلاء أربعة وهم مرتبون هكذا أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم على.


* * *

وأمثال هذه الخرافات التي تتضمن تارة تفسير اللفظ بما لا يدل عليه بحال، فإن هذه الألفاظ لا تدل على هؤلاء الأشخاص ، وقوله تعالي: ( وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) كل ذلك نعت للذين معه، وهي التي يسميها النحاة خبرا بعد خبر، والمقصود هنا أنها كلها صفات لموصوف واحد وهم الذين معه، ولا يجوز أن يكون كل منها مراداً به شخص واحد ، وتتضمن تارة جعل اللفظ المطلق العام منحصراً،في شخص واحد كقولهم: إن قوله تعالي (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِين) (المائدة: من الآية55) أريد بها على وحده، وقول بعضهم : إن قوله: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ )(الزمر: من الآية33) أريد بها أبو بكر وحده.


الشرح

هذا قال به بعض المفسرين، قالوا: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) هذه نزلت في أبي يكر ، ولكن سبق لنا أن قولهم نزلت في كذا يعني أنه داخل في معناها، فيكون تفسيراً ، وعلى هذا فمن قال إنها نزلت في أبى بكر، فمعناه أن أبا بكر - رضي الله عنه- يدخل في هذا الوصف (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) ولا شك أن أول من يدخل فيها الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنه جاء بالصدق وصدق به،فشهد لنفسه عليه الصلاة والسلام أنه رسول حقاً، وأنه عليه الصلاة والسلام مرسل إلى جميع الناس، وأمر أن يقول ذلك(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) فجاء بالصدق وصدق به أيضاً.


* * *

وقوله : ( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ)(الحديد10) أريد بها أبو بكر وحده ونحو ذلك.


الشرح

والذي قال أريد بها أبو بكر مثلاً نقول: إن أراد على سبيل الحصر فخطأ، وإن أراد على سبيل المثال فصحيح. ولنا أن نقول: نزلت في أبي بكر يعني وفي أمثاله، ولكن إن أريد الحصر فهذا لا يجوز، وهذه قاعدة في التفسير؛ أنه لا يجوز أن يخصص العام ويحصر معناه إلا بدليل ، فإن جاء الدليل مثل قوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ) أن الناس المراد بهم أبو سفيان ( قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ) وهذا كما قيل ، وإلا فإن الواجب إبقاء العم على عمومه لأن حصره في واحد من أفراده قصور في التفسير، وكما نعلم جميعاً أن المفسر يجب أن يكون مطابقاً للمفسر، أما أن يخصص فهذا لا يجوز، كما أنه لا يجوز أن يعم أيضاً، فإذا جاء نص في شيء خاص لم يجز أن نجعله عاما اللهم إلا عن طريق القياس، إن كان مما يمكن فيه القياس.



* * *

وتفسير ابن عطية وأمثاله أتبع للسنة والجماعة وأسلم من البدعة من تفسير الزمخشري، ولو ذكر كلام السلف الموجود في التفاسير المأثورة عنهم على وجهه لكان أحسن وأجمل، فإنه كثيراً ما ينقل من تفسير محمد بن جرير الطبري وهو من أجل التفاسير المأثورة وأعظمها قدراً، ثم إنه يدع ما نقله ابن جرير عن السلف لا يحكيه بحال، ويذكر ما يزعم أنه قول المحققين، وإنما يعني بهم طائفة من أهل الكلام الذين قرروا أصولهم بطرق من جنس ما قررت به المعتزلة أصولهم، وإن كانوا أقرب إلي السنة من المعتزلة، لكن ينبغي أن يعطى كل ذي حق حقه ويعرف أن هذا من جملة التفسير على المذهب.



الشرح

هذا من كلام الشيخ رحمه الله، وهو يدل على أن الرجل منصف وعادل، وأن الحق ولو كان من أهل البدع، يجب أن يقبل ، وأن أهل البدع إذا كان بعضهم أقرب إلي السنة من بعض يجب أن يثنى عليهم بهذا القرب، وأما أن نرد ما قاله أهل البدع جملة وتفصيلاً، حتى ما قالوه من الصواب، ونقول هذا قاله صاحب بدعة، فهذا خطأ؛ لأن الواجب أن يقول الإنسان الحق أينما كان ولا ينظر إلي قائله ، ولهذا قال يجب أن يعرف الرجال بالحق ، لا الحق بالرجال، وأنت إذا عرفت الحق بالرجال فمعناه أنك مقلد محض، لكن إذا عرفت الرجال بالحق، وأنه إذا كان ما يقولونه حقا فهم رجال حقا فهذا هو العدل، فالشيخ رحمه الله يقول: يجب أن يعطي كل ذي حق حقه حتى ولو كان من أهل البدع وكان قريبا من أهل السنة فإننا نعطيه حقه، ونقول إن هذا المبتدع أقرب إلى السنة من هذا المبتدع.


1* *
2

فإن الصحابة والتابعين والأئمة إذا كان لهم في تفسير الآية قول وجاء قوم فسروا الآية
بقول آخر لأجل مذهب اعتقدوه- وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان- صاروا مشاركين للمعتزلة وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا.
وفي الجملة من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان
مخطئا في ذلك بل مبتدعا، وإن كان مجتهداً مغفوراً له خطؤه.
فالمقصود بيان طرق العلم وأدلته وطرق الصواب.



الشرح

وهنا يجدر التنبيه إلي هذه المسألة المهمة فإن من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين
وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئا في هذا؛ بل يكون مبتدعاً وإن كان مجتهداً مغفوراً له خطؤه، يعني نحن نصفه بأنه مخطئ وبأنه مبتدع، لأن كل قول في دين الله لم يأت في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا في قول الصحابة والتابعين لهم بإحسان فهو قول مبتدع؛ لأنه محدث، وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (( وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ))(78).
أو في الأمور العلمية العقدية ، فكل شيء مخالف لما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان فإنه قول مبتدع، وصاحبه مخطئ ، ولكن هل يأثم هذا القائل؟ ينظر إذا كان مجتهداً باذلاً وسعه في طلب الحق ولكن لم يصل إليه فهو مغفور له، ولهذا قال الشيخ رحمه الله: (( وإن كان مجتهداً مغفوراً له خطؤه))
قلنا الآن نظران: نظر إلى القول أو التفسير، ونظر إلي القائل أو المفسر، فالقول أو التفسير المخالف لما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان هذا قول مبتدع باطل، وأما بالنسبة للقائل فينظر فإن كان قد بذل الجهد وسعى بقدر ما يستطيع إلى الوصول إلى الحق ولكن لم يتبين له إلا ما قال، فإنه يغفر له خطؤه لأن الله يقول: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا )(البقرة:286)، فيعذر بهذا الخطأ، وهذه القاعدة تكاد تكون مجمعاً عليها، وإن كان الصحابة يختلفون في تفصيلها أحياناً لكن هي قاعدة أصيلة وأصل في هذا.
ورب سائل يقول: كيف يقال لمن عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم مبتدعاً وإن كان مجتهداً مغفوراً له خطؤه.كما ذكر ذلك المؤلف رحمه الله؟
والجواب على ذلك بأنه قال بقول ليس معروفاً عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وعلى ذلك فهو مبتدع في قوله هذا، ولكن لا نعطيه الوصف المطلق وإن كان مبتدعاً في ذلك.
ورب سائل يقول: بالنسبة إلي التفاسير العلمية التي تنظر للمكتشفات الحديثة، عندما يكون هناك تفسير لآية ليس هناك دليل شرعي عليه، بمعني حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن هنا أقوال عن الصحابة أو أقوال عن السلف في تفسير هذه الآية، وقد يكون أيضاً هناك أكثر من قول ، ويأتي مفسر يستند في التفسير إلي جانب اللغة العربية أو المكتشفات الحديثة.فما هو القول في هذا؟ وهل يدخل في القاعدة السابقة فيقال عنه إنه مبتدع؟
والجواب: أنه إذا صحت دلالة القرآن عليه فليس بمبتدع ، إذا كان لا يخالف قول السلف في ذلك، أما إذا خالف قولهم فإننا نقول : إنه مبتدع ونرده ، لكن غالب ما تكون من هذه المكتشفات مسكوت عنه بالنسبة لمن سبق، لأنهم لم يطلعوا عليها، لكن قد يكون القرآن دل عليها بعمومه أما أن يدل عليها بخصوصها فهذا بعيد ولو دل عليها بخصوصها لكان الصحابة يدرون عنه وفسروه بها. فهذه الاكتشافات العلمية إذا صح أنها داخلة في الآية أما إذا لم يصح فهذا يجب أن يرد على قائله.
فمثلاً هناك من فسر الفتنة بالغزو الفكري، وهذا صحيح ، كما أخبر بها الرسول صلي الله عليه وسلم : (( فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً))(79).



* * *

فالمقصود بيان طرق العلم وأدلته وطرق الصواب. ونحن نعلم أن القرآن قرأه الصحابة والتابعون وتابعوهم ، وأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله صلي الله عليه وسلم ،فمن خالف قولهم وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم؛ فقد اخطأ في الدليل والمدلول جميعاً.



الشرح

أخطأ في الدليل ؛ لأنه فسره بغير المراد به، وأخطأ في المدلول حيث أتي بمعني مخالف لما كان عليه السلف.


* * *

ومعلوم أن كل من خالف قولهم له شبهة يذكرها: إما عقلية ، وإما سمعية ، كما هو مبسوط في موضعه.


الشرح

هذا صحيح وما قاله الشيخ رحمه الله له أصل في القرآن، وأن المخالفين لذلك لهم شبه، وقد أشار الله إلى ذلك في قوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ )(آل عمران: 7) لأن المبطل لو أتي بشيء لا شبهة فيه لم يقبل منه، فهو يأتي بأمور فيها اشتباه لكنه والعياذ بالله- زائغ لا يحمل هذا المتشبه على المحكم حتى يكون بينا، وإنما يجعل الشيء كله مشتبهاً، وكما قال الشيخ رحمه الله كل من خالف الصحابة والتابعين لهم بإحسان فله شبه يتعلل بها ويموه بها.


* * *

والمقصود هنا التنبيه على مثار الاختلاف في التفسير، وأن من أعظم أسبابه البدع الباطلة التي دعت أهلها إلى أن حرفوا الكلم عن مواضعه وفسروا كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بغير ما أريد به وتأولوه على غير تأويله.
فمن أصول العلم بذلك أن يعلم الإنسان القول الذي خالفوه وأنه الحق.وأن يعرف أن تفسير السلف يخالف تفسيرهم، وأن يعرف أن تفسيرهم محدث مبتدع، ثم أن يعرف بالطرق المفصلة فساد تفسيرهم بما نصبه الله من الأدلة على بيان الحق.
وكذلك وقع من الذين صنفوا في شرح الحديث وتفسيره من المتأخرين من جنس ما وقع فيما صنفوه من شرح القرآن وتفسيره.
وأما الذين يخطئون في الدليل لا في المدلول فمثل كثير من الصوفية والوعاظ والفقهاء وغيرهم يفسرون القرآن بمعان صحيحة، لكن القرآن لا يدل عليها، مثل كثير مما ذكره أبو عبد الرحمن السلمي في حقائق التفسير . وإن كان فيما ذكروه ما هو معان باطلة فإن ذلك يدخل في القسم الأول وهو الخطأ في الدليل والمدلول جميعا ،حيث يكون المعنى الذي قصدوه فاسداً.


* * *

(20) رواه البخاري، كتاب العلم باب ما ذكر في ذهاب موسى صلى الله عليه وسلم ، (74)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب من فضائل الخضر عليه السلام، (2380).
(21) قال شيخنا محمد رحمه الله: في نسختي حاشية على هؤلاء كعب الأحبار هو أبو إسحاق: كعب ابن ماتع الحبر يمني من مسلمة أهل الكتاب، كان في زمن الصحابة وروى عنهم بعض الحديث النبوي، ورووا عنه شيئا من قصص النبيين، توفي بحمص سنة اثنين وثلاثين في خلافة عثمان.
وهب بن منبه يمني أيضاً ولد في آخر خلافة عثمان، وروي عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر ، وروى عنه عمرو بن دينار الجمحي المكي، وعوف بن جميلة العبدي وأقرانه ، تولى قضاء صنعاء، وكان كثير النقل من كتب الإسرائيليات ، وألف كتاباً في القدر ثم ندم ورجع عنه، وكان يعد فيما سوى ذلك ثقة صدوقاً، وحديثه عن أخيه همام في الصحيحين توفى سنة أربع عشرة ومائة.
ومحمد بن إسحاق بت يسار المدني، أحد الأعلام لا سيما في المغازي والسير ، قال ابن معين، ثقة وليس بحجة، وقال أحمد: حسن الحديث، توفى سنة إحدى وخمسين ومائة.
(22) رواه البخاري كتاب تفسير القرآن باب قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا، (4485)، ولفظه: (( لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا : (( آمنا بالله وما أنزل إلينا))
(23) عروة: أحد الفقهاء السبعة ولد سنة 29هـ وتوفي سنة93هـ ، وأخذ علم خالته عائشة، وروي عن على ومحمد بن اسلم، وأبي هريرة، لم يدخل نفسه في شيء من الفتن، وكان عالما ثبتاً مؤمناً.
(24) الشعبي: هو عامر بن شراحيل الشعبي، توفي سنة 103هـ الإمام العلم ،أدرك خمسائة من الصحابة ، وولي القضاء لعمر بن عبد العزيز، وهو من شيوخ ابن سيرين والأعمش وشعبه، قال الفجلي: مرسل الشعبي صحيح.
(25) الزهري، هو ابن شهاب الزهري محمد بن مسلم ولد سنة 50هـ وتوفي سنة 124هـ أحد الأئمة الأعلام، وعالم الحجاز والشام، والمدون الأول لعلم السنة بإشارة عمر بن عبد العزيز ، وكان يقول: (( ما استودعت قلبي شيئا فنسيته)) وهو من شيوخ مالك والليث بن سعد واضرابهما.
(26) موسي بن عقبة: من أقدم مؤرخي المدينة، أخذ عن عروة بن الزبير ،وعلقمة بن وقاص الليثي، قال مالك: (( عليكم بمغازي ابن عقبة فإنه ثقة وهي أصح المغازي ، وتوفي في خلافة عبد الملك)).
(27) محمد بن إسحاق، هو ابن يسار المدني وقد سبق التعريف به.
(28) يحيي بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص الأموي الحافظ الكوفي، أخذ العلم عن أبيه وهشام بن عروة وابن جريح،وأخذ عنه ابنه سعيد بن يحيي ، والإمام أحمد، وإسحاق، وابن معين، توفي سنة 194هـ,
(29) الوليد بن مسلم الأموي مولاهم ، أي نسب إلي الأمويين، لأنه مولى لهم، أبو العباس الدمشقي عالم الشام، أخذ العلم عن محمد بن عجلان القرشي وهشام بن حسان، وثور بن يزيد والأوزاعي، وهو من شيوخ الإمام أحمد وإسحاق وابن مدين وأبي الخيثمة توفي سنة 195هـ
(30) الواقدي: هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد الواقدي المدني أحد الأعلام وقاضي العراق، أخذ عن ابن عجلان القرشي وابن جريح ومالك وخلائق، وأخذ عنه ابن سعد وأحمد بن منصور الرمادي وطائفة، كان عالماً بالمغازي والسير والفتوح واختلاف الناس، قال إبراهيم الحربي: هو أمين الناس على أهل الإسلام، لكن أئمة الحديث يرونه دون هذه المنزلة في السنة، توفي سنة 207هـ.
(31) الإمام الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة الفزاري الكوفي ثم المصيصي أخذ العلم عن خالد الحذاء وحميد الطويل وأبي طوالة ومالك وموسى بن عقبة والأعمش. وأخذ عنه الأوزاعي والثوري مع أنه من شيوخه وغيرهما ،قال أبو حاتم :إمام ثقة مأمون، توفي سنة 86هـ.
(32) هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي إمام من أعلام أئمة المسلمين، كان المقتدى بعلمه وفقهه في الديار الشامية. آخر دولة بني أمية وصدر دولة بني العباس ، أخذ عن عطاء وابن سيرين ومكحول وقتادة ونافع واخذ عنه عاقل بن زياد السكسكي الدمشقي وقاضي دمشق يحيى بن حمزة بن واقد الحضري وبقية بن الوليد الكلاعي الحمصى ، وأكثر حملة السنة والفقه والعلم من معاصريه في الديار الشامية والأقطار الإسلامية الأخرى. قال الإمام الفقيه الحافظ إسحاق بن إبراهيم بن راهويه: (( إذا اجتمع الوزاعي والثوري ومالك على الأمر فهو سنة)) ولد الأوزاعي سنة 88هـ وتوفي سنة 175ه. ودفن في رأس بيروت في الحي المعروف باسمه إلي هذا اليوم.
(33) مجاهد هو أبو الحجاج مجاهد بن جبر المكي مولى السائب بن أبي السائب، ولد سنة 21هـ وتوفي بمكة وهو ساجد سنة 102هـ، وكان من تلاميذ ابن عباس وأم سلمة وأبي هريرة وجابر، ومن تلاميذه عكرمة وعطاء وقتادة والحكم بن عتيبة وأيوب وثقة ابن معين ،ووأبو زرعة. ورد في خلاصة تهذيب الكمال أنه عرض القرآن على ابن عباس ثلاث مرات.
(34) عطاء بن أبي رباح يمني من الجند التي كان قد نزلها معاذ بن جبل مبعوثاً من النبي صلى الله عليه وسلم وتحول عطاء إلي مكة وبلغ مرتبة الإمامة والفقه وانتهت إليه الفتوي بمكة. قال فيه ابن عباس لأهل مكة: تجتمعون على وعندكم عطا؛ توفي سنة 114هـ، ولهذا كان عطاء - رحمه الله- من أعلم الناس بالمناسك.
(35) عكرمة مولى ابن عباس . هو أبو عبد الله عكرمة البربري أحد الناس الأعلام، قال الشعبي: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة، توفي في سنة 105هـ.
(36) طاووس بن كيسان يمني من الجند أيضا أدرك خمسين من الصحابة ،وبلغ منزلة الأئمة الأعلام، وأخذ عن الصفوة من ائمة التابعين، قال ابن عباس: (( إني لأظن طاووسا من أهل الجنة)) توفي في يوم التروية من سنة 106هـ وصلى عليه هشام بن عبد الملك.
(37)أبو الشعتاء : جابر بن زيد الأزدي البصري ، قال ابن عباس هو من العلماء. توفي سنة 93هـ وقيل بعد ذلك.
(38) رواه مالك في الموطأ (199/1)
(39) أبو صالح السمان: هو ذكوان المدني أخذ عن بعض الصحابة ، وشهد الدار، وسمع منه الأعمش ألف حديث. قال أحمد: ثقة ثقة توفي سنة 101هـ.
(40) الأعرج: عبد الرحمن بن هرمز المدني القارئ أخذ عن بعض الصحابة، وأخذ عنه الزهري وأبو الزبير محمد بن مسلم المكي، وأبو الزناد المدني. قال البخاري: أصح الأسانيد أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. توفي الأعرج في الإسكندرية سنة 117هـ.
(41) سليمان بن يسار المدني- مولى ميمونة- أحد الفقهاء السبعة أخذ عن بعض الصحابة وأخذ عنه قتادة والزهري وعمرو بن شعيب حفيد عبد الله بن عمرو بن العاص. توفي سنة 100هـ، أو بعدها عن ثلاث وسبعين سنة
(42) محمد بن سيرين البصري مولى أنس ومن أقران الحسن بن ابي الحسن. أخذ عن بعض الصحابة، وأخذ عنه طائفة من ائمة التابعين. قال ابن سعد: كان ثقة مأمونا عاليا رفيعاً إماماً فقهيا كثير العلم توفي سنة 110هـ,
(43) القاسم بن محدم حفيد أبي بكر الصديق وأحد الفقهاء السبعة. أخذ عن بعض الصحابة، وأخذ عنه طائفة من أعلام التابعين قال أبو الزناد: ما رأيت أحداً أعلم بالسنة من القاسم. توفي سنة 106هـ.
(44) سعبد بن المسيب المخزومي المدني رأس علماء التابعين وفردهم وفاضلهم وفقيهم، قال عبد الله بن عمر: هو والله أحد المقتدي بهم، وقال أبو حاتم: هو أثبت التابعين عن أبي هريرة، لأنه كان صهره، ولد سنة 15، وتوفي سنة93هـ.
(45) عبيدة بن عمرو السلماني ( من قبائل مراد) توفي النبي صلي الله عليه وسلم وهو في الطريق إليه، أخذ عن على وأبن مسعود، وأخذ عنه الشعبي والنخعي وابن سيرين ، كان يوازي شريحاً في القضاء والعلم. توفي سنة 72هـ.
(46) علقمة: هو ابن قيس النخعي الكوفي أحد الأعلام ، روى عن الخلفاء الراشدين الأربعة وطبقتهم، وأخذ عنه الأئمة؛ كإبراهيم النخعي والشعبي، توفي سنة 62هـ عن تسعين سنة.
(47) الأسود : هو ابن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، أخذ عن ابن مسعود وعائشة وأبي موسي، وأخذ عنه إبراهيم النخعي وطبقته، كان يختم القرآن في كل ليلتين ، وحج ثمانين حجة وتوفي سنة 74هـ.
(48) قتادة بن دعامة السدوسي البصري الأكمه أحد الأئمة الأعلام ، روى عن أنس وسعيد بن المسيب وابن سيرين وروى عن الحفاظ والأئمة واحتج به أصحاب الصحاح وتوفي سنة 117هـ.
(49) سفيان الثوري من بني ثور ابن عبد مناة بن طابخة، كوفي من أعلام الأئمة الحفاظ المتميزين بالمعرفة والزهد والورع. ولد سنة 77هـ وتوفي بالبصرة سنة 161هـ.
(50) في سيرة عمر بن عبد العزيز رحمة الله تعالي لابن الجوزي صفحة 28، عن الليث بن سعد إمام أهل مصر أن إبراهيم بن عمر بن عبد العزيز حدثه أنه سمع أباه يقول لابن شهاب الزهري.
ما أعلمك تعرض على شيئا أي من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شيئا قد مر على مسامعي، ومعنى ذلك أنه رضي الله تعالى عنه عارف بالحديث- إلا أنك أوعي له مني، وروي مثله عن معمر عن الزهري عن عمر بن عبد العزيز.
(51) رواه البخاري، كتاب في بدء الوحي باب بدء الوحي، رقم (1) ومسلم، كتاب الإمارة باب قوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنية (1907).
(52) رواه مسلم، كتاب الأقضية ، باب نقض الأحكام الباطلة.. (1718)
(53) رواه الترمذي ، كتاب الحج باب ما جاء في كراهية ترويج المحرم (841).
(54) أخرجه أحمد في المسند (2/46).
(54) رواه البخاري ، كتاب المغازى ، باب عمرة لقضاء …، رقم (4258)، ومسلم ، كتاب النكاح،باب تحريم نكاح المحارم ، وكراهة خطبته 1410، (46، 47، 48).
(55) رواه البخاري، كتاب العمر باب كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم ، رقم (1775، 1776).
(56) أخرجه مسلم ، كتاب الحج باب جواز التمتع ، رقم (1223)
(57) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب ما جاء في قول الله تعالى: ( إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) رقم (7449).
(58) رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالي: ( وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) رقم (4850)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها باب النار يدخلها الجبارون.. (2846).
(59) كحديث ابن عباس رضي الله عنه قال: كان النبي صلي الله عليه وسلم يفتتح صلاته بـ(( بسم الله الرحمن الرحيم)) أخرجه الترمذي ، كتاب الصلاة باب من رأى الجهر بـ(( بسم الله الرحمن الرحيم)) (245)، واخرجه الحاكم(1/326) وصححه ، وحديث أبي هريرة لما قرأ وجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وقال: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وابن حبان في صححه (5/104) وابن خزيمة في صحيحه أيضاً (1/251)، والحاكم في المستدرك(1/357) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، والبيهقي في السنن الكبري (2/46) وصححه.
(60) رواه الطبري في تفسيره(4/628، 629).
(61) رواه الطبري في تفسيره 0(108-013)
(62) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/550).
(63) عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري الصنعاني أحد الأئمة الأعلام الحفاظ، أخذ عن ابن جريج وهشام بن حسان وثور بن يزيد ومعمر ومالك، ورحل إليه أئمة المسلمين وثقاتهم وأخذوا عنه، قال الإمام أحمد: لم أسمع منه شيئاً لكنه رجل يعجبه أخبار الناس. ولد سنة 126هـ. وتوفي سنة 211هـ.
(64) وكيع بن الجراح بن مليح الرقاشي الكوفي أحد الأئمة الأعلام، أخذ عن هشام بن عروة وابن عون وشعبة، وهو من شيوخ الإمام أحمد وطبقته، قال أحمد: ما رأيت مثله في العلم والحفظ والإتقان مع خشوع وورع. توفي سنة 196هـ.
(65) عبد بن حميد بن نصر الكسي أخذ عن على بن عاصم ومحمد بن بشر وعبد الرزاق والنضر بن شميل، وأخذ عنه مسلم والترمذي، قال ابن حجر في التقريب: ثقة حافظ. توفي سنة 249هـ.
(66) رواه النسائي، كتاب الزكاة باب المنان بما أعطي ، رقم (2562).
(67) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار.. ، رقم (106)
(68) رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير باب لا يعذب بعذاب الله، (3017)
(69) رواه البخاري، كتاب استتابة المرتدين باب حكم المرتد والمرتدة..، (6922).
(70) تقدم تخريجه
(71) رواه البخاري ، كتاب النفقات باب قول النبي صلي الله عليه وسلم من ترك…، (5371) ومسلم، كتاب الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة ، ( 867).
(72) رواه البخاري، كتاب الجهاد، باب فضل الطليعة، (2846)، ومسلم ، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل طلحة والزبير، (2415).
(73) رواه الترمذي، كتاب الزهد باب ما جاء في أخذ المال بحقه، (2378)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(74) رواه مسلم، كتاب الفضائل باب ما سئل رسول الله صلي الله عليه وسلم ..، (2312).
(75) رواه الترمذي، كتاب الزهد باب ما جاء في معيشة النبي…، (2360)، وابن ماجه، كتاب الأطعمة ، باب خبز الشعير، (3347).
(76) رواه مسلم، كتاب الذكر، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، رقم (2702)
(77) رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك..، رقم (4836)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، (2819).
(78) رواه مسلم، كتاب الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة، (867).
(79) رواه مسلم، كتاب الإيمان باب الحث على المبادرة بالأعمال..، (118).

أبو يوسف عبدالله الصبحي
08-Jul-2010, 03:03 PM
فصل


في تفسير القرآن بالقرآن، وتفسيره بالسنة وأقوال الصحابة


فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير ؟ فالجواب: إن اصح الطرق في ذلك ان يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر.
فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن، وموضحة له، بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: كل ما حكم به رسول الله صلي الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن،قال الله تعالي: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً) (النساء:105) وقال تعالي: ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(النحل: 44) وقال تعالي: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (النحل:64) ولهذا قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه(80) يعني السنة والسنة أيضاً تنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن لا أنها تتلي كما يتلى.
وقد استدل الإمام الشافعي وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذلك.
والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنة كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلي اليمن: (( بم تحكم؟ قال بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال بسنة رسول الله ،قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي)).قال : فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: (( الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله )) (81)وهذا الحديث في المسانيد والسنن بإسناد جيد.



الشرح

تكلم بعض العلماء على هذا الحديث وضعفه ، ولكن المؤلف يرى أن إسناده جيد وهو الظاهر، لأنه وافق القاعدة العامة في الشريعة في أن الإنسان يحكم بكتاب الله، فإن لم يجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن في السنة أشياء لم يفسرها القرآن ، ولا تجدها ظاهرة في القرآن، فلابد من الرجوع إلى السنة. أما إذا كانت لا في هذا و لا في هذا فالإنسان (( يجتهد رأيه)) وليس المعنى أنه يحكم برأيه، لكن المعنى أن يجتهد في تطبيق الواقعة والحادثة على نصوص الكتاب والسنة، وبهذا يكون هذا الحديث مطابقاً للقواعد العامة في الشريعة، والذين ضعفوه ظنوا أن قوله: (( فإن لم تجد فبسنة رسول الله))، أن تكون السنة في مرتبة متأخرة عنه، وظنوا أيضاً أن قوله : (( أجتهد رأيي)) يعنى: أحكم بالرأي وليس كذلك.
وإذا سأل سائل : هل السنة تنسخ القرآن؟
فالجواب: أننا نقول إذا صحت نسخت القرآن، لكن ليس لهذا مثال سليم.
وأما قول النبي صلي الله عليه وسلم : (( لا وصية لوارث))(82) فهذا المثال خطا؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (( إن الله أعطى كل ذي حق حقه))(83) ، فبين في هذا الحديث الناسخ فقط، يعني كأنه يقول الآن الفرائض كفتكم الوصية.
ثم لو تنزلنا تنزيلاً كاملاً فهذا الحديث لم ينسخ الآية، ولو فرضنا أن الرسول قال لا وصية لوارث فقط فما نسخ الآية، لأن الآية في ذلك تقول: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ )(البقرة:180) ، وهذا تخصيص وليس نسخاً؛لأن الأقربين غير الوارثين الوصية باقية فيهم. فهو تخصيص ، يعني لو تنزلنا تنزلاً كاملاً مع هؤلاء فليس هذا بنسخ ولكنه تخصيص، والمهم أن هذا المثال لا يصح علي أي تقدير.


* * *

وحينئذ إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعت في ذلك إلى أقوال الصحابة فإنهم أدري بذلك لما شاهدوه من القرآن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح لا سيما علماؤهم وكبراؤهم؛ كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، مثل عبد الله بن مسعود. قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: حدثنا أبو كريب ، قال: (( أنبانا جابر بن نوح، قال: أنبانا الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق، قال عبد الله- يعني ابن مسعود- والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته.


الشرح

هذا فيه السفر في طلب العلم، وليس مراد ابن مسعود رضي الله عنه بهذا أن يمدح نفسه وأن يفخر بها، لكن مراده أن يحث الناس على تعلم كتاب الله عز وجل وعلى طلب تفسيره من أهله، ولعله أيضاً يريد أن يتعلم الناس منه، تفسير كلام الله سبحانه وتعالى.


1* *

وقال الأعمش أيضاً :عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر
آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن.
ومنهم الحبر البحر عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم .




الشرح

البحر لكثرة علمه، والحبر معناه أيضاً سعة العلم، لأن الحبر والبحر الشيء الواسع ويقال: الحبر، والحبر بالكسر أيضاً.

وترجمان القرآن ببركة دعاء رسول الله صلي الله عليه وسلم له، حيث قال: (( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل))(84).
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار قال: أبنانا وكيع قال: ابنانا سفيان عن الأعمش عن مسلم قال: عبد الله يعني ابن مسعود قال: نعم ترجمان القرآن ابن عباس ، ثم رواه عن يحيي بن داود عن إسحاق الأزرق عن سفيان عن الأعمش عن مسلم بن صبيح أبي الضحي عن مسروق عن ابن مسعود أنه قال: نعم الترجمان للقرآن ابن عباس ، ثم رواه عن بندار عن جعفر بن عون عن الأعمش به كذلك، فهذا إسناد صحيح إلى ابن مسعود أنه قال عن ابن عباس هذه العبارة، وقد مات ابن مسعود في سنة ثلاث وثلاثين على الصحيح، وعمر بعده ابن عباس ستا وثلاثين سنة. فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود؟ وقال الأعمش عن أبي وائل: استخلف عليً عبد الله بن عباس على الموسم، فخطب الناس فقرأ في خطبته سورة البقرة0 وفي رواية سورة النور- ففسرها تفسيرا لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا .
ولهذا فإن غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في تفسيره عن هذين الرجلين: ابن مسعود وابن عباس ، ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (( بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار))(85) ، رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو.


الشرح

المعروف أن ابن مسعود لا يأخذ عن الإسرائيليات ، وإنما الذي يأخذ ابن عباس ، فلا أدري هل كلام المؤلف رحمه الله كلام يراد به الجميع أو يراد به البعض؟


***

ولهذا كان عبد الله بن عمرو قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب،
فكان يحدث منها بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك. ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد ، فإنها على ثلاثة أقسام أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح، والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه . والثالث: ما هو مسكوت عنه. لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل ، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني.
ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيراً، ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك، كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعدتهم، وعصا موسى من أي الشجر كانت، وأسماء الطيور التي أحياها الله تعالى لإبراهيم، وتعيين (( البعض)) الذي ضرب به القتيل من البقرة، ونوع الشجرة التي كلم الله منها موسى إلي غير ذلك مما أبهمه الله تعالي في القرآن مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا في دينهم.
ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز.



الشرح

يقول: (( نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز)) لا على الاعتبار به ولكن لبيان اختلافهم في هذا الأمر، وقد يكون في نقل اختلاف أهل الكتاب في مثل هذه الأمور، قد يكون فيه فائدة لنا، وهو أننا إذا كان هناك اختلاف، فإن هذا يقلل من الثقة مما في أيديهم، ويعلم أن عندهم تصرفاً وكذباً فيما ينقلونه، أما أن نذكره على سبيل الاعتبار وأنها أقاويل صحيحة مقبولة، فهذا لا يجوز فيما لا نعلم صدقه، وكما قال الشيخ رحمه الله أنها ثلاثة أقسام، ومر علينا فيما سبق أن ما نحتاج إليه من النقل لا بد أن يقوم عليه دليل؛ وما لا حاجة إليه فإنه لا يقوم عليه دليل لأنه لا حاجة إليه، فكل ما يحتاج العباد إلى بيانه فلابد أن يقوم عليه دليل صحيح، ولا يمكن أن يدعه الله عز وجل بدون دليل تطمئن له النفوس.



* * *

كما قال تعالى: (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) (الكهف:22) ، فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام، وتعليم ما ينبغي في مثل هذا فإنه تعالى أخبر عنهم في ثلاثة أقوال، وضعف القولين الأولين وسكت عن الثالث فدل على صحته، إذ لو كان باطلاً لرده كما ردهما، ثم ارشد إلي أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته، فيقال في مثل هذا ( قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ) ،فإنه لا يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه، فلهذا قال: (فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً )، أي: لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب.
فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام وأن ينبه على الصحيح منها ويبطل الباطل وتذكر فائدة الخلاف وثمرته؛ لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته فيشتغل به عن الأهم.
فأما من حكي خلافاً في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص إذ قد يكون الصواب في الذي تركه أو يحكي الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال فهو ناقص أيضاً، فإن صحح غير الصحيح عامداً فقد تعمد الكذب ، أو جاهلاً فقد أخطأ.


الشرح

أي أنه إذا حكى الأقوال ولم يبين الصحيح فتارة يلام عليه وتارة لا يلام، فإن كان يعلم الصحيح ولم يبينه فهذا قصور، وإن كان لا يعلم كما لو كان القولان عنده على حد سواء فإنه لا يلزم أن يبين ، وهذا يقع حتى في كلام المؤلف أحياناً في الفتاوى وغيرها، يقول فيه قولان لأهل العلم، ثم يقول هذا قول الجمهور، وهذا قول فلان، وهذا قول مالك، وهذا قول الشافعي وما أشبه ذلك.
فالإنسان الذي يسوق الخلاف فإن من الأمانة أن ينقل جميع الأقاويل، لأنه كما قال الشيخ ربما يحذف من الأقاويل ما هو أصح ، ثم إذا نقل الأقاويل فإن كان لديه حجة ترجح أحد الأقوال وجب عليه أن يبين الراجح حتى لا يدع السامع في حيرة، وإن كان لا يعلم فليس عليه بأس في أن يذكر الخلاف ولا يبين الراجح؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.



* * *

كذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته أو حكى أقوالاً متعددة لفظاً، ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى، فقد ضيع الزمان وتكثر بما ليس بصحيح، فهو كلابس ثوبي زور، والله الموفق للصواب.


الشرح

والآية الكريمة التي ساقها المؤلف زعم بعض الناس أن أصحاب الكهف ليسوا سبعة وثامنهم كلبهم، وتشبثوا بقوله تعالي: ( قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) ، وهذا لا شك أنه غلط في تفسير الاية، لأن الله تعالي قال: ( قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) ، يعني وقد أبطل قولين وسكت عن الثالث، وعلى هذا فيكون الثالث هو الأصح، لأنه لو كان خلاف الأصح لبينه الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالي لا يعلم الأمر على خلاف ما هو عليه، ثم إنه قال: ( مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) ، ولو كان المراد بقوله: (ْرَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم) مع أنه لا يعلمه أحد من الناس لكان متناقضا لقوله(مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيل) فالآية بلا شك تدل على أن أصحاب الكهف كانوا سبعة وكان ثامنهم كلبهم.
وهنا نكتى في مسألة العدد، فالله قال: ( سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُم)، ولم يقل: ثمانية ثامنهم كلبهم، لأن الكلب من غير الجنس، وإذا كان من غير الجنس فإنه لا يدخل في العدد، ولكنه يجعل بعده، ولهذا قال الله عز وجل: ( مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ ) ولم يقل من نجوي أربعة إلا هو رابعهم؛ لأنه خالق وهم مخلوقون.
وقوله: ( فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً ) ، فسره المؤلف رحمه الله بأن المعنى لا تجهد نفسك في التعمق والجدال في عدتهم ، لأنه لا طائل تحته، وهكذا يمر أحياناً في الأحاديث إبهام الرجل صاحب القضية ، فيقال: قال الرجل، أو أتى الرجل، أو دخل أعرابي ، أو ما أشبه ذلك. فتجد بعض الناس يتعب نفسه في تعيين ذلك الرجل مع أنه لا طائل تحت ذلك، فيشتغل بالمهم إن كان مهما عن الأهم، والأولى لطالب العلم ألا يضيع الوقت في مثل هذه الأمور التي فائدتها قليلة بالنسبة لغيرها، أو ربما أنها لا فائدة فيها إطلاقاً.
والحاصل أن أصحاب الكهف عدتهم سبعة وثامنهم كلبهم، وقد مر علينا أنهم لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازداوا تسعاً.
ومثال ذلك الاختلاف في عصا موسى من أي شجرة كانت، وكذلك الاختلاف في الجزء الذي ضربوا به الميت القتيل، كل هذا لا طائل تحته ولا فائدة لنا.


* * *

(80) رواه أبو داود، كتاب السنة باب في لزوم السنة، (4604).
(81) رواه أبو داود، كتاب الأقضية باب اجتهاد الرأي في القضاء، (3592،3592)، والترمذي ، كتاب الأحكام باب ما جاء في القاضي كيف يحكم (1327)،( 1328).
(82) رواه البخاري، كتاب الوصايا باب لا وصية لوارث، بدون رقم.
(83) رواه ابو داود، كتاب البيوع، باب في تضمين العور، (3565)، والترمذي: كتاب الوصايا باب ما جاء لا وصية لوارث، (2120)، وابن ماجه، كتاب الوصايا باب لا وصية لوارث، (2713).
(84) رواه البخاري، كتاب الوضوء، باب وضع الماء عند الخلاء، (143)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة باب فضائل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، (2477).
(85) رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء باب ما ذكر عن بني إسرائيل، (3461).

أبو يوسف عبدالله الصبحي
08-Jul-2010, 03:04 PM
فصل في تفسير القرآن بأقوال التابعين

إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر فإنه كان آية في التفسير ، كما قال محمد بن إسحاق: حدثنا أبان بن صالح عن مجاهد قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية منه وأساله عنها، وبه إلى الترمذي قال حدثنا الحسين بن مهدي البصري قال حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال مجاهد: ما في القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئاً (86)وبه إليه قال: حدثنا ابن أبي عمر، قال : حدثنا سفيان بن عيينة عن الأعمش قال: قال مجاهد: لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم أحتج أن أسأل ابن عباس عن كثير من القرآن مما سألت (87)، وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا طلق بن غنام عن عثمان المكي عن ابن أبي مليكة قال: رأيت مجاهداً سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، فقال ابن عباس (( اكتب)) حتى سأله عن التفسير كله.
ولهذا كان سفيان الثوري يقول: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به.
وكسعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، ومسروق بن الأجدع، وسعيد بن المسيب ، وأبي العالية، والربيع بن انس، وقتادة ، والضحاك بن مزاحم وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم ، فتذكر أقوالهم في الآية فيقع في عباراتهم تباين في الألفاظ يحسبها من لا علم عنده اختلافاً فيحيكها أقوالاً، وليس كذلك فإن منهم من يعبر عن الشيء بلازمه أو نظيره، ومنهم من ينص على الشيء بعينه، والكل بمعنى واحد كثير في الأماكن فليتفطن اللبيب لذلك، والله الهادي.
وقال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين في الفروع ليست حجة، فكيف تكون حجة في التفسير يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح، أما إذا اجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلي لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب أو أقوال الصحابة في ذلك.


الشرح

أشار شيخ الإسلام - رحمه الله- هنا إلى أن العلماء اختلفوا في كونه حجة في التفسير، لأنه قال: فإن كثيراً من أهل العلم، وهذا يدل على أنها ليست محل إجماع ، وهو كذلك، ولا ريب أن التابعين يختلفون؛ فالذين تلقوا عن الصحابة التفسير هؤلاء لا يساويهم من لم يكن كذلك، ومع هذا فإنهم إذا لم يسندوه عن الصحابي فإن قولهم ليس بحجة على من بعدهم إذا خالفهم، لأنهم ليسوا بمنزلة الصحابة ولكن قولهم أقرب إلي الصواب، وكلما قرب الناس من عهد النبوة كانوا أقرب إلى الصواب ممن بعدهم، وهذا شئ واضح لغلبة الأهواء فيما بعد، ولكثرة الواسطات بينهم وبين عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ، فبعدهم هذا لا شك أنه يقلل من قيمة أقوالهم، ومن هنا نعرف أن الرجوع إلي قول من سلف أمر له أهميته، وأن غالب اجتهادات المتأخرين مما يحتاج إلي نظر فإنها قد تكون بعيدة من الصواب.
فصارت الآن الطرق لتفسير القرآن أربعة: القرآن، والسنة، وأقوال الصحابة، وأقوال التابعين ، على خلاف في الأخير. فهو - رحمه الله- يرى أنهم إذا اجتمعوا، فقولهم حجة، وإذا اختلفوا ، فليس بحجة.


* * *

(86) رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه (2952).
(87) انظر التخريج السابق

أبو يوسف عبدالله الصبحي
08-Jul-2010, 03:04 PM
تفسير القرآن بالرأي


فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام ، حدثنا مؤمَل، قال حدثنا سفيان قال حدثنا عبد الأعلى،عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار(88).
حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن عبد الأعلى الثعلبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار)) وبه إلى الترمذي قال حدثنا عبد بن حميد قال حدثني حبان بن هلال قال: حدثنا سهيل أخو حزم القطعي قال: حدثنا أبو عمران الجوني عن جندب قال:قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( من قال في القرآن برأية فأصاب فقد أخطأ ))(89) ، قال الترمذي هذا حديث غريب، وقد تكلم بعض أهل الحديث في سهيل بن أبي حزم,وهكذا روي عن بعض أهل العلم عن أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم وغيرهم أنهم شددوا في أن يفسر القرآن بغير علم.وأما الذي روي عن مجاهد وقتادة وغيرهما من أهل العلم أنهم فسروا القرآن فليس الظن بهم أنهم قالوا في القرآن أو فسروه بغير علم أو من قبل أنفسهم . وقد روي عنهم ما يدل على ما قلنا أنهم لم يقولوا من قبل أنفسهم بغير علم، فمن قال في القرآن برأية فقد تكلف ما لا علم به، وسلك غير ما أمر به فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ؛ لأنه لم يأت الأمر من بابه، كمن حكم بين الناس عن جهل فهو في النار وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر، لكن يكون أخف جرما ممن أخطأ، والله أعلم.


الشرح

ولهذا كان من اجتهد فأخطأ فله أجر، كذلك من لم يجتهد ولو أصاب فقد أخطأ إذا كان ما تكلم فيه ليس محلا للاجتهاد.
وتفسير القرآن بالرأي تارة يفسره الإنسان بحسب مذهبه كما يفعله أهل الأهواء . فيقول المراد بكذا وكذا. كذا: وكذا مما ينطبق على مذهبه ، وكذلك هؤلاء المتاخرون الذين فسروا القرآن بما وصلوا إليه من الأمور العلمية الفلكية أو الأرضية والقرآن لا يدل عليها، فإنهم يكونون قد فسروا القرآن بآرائهم ، إذا كان القرآن لا يدل عليها، لا بمقتضى النص ولا بمقتضى اللغة، فهذا هو رأيهم ولا يجوز أن يفسر القرآن بهذا.
وكذلك أيضاً لو لم يكن عند الإنسان فهم للمعنى اللغوي ولا للمعنى الشرعي الذي تفسر به الآية فإنه إذا قال قولا بلا علم، فيكون آثما، كما لو أن أحداً من العامة فسر آية من القرآن الكريم على حسب فهمه من إلي مستند- لا لغوي ولا شرعي-فإنه يكون حراماً عليه ذلك؛ لأن مفسر القرآن يشهد على الله بأنه أراد كذا، وهذا أمر خطير، لأن الله حرم علينا أن نقول عليه ما لا نعلم (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (لأعراف:33) ، فأي إنسان يقول على الله ما لا يعلم في معني كلامه أو في شيء من أحكامه فقد أخطأ خطأ عظيماً.
وهكذا سمي الله تعالى القذفة كاذبين فقال: (َفَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ)(النور: 13) فالقاذف كاذب ولو كان قد قذف من زنى في نفس الأمر؛ لأنه أخبر بما لا يحل له الإخبار به وتكلف ما لا علم به، والله أعلم.
ولهذا تحرج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به، كما روى شعبة عن سليمان عن عبد الله بن مرة عن أبي معمر قال: قال أبو بكر الصديق: (( أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم ))(90) وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا محمد بن يزيد عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي أن ابا بكر الصديق سئل عن قوله: (وَفَاكِهَةً وَأَبّاً) (عبس:31) ، فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم ، إسناده منقطع.


الشرح

فلو أن رجلاً قيل له ما معني قوله تعالى: (وَفَاكِهَةً وَأَبّاً) قال (َأَبّاً) يعني أب أي: الوالد، فيكون قد فسر القرآن برأيه وجهله؛ لأنه صار يسمع الناس يقولون الأب ويشددون الباء ، وهي ليست مشددة فظن أن قوله تعالي : (وَفَاكِهَةً وَأَبّاً) يعني فاكهة وأبَا يعني وأبا فيكون هذا قال في القرآن برأية.
وكذلك من ينزل القرآن على غير ما أراد الله مثل قول بعضهم إذا سئل عن شيء قال: ( لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)(المائدة:101) ، هذا أيضاً من تنزيل القرآن على غير ما أراد الله.
ومنه نعرف خطأ ما نقل مدحاً لامرأة يسمونها المتكلمة بالقرآن.
ذكرها في جواهر الأدب ، امرأة لا تتكلم إلا بالقرآن ، وقيل إنها منذ أربعين سنة لم تتكلم إلا بالقرآن مخافة أن تزل فيغضب عليها الرحمن، وأظن فعلها هذا زلًة لأنها بهذا تنزل القرآن على غير ما أراد الله.


***


وقال أبو عبيد أيضاً: حدثنا يزيد ،عن حميد عن أنس: أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: (وَفَاكِهَةً وَأَبّاً) فقال: ما الأب؟ فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأب ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر!
وقال عبد بن حميد: حدثنا سليمان بن صرب، قال حدثنا بن زيد، عن ثابت ، عن أنس،قال: كنا عند عمر بن الخطاب، وفي ظهر قميصه أربع رقاع، فقرأ: (وَفَاكِهَةً وَأَبّاً) (عبس:31) فقال : ما الأب؟ ثم قال: إن هذا لهو التكلف، فما عليك ألا تدريه؟!




الشرح


في قوله: (( وفي ظهر قميصه أربع رقاع)) الفائدة فيه من حيث مصطلح الحديث أنه أدل على ضبط الرواي، يعني أن الراوي قد ضبط هذه القصة أو هذه القضية بحيث إنه أدل على ضيط الراوى يعنى أن الرلوى قد ضبط هذه القصة أو هذه القضية بحي إنه لم يخف عليه ما في ثوبه من الرقاع، أما الفائدة فيها من حيث السلوك فهو أن نعرف ما كان عليه الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم من عدم الأثرة، وأنهم يعدون أنفسهم كغيرهم من الناس ، لا يمتازون على أحد، وأن حالهم كحال غيرهم، حتى إن عمر رضي الله عنه في عام الرمادة حرم على نفسه أن يأكل من الطعام الطيب واقتصر على اقل ما يطعم . كل هذا من أجل ألا يستاثر بشيء على رعيته رضي الله عنه.
ولكن كان ذلك حين كانت الرعية مستقيمة على أمر الله ورعة عما لا يحل لها، ولهذا قيل: قال رجل لعلي بن أبي طالب: ما بال الناس قد خرجوا عليك ولم يخرجوا على أبي بكر وعمر؟ فقال: كانت الرعية في وقت أبي بكر وعمر مثل على بن أبي طالب، وكانت الرعية في وقتي مثلك.
وكذلك هشام بن عبد الملك أو عبد الملك لما رأى من الناس تذمراً جمع أعيانهم وشرفاءهم وخطب فيهم وقال لهم: أما بعد فإنكم تريدون أن نكون لكم كأبي بكر وعمر، فكونوا لنا كالرجال في عهد أبي بكر وعمر. نكن لكم كأبي بكر وعمر. وجاء في الأثر: كما تكونون يولي عليكم.



* * *

وهذا كله محمول على أنهما رضي الله عنهما إنما أرادا استكشاف ماهية الاب، وإلا فكونه نبتا من الأرض ظاهر لا يجهل لقوله تعالى: (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً) .


الشرح

(وَفَاكِهَةً وَأَبّاً) هي محل الشاهد فعلم من قوله (وَفَاكِهَةً وَأَبّاً) أنه مما تنبت الأرض، ولا يخفى على أبي بكر وعمر أن الأب نبات من الأرض لكنهما أرادا- رضي الله عنهما- تعيين هذا الأب ما هو؟ وأي شجر هو؟فأشكل عليهم، وقد قيل في تفسيره أن الأب هو نبت يشبه القت عندنا، والظاهر والله أعلم أنه نبت صالح، يعنى بمعنى أنه شامل عام لكل ما يكون نبتاً.

وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا ابن علية عن أيوب عن ابن أبي ملكية أن ابن عباس سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها فأبي أن يقول فيها، إسناده صحيح.


الشرح

أي أن ابن عباس- رضي الله عنهما- الذي دعا له الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يعلمه الله التأويل (91)، يقول لو يسأل عن الآية التي لو سئل عنها بعضكم الآن لأجاب. وهذا يدل على أنه يجب التحري في تفسير كلام الله سبحانه وتعالي.



* * *

وقال أبو عبيد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن ابن أبي ملكية قال: سأل رجل ابن عباس عن: ( يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) (السجدة:5) فقال ابن عباس فما ( يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (المعارج:4) فقال الرجل: إنما سألتك لتحدثني ، فقال ابن عباس: (( هما يومان ذكرهما الله في كتابه والله أعلم بهما)) فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم.



الشرح

قد سبق لنا أن يوم القيامة كان مقداره خمسين ألف سنة كما في سورة المعارج في قوله تعالى: ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) وبينه الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة في مسلم (92)، في مانع الزكاة أنه يعذب بها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وأما التي في سورة السجدة: ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) فهذا - والله أعلم- في الدنيا؛ لأنه قال : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) وأما قوله تعالي : ( وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)(الحج: 47) فما دام عند الله، فنحن لا نعلمه ، وهذا اليوم الله أعلم به.



* * *

وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا ابن علية عن مهدي بن ميمون عن الوليد بن مسلم قال: جاء طلق بن حبيب إلى جندب بن عبد الله فسأله عن آية من القرآن فقال: أحرج عليك إن كنت مسلما لما قمت عني، أو قال: أن تجالسني.



الشرح

وهذا محمول على الورع وعدم المضى في التكلم في معني كلام الله عز وجل ، وإلا فليس المعني إذا جاء رجل فسأل عن معني آية تقول له: لا تجلس عندنا ، أو قم، أو ما أشبه ذلك . ولمن بناء على شدة تحريهم وتحرجهم كانوا يقولون مثل هذا.

وقال مالك عن يحيي بن سعيد عن سعيد بن المسيب : إنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال: إنا لا نقول في القرآن شيئاً.
وقال الليث عن يحيي بن سعيد عن سعيد بن المسيب: إنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن.
وقال شعبة عن عمرو بن مرة قال: سأل رجل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن فقال: لا تسألني عن القرآن وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه منه شيء يعني عكرمة.
وقال ابن شوذب: حدثني يزيد بن أبي يزيد قال: كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع.
وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن عبدة الضبي قال: حدثنا حماد بن زيد قال: حدثنا عبيد الله بن عمر قال: لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليعظمون القول في التفسير منهم سالم ابن عبد الله ، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب ، ونافع .
وقال أبو عبيد : حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث عن هشام بن عروة قال: ما سمعت أبي تأول آية من كتاب الله قط.
وقال : أيوب وابن عون وهشام الدستوائي عن محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة السلماني عن آية من القرآن فقال: ذهب الذين كانوا يعلمون فيما أنزل من القرآن ، فـاتق الله وعليك بالسداد.
وقال أبو عبيد: حدثنا معاذ عن ابن عون عن عبيد الله بن مسلم بن يسار عن أبيه، قال: إذا حدثت عن الله فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده.
حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم قال: كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه.
وقال شعبة عن عبد الله بن أبي السفر قال: قال الشعبي: والله ما من آية إلا وقد سألت عنها، ولكنها الرواية عن الله.
وقال أبو عبيد: حدثنا هشيم قال: أنبأنا عمر بن أبي زائدة عن الشعبي عن مسروق قال: اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله.
فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به، فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه.



***

ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير ، ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموه وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد، فإنه كما يجب السكوت عما لا يعلم له به فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه لقوله تعالي: ( لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ )(آل عمران: من187)، ولما جاء في الحديث المروي من طرق : من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار (93).
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا مؤمل قال: حدثنا سفيان عن أبي الزناد قال: قال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالي ذكره. والله سبحانه وتعالي أعلم.


الشرح

إذاً هذه أربعة أقسام: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وهو ما يعرف في اللغة مثل: الكهف والعرش والسرر ومنضودة والطلح وما أشبه ذلك، والثاني تفسير لا يعذر أحد بجهالته وهو تفسير ما يجب اعتقاده أو العمل به، كتفسير قوله تعالي: ( أَقِيمُوا الصَّلاة) فيجب علينا أن نعرف معنى إقامة الصلاة التي أمرنا بها. وكذلك ما يجب علينا اعتقاده كالإيمان بالرسل ونحوهم ، فإنه لا يعذر أحد بجهالته ، والثالث تفسير يعلمه العلماء مثل العام والخاص والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ وما يتعلق بذلك من الأحكام ، فإن هذا ليس كل أحد يعرفه، وليس واجباً على كل أحد بل هو فرض كفاية، وتفسير لا يعلمه إلا الله، فمن ادعي علمه فهو كاذب، كما جاء في بعض ألفاظ الأثر مثل العلم بحقائق صفات الله عز وجل وكيفيتها، وكذلك العلم بحقائق ما أخبر الله به عن اليوم الآخر وعن الجنة والنار وما أشبه ذلك مما لا يمكننا إدراكه ، فهذا من ادعى علمه فإنه كاذب، لأنه لا يعلمه إلا الله.


* * *


(88) رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه، (2950).
(89) رواه أبو داود، كتاب العلم باب الكلام في كتاب الله بغير علم، رقم (3652) ، والترمذي، كتاب تفسير القرآن باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه، (2952).
(90) رواه ابن أبي شيبة (6/136).
(91) سبق تخريجه
(92) رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة، برقم (987)
(93) رواه أبو داود، كتاب العلم باب كراهية منع العلم، (3658)، والترمذي ،كتاب العلم باب ما جاء في كتمان العلم، (2649)، وابن ماجه في المقدمة، (261).

أبو يوسف عبدالله الصبحي
08-Jul-2010, 03:05 PM
تلخيص قواعد التفسير التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية


في (( مقدمة في أصول التفسير))

1والعلم إما نقل مصدق عن معصوم، إما قول عليه دليل معلوم، وما سوى ذلك فإما
مزيف مردود، وإما موقوف لا يعلم أنه بهرج ولا منقود.
2يجب أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم
ألفاظه، فقوله تعالى: ( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(النحل: 44)، يتناول هذا وهذا.
ولهذا كان النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلاً جداً، وهو وإن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة فهو قليل بالنسبة إلى من بعدهم.
3وكلما كان العصر أشرف كان الاجتماع والائتلاف والعلم والبيان فيه أكثر.
4الخلاف بين السلف في التفسير قليل، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في
التفسير، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد. وذلك صنفان:
أحدهما: أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى
في المسمي غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى، بمنزلة الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة.
5إن كل اسم من أسمائه يدل على ذاته وعلى ما في الاسم من صفاته، ويدل أيضاً على الصفة التي في الاسم الآخر بطريق اللزوم. وفى هذه قاعدة أسماء الله وصفاته.
6فإذا كان مقصود السائل تعيين المسمى، عبرنا عنه بأي اسم كان إذا عرف مسمى هذا الاسم.
7وإن كان مقصود السائل معرفة ما في الاسم من الصفة المختصة به فلا بد من قدر زائد على تعيين المسمى مثل أن يسأل عن القدوس السلام المؤمن وقد علم أنه الله، لكن مراده ما معنى كونه قدوسا سلاما مؤمنا ونحو ذلك.
8إذا عرف هذا فالسلف كثيرا ما يعبرون عن المسمى بعبارة تدل على عينه، وإن كان فيها من الصفة ما ليس في الاسم الآخر. ومعلوم أن هذا ليس اختلاف تضاد كما يظنه بعض الناس.
والناس وإن تنازعوا من اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه أم لا ، فلم
يقل أحد من علماء المسلمين إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص فيعم ما يشبهه ، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ، والآية التي لها سبب معين إن كانت أمراً ونهياً فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته وإن كان خبراً بمدح أو ذم فهي متناولة لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته.
9وقولهم: (( نزلت هذه الآية في كذا)) يراد به تارة أنه سبب النزول، ويراد به تارة أن هذا داخل في الآية وإن لم يكن السبب، كما تقول عني بهذه الآية كذا.
10وإذا ذكر أحدهم لها سبباً نزلت لأجله، وذكر الآخر سبباً، فقد يمكن صدقهما بأن
تكون نزلت عقب تلك الأسباب، أو تكون نزلت مرتين: مرة لهذا السبب ومرة لهذا السبب، وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير- تارة لتنوع الأسماء والصفات وتارة لذكر بعض أنواع المسمى وأقسامه كالتمثيلات- هما الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه مختلف. ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ فيه محتملا للأمرين، إما لكونه مشتركاً في اللغة كلفظ: (( قسورة)) الذي يراد به الرامي ويراد به الأسد، ولفظ : (( عسعس )) الذي يراد به إقبال الليل وإدباره ، وإما لكونه متواطئا في الأصل لكن المراد به أحد النوعين أو أحد الشيئين كالضمائر في قوله: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (لنجم:8/9)
* فإن الترادف في اللغة قليل، وأما في ألفاظ القرآن فإما نادر وإما معدوم.
11والعرب تضمن الفعل معنى وتعديه تعديته، ومن هنا غلط من جعل بعض الحروف تقوم مقام بعض.
12والاختلاف قد يكون لخفاء الدليل، أو الذهول عنه، وقد يكون لعدم سماعه، وقد يكون الغلط في فهم النص، وقد يكون لاعتقاد معارض راجح.
13الاختلاف في التفسير على نوعين: منه ما مستنده النقل فقط، ومنه ما يعلم بغير ذلك. إذ العلم إما نقل مصدق، وإما استدلال محقق، والمنقول إما عن المعصوم
وإما عن غير المعصوم.
والمقصود بيان جنس المنقول سواء كان عن المعصوم أو غير المعصوم وهذا هو
النوع الأول- فمنه ما يمكن معرفة الصحيح منه والضعيف، ومنه ما لا يمكن معرفة ذلك فيه. وهذا القسم الثاني من المنقول - وهو ما لا طريق لنا إلى الجزم بالصدق منه- فالبحث عنه مما لا فائدة فيه والكلام فيه من فضول الكلام. وأما ما يحتاج المسلمون إلى معرفته فإن الله نصب على الحق فيه دليلاً.
14فمتي اختلف التابعون لم تكن بعض أقوالهم حجة على بعض، وما نقل في ذلك عن بعض الصحابة نقلاً صحيحاً فالنفس إليه أسكن مما نقل عن بعض التابعين.
15وأما القسم الأول الذي يمكن معرفة الصحيح منه فهذا موجود فيما يحتاج إليه ولله الحمد.
16فالمقصود أن المنقولات التي يحتاج إليها في الدين قد نصب الله الأدلة على بيان ما فيها من صحيح وغيره.
17والمراسيل إذا تعددت طرقها وخلت عن المواطأة قصداً أو الاتفاق بغير قصد كانت صحيحة قطعاً.
18وبهذه الطريق يعلم صدق عامة ما تتعدد جهاته المختلفة على هذا الوجه من المنقولات ، وإن لم يكن أحدها كافياً إما لإرساله وإما لضعف ناقله.
19وهذا الأصل ينبغي أن يعرف ،فإنه أصل نافع في الجزم بكثير من المنقولات في الحديث والتفسير والمغازي، وما ينقل من أقوال الناس وأفعالهم وغير ذلك.
20والمقصود أن الحديث الطويل إذا روي مثلاً من وجهين مختلفين من غير مواطأة امتنع عليه أن يكون غلطا كما امتنع أن يكون كذباً .
21فإن جمهور ما في البخاري ومسلم مما يقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.
22ولهذا كان جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً له أو عملاً به أنه يوجب العلم.
23وكما أنهم يستشهدون ويعتبرون بحديث الذي فيه سوء حفظ فإنهم أيضاً يضعفون من حديث الثقة الصدوق الضابط أشياء تبين لهم غلطه فيها بأمور يستدلون بها، ويسمون هذا: (( علم علل الحديث)) وهو من أشرف علومهم.
24والناس في هذا الباب طرفان: طرف من أهل الكلام ونحوهم ممن هو بعيد عن
معرفة الحديث وأهله لا يميز بين الصحيح والضعيف فيشك في صحة أحاديث أو في القطع بها مع كونها معلومة مقطوعاً بها عند أهل العلم به، وطرف ممن يدعي اتباع الحديث والعمل به كلما وجد لفظاً في حديث قد رواه ثقة أو رأى حديثاً بإسناد ظاهره الصحة يريد أن يجعل ذلك من جنس ما جزم أهل العلم بصحته، حتى إذا عارض الصحيح المعروف أخذ يتكلف له التأويلات الباردة أو يجعله دليلاً في مسائل العلم، مع أن أهل العلم بالحديث يعرفون أن مثل هذا غلط، ( وكما أن على الحديث أدلة يعلم بها أنه صدق وقد يقطع بذلك، فعليه أدلة يعلم بها أنه كذب يقطع بذلك).
25وفي التفسير من هذه الموضوعات قطعة كبيرة، مثل الحديث الذي يرويه الثعلبي والواحدي والزمخشري في فضائل سور القرآن سورة سورة فإنه موضوع باتفاق أهل العلم.
26وأما النوع الثاني من سببي الاختلاف وهو ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل، فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين حدثتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان.
27إحداهما : قوم اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها.
والثانية: قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب من غير نظر إلي المتكلم بالقرآن والمنزل عليه والمخاطب به.
28والأولون صنفان: تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه، وأريد به، وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يرد به. وفي كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعني باطلاً فيكون خطؤهم في الدليل والمدلول، وقد يكون حقا فيكون خطؤهم فيه في الدليل لا في المدلول.
29والمقصود أن مثل هؤلاء اعتقدوا رأياً ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه، وليس لهم
سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا من أئمة المسلمين، لا في رأيهم ولا في تفسيرهم.
30ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة فصيحاً ويدس البدع في كلامه وأكثر الناس لا يعلمون، كصاحب الكشاف ونحوه، حتى إنه يروج على خلق كثير ممن لا يعتقد الباطل من تفاسيرهم الباطلة ما شاء الله.
31 وفي الجملة من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئا في ذلك بل مبتدعاً، وإن كان مجتهداً مغفوراً له خطؤة.
32ومعلوم أن كل من خالف قولهم له شبهة يذكرها إما عقلية وإما سمعية كما هو مبسوط في موضعه.
33والمقصود هنا التنبيه على مثار الاختلاف في التفسير وأن من أعظم أسبابه البدع الباطلة التي دعت أهلها إلى أن حرفوا الكلم عن مواضعه.
وفسروا كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بغير ما أريد به وتأولوه على غير تأويله.
34وأما الذين يخطئون في الدليل لا في المدلول، فمثل كثير من الصوفية والوعاظ والفقهاء وغيرهم ، يفسرون القرآن بمعان صحيحة لكن القرآن لا يدل عليها.
35إن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن. فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة.
36وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلي أقوال الصحابة.
37وهذه الأحاديث الإسرائيلية على ثلاثة أقسام:
أحدها : ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق ، فذاك صحيح.
والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.
والثالث: ما هو مسكوت عنه. لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلي أمر ديني.
38فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف: أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن
ينبه على الصحيح منها ويبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته فيشتغل به عن الأهم.فأما من حكي خلافاً في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص، إذ قد يكون الصواب في الذي تركه، أو يحكي الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال فهو ناقص أيضاً ،فإن صحح غير الصحيح عامداً فقد تعمد الكذب، أو جاهلاً فقد أخطأ كذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته. أو حكى أقوالاً متعددة لفظاً ويرجع حاصلها إلي قول أو قولين معنى فقد ضيع الزمان، وتكثر مما ليس بصحيح ، فهو كلابس ثوبي زور.
39إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلي أقوال التابعين.
40وقال شعبة بن الحجاج وغيره: (( أقوال التابعين في الفروع ليست حجة، فكيف تكون حجة في التفسير)) يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم. وهذا صحيح ، أما إذا اجتمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة.
41فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام.
42فمن قال في القرآن برأيه فقد تكلف ما لا علم له به وسلك غير ما أمر به، فلو أنه
أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ، لأنه لم يأت الأمر من بابه، كم حكم بين الناس عن جهل فهو في النار وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر، لكن يكون أخف جرماً ممن أخطأ والله أعلم.
43فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن
الكلام في التفسير بما لا علم لهم به، فأما من تكلم بماذ يعلم من ذلك لغة وشرعاً فلا حرج عليه. ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير، ولا منافاة ؛ لأنهم تكلموا فيما علموه وسكتوا عما جهلوه.



تم الكتاب بعون الله وتوفيقه، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات