أبو بكر يوسف لعويسي
23-Feb-2021, 03:18 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي اتصف بالعدل ، وأمر به، وحث عليه ،ورغب فيه ، وأثنى على أهله ، وأعد لهم الجزاء الأوفى ، ونهى عن الظلم ، ونفاه عن نفسه ، وحذر عباده منه وتوعد عليه ، وشدد العقوبة فيه ، وأعد لأهله العقاب الأوفى ، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيد المقسطين ، وأمام القضاة العادلين ،وعلى آله وصحبه وسلم إلى يوم الدين .
أما بعد : فاعلم - أرشدني الله وإياك – للإنصاف في القول والعلم ، والقصد في السر والعلن أنه من يعمل مثقال ذرة خيرا ويره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ،جزاء وفاقا ، فالجزاء من جنس العمل ، وأنه كما تدين تدان ، وقد بيّن هذا النبي العدنان غاية البيان فقال - صلى الله ليه وسلم - : ((من ضارَّ ضار الله به. ومن شاقَّ شَقَّ الله عليه)) (1) والحديث حسن .
قال الشيخ العّلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي في شرح هذا الحديث في : (( بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار)) (ص46) بعد أن بوب عليه : الحديث السادس عشر" الجزاء من جنس العمل". هذا الحديث دلّ على أصلين من أصول الشريعة :
أحدهما: أن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر.
قلت : ذلك دليل من السنة ، وقد دل عليه من القرآن قوله تعالى :{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ }(8) سورة الزلزلة.
قال الشيخ – رحمه الله - : وهذا من حكمة الله التي يحمد عليها.
قلت : وجه الحكمة أن الله لا يضيع عنده شيء ، ولو كان وزنه مثقال ذرة من الذرة ، وأن العبد إذا علم ذلك استبشر ، واستدرك ، يستبشر في الخير فيحمد الله ويشكر ويستدرك في الشر فيتوب ويستغفر .
ولذلك قال الشيخ : فكما أن من عمل ما يحبه الله أحبه الله. ومن عمل ما يبغضه أبغضه الله، ومن يسر على مسلم يسر الله عليه في الدنيا والآخرة. ومن فرّج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. والله في حاجة العبد ما كان العبد في حاجة أخيه..
قلت : وهذا قد جاءت به الآثار المروية عن سيد الأخيار - صلى الله عليه وسلم -فعن أبي هريرة ، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((من نفس عن مسلم كربة نفس الله عنه يوم القيامة كربة من كرب الآخرة ومن يسر على مسلم يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر على مسلم في الدنيا ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله عز وجل في عون العبد ما كان في عون أخيه))مسند الطيالسي(2561) . وأحمد(5646)عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ، كَانَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " (2).
قال الشيخ : كذلك من ضارّ مسلماً ضره الله، ومن مَكَر به مكر الله به، ومن شق عليه شق الله عليه، إلى غير ذلك من الأمثلة الداخلة في هذا الأصل.
قلت : بوب البخاري في صحيحه "بَابُ مَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ" (ح 7152) عَنْ طَرِيفٍ أَبِي تَمِيمَةَ، قَالَ: شَهِدْتُ صَفْوَانَ وَجُنْدَبًا وَأَصْحَابَهُ وَهُوَ يُوصِيهِمْ، فَقَالُوا: هَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، قَالَ: وَمَنْ يُشَاقِقْ يَشْقُقِ اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ...)). وفي معجم ابن الأعرابي (1038)عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَفَقَ بِأُمَّتِي رَفَقَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ شَقَّ عَلَى أُمَّتِي شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ.(3).
قال الشيخ – رحمه الله - : الأصل الثاني: منع الضرر والمضارة ، وأنه (( لا ضرر ولا ضرار)).(4) وهذا يشمل أنواع الضرر كله.
قال الشيخ - رحمه الله - :والضرر يرجع إلى أحد أمرين: إما تفويت مصلحة، أو حصول مضرة بوجه من الوجوه. فالضرر غير المستحق لا يحل إيصاله وعمله مع الناس، بل يجب على الإنسان أن يمنع ضرره وأذاه عنهم من جميع الوجوه.
قلت : إن كف الضرر والشر عن النّاس من الصدقة التي يتصدق بها العبد على نفسه زيادة على أنه سلم المسلمون من لسانه ويده فهو من أفضلهم وتكتب فوق ذلك صدقة يجدها في سجل حسناته تثقل بها ميزانه . ففي صحيح مسلم (136)عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الْإِيمَانُ بِاللهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ» قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا» قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: «تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ؟ قَالَ: ((تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ)).
قال البيهقي في الشعب (10/90): وَفِي رِوَايَةِ مُحَاضِرٍ قَالَ: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: (( تَدَعُ النَّاسَ مِنِ الشَّرِّ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ )).
قال الشيخ - رحمه الله - : فيدخل في ذلك: التدليس ، والغش في المعاملات ، وكتم العيوب فيها، والمكر والخداع والنجش، وتلقي الركبان ، وبيع المسلم على بيع أخيه ، والشراء على شرائه، ومثله الإجارات، وجميع المعاملات، والخِطْبة على خِطْبة أخيه، وخِطْبة الوظائف التي فيها أهل لها قائم بها. فكل هذا من المضارة المنهي عنها.
وكل معاملة من هذا النوع فإن الله لا يبارك فيها، لأنه من ضارَّ مسلماً ضارّه الله، ومن ضاره الله ترحّل عنه الخير، وتوجه إليه الشر، وذلك بما كسبت يداه.
ويدخل في ذلك : مضارة الشريك لشريكه، والجار لجاره، بقول أو فعل، حتى إنه لا يحل له أن يحدث بملكه ما يضر بجاره، فضلاً عن مباشرة الإضرار به.
ويدخل في ذلك : مضارة الغريم لغريمه، وسعيه في المعاملات التي تضر بغريمه، حتى إنه لا يحل له أن يتصدق ويترك ما وجب عليه من الديْن إلا بإذن غريمه، أو برهن موجوداته أحد غرمائه دون الباقين، أو يقف،أو يعتق ما يضر بغريمه، أو ينفق أكثر من اللازم بغير إذنه.
كذلك الضرار في الوصايا: كما قال تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ}[النساء:12]. بأن يخص أحد ورثته بأكثر مما له، أو ينقص الوارث، أو يوصي لغير وارثه بقصد الإضرار بالورثة.
وكذلك لا يحل إضرار الزوج بزوجته من وجوه كثيرة، إما أن يعضلها ظلماً لتفتدى منه، أو يراجعها لقصد الإضرار، أو يميل إلى إحدى زوجتيه ميلاً يضرّ بالأخرى، ويجعلها كالمعلقة.
ومن ذلك : الحيف في الأحكام والشهادات والقسمة وغيرها على أحد الشخصين لنفع الآخر. فكل هذا داخل في المضرة. وفاعله مستحق للعقوبة، وأن يضار الله به.
وأشد من ذلك : الوقيعة في الناس عند الولاة والأمراء ( وعند غيرهم .. )، ليغريهم بعقوبته أو أخذ ماله، أو منعه من حق هو له، فإن من عمل هذا العمل فإنه باغٍ، فليتوقع العقوبة العاجلة والآجلة.
ومن هذا: نهى النبي- صلّى الله عليه وسلم- (( أن يورد مُمْرِض على مُصِحّ))(5) لما في ذلك من الضرر.
وكذلك نهى الجذمى ( أي المرضى بالجذام ) ونحوهم عن مخالطة الناس، وهذا وغيره داخل في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}[الأحزاب:58].
ونهى صلّى الله عليه وسلم عن ترويع المسلم، ولو على وجه المزح. ومن هذا السخرية بالخلق، والاستهزاء بهم، والوقيعة في أعراضهم، والتحريش بينهم.
فكله داخل في المضّارة والمشاقة الموجب للعقوبة. وكما يدل الحديث بمنطوقه : أن من ضارّ وشاق ضرَّه الله وشقَّ عليه، فإن مفهومه يدلّ على: أن من أزال الضرر والمشقة عن المسلم ؛ فإن الله يجلب له الخير، ويدفع عنه الضرر والمشاق، جزاء وفاقاً، سواء كان متعلقاً بنفسه أو بغيره.
قلت : فالعاقل الذي يرجو النجاة لنفسه ، لا يرضى أن يضره أحد ولا يرضى أن يشق عليه أحد فلذلك لا ينبغي له أن يضر أحدا ، وأن يشق عليه وينبغي أن يحب للنّاس الذي يحب أن يؤتى ؛ لأنه يعلم أن الجزاء من جنس العمل جزاء وفاقا ولا يظلم ربك أحدا ، انظر لنفسك ماذا يكتب عليك ويحفظ من الذرات فما أقل منها فكيف بما كان أكبر منها وعلى قدر ذلك يكون العقاب ما لم يتب العبد ويستدرك .
اللهم وفقنا للاستدراك والتوبة إنك سميع مجيب وآخر دعوانا آن الحمد لله رب العالمين .
الهامش:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - أخرجه أبو داود رقم: 3635, وأحمد 3/453, وابن ماجه 2342, والطبراني في "الكبير" 22/829, 830, ومن طريقه المزي في "تهذيب الكمال" 35/300, والدولابي في "الكنى والأسماء" 1/40, والبيهقي 6/70, وحسّنه شيخنا الألباني –رحمه الله- في "الإرواء" 3/414, و"صحيح الجامع" رقم: 6248.
2 – (وأخرجه البخاري (2442) و (6951) ، ومسلم (2580) ، وأبو داود (4893) ، والترمذي (1426) ، والنسائي في "الكبرى" (7291)).
3 - وأحمد (24337) وقال محققه : حديث صحيح وقال الشيخ الألباني في الصحيحة (7/1349)(ح3456)وهذا إسناد جيد على شرط مسلم .
4 - مالك في الموطأ (2758 ) وابن ماجة (2341)وأحمد (2865) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ، وَلِلرَّجُلِ أَنْ يَجْعَلَ خَشَبَةً فِي حَائِطِ جَارِهِ، وَالطَّرِيقُ الْمِيتَاءُ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ " قال شيعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند (5/56): وقال النووي عن هذا الحديث: حديث حسن ... وله طرق يَقْوَى بعضها ببعض، قال ابنُ رجب في "جامع العلوم والحكم" 2/210: وهو كما قال، وقد قال البيهقي في بعض أحاديث كثيربن عبد الله المزني: إذا انضمت إلى غيرها من الأسانيد التي فيها ضعف قويت، وقال الشافعي في المرسَل: إنه إذا أُسنِدَ من وجهٍ آخر، أوأَرسله من يأخذُ العلمَ عن غير من يأخذ عنه المرسِلُ الأول، فإنه يُقبَل، وقال الجُوزْجاني: إذا كان الحديث المسند من رجل غير مُقْنع- يعني لا يقنع برواياته- وشد أركانه المراسيل بالطرق المقبولة عند ذوي الاختيار، استعمل واكتفي به، وهذا إذا لم يعارض بالمسند الذي هو أقوى منه، وقد استدل الإمام أحمد بهذا الحديث، وقال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا ضرر ولا ضرار"، وقال أبو عمرو بن الصلاح: هذا الحديث أسنده الدارقطني من وجوه ومجموعها ويقوي الحديث ويحسنه، وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به، وقول أبي داود: إنه من الأحاديث التي يدور الفقه عليها يشعر بكونه غير ضعيف، والله أعلم. وقال الشيخ العلامة الألباني : صحيح لغيره أنظر دراسة الحديث الصحيحة (250).
5 - أخرجه: البخاري في "صحيحه" رقم: 5774, ومسلم في "صحيحه" رقم: 2221.
الحمد لله الذي اتصف بالعدل ، وأمر به، وحث عليه ،ورغب فيه ، وأثنى على أهله ، وأعد لهم الجزاء الأوفى ، ونهى عن الظلم ، ونفاه عن نفسه ، وحذر عباده منه وتوعد عليه ، وشدد العقوبة فيه ، وأعد لأهله العقاب الأوفى ، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيد المقسطين ، وأمام القضاة العادلين ،وعلى آله وصحبه وسلم إلى يوم الدين .
أما بعد : فاعلم - أرشدني الله وإياك – للإنصاف في القول والعلم ، والقصد في السر والعلن أنه من يعمل مثقال ذرة خيرا ويره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ،جزاء وفاقا ، فالجزاء من جنس العمل ، وأنه كما تدين تدان ، وقد بيّن هذا النبي العدنان غاية البيان فقال - صلى الله ليه وسلم - : ((من ضارَّ ضار الله به. ومن شاقَّ شَقَّ الله عليه)) (1) والحديث حسن .
قال الشيخ العّلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي في شرح هذا الحديث في : (( بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار)) (ص46) بعد أن بوب عليه : الحديث السادس عشر" الجزاء من جنس العمل". هذا الحديث دلّ على أصلين من أصول الشريعة :
أحدهما: أن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر.
قلت : ذلك دليل من السنة ، وقد دل عليه من القرآن قوله تعالى :{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ }(8) سورة الزلزلة.
قال الشيخ – رحمه الله - : وهذا من حكمة الله التي يحمد عليها.
قلت : وجه الحكمة أن الله لا يضيع عنده شيء ، ولو كان وزنه مثقال ذرة من الذرة ، وأن العبد إذا علم ذلك استبشر ، واستدرك ، يستبشر في الخير فيحمد الله ويشكر ويستدرك في الشر فيتوب ويستغفر .
ولذلك قال الشيخ : فكما أن من عمل ما يحبه الله أحبه الله. ومن عمل ما يبغضه أبغضه الله، ومن يسر على مسلم يسر الله عليه في الدنيا والآخرة. ومن فرّج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. والله في حاجة العبد ما كان العبد في حاجة أخيه..
قلت : وهذا قد جاءت به الآثار المروية عن سيد الأخيار - صلى الله عليه وسلم -فعن أبي هريرة ، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((من نفس عن مسلم كربة نفس الله عنه يوم القيامة كربة من كرب الآخرة ومن يسر على مسلم يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر على مسلم في الدنيا ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله عز وجل في عون العبد ما كان في عون أخيه))مسند الطيالسي(2561) . وأحمد(5646)عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ، كَانَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " (2).
قال الشيخ : كذلك من ضارّ مسلماً ضره الله، ومن مَكَر به مكر الله به، ومن شق عليه شق الله عليه، إلى غير ذلك من الأمثلة الداخلة في هذا الأصل.
قلت : بوب البخاري في صحيحه "بَابُ مَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ" (ح 7152) عَنْ طَرِيفٍ أَبِي تَمِيمَةَ، قَالَ: شَهِدْتُ صَفْوَانَ وَجُنْدَبًا وَأَصْحَابَهُ وَهُوَ يُوصِيهِمْ، فَقَالُوا: هَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، قَالَ: وَمَنْ يُشَاقِقْ يَشْقُقِ اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ...)). وفي معجم ابن الأعرابي (1038)عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَفَقَ بِأُمَّتِي رَفَقَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ شَقَّ عَلَى أُمَّتِي شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ.(3).
قال الشيخ – رحمه الله - : الأصل الثاني: منع الضرر والمضارة ، وأنه (( لا ضرر ولا ضرار)).(4) وهذا يشمل أنواع الضرر كله.
قال الشيخ - رحمه الله - :والضرر يرجع إلى أحد أمرين: إما تفويت مصلحة، أو حصول مضرة بوجه من الوجوه. فالضرر غير المستحق لا يحل إيصاله وعمله مع الناس، بل يجب على الإنسان أن يمنع ضرره وأذاه عنهم من جميع الوجوه.
قلت : إن كف الضرر والشر عن النّاس من الصدقة التي يتصدق بها العبد على نفسه زيادة على أنه سلم المسلمون من لسانه ويده فهو من أفضلهم وتكتب فوق ذلك صدقة يجدها في سجل حسناته تثقل بها ميزانه . ففي صحيح مسلم (136)عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الْإِيمَانُ بِاللهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ» قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا» قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: «تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ؟ قَالَ: ((تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ)).
قال البيهقي في الشعب (10/90): وَفِي رِوَايَةِ مُحَاضِرٍ قَالَ: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: (( تَدَعُ النَّاسَ مِنِ الشَّرِّ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ )).
قال الشيخ - رحمه الله - : فيدخل في ذلك: التدليس ، والغش في المعاملات ، وكتم العيوب فيها، والمكر والخداع والنجش، وتلقي الركبان ، وبيع المسلم على بيع أخيه ، والشراء على شرائه، ومثله الإجارات، وجميع المعاملات، والخِطْبة على خِطْبة أخيه، وخِطْبة الوظائف التي فيها أهل لها قائم بها. فكل هذا من المضارة المنهي عنها.
وكل معاملة من هذا النوع فإن الله لا يبارك فيها، لأنه من ضارَّ مسلماً ضارّه الله، ومن ضاره الله ترحّل عنه الخير، وتوجه إليه الشر، وذلك بما كسبت يداه.
ويدخل في ذلك : مضارة الشريك لشريكه، والجار لجاره، بقول أو فعل، حتى إنه لا يحل له أن يحدث بملكه ما يضر بجاره، فضلاً عن مباشرة الإضرار به.
ويدخل في ذلك : مضارة الغريم لغريمه، وسعيه في المعاملات التي تضر بغريمه، حتى إنه لا يحل له أن يتصدق ويترك ما وجب عليه من الديْن إلا بإذن غريمه، أو برهن موجوداته أحد غرمائه دون الباقين، أو يقف،أو يعتق ما يضر بغريمه، أو ينفق أكثر من اللازم بغير إذنه.
كذلك الضرار في الوصايا: كما قال تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ}[النساء:12]. بأن يخص أحد ورثته بأكثر مما له، أو ينقص الوارث، أو يوصي لغير وارثه بقصد الإضرار بالورثة.
وكذلك لا يحل إضرار الزوج بزوجته من وجوه كثيرة، إما أن يعضلها ظلماً لتفتدى منه، أو يراجعها لقصد الإضرار، أو يميل إلى إحدى زوجتيه ميلاً يضرّ بالأخرى، ويجعلها كالمعلقة.
ومن ذلك : الحيف في الأحكام والشهادات والقسمة وغيرها على أحد الشخصين لنفع الآخر. فكل هذا داخل في المضرة. وفاعله مستحق للعقوبة، وأن يضار الله به.
وأشد من ذلك : الوقيعة في الناس عند الولاة والأمراء ( وعند غيرهم .. )، ليغريهم بعقوبته أو أخذ ماله، أو منعه من حق هو له، فإن من عمل هذا العمل فإنه باغٍ، فليتوقع العقوبة العاجلة والآجلة.
ومن هذا: نهى النبي- صلّى الله عليه وسلم- (( أن يورد مُمْرِض على مُصِحّ))(5) لما في ذلك من الضرر.
وكذلك نهى الجذمى ( أي المرضى بالجذام ) ونحوهم عن مخالطة الناس، وهذا وغيره داخل في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}[الأحزاب:58].
ونهى صلّى الله عليه وسلم عن ترويع المسلم، ولو على وجه المزح. ومن هذا السخرية بالخلق، والاستهزاء بهم، والوقيعة في أعراضهم، والتحريش بينهم.
فكله داخل في المضّارة والمشاقة الموجب للعقوبة. وكما يدل الحديث بمنطوقه : أن من ضارّ وشاق ضرَّه الله وشقَّ عليه، فإن مفهومه يدلّ على: أن من أزال الضرر والمشقة عن المسلم ؛ فإن الله يجلب له الخير، ويدفع عنه الضرر والمشاق، جزاء وفاقاً، سواء كان متعلقاً بنفسه أو بغيره.
قلت : فالعاقل الذي يرجو النجاة لنفسه ، لا يرضى أن يضره أحد ولا يرضى أن يشق عليه أحد فلذلك لا ينبغي له أن يضر أحدا ، وأن يشق عليه وينبغي أن يحب للنّاس الذي يحب أن يؤتى ؛ لأنه يعلم أن الجزاء من جنس العمل جزاء وفاقا ولا يظلم ربك أحدا ، انظر لنفسك ماذا يكتب عليك ويحفظ من الذرات فما أقل منها فكيف بما كان أكبر منها وعلى قدر ذلك يكون العقاب ما لم يتب العبد ويستدرك .
اللهم وفقنا للاستدراك والتوبة إنك سميع مجيب وآخر دعوانا آن الحمد لله رب العالمين .
الهامش:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - أخرجه أبو داود رقم: 3635, وأحمد 3/453, وابن ماجه 2342, والطبراني في "الكبير" 22/829, 830, ومن طريقه المزي في "تهذيب الكمال" 35/300, والدولابي في "الكنى والأسماء" 1/40, والبيهقي 6/70, وحسّنه شيخنا الألباني –رحمه الله- في "الإرواء" 3/414, و"صحيح الجامع" رقم: 6248.
2 – (وأخرجه البخاري (2442) و (6951) ، ومسلم (2580) ، وأبو داود (4893) ، والترمذي (1426) ، والنسائي في "الكبرى" (7291)).
3 - وأحمد (24337) وقال محققه : حديث صحيح وقال الشيخ الألباني في الصحيحة (7/1349)(ح3456)وهذا إسناد جيد على شرط مسلم .
4 - مالك في الموطأ (2758 ) وابن ماجة (2341)وأحمد (2865) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ، وَلِلرَّجُلِ أَنْ يَجْعَلَ خَشَبَةً فِي حَائِطِ جَارِهِ، وَالطَّرِيقُ الْمِيتَاءُ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ " قال شيعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند (5/56): وقال النووي عن هذا الحديث: حديث حسن ... وله طرق يَقْوَى بعضها ببعض، قال ابنُ رجب في "جامع العلوم والحكم" 2/210: وهو كما قال، وقد قال البيهقي في بعض أحاديث كثيربن عبد الله المزني: إذا انضمت إلى غيرها من الأسانيد التي فيها ضعف قويت، وقال الشافعي في المرسَل: إنه إذا أُسنِدَ من وجهٍ آخر، أوأَرسله من يأخذُ العلمَ عن غير من يأخذ عنه المرسِلُ الأول، فإنه يُقبَل، وقال الجُوزْجاني: إذا كان الحديث المسند من رجل غير مُقْنع- يعني لا يقنع برواياته- وشد أركانه المراسيل بالطرق المقبولة عند ذوي الاختيار، استعمل واكتفي به، وهذا إذا لم يعارض بالمسند الذي هو أقوى منه، وقد استدل الإمام أحمد بهذا الحديث، وقال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا ضرر ولا ضرار"، وقال أبو عمرو بن الصلاح: هذا الحديث أسنده الدارقطني من وجوه ومجموعها ويقوي الحديث ويحسنه، وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به، وقول أبي داود: إنه من الأحاديث التي يدور الفقه عليها يشعر بكونه غير ضعيف، والله أعلم. وقال الشيخ العلامة الألباني : صحيح لغيره أنظر دراسة الحديث الصحيحة (250).
5 - أخرجه: البخاري في "صحيحه" رقم: 5774, ومسلم في "صحيحه" رقم: 2221.