أبو بكر يوسف لعويسي
29-May-2021, 02:12 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرا والصلاة والسلام على من بعث بشيرا ونذيرا ، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثرهم وسلم تسليما كثيرا.
وبعد:
فإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن وجودهم في المجتمع يعتبر حاجزا منيعا لوقوع الشرك والبدعة في الأمة ؛ لأنهم ينفون عن الدين تحريف الغالين وتأويله المبطلين على غير وجهه المراد ، وفي الأثر:((فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد))(1).
وإن فقدهم وذهابهم ، يعتبر ثلمة واسعة في الإسلام وفجوة كبيرة لا يسدها شيء ، وهي مدخل من أعظم مداخل الشيطان ، وكذلك الطعن فيهم والنيل منهم والصد عن الرجوع إليهم فإنه يعتبر قتل للعلم ، وصد عن سبيل الله ، وفتح لمداخل الشيطان أن يرتع في الأمة بتزين الشرك والبدعة والشبه والشهوات.
وإن الآثار الناتجة والناجمة عن ذلك خطيرة جدا تجعل الأمة تعيش في الشرك والفوضى العارمة ، وجهالة مظلمة ، فانظروا إلى قوم نوح وما فعل بهم إبليس اللعين ، فلم يجرأ أن يبوح على ما أقدم عليه إلا عند موت العلماء ، وفُقِدَ العِلمُ ، جاءهم وتسلّط على الجهّال ، وزين لهم حتى أقنعهم أن يصوروا صورا لأولئك الصالحين ففعلوا ، وأن يستسقوا بها ، فلم تقادم عليهم الزمن في الجهل جاءهم فقال : إن آباءكم ما نصبوا هذه الصور إلا لِيُسقَوا بها المطر وليعبدوها. فعبدوها وحينئذٍ وقع الشرك في الأرض، ولم تكسر تلك الأصنام على مر التاريخ حتى بعث محمد - صلى الله عليه وسلم- لأن الشرك إذا توغل وتغلغل في القلوب فإنه يصعب اقتلاعه ، وخاصة عند فقد العلماء وموتهم ، وفقد علمهم ؛ لأنهم هم الذين يقومون ببيانه واقتلاعه من النفوس بتعليمه والدعوة إليه ؛ فإذا ماتوا موتا حقيقيا أو معنويا جاءت الشبهات والفتن التي يبثها إبليس وجنوده من الجن والأنس.
وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم- أن في آخر هذه الأمة طوائف وفئام يفشو فيهم الجهل والقتل ويعبدون الأوثان ويتبين ذلك من الحديثين اللذين سأذكرهما ، الأول عَنْ أَبِى قَالَ سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - ر ض - : أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ((كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنَ تَوْبَةٍ فَقَالَ لاَ. فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ فَقَالَ نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ وَلاَ تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ. فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ فَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلاً بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ. وَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ. فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ (2) فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ فَقَبَضَتْهُ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ )). قَالَ قَتَادَةُ فَقَالَ الْحَسَنُ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ الْمَوْتُ نَأَى بِصَدْرِهِ ، وفي ((- رواية أخرى-))أنه لما حضرته الوفاة نأى بصدره إلى الأرض الطيبة لما عجز عن المشي برجليه صار ينوء بصدره وذلك بسبب الحرص وصدق التوبة )).
انظروا إلى الفتوى بالحق التي عليها نور الحق ، والتي كان الرجل يبحث عنها ليخرج مما هو فيه من سفك للدماء ، وحيرة ، تاب الرجل توبة نصوحا بفتوى الحق ، وخرج مهاجرًا إلى الأرض الطيبة التي ذكرها له العالم الرباني ، فكانت له حسن الخاتمة ، وأي خاتمة أن يموت على التوبة الصادقة النصوح ، فتختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ثم تأخذه ملائكة الرحمة لصدق توبته ، وحسن عزيمته فأنزل الله إليهم ملكًا في صورة آدمي ليحكم بينهم فقال:((قيسوا ما بين البلدتين فوجدوه إلى البلدة الطيبة أقرب بشبر فقبضته ملائكة الرحمة )).
فلكم أن تقارنوا بين ذلكم العالم الحكيم وفتواه بالحق ، وبين العابد الجاهل وفتواه بالباطل ، فما حصل من قتل النفس للعابد كان بسبب فتواه الباطلة ، وما حصل من خير وكف للقتل ، وحقنا للدماء ، وصدق توبة وحسن الخاتمة وتوجيه إلى الأرض الطيبة حيث أهل الخير والبر والعمل الصالح ، كان بسبب العالم وفتواه الصحيحة المبنية على العلم. أرأيتم لو بقي الرجل القاتل على فتوى ذلكم العابد الجاهل لصار يقتل الناس ويستمر في القتل ، ويسفك الدماء ، وربما قابله بعضهم بالقتل أيضا وهكذا يتوسع القتل في المجتمع ، وربّما مات من غير توبة على سوء الخاتمة بسبب الفتوى الخاطئة الباطلة. وليس القتل إزهاق للروح فقط ، وإنما القتل في نشر الضلالة بالجهل كما جاء في الحديث الثاني الذي أريد أن استشهد به هنا ؛
فعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه - عن النبي- صلىالله عليه وسلم - أنه قال: ((إن الله لا يقبض هذا العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بموت العلماء حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسُئِلُوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا )).(3).
فالعلم ينقص ويقبض بموت العلماء وذهابهم ، وإذا ذهب العلم ظهر الرويبضة الجاهل وكل متعالم سافل ، ومن كان جاهلا ليفتي بغير علم فيضل عن سبيل الله ، وينشر الضلالة والبدعة ، فهذا قتل للعلم الذي تحي به النفوس ، والإيمان الصحيح الذي تزكوا به القلوب والأعمال ، وقتل للسنة التي تظهر بها البدعة. فإذا فقد العلم ومات العلماء أو قتلوا بالطعن فيهم والتقليل من قدرهم والصد عنهم فمن يبين الشبه التي يطرحها الشيطان حتى يوقع الناس في الشرك والبدعة ، والفتن ما ظهر منها وما بطن ، والقتل، ومن يفند فتاوى الجهال المضللة ويبطلها ؟؟
تصوروا أمة بلا علماء ربانيين ، مصلحين صالحين ما يحدث ، والجواب في الأمثلة التي ضربت. نعم ستظهر الفتاوى المضللة من الغلو في الصالحين ، وجواز الاستغاثة والتوسل بغير رب العالمين ، والقتل ، واستباحة الحلال وتحريم الحرام ، وتسمية الأمور بغير اسمها ، وتصوروا أمة يرأسها أئمة الضلالة اتباع الهوى الذين زاغت قلوبهم عن الحق فظهروا يبثون الفتاوى الزائغة والفتاوى بغير علم، ويقررون الشبه ويتبعون المتشابه ويجدون أتباعا على ذلك كي يكون الحال ؟ وهذا الواقع يشهد بذلك ؛ وهذا مع وجود بعض العلماء ، فكيف إذا ماتوا أو قتلوا وما وقع في بلدنا في العشرية السوداء ، وفي كثير من بلاد المسلمين من الدماء والخراب والدمار فما هو إلا بسبب فتاوى الجهال بالباطل والرأي العاطل الذين يفتون في الدماء بالجهل ويكفرون المسلمينشأنهم شأن ذلك العابد الذي أفتى بالباطل الذي كان حتفه فيه .
نعم إن الحقيقة المرة في أوضح صورها؛ والآثار الخطيرة الواقعة المترتبة على فقدان الأمة علمائها ، ثم ماذا تكون الحال إن فقدنا البقية الباقية!! ؟ ماذا يحل ؟
والجواب في الأمثلة التي ضربت ((..حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسُئِلُوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا )). يحل الضلال ، والفتاوى الشاذة الضالة فيقع الشرك ، والبدع ، والخرافات ، والفتاوى المضللة من استباحة القتل والأعراض ، والخمور والزنا والربا والرشوة وشهادة الزور والعقوق والفوضى والافتراق واتباع الأهواء والأدواء وهلم ما جرا..
كل ذلك بسبب فقدان العلماء أو قتلهم أو الطن يهم وتجهيلهم .
إن وجود المثقفين والخطباء المتفيقهين أنصاف المتعلمين لا يعوض الأمة عن علمائها ، وقد أخبر النبي((أنه في آخر الزمان يكثر القراء ويقل الفقهاء ))(4).
وهؤلاء قُرّاء وليسوا فقهاء ، على خلاف ما كان الأمر في عهد الصحابة- رضي الله عنهم - أن القراء هم الفقهاء ؛ وهم العلماء كما جاء في الأثر عن عبد بن مسعودأنه قال لإنسان : (( إنك في زمان كثير فقهاؤه قليل قراؤه تحفظ فيه حدود القرآن وتضيع حروفه قليل من يسأل كثير من يعطي ؛ يطيلون فيه الصلاة ويقصرون الخطبة يبدون أعمالهم قبل أهوائهم ، وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير قراؤه يحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده كثير من يسأل قليل من يعطي يطيلون فيه الخطبة ويقصرون الصلاة يبدون فيه أهواءهم قبل أعمالهم ))(5).
وجاء بمعناه مرفوعا عن أبي ذر- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -((إنكم اليوم في زمان كثير علماؤه ، قليل خطباؤه ، من ترك عشر ما يعرف فقد هوى ويأتي من بعد زمان كثير خطباؤه قليل علماؤه ، من استمسك بعشر ما يعرف فقد نجا ))(6).
فإطلاق لفظ العلماء على هؤلاء المثقفين والخطباء أنصاف المتعلمين المتعالمين وأشباه الفقهاء المتشدقين إطلاق في غير محله ، والعبرة بالحقائق لا بالألقاب ، وبالمعاني لا بالمباني فالكثير منهم من يطعن في العلماء ، ومنهم من يغمز ويلمز فيهم من طرفي خفي ، وهم أسباب البلاء الذي تعيشه الأمة الإسلامية فضلا عن الفرقة الناجية والطائفة المنصورة المتمثلة في العلماء كما قال البخاري - رحمه الله - وهو يصف الطائفة المنصورة .
فكثير منهم من يجيد الكلام ، ويستميل العوام ، وهو غير فقيه ولا ثقة ، ولا طالب علم فضلا عن عالم يلتفت إليه ، بل ربما يكون ممن خاف النبيُ على أمته منهم في قوله: ((أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلين ))(7).
قال الإمام عبد الله بن المبارك - رحمه الله تعالى- :((من استخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته )).
والطعن بالعلماء يعتبر شعبة من شعب الظلم فهو من كبائر الذنوب ((.. والمعاصي ، والعاقل يحذر جادةً يمسه منهـا عذاب عظيم ، قال سبحانه وتعالى:{وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}البقرة :(229).
وتذكيرا لهؤلاء الظالمين المعتدين بعاقبة ظلمهم وتعديهم على العلماء فقد جاءت النصوص ناهية أشد النهي عن الظلم،كما نهت عن معاشرة الظالم والركون إليه، والقعــود معـه يبينه قوله تعالى: (فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }الأنعام (68). وقد ثبت في صحيح مسلم (2582) من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم-((لتؤدون الحقوق يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحـاء من القرناء ))ورواه أحمـد(7204)والترمذي (2420).
وليس من شك أن حقوق العلماء على الأمة أشد وأشد، بل إن بعض أهل العلم قدم حق العالم والشيخ على الطالب قبل حق الوالدين عليه ، وقال إن أبوة العلم أفضل من أبوة النسب، وهو متجه لأن حاجة الطالب للعالم دينية وأخروية وفي كل لحظة من حياته أما حاجة الوالد هي قاصرة على الدنيا وشيء من الآخرة ، كذلك حاجة المجتمع إلى العالم وفقدانه يكاد يكون في مرتبة الأكسوجين أو الماء .
وعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-عن النبي - صلى الله عليه وسلم-قال:((ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقــر كبيرنا ويعرف لعالمنا حقه ))(8).
حق العالم عظيم على الفرد والمجتمع وفقدانه ثلمة ليس في المجتمع فحسب ؛ بل في الإسلام ، فاعرفوا للعلماء حقهم ؛ وقدروهم حق قدرهم ؛ فبهم تهتدون وبهم تنجون فهم شموس الهادية وربان سفينة النجاة التي هي السنة .
وانظروا يرحمكم الله بعد موت العلماء الكبار في هذا العصر في وقت متقارب وعلى رأسهم الأئمة الثلاثة الألباني ؛ وابن باز ؛ والعثيمين ، وكذلك محدث اليمن الشيخ مقبل ، وقبلهم الشيخ محمد أمان الجامي ، و الشيخ حماد الأنصاري ، والشيخ أحمد النجمي ، و الشيخ الغذيان ، و الشيخ زيد المدخلي وغيرهم ..ممن لحقوا بهم ، ماذا حصل من فتن في الأمة الإسلامية ، فقد كانوا سدا منيعا لكثير من البلايا والرزايا التي كان يخفيها أهل الأهواء وخاصة خوارج العصر من القطبيين ، والحدادين ،ولإخوان المسلمين فلما مات العلماء ظهر أولئك يطعنون في البقية الباقية وعلى رأسهم شيخ السنة حامل لواء الجرح والتعديل ربيع بن هادي ، والشيخ الفوزان ، والشيخ العباد وغيرهم من العلماء والمشايخ الفضلاء وطلاب العلم النبلاء بأساليب خبيثة ماكرة يفتّون بها في عضد أهل السنة والجماعة ويزيدون في فرقة الأمة شتاتا.
لا شك أن وفاة العلماء من المصائب، وأن العلم إنما يقبض بقبض العلماء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه عمرو بن العاص: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم)، وفي رواية: (حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)،
وقال بعض العلماء في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد:41] يعني: بموت العلماء، ولا شك أن موت العلماء ولاسيما علماء أهل السنة والجماعة، ولاسيما العلماء الربانيون الذين يعملون بعلمهم ويفتون الناس ويعلمونهم ويربونهم بصغار العلم قبل كباره، لا شك أن موتهم مصيبة من المصائب، فالواجب الترحم عليهم والترضي عنهم، والواجب على طلبة العلم أن يحرصوا على طلب العلم، والعناية به وأخذ العلم من أفواه العلماء قبل موتهم، وهذا يدعو طالب العلم إلى أن يكون عنده حرص واجتهاد وأخذ للعلم من العلماء قبل فواته؛ لأن العلم لا يقبض من صدور الرجال، إنما يقبض بموت العلماء، ولا يزال العلماء يموتون واحداً بعد واحد حتى لا يبقى إلا الجهال، فمن أين يؤخذ العلم؟ فقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء". رواه البخاري برقم 100 ومسلم برقم 2673 .
وفي تفسير قوله تعالى:{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }(41) . قَالَ ابن عباس في رواية : خرابها بموت علمائها وفقهائها وَأَهْلِ الْخَيْرِ مِنْهَا، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: هُوَ مَوْتُ الْعُلَمَاءِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبِي الْقَاسِمِ الْمِصْرِيِّ الْوَاعِظِ سَكَنَ أَصْبَهَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ طَلْحَةُ بْنُ أَسَدٍ الْمَرْئِيُّ بِدِمَشْقَ، أَنْشَدَنَا أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّىُّ بِمَكَّةَ قال: أنشدنا أحمد بن غزال لنفسه : [البحر الطويل] .
الْأَرْضُ تَحْيَا إِذَا مَا عَاشَ عَالِمُهَا ... مَتَى يَمُتْ عَالِمٌ مِنْهَا يَمُتْ طَرَفُ
كَالْأَرْضِ تَحْيَا إِذَا مَا الْغَيْثُ حَلَّ بِهَا ... وَإِنْ أَبَى عَادَ فِي أَكْنَافِهَا التَّلَفُ.
وقال علي- رضي الله عنه - كما في وصيته الطويلة لِكُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: " أَخَذَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِيَدِي فَأَخْرَجَنِي إِلَى نَاحِيَةِ الْجَبَّانِ، فَلَمَّا أَصْحَرْنَا جَلَسَ ثُمَّ تَنَفَّسَ ثُمَّ قَالَ: " يَا كُمَيْلُ بْنَ زِيَادٍ الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا، وَاحْفَظْ مَا أَقُولُ لَكَ: النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ. الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ، وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ، الْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْعَمَلِ، وَالْمَالُ تُنْقِصُهُ النَّفَقَةُ، وَمَحَبَّةُ الْعَالِمِ دَيْنٌ يُدَانُ بِهَا، الْعِلْمُ يُكْسِبُ الْعَالِمَ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ، وَجَمِيلَ الْأُحْدُوثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَصَنِيعَةُ الْمَالِ تَزُولُ بِزَوَالِهِ. مَاتَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ، أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، وَأَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ، هَاهْ إِنَّ هَهُنَا - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ - عِلْمًا لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً، بَلَى أَصَبْتُهُ لَقِنًا غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ، يَسْتَعْمِلُ آلَةَ الدِّينِ لِلدُّنْيَا، يَسْتَظْهِرُ بِحُجَجِ اللهِ عَلَى كِتَابِهِ، وَبِنِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ، أَوْ مُنْقَادًا لِأَهْلِ الْحَقِّ لَا بَصِيرَةَ لَهُ فِي إِحْيَائِهِ، يَقْتَدِحُ الشَّكَّ فِي قَلْبِهِ، بِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ، لَا ذَا وَلَا ذَاكَ، أَوْ مَنْهُوَمٌ بِاللَّذَّاتِ، سَلِسُ الْقِيَادِ لِلشَّهَوَاتِ، أَوْ مُغْرًى بِجَمْعِ الْأَمْوَالِ وَالِادِّخَارِ، وَلَيْسَا مِنْ دُعَاةِ الدِّينِ، أَقْرَبُ شَبَهًا بِهِمَا الْأَنْعَامِ السَّائِمَةِ، كَذَلِكَ يَمُوتُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ حَامِلِيهِ....)).
إن موت العالِم مصيبة كبيرة تحلُّ بالمسلمين، وفاجعة تنزل كالصاعقة على رؤوس طلاب العلم الذين عرفوا قدر العلم والعلماء ، فينبغي لطالب العلم أن يحرص على أخذ العلم من العلماء قبل وفاتهم حتى يكون خلفا لهم ولا تخلو الأرض من قائم لله بحجة . اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ، وارزقنا حب العلماء ، وتوقيرهم ، وطاعتهم فيما أصابوا فيه الحق من النوازل. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
-------------------
الهوامش:
1 -يروى حديثا مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يصح رفعه ، ولا يثبت عنه فقد ضعفه العلماء وحكم عليه بعضهم بالضعف الشديد. 2 - أخرجه البخاري (3470) ومسلم(2766) واللفظ له . 3 - أخرجه البخاري(1 / 100 / رقم الحديث (53)، ومسلم (16/223- 225) نووي. 4 - وهو جزء من حديث طويل ، وبعضه في الصحيحين .ورواه الحاكم في مستدركه وقال:هذا حديث صحيح الإسناد(4/504)ولم يخرجاه،والهيثمي في المجمع(1/187) وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله(1/156). 5 - أخرجه مالك في الموطأ (417)والبيهقي في شعب الإيمان (7/62) والبغوي في شرح السنة (514/396)وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة (3189). 6 -قال الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (6/40)(ح 2510) صحيح الإسناد رجاله كلهم ثقات غير الحجاج بن أبي زياد ، و هو ثقة كما قال أحمد و ابن معين. 7 - قال الشيخ الألباني:( صحيح ) انظر حديث رقم :(1551) في صحيح الجامع. 8 - رواه الترمذي عن أنس ، ورواه أحمد والحاكم عن عمارة بن الصامت بلفظ : ((ليس منا من لم يجل كبيرنا...))أنظـر جامع بيان العلم وفضله [ج 1/ 53 ]. قال الشيخ الألباني : (حسن ) انظر حديث رقم :( 5443) في صحيح الجامع.
الحمد لله حمدا كثيرا والصلاة والسلام على من بعث بشيرا ونذيرا ، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثرهم وسلم تسليما كثيرا.
وبعد:
فإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن وجودهم في المجتمع يعتبر حاجزا منيعا لوقوع الشرك والبدعة في الأمة ؛ لأنهم ينفون عن الدين تحريف الغالين وتأويله المبطلين على غير وجهه المراد ، وفي الأثر:((فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد))(1).
وإن فقدهم وذهابهم ، يعتبر ثلمة واسعة في الإسلام وفجوة كبيرة لا يسدها شيء ، وهي مدخل من أعظم مداخل الشيطان ، وكذلك الطعن فيهم والنيل منهم والصد عن الرجوع إليهم فإنه يعتبر قتل للعلم ، وصد عن سبيل الله ، وفتح لمداخل الشيطان أن يرتع في الأمة بتزين الشرك والبدعة والشبه والشهوات.
وإن الآثار الناتجة والناجمة عن ذلك خطيرة جدا تجعل الأمة تعيش في الشرك والفوضى العارمة ، وجهالة مظلمة ، فانظروا إلى قوم نوح وما فعل بهم إبليس اللعين ، فلم يجرأ أن يبوح على ما أقدم عليه إلا عند موت العلماء ، وفُقِدَ العِلمُ ، جاءهم وتسلّط على الجهّال ، وزين لهم حتى أقنعهم أن يصوروا صورا لأولئك الصالحين ففعلوا ، وأن يستسقوا بها ، فلم تقادم عليهم الزمن في الجهل جاءهم فقال : إن آباءكم ما نصبوا هذه الصور إلا لِيُسقَوا بها المطر وليعبدوها. فعبدوها وحينئذٍ وقع الشرك في الأرض، ولم تكسر تلك الأصنام على مر التاريخ حتى بعث محمد - صلى الله عليه وسلم- لأن الشرك إذا توغل وتغلغل في القلوب فإنه يصعب اقتلاعه ، وخاصة عند فقد العلماء وموتهم ، وفقد علمهم ؛ لأنهم هم الذين يقومون ببيانه واقتلاعه من النفوس بتعليمه والدعوة إليه ؛ فإذا ماتوا موتا حقيقيا أو معنويا جاءت الشبهات والفتن التي يبثها إبليس وجنوده من الجن والأنس.
وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم- أن في آخر هذه الأمة طوائف وفئام يفشو فيهم الجهل والقتل ويعبدون الأوثان ويتبين ذلك من الحديثين اللذين سأذكرهما ، الأول عَنْ أَبِى قَالَ سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - ر ض - : أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ((كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنَ تَوْبَةٍ فَقَالَ لاَ. فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ فَقَالَ نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ وَلاَ تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ. فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ فَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلاً بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ. وَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ. فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ (2) فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ فَقَبَضَتْهُ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ )). قَالَ قَتَادَةُ فَقَالَ الْحَسَنُ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ الْمَوْتُ نَأَى بِصَدْرِهِ ، وفي ((- رواية أخرى-))أنه لما حضرته الوفاة نأى بصدره إلى الأرض الطيبة لما عجز عن المشي برجليه صار ينوء بصدره وذلك بسبب الحرص وصدق التوبة )).
انظروا إلى الفتوى بالحق التي عليها نور الحق ، والتي كان الرجل يبحث عنها ليخرج مما هو فيه من سفك للدماء ، وحيرة ، تاب الرجل توبة نصوحا بفتوى الحق ، وخرج مهاجرًا إلى الأرض الطيبة التي ذكرها له العالم الرباني ، فكانت له حسن الخاتمة ، وأي خاتمة أن يموت على التوبة الصادقة النصوح ، فتختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ثم تأخذه ملائكة الرحمة لصدق توبته ، وحسن عزيمته فأنزل الله إليهم ملكًا في صورة آدمي ليحكم بينهم فقال:((قيسوا ما بين البلدتين فوجدوه إلى البلدة الطيبة أقرب بشبر فقبضته ملائكة الرحمة )).
فلكم أن تقارنوا بين ذلكم العالم الحكيم وفتواه بالحق ، وبين العابد الجاهل وفتواه بالباطل ، فما حصل من قتل النفس للعابد كان بسبب فتواه الباطلة ، وما حصل من خير وكف للقتل ، وحقنا للدماء ، وصدق توبة وحسن الخاتمة وتوجيه إلى الأرض الطيبة حيث أهل الخير والبر والعمل الصالح ، كان بسبب العالم وفتواه الصحيحة المبنية على العلم. أرأيتم لو بقي الرجل القاتل على فتوى ذلكم العابد الجاهل لصار يقتل الناس ويستمر في القتل ، ويسفك الدماء ، وربما قابله بعضهم بالقتل أيضا وهكذا يتوسع القتل في المجتمع ، وربّما مات من غير توبة على سوء الخاتمة بسبب الفتوى الخاطئة الباطلة. وليس القتل إزهاق للروح فقط ، وإنما القتل في نشر الضلالة بالجهل كما جاء في الحديث الثاني الذي أريد أن استشهد به هنا ؛
فعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه - عن النبي- صلىالله عليه وسلم - أنه قال: ((إن الله لا يقبض هذا العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بموت العلماء حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسُئِلُوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا )).(3).
فالعلم ينقص ويقبض بموت العلماء وذهابهم ، وإذا ذهب العلم ظهر الرويبضة الجاهل وكل متعالم سافل ، ومن كان جاهلا ليفتي بغير علم فيضل عن سبيل الله ، وينشر الضلالة والبدعة ، فهذا قتل للعلم الذي تحي به النفوس ، والإيمان الصحيح الذي تزكوا به القلوب والأعمال ، وقتل للسنة التي تظهر بها البدعة. فإذا فقد العلم ومات العلماء أو قتلوا بالطعن فيهم والتقليل من قدرهم والصد عنهم فمن يبين الشبه التي يطرحها الشيطان حتى يوقع الناس في الشرك والبدعة ، والفتن ما ظهر منها وما بطن ، والقتل، ومن يفند فتاوى الجهال المضللة ويبطلها ؟؟
تصوروا أمة بلا علماء ربانيين ، مصلحين صالحين ما يحدث ، والجواب في الأمثلة التي ضربت. نعم ستظهر الفتاوى المضللة من الغلو في الصالحين ، وجواز الاستغاثة والتوسل بغير رب العالمين ، والقتل ، واستباحة الحلال وتحريم الحرام ، وتسمية الأمور بغير اسمها ، وتصوروا أمة يرأسها أئمة الضلالة اتباع الهوى الذين زاغت قلوبهم عن الحق فظهروا يبثون الفتاوى الزائغة والفتاوى بغير علم، ويقررون الشبه ويتبعون المتشابه ويجدون أتباعا على ذلك كي يكون الحال ؟ وهذا الواقع يشهد بذلك ؛ وهذا مع وجود بعض العلماء ، فكيف إذا ماتوا أو قتلوا وما وقع في بلدنا في العشرية السوداء ، وفي كثير من بلاد المسلمين من الدماء والخراب والدمار فما هو إلا بسبب فتاوى الجهال بالباطل والرأي العاطل الذين يفتون في الدماء بالجهل ويكفرون المسلمينشأنهم شأن ذلك العابد الذي أفتى بالباطل الذي كان حتفه فيه .
نعم إن الحقيقة المرة في أوضح صورها؛ والآثار الخطيرة الواقعة المترتبة على فقدان الأمة علمائها ، ثم ماذا تكون الحال إن فقدنا البقية الباقية!! ؟ ماذا يحل ؟
والجواب في الأمثلة التي ضربت ((..حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسُئِلُوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا )). يحل الضلال ، والفتاوى الشاذة الضالة فيقع الشرك ، والبدع ، والخرافات ، والفتاوى المضللة من استباحة القتل والأعراض ، والخمور والزنا والربا والرشوة وشهادة الزور والعقوق والفوضى والافتراق واتباع الأهواء والأدواء وهلم ما جرا..
كل ذلك بسبب فقدان العلماء أو قتلهم أو الطن يهم وتجهيلهم .
إن وجود المثقفين والخطباء المتفيقهين أنصاف المتعلمين لا يعوض الأمة عن علمائها ، وقد أخبر النبي((أنه في آخر الزمان يكثر القراء ويقل الفقهاء ))(4).
وهؤلاء قُرّاء وليسوا فقهاء ، على خلاف ما كان الأمر في عهد الصحابة- رضي الله عنهم - أن القراء هم الفقهاء ؛ وهم العلماء كما جاء في الأثر عن عبد بن مسعودأنه قال لإنسان : (( إنك في زمان كثير فقهاؤه قليل قراؤه تحفظ فيه حدود القرآن وتضيع حروفه قليل من يسأل كثير من يعطي ؛ يطيلون فيه الصلاة ويقصرون الخطبة يبدون أعمالهم قبل أهوائهم ، وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير قراؤه يحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده كثير من يسأل قليل من يعطي يطيلون فيه الخطبة ويقصرون الصلاة يبدون فيه أهواءهم قبل أعمالهم ))(5).
وجاء بمعناه مرفوعا عن أبي ذر- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -((إنكم اليوم في زمان كثير علماؤه ، قليل خطباؤه ، من ترك عشر ما يعرف فقد هوى ويأتي من بعد زمان كثير خطباؤه قليل علماؤه ، من استمسك بعشر ما يعرف فقد نجا ))(6).
فإطلاق لفظ العلماء على هؤلاء المثقفين والخطباء أنصاف المتعلمين المتعالمين وأشباه الفقهاء المتشدقين إطلاق في غير محله ، والعبرة بالحقائق لا بالألقاب ، وبالمعاني لا بالمباني فالكثير منهم من يطعن في العلماء ، ومنهم من يغمز ويلمز فيهم من طرفي خفي ، وهم أسباب البلاء الذي تعيشه الأمة الإسلامية فضلا عن الفرقة الناجية والطائفة المنصورة المتمثلة في العلماء كما قال البخاري - رحمه الله - وهو يصف الطائفة المنصورة .
فكثير منهم من يجيد الكلام ، ويستميل العوام ، وهو غير فقيه ولا ثقة ، ولا طالب علم فضلا عن عالم يلتفت إليه ، بل ربما يكون ممن خاف النبيُ على أمته منهم في قوله: ((أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلين ))(7).
قال الإمام عبد الله بن المبارك - رحمه الله تعالى- :((من استخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته )).
والطعن بالعلماء يعتبر شعبة من شعب الظلم فهو من كبائر الذنوب ((.. والمعاصي ، والعاقل يحذر جادةً يمسه منهـا عذاب عظيم ، قال سبحانه وتعالى:{وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}البقرة :(229).
وتذكيرا لهؤلاء الظالمين المعتدين بعاقبة ظلمهم وتعديهم على العلماء فقد جاءت النصوص ناهية أشد النهي عن الظلم،كما نهت عن معاشرة الظالم والركون إليه، والقعــود معـه يبينه قوله تعالى: (فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }الأنعام (68). وقد ثبت في صحيح مسلم (2582) من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم-((لتؤدون الحقوق يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحـاء من القرناء ))ورواه أحمـد(7204)والترمذي (2420).
وليس من شك أن حقوق العلماء على الأمة أشد وأشد، بل إن بعض أهل العلم قدم حق العالم والشيخ على الطالب قبل حق الوالدين عليه ، وقال إن أبوة العلم أفضل من أبوة النسب، وهو متجه لأن حاجة الطالب للعالم دينية وأخروية وفي كل لحظة من حياته أما حاجة الوالد هي قاصرة على الدنيا وشيء من الآخرة ، كذلك حاجة المجتمع إلى العالم وفقدانه يكاد يكون في مرتبة الأكسوجين أو الماء .
وعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-عن النبي - صلى الله عليه وسلم-قال:((ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقــر كبيرنا ويعرف لعالمنا حقه ))(8).
حق العالم عظيم على الفرد والمجتمع وفقدانه ثلمة ليس في المجتمع فحسب ؛ بل في الإسلام ، فاعرفوا للعلماء حقهم ؛ وقدروهم حق قدرهم ؛ فبهم تهتدون وبهم تنجون فهم شموس الهادية وربان سفينة النجاة التي هي السنة .
وانظروا يرحمكم الله بعد موت العلماء الكبار في هذا العصر في وقت متقارب وعلى رأسهم الأئمة الثلاثة الألباني ؛ وابن باز ؛ والعثيمين ، وكذلك محدث اليمن الشيخ مقبل ، وقبلهم الشيخ محمد أمان الجامي ، و الشيخ حماد الأنصاري ، والشيخ أحمد النجمي ، و الشيخ الغذيان ، و الشيخ زيد المدخلي وغيرهم ..ممن لحقوا بهم ، ماذا حصل من فتن في الأمة الإسلامية ، فقد كانوا سدا منيعا لكثير من البلايا والرزايا التي كان يخفيها أهل الأهواء وخاصة خوارج العصر من القطبيين ، والحدادين ،ولإخوان المسلمين فلما مات العلماء ظهر أولئك يطعنون في البقية الباقية وعلى رأسهم شيخ السنة حامل لواء الجرح والتعديل ربيع بن هادي ، والشيخ الفوزان ، والشيخ العباد وغيرهم من العلماء والمشايخ الفضلاء وطلاب العلم النبلاء بأساليب خبيثة ماكرة يفتّون بها في عضد أهل السنة والجماعة ويزيدون في فرقة الأمة شتاتا.
لا شك أن وفاة العلماء من المصائب، وأن العلم إنما يقبض بقبض العلماء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه عمرو بن العاص: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم)، وفي رواية: (حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)،
وقال بعض العلماء في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد:41] يعني: بموت العلماء، ولا شك أن موت العلماء ولاسيما علماء أهل السنة والجماعة، ولاسيما العلماء الربانيون الذين يعملون بعلمهم ويفتون الناس ويعلمونهم ويربونهم بصغار العلم قبل كباره، لا شك أن موتهم مصيبة من المصائب، فالواجب الترحم عليهم والترضي عنهم، والواجب على طلبة العلم أن يحرصوا على طلب العلم، والعناية به وأخذ العلم من أفواه العلماء قبل موتهم، وهذا يدعو طالب العلم إلى أن يكون عنده حرص واجتهاد وأخذ للعلم من العلماء قبل فواته؛ لأن العلم لا يقبض من صدور الرجال، إنما يقبض بموت العلماء، ولا يزال العلماء يموتون واحداً بعد واحد حتى لا يبقى إلا الجهال، فمن أين يؤخذ العلم؟ فقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء". رواه البخاري برقم 100 ومسلم برقم 2673 .
وفي تفسير قوله تعالى:{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }(41) . قَالَ ابن عباس في رواية : خرابها بموت علمائها وفقهائها وَأَهْلِ الْخَيْرِ مِنْهَا، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: هُوَ مَوْتُ الْعُلَمَاءِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبِي الْقَاسِمِ الْمِصْرِيِّ الْوَاعِظِ سَكَنَ أَصْبَهَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ طَلْحَةُ بْنُ أَسَدٍ الْمَرْئِيُّ بِدِمَشْقَ، أَنْشَدَنَا أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّىُّ بِمَكَّةَ قال: أنشدنا أحمد بن غزال لنفسه : [البحر الطويل] .
الْأَرْضُ تَحْيَا إِذَا مَا عَاشَ عَالِمُهَا ... مَتَى يَمُتْ عَالِمٌ مِنْهَا يَمُتْ طَرَفُ
كَالْأَرْضِ تَحْيَا إِذَا مَا الْغَيْثُ حَلَّ بِهَا ... وَإِنْ أَبَى عَادَ فِي أَكْنَافِهَا التَّلَفُ.
وقال علي- رضي الله عنه - كما في وصيته الطويلة لِكُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: " أَخَذَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِيَدِي فَأَخْرَجَنِي إِلَى نَاحِيَةِ الْجَبَّانِ، فَلَمَّا أَصْحَرْنَا جَلَسَ ثُمَّ تَنَفَّسَ ثُمَّ قَالَ: " يَا كُمَيْلُ بْنَ زِيَادٍ الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا، وَاحْفَظْ مَا أَقُولُ لَكَ: النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ. الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ، وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ، الْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْعَمَلِ، وَالْمَالُ تُنْقِصُهُ النَّفَقَةُ، وَمَحَبَّةُ الْعَالِمِ دَيْنٌ يُدَانُ بِهَا، الْعِلْمُ يُكْسِبُ الْعَالِمَ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ، وَجَمِيلَ الْأُحْدُوثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَصَنِيعَةُ الْمَالِ تَزُولُ بِزَوَالِهِ. مَاتَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ، أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، وَأَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ، هَاهْ إِنَّ هَهُنَا - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ - عِلْمًا لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً، بَلَى أَصَبْتُهُ لَقِنًا غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ، يَسْتَعْمِلُ آلَةَ الدِّينِ لِلدُّنْيَا، يَسْتَظْهِرُ بِحُجَجِ اللهِ عَلَى كِتَابِهِ، وَبِنِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ، أَوْ مُنْقَادًا لِأَهْلِ الْحَقِّ لَا بَصِيرَةَ لَهُ فِي إِحْيَائِهِ، يَقْتَدِحُ الشَّكَّ فِي قَلْبِهِ، بِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ، لَا ذَا وَلَا ذَاكَ، أَوْ مَنْهُوَمٌ بِاللَّذَّاتِ، سَلِسُ الْقِيَادِ لِلشَّهَوَاتِ، أَوْ مُغْرًى بِجَمْعِ الْأَمْوَالِ وَالِادِّخَارِ، وَلَيْسَا مِنْ دُعَاةِ الدِّينِ، أَقْرَبُ شَبَهًا بِهِمَا الْأَنْعَامِ السَّائِمَةِ، كَذَلِكَ يَمُوتُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ حَامِلِيهِ....)).
إن موت العالِم مصيبة كبيرة تحلُّ بالمسلمين، وفاجعة تنزل كالصاعقة على رؤوس طلاب العلم الذين عرفوا قدر العلم والعلماء ، فينبغي لطالب العلم أن يحرص على أخذ العلم من العلماء قبل وفاتهم حتى يكون خلفا لهم ولا تخلو الأرض من قائم لله بحجة . اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ، وارزقنا حب العلماء ، وتوقيرهم ، وطاعتهم فيما أصابوا فيه الحق من النوازل. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
-------------------
الهوامش:
1 -يروى حديثا مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يصح رفعه ، ولا يثبت عنه فقد ضعفه العلماء وحكم عليه بعضهم بالضعف الشديد. 2 - أخرجه البخاري (3470) ومسلم(2766) واللفظ له . 3 - أخرجه البخاري(1 / 100 / رقم الحديث (53)، ومسلم (16/223- 225) نووي. 4 - وهو جزء من حديث طويل ، وبعضه في الصحيحين .ورواه الحاكم في مستدركه وقال:هذا حديث صحيح الإسناد(4/504)ولم يخرجاه،والهيثمي في المجمع(1/187) وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله(1/156). 5 - أخرجه مالك في الموطأ (417)والبيهقي في شعب الإيمان (7/62) والبغوي في شرح السنة (514/396)وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة (3189). 6 -قال الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (6/40)(ح 2510) صحيح الإسناد رجاله كلهم ثقات غير الحجاج بن أبي زياد ، و هو ثقة كما قال أحمد و ابن معين. 7 - قال الشيخ الألباني:( صحيح ) انظر حديث رقم :(1551) في صحيح الجامع. 8 - رواه الترمذي عن أنس ، ورواه أحمد والحاكم عن عمارة بن الصامت بلفظ : ((ليس منا من لم يجل كبيرنا...))أنظـر جامع بيان العلم وفضله [ج 1/ 53 ]. قال الشيخ الألباني : (حسن ) انظر حديث رقم :( 5443) في صحيح الجامع.