المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بيان خطإ صوم المسلم مع بلاده إن كانت تعتمد الحساب الفلكي



أبو خالد الوليد خالد الصبحي
11-Jul-2010, 05:07 PM
بيان خطإ صوم المسلم مع بلاده إن كانت تعتمد الحساب الفلكي


إنّ الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيّئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم .

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً }
أما بعد :
فإن أحسن الحديث كتاب الله عز وجل ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
ثم أما بعد :

فإن مما يؤسف له أن لا يتوقف الخلاف في بلادنا في مسألة من أهم المسائل الشرعية التي تتعلق بأحد أركان الإسلام العظيمة ألا وهو الصيام ، إذ لا يزال الناس ومنذ أمد بعيد مضطربين ومختلفين في كيفية إثبات بدء دخول شهر الصوم وخروجه ، لجهل كثير منهم بالحكم الشرعي ، ولتلبس الحق بالباطل على بعضهم ـ إما لمحض تقليدهم أو لقلة من يوجههم ـ ولاتباع البعض ما تهواه الأنفس ، اتباعا لكل ناعق ، وعدم تحريهم الحق فيما اختلف فيه الناس..
وأذكى هذه البلايا تلاعب المسؤولين على ذلك في بعض البلدان ، إذ في كل سنة يتبنون وسيلة مختلفة عن الوسيلة التي تبنوها في السنوات السابقة لها في كيفية إثبات دخول شهر الصوم أو خروجه ؛ فتارة يكون اعتدادهم في ذلك بالرؤية الشرعية الخاصة بهم - بناء على القول باختلاف المطالع - وتارة يكتفون برؤية غيرهم من البلدان - وإن كانت بعيدة عنهم - بناء على قول جمهور العلماء بأن لا عبرة باختلاف المطالع ، أو كانت العلاقات السياسية بينهم وبين تلك البلدان متحسنة ، وتارة يعتمدون الحساب الفلكي لبعض الدول المجاورة ، وتارة لا يعتدون إلا بالحساب الفلكي الخاص بهم - مع جهلهم به وتناقضهم واضطرابهم فيه - حتى أصبح الناس في أمر مريج ، وتقلبوا في آرائهم مع تقلب رأي المسؤولين ، الذين لم يألوا جهدا في إيقاع الناس في المخالفة والاختلاف في كل عام.
ففي كل سنة ينقسم الناس إلى قسمين : قسم منقاد ومسلم أمره إلى ما يهواه المسؤولون في كيفية الحكم بدخول الشهر أو خروجه ، فهو في ذلك متذبذب مضطرب يتبنى في كل عام ما يخالفه في عامه التالي ، تبعا لاضطراب رأي أولئكم كما أوضحناه آنفا.
وقسم آثر عدم التقدم بين يدي الله ورسوله بنحلة أو ديانة ما لم يأذنا بها ، فتمسك بالوسيلة الشرعية المتمثلة في أمره صلى الله عليه وسلم : {صوموا لرؤيته ،وأفطروا لرؤيته ... } والمتمثلة ـ أيضا ـ في نهيه بقوله: {لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه . } براءة لذمته ، وصونا لديانته وعبادته من عبث العابثين.
وقد أشيعت فتاوى غير واضحة المصدر أو الدليل ولم يتحر النقل لها ، توجب على الناس الصوم والفطر على ما تهواه الجهات المسؤولة ، زاعمين أن ذلك امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم : {صومكم يوم تصومون ، وفطركم يوم تفطرون ... }.وبحجة درأ الخلاف بين أفراد الشعب الواحد.ـ زعموا ـ.
وإن كنا قد استبعدنا في بادئ الرأي صحة النقل أو الفهم عمن نقلت عنه تلك الفتاوى - إحسانا للظن بأولئك العلماء الأجلاء - فإنه وإذ صحت تلك النقول فنعتقد أنها من الزلات التي من طبيعة البشر ، وقد علمنا عن أولئك العلماء الذين نسبت لهم الفتوى وتعلمنا منهم بغضهم للتقليد الأعمى ، وأن لا نأخذ من قولهم إلا ما وافق الدليل ، لعلمهم بأنهم غير معصومين من الزلل ، ولعلمنا بأنه كل يؤخذ من قوله ويترك إلا المعصوم من الخطأ والخلل صلى الله عليه وسلم.
فأحاول ـ إن شاء الله تعالى ـ بهذه الأسطر بيان الأدلة من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأقوال أهل العلم مما يتبن به أنه يتعارض مع ما نقل ويتناقل ، والله يهدي إلى سواء السبيل.



** تمهيد للبيان **

أرى من المهم أن أمهد بين يدي مناقشتنا بنقل كلام مهم للإمام الفذ العلامة ابن قيم الجوزية - رحمه الله - لشدة اتصاله بما نحن فيه ، وليكون منا على ذكر .
قال رحمه الله تعالى في كتابه ( إعلام الموقعين عن رب العالمين : 1/49 ) :"

{فصل}
"في تحريم الإفتاء في الدين بالرأي المتضمن لمخالفة النصوص، والرأي الذي لم تشهد له النصوص بالقبول"

قال الله :{ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }(القصص/50)
فقسم الأمر إلى أمرين لا ثالث لهما : إما الاستجابة لله والرسول وما جاء به ، وإما اتباع الهوى ، فكل ما لم يأت به الرسول فهو من الهوى .

وقال تعالى:{ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}(ص/26).
فقسم سبحانه طريق الحكم بين الناس إلى الحق ، وهو الوحي الذي أنزله الله على رسوله ، وإلى الهوى ، وهو ما خالفه.

وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :{ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(الجاثية/18)
فقسم الأمر بين الشريعة التي جعله هو سبحانه عليها ، وأوحى إليه العمل بها ، وأمر الأمة بها ، وبين اتباع أهواء الذين لا يعلمون ، فأمر بالأول ، ونهى عن الثاني.

وقال تعالى :{ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}( الأعراف/3)
فأمر باتباع المنزل منه خاصة ، وأعلم أن من اتبع غيره فقد اتبع من دونه أولياء .

وقال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا }(النساء/59)
فأمر- تعالى - بطاعته وطاعة رسوله ، وأعاد الفعل إعلاماً بأن طاعة الرسول تجب استقلالا من غير عرض ما أمر به على الكتاب ، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقاً سواء كان ما أمر به في الكتاب أولم يكن فيه - فإنه أوتي الكتاب ومثله معه- ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالا ، بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول إيذاناً بأنهم إنما يطاعون تبعاً لطاعة الرسول ، فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته ، ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة ، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : {لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق }، وقال {إنما الطاعة في المعروف } وقال في ولاة الأمور{من أمركم منهم بمعصية الله فلا سمع له ولا طاعة}.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن الذين أرادوا دخول النار لما أمرهم أميرهم بدخولها {إنهم لو دخلوا لما خرجوا منها }، مع أنهم كانوا يدخلونها طاعة لأميرهم ، وظنا أن ذلك واجب عليهم ، ولكن لما قصّروا في الاجتهاد ، وبادروا إلى طاعة من أمر بمعصية الله ، وحملوا عموم الأمر بالطاعة بما لم يرده الآمر صلى الله عليه وسلم ، وما قد علم من دينه إرادة خلافه ، فقصروا في الاجتهاد وأقدموا على تعذيب أنفسهم وإهلاكها من غير تثبيت وتبيين هل ذلك طاعة لله ورسوله أم لا ؟ فما الظن بمن أطاع غيره في صريح مخالفة ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ؟!.

ثم أمر- تعالى- برد ما تنازع فيه المؤمنون إلى الله ورسوله إن كانوا مؤمنين ، وأخبرهم أن ذلك خير لهم في العاجل ، وأحسن تأويلا في العاقبة .
...إلى أن قال : " ومنها : أن قوله { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ } نكرة في سياق الشرط ، تعم كل ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين دقه وجله ، جليه وخفيه ، ولو لم يكن في كتاب الله وسنة رسوله بيان حكم ما تنازعوا فيه، ولم يكن كافيا، لم يأمر بالرد إليه ، إذ من الممتنع أن يأمر – تعالى- بالرد عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع ... ومنها : أن الناس أجمعوا على أن الرد إلى الله – سبحانه- هو الرد إلى كتابه ، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إليه نفسه في حياته ، وإلى سنته بعد وفاته .

ثم قال : ثم أخبر - تعالى - عن هؤلاء بأنهم إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول أعرضوا عن ذلك ولم يستجيبوا للداعي ورضوا بحكم غيره ، ثم توعدهم بأنهم إذا أصابتهم مصيبة في عقولهم وأديانهم وبصائرهم وأبدانهم وأموالهم بسبب إعراضهم عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وتحكيم غيره والتحاكم إليه - كما قال تعالى{ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } - اعتذروا بأنهم إنما قصدوا الإحسان والتوفيق ، أي فعل ما يرضي الفريقين ويوفق بينهما ،كما يفعله من يروم التوفيق بين ما جاء به الرسول وبين ما خالفه ، ويزعم أنه بذلك محسن قاصد الإصلاح والتوفيق ، والإيمان إنما يقتضي إلقاء الحرب بين ما جاء به الرسول وبين كل من خالفه من طريقة وحقيقة وعقيدة وسياسة ورأي ، فمحض الإيمان في هذا : الحرب لا في التوفيق ، وبالله التوفيق .

إلى أن قال : وقال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ...}( الحجرات/1)
أي لا تقولوا حتى يقول ، ولا تأمروا حتى يأمر ، ولا تفتوا حتى يفتي ، ولا تقطعوا أمرا حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويمضيه .

وقال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ }.
فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سبباً لحبوط أعمالهم ، فكيف بتقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياساتهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه ؟! أليس هذا أولى أن يكون محبطاً لأعمالهم ؟".( انتهى كلامه رحمه الله.)


وإنما أحببت التمهيد بهذا لما فيه من الفوائد المنهجية العاصمة من الزيغ والضلال ، والتي يجب أن تكون نصب أعيننا ونحن نناقش مسألتنا فنقول :

أولا : من المقرر شرعاً أن الأمر بالصيام معلق بتيقن دخول شهر رمضان ، فمن شهد الشهر وتيقن دخوله فقد وجب عليه الصوم - إلا من عذر- وكذلك الحال بالنسبة للفطر ، فإنه لا يجوز إلا بعد تيقن دخول شهر شوال ، وهذا التيقن لا يكون - شرعيا - إلا بثبوت الرؤية الحسية للهلال ، لا بمجرد العلم بوجوده أو ولادته أو محاقه واقترانه ، لقوله عز وجل { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ }.ولقوله{ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } .
ولقوله صلى الله عليه وسلم :{صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غبي عليكم فأكملوا عدة الشهر ثلاثين }،(متفق عليه).
وقوله صلى الله عليه وسلم :{لا تصوموا قبل رمضان ، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن حالت دونه غياية فأكملوا ثلاثين يوما } ( رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ، والغياية : السحابة ).
وقوله صلى الله عليه وسلم {أحصوا هلال شعبان لرمضان ، ولا تخلطوا برمضان ، إلا أن يوافق ذلك صياما كان يصومه أحدكم ، وصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يوما ، فإنها ليست تغمى عليكم العدة }(السلسلة الصحيحة برقم565)
وقوله صلى الله عليه وسلم :{جعل الله الأهلة مواقيت للناس ؛ فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما}(صحيح الجامع- 3093)
وقوله صلى الله عليه وسلم :{ صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وانسكوا لها ، فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين ، فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا }(صحيح الجامع 3811).
فجعل صلى الله عليه وسلم التيقن من رؤية الهلال - وليس مجرد العلم بولادته أو ساعة اقترانه - سبباً لتعلق الحكم به صياماً وفطراً .
وفي روايات صحيحة صريحة نهى صلى الله عليه وسلم أمته عن الصوم قبل رؤية الهلال أو الفطر قبل رؤيته فقال: {لا تصوموا حتى تروه ،ولا تفطروا حتى تروه ،...إلخ }.وقال صلى الله عليه وسلم :{لا تقدموا هذا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة }(صحيح ابن خزيمة1911 ).

وجمهور العلماء من المذاهب المتبوعة سلفا وخلفا على أن أمره صلى الله عليه وسلم يفيد الوجوب ، وأن نهيه صلى الله عليه وسلم يفيد التحريم حتى تأتي قرينة تصرفهما عن حقيقتهما.
فأمره صلى الله عليه وسلم بالصوم على الرؤية يفيد وجوب ذلك ، ومخالفه آثم ، ونهيه عن الصوم قبل ثبوت الرؤية يفيد التحريم وفاعله مرتكب للإثم .

ولا يستنكر ذلك فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة - مثلا - في أوقات مخصوصة ؛ ولأن هذه العبادات لها شرائط وضعها الشرع لا تقبل عند تخلفها ، فمن صام قبل ثبوت الرؤية لا فرق بينه وبين من صلى قبل دخول الوقت أو حج في غير أشهر الحج لأن الشرع جعل لكل عبادة وقتها التي لا تصح أن تقع قبله .
وقد تواترت الأحاديث الآمرة بصيام رمضان والفطر منه لرؤية الهلال ، أو إتمام عدة الشهر ثلاثين يوما إذا لم ير الهلال ، وصرح الإمام الطحاوي في ( شرح معاني الآثار) بتواترها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيها أوضح بيان ممن أوتي جوامع الكلم - صلى الله عليه وسلم - للطريقة الشرعية الوحيدة في بدء الصيام ونهايته .

فهذه النصوص الصحيحة صريحة في أنه لا يجوز - مطلقا - الصوم أو الفطر دون ثبوت وتيقن رؤية الهلال ، حيث أناط الحكم بالرؤية ، وهو ما جرى العمل عليه عند عامة الصحابة والتابعين وتابعيهم بحيث لم يعلم لهم مخالف منهم ، وقد حكى غير واحد إجماعهم عليه كالقرطبي وابن العربي وابن رشد - وهم من أئمة المالكية - وابن المنذر وابن عابدين وغيرهم ، واتفق عليه جل العلماء المعاصرين المشهود لهم باتباع السنة والدليل .

ولذلك قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى( 182/25 ) :" لا ريب أنه ثبت بالسنة الصحيحة واتفاق الصحابة أنه لا يجوز الاعتماد على حساب النجوم كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال : « إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته » ، والمعتمد على الحساب في الهلال ؛ كما أنه ضال في الشريعة مبتدع في الدين ، فهو مخطئ في العقل وعلم الحساب " انتهى .
وقال أيضا في صفحة ( 132 ، 133 ) من المجلد المذكور : " إنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه لا يرى لا يجوز ، والنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كثيرة ، وقد أجمع المسلمون عليه ، ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلا ولا خلاف حديث ، إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب ، فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا . وهذا القول وإن كان مقيداً بالإغمام ومختصاً بالحاسب فهو شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه . فأما اتباع ذلك في الصحو أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم ، وقد يقارب هذا قول من يقول من الإسماعيلية بالعدد دون الهلال ، وبعضهم يروي عن جعفر الصادق جدولا يعمل عليه ، وهو الذي افتراه عليه عبد الله بن معاوية وهذه الأقوال خارجة عن دين الإسلام ، وقد برأ الله منها جعفرا وغيره ، ولا ريب أن أحدا لا يمكنه مع ظهور دين الإسلام أن يظهر الاستناد إلى ذلك " . انتهى .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري ( 6/156) : " وَالْمُرَاد بِالْحِسَابِ هُنَا حِسَاب النُّجُومِ وَتَسْيِيرهَا ، وَلَمْ يَكُونُوا يُعْرَفُونَ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا إِلَّا النَّزْر الْيَسِير ، فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِالصَّوْمِ وَغَيْره بِالرُّؤْيَةِ لِرَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُمْ فِي مُعَانَاةِ حِسَاب التَّسْيِير ، وَاسْتَمَرَّ الْحُكْمُ فِي الصَّوْمِ وَلَوْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ ، بَلْ ظَاهِر السِّيَاقِ يُشْعِرُ بِنَفْيِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالْحِسَابِ أَصْلًا ، وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي " فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ " وَلَمْ يَقُلْ فَسَلُوا أَهْل الْحِسَاب ، وَالْحِكْمَة فِيهِ كَوْنُ الْعَدَدَ عِنْدَ الْإِغْمَاءِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُكَلَّفُونَ فَيَرْتَفِعُ الِاخْتِلَاف وَالنِّزَاع عَنْهُمْ ، وَقَدْ ذَهَبَ قَوْم إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى أَهْل التَّسْيِير فِي ذَلِكَ وَهُمْ الرَّوَافِضُ ، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ مُوَافَقَتُهُمْ . قَالَ الْبَاجِي : وَإِجْمَاع السَّلَف الصَّالِح حُجَّة عَلَيْهِمْ . وَقَالَ اِبْن بَزِيزَةَ : وَهُوَ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ فَقَدْ نَهَتْ الشَّرِيعَةُ عَنْ الْخَوْضِ فِي عِلْمِ النُّجُومِ لِأَنَّهَا حَدْسٌ وَتَخْمِينٌ لَيْسَ فِيهَا قَطْعَ وَلَا ظَنٌّ غَالِب ، مَعَ أَنَّهُ لَوْ اِرْتَبَطَ الْأَمْر بِهَا لَضَاقَ إِذْ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الْقَلِيل "اهـ.

وقال الإمام النووي رحمه الله في (المجموع : 6/270) : " من قال بحساب المنازل فقوله مردود بقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين . « إنا أمة لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا .. » الحديث . قالوا : ولأن الناس لو كلفوا بذلك ضاق عليهم لأنه لا يعرف الحساب إلا أفراد من الناس في البلدان الكبار ، فالصواب ما قاله الجمهور وما سواه فاسد مردود بصرائح الأحاديث ". انتهى

وقال المناوي في شرح الجامع الصغير : ( "ولا نحسب" بضم السين أي لا نعرف حساب النجوم وتسييرها فالعمل بقول المنجمين ليس من هدينا بل إنما ربطت عبادتنا بأمر واضح وهو رؤية الهلال فإنا نراه مرة لتسع وعشرين وأخرى لثلاثين وفي الإناطة بذلك دفع للحرج عن العرب في معاناة ما لا يعرفه منهم إلا القليل ثم استمر الحكم بعدهم وإن كثر من يعرف ذلك ) ا.هـ

وقال أبو الطيب صديق خان في ( عون الباري شرح صحيح البخاري، كتاب الصوم( 27، 110) على قوله - صلى الله عليه وسلم -: فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين قال: ولم يقل فاسألوا أهل الحساب ، والحكمة كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلفون وقد ذهب قوم إلى الرجوعإلى أهل التسيير وهم من الفرق الضالة . . إلخ . ." أ هـ .

فهذا الإجماع المحكي عن الصحابة - رضوان الله عليهم- لا ينازعه قول شاذ بجواز الصوم والفطر بتقدير حساب المنازل أو ما يسمى بالحساب الفلكي ، إذ أنه محض اجتهاد على أحسن تقدير - وقد تقرر في الأصول أنه {لا اجتهاد مع النص }، إذ مقتضى هذا القول مناقضة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال{لا تصوموا حتى تروه }، وهذا القول يقول ( صوموا وإن كنتم لا ترونه ) ، وهذا عين المحادة لله ورسوله ، والتقدم بين يديهما .

ومن فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء والدعوة والإرشاد في ا لعمل بالحساب الفلكي ما نورد بعضه ليزداد القارئ المتبع لرسوله صلى الله عليه وسلم اطمئنانا:
1/ [فتوى رقم 386] سئلت اللجنة هذا السؤال :هل يجوز للمسلم الاعتماد في بدء الصوم ونهايته على الحساب الفلكي أو لا بد من رؤية الهلال ؟
فأجابت: الشريعة الإسلامية شريعة سمحة ، وهي عامة شاملة أحكامها جميع الثقلين الإنس والجن على اختلاف طبقاتهم علماء وأميين ،أهل الحضر وأهل البادية ، فلهذا سهل الله عليهم الطريق إلى معرفة أوقات العبادات ، فجعل لدخول أوقاتها وخروجها أمارات يشتركون في معرفتها ..جعل غروب الشمس أمارة على دخول وقت المغرب ، وغروب الشفق الأحمر أمارة على دخول وقت العشاء مثلا ، وجعل رؤية الهلال بعد استتاره آخر الشهر أمارة على ابتداء شهر قمري جديد، وانتهاء الشهر السابق ـ ولم يكلفنا معرفة بدء الشهر القمري بما لا يعرفه إلا النزر اليسير من الناس ، وهو علم النجوم أو علم الحساب الفلكي ، وبهذا جاءت نصوص الكتاب والسنة بجعل رؤية الهلال ومشاهدته أمارة على بدء صوم المسلمين شهر رمضان والإفطار منه برؤية هلال شوال وكذلك الحال في ثبوت عيد الأضحى ويوم عرفات ـ قال تعالى {فمن شهد منكم الشهر فليصمه } وقال تعالى {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين ).فجعل عليه الصلاة والسلام الصوم لثبوت رؤية هلال شهر رمضان والإفطار منه لثبوت رؤية هلال شوال ولم يربط ذلك بحساب النجوم وسير الكواكب وعلى هذا جرى العمل زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن الخلفاء الراشدين والأئمة الأربعة والقرون الثلاثة التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالفضل والخير ،فالرجوع في إثبات الشهور القمرية إلى علم النجوم في بدء العبادات والخروج منها دون الرؤية من (البـدع ) التي لا خير فيها ولا مستند لها من الشريعة... والخير كل الخير في اتباع من سلف في الشؤون الدينية والشر كل الشر في البدع التي أحدثت في الدين ، حفظنا الله وإياك وجميع المسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن ...وبالله التوفيق . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عبد الله بن منيع / عضوا ... عبد الله بن غديان / عضوا ... عبد الرزاق عفيفي / نائب رئيس اللجنة.

2 / كما سئلت اللجنة - أيضا - هذا السؤال : " لقد أجريت عملية جراحية في شهر رمضان والآن أريد أن أقضي مع العلم أن المسلمين في مدينتي انقسموا إلى قسمين : القسم الأول ، أفطر اتباعاً للسعودية وبعض البلدان الإسلامية الأخرى (أي 29يوما) ، والقسم الثاني أكمل الشهر (أي30 يوما) وهذا اتباعاً للدولة.
مع ملاحظة أن دولتي تحدد بداية ونهاية الشهور العربية بواسطة الحساب الفلكي ، والسؤال هو كم يوما أقضي 29أو 30..]. ا؟.
جواب : {لا يعتبر الحساب الفلكي أصلا يثبت به بدء صيام شهر رمضان ونهايته ،بل المعتبر في ذلك رؤية الهلال ، فإن لم يروا هلال رمضان ليلة ثلاثين من شعبان أكملوا شعبان ثلاثين يوما من تاريخ أول الشهر ، وكذا إذا لم يروا هلال شوال ليلة ثلاثين من رمضان أكملوا عدة رمضان ثلاثين يوما . وعلى هذا يجب عليك صيام 29 يوما قضاء لرمضان الذي عجزت عن صيامه من أجل العملية اتباعاً للدول التي صامت لرؤيته وأفطرت بها ، وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
عبد الله بن غديان / عضوا عبد الله بن قعود / عضوا
عبد الرزاق عفيفي / نائب رئيس اللجنة عبد العزيز بن باز / الرئيس

3 / وسئلت اللجنة أيضا:{ السؤال الثاني من الفتوى رقم (2036)}:هناك خلاف كبير بين علماء المسلمين في تحديد بدء صوم رمضان وعيد الفطر المبارك ، فمنهم من عمل بحديث {صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته..}ومن العلماء من يعتمد على آراء الفلكيين،حيث يقولون إن علماء الفلك قد وصلوا إلى القمة في علم الفلك بحيث يمكنهم معرفة بداية الشهور القمرية وعلى ذلك يتبعون التقويم ؟
الجواب / أولا : القول الصحيح الذي يجب العمل به هو ما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم {صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة }من أن العبرة في بدء شهر رمضان وانتهائه برؤية الهلال ،فإن شريعة الإسلام التي بعث الله بها نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم عامة خالدة مستمرة إلى يوم القيامة.
ثانيا: أن الله تعالى علم ما كان وما سيكون من تقدم علم الفلك وغيره من العلوم ومع ذلك قال {فمن شهد منكم الشهر فليصمه }،وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله {صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته } الحديث.
فعلق صوم شهر رمضان والإفطار منه برؤية الهلال ولم يعلقه بعلم الشهر بحساب النجوم مع علمه تعالى من أن علماء الفلك سيتقدمون في علمهم بحساب النجوم وتقدير سيرها، فوجب على المسلمين المصير إلى ما شرعه الله لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من التعويل في الصوم والإفطار على رؤية الهلال ،وهو كالإجماع من أهل العلم، ومن خالف في ذلك وعول على حساب النجوم فقوله شاذ لا يعول عليه. وبالله التوفيق ،وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عبد الله بن قعود / عضوا .. عبد الرزاق عفيفي/ نائب رئيس اللجنة .. عبد العزيز بن باز/ الرئيس

وقال الشيخ محمد بن عثيمين (رحمه الله):" لا يجوز اعتماد حساب المراصد الفلكية إذا لم يكن رؤية ، فإذا كان هناك رؤية ولو عن طريق المراصد الفلكية فإنها معتبرة لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم : إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا. أما الحساب فإنه لا يجوز العمل به ولا الاعتماد عليه ، وأما استعمال ما يسمى (بالدربيل) وهو المنظار المقرب في رؤية الهلال فلا بأس به ولكن ليس بواجب، لأن السنة أن الاعتماد على الرؤية المعتادة لا على غيرها. ولكن لو استعمل فرآه من يوثق به فإنه يعمل بهذه الرؤية، وقد كان الناس قديماً يستعملون ذلك لما كانوا يصعدون (المناثر) في ليلة الثلاثين من شعبان أو ليلة الثلاثين من رمضان فيتراءونه بواسطة هذا المنظار ، على كل حال من ثبتت رؤيته بأي وسيلة فإنه يجب العمل بمقتضى هذه الرؤية لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا." ا هـ.

ثانيا / من المقرر - أيضا - أنه ليس ثمة تعارض بين أحاديث الباب حتى يضطر إلى إهمال دلالة بعضها ، لإمكانية الجمع بينها على افتراض التعارض ، وإعمال الدليلين أولى كما هو مقرر في علم الأصول ، فالاستدلال بحديث {الصوم يوم يصوم الناس ..إلخ }على أنه يجب أو يجوز لكل شعب أن يتحد مع نفسه ؛ ويجتمع على حكم الحاكم في الصوم أو الفطر بأي وسيلة كانت - شرعية أو غير شرعية - ؛ امتثالا لهذا الحديث ؛ ودرأ للخلاف ؛ استدلال بعيد عن الصواب لأمور :

أولها : أن هذا القول فيه تكلف ظاهر ، وحمل للحديث على غير ما يحتمل ، وبخاصة أن الحديث ليس نصاً صريحا فيما ذهبت إليه الفتوى بل ولا هو محتمل ، وقد اختلف العلماء في تفسيره على عدة وجوه ، فلا يصلح لمعارضة تلك النصوص الصريحة الدلالة أو يقدم عليها ، وإن قيل باحتماله .
يقول العلامة الألباني في ( السلسلة الصحيحة:1/229 ) : " من المعلوم أن العلماء كثيراً ما يضطرون لترك ما دل عليه ظاهر النص لمخالفته لنص آخر هو في دلالته نص قاطع ، مثل ترك مفهوم النص لمنطوق نص آخر ، وترك العام للخاص ، ونحو ذلك . ولا يختلف العلماء أن النص الصريح أرجح عند التعارض من دلالة ظاهر نص ما ، فكيف إن أمكن الجمع وعدم التعارض ، أو كانت دلالة النص المعارض غير ظاهرة ؟. وقد ذكر العلماء في وجوه الترجيح بين الأحاديث أن يكون الحكم الذي تضمنه أحد الحديثين منطوقا به وما تضمنه الحديث الآخر يكون محتملا "اهـ

ومما لا شك فيه أن دلالة هذا الحديث على هذه المسألة ليست قاطعة ، بل هي محتملة - على أحسن تقدير - بخلاف دلالة الأحاديث الأخرى الآمرة بعدم الصوم أو الفطر إلا عند ثبوت الرؤية الحسية فإن دلالتها عليه ظاهرة.
وقلنا ( على أحسن تقدير ) ،لأن الحديث لم يفسره أحد من أهل العلم ليكون حجة للاعتداد بالحساب الفلكي أو طاعة الحاكم الذي يأمر بالصوم أو الفطر على غير ما أمر به الشارع ، وغالب من فسروه حملوه على المنفرد برؤية الهلال أو المنفرد بتقدير المنازل ، بل وحمله بعضهم على الفئة التي توافق الشرع وإن كانت قليلة العدد :

قال الصنعاني في {سبل السلام (2/72) }:"فيه (يعني الحديث )دليل على أنه يعتبر في ثبوت العيد الموافقة للناس ، وأن المتفرد بمعرفة يوم العيد بالرؤية يجب عليه موافقة غيره ، ويلزمه حكمهم في الصلاة والإفطار والأضحية."اهـ.

وقال ابن القيم في " تهذيب السنن (3/214)":" وقيل : فيه الرد على من يقول إن من عرف طلوع القمر بتقدير حساب المنازل جاز له أن يصوم ويفطر دون من لم يعلم ، وقيل :إن الشاهد الواحد إذا رأى الهلال ولم يحكم القاضي بشهادته أنه لا يكون هذا له صوماً كما لم يكن للناس "اهـ.

وقال أبو الحسن السندي في (حاشيته على ابن ماجه) :" والظاهر أن معناه أن هذه الأمور ليس للآحاد فيها دخل ، وليس لهم التفرد فيها ، بل الأمر فيها إلى الإمام والجماعة ، ويجب على الآحاد اتباعهم للإمام والجماعة ، وعلى هذا فإذا رأى أحد الهلال ورد الإمام شهادته ينبغي أن لا يثبت في حقه شيء من هذه الأمور، ويجب عليه أن يتبع الجماعة في ذلك "اهـ.

قال الألباني في (الصحيحة /393):" وهذا هو المعنى المتبادر من الحديث" اهـ

وقال الخطابي (نقلا عن عون المعبود):" معنى الحديث أن الخطأ موضوع عن الناس فيما كان سبيله الاجتهاد ،فلو أن قوما اجتهدوا فلم يروا الهلال إلا بعد الثلاثين فلم يفطروا حتى استوفوا العدد ثم تبين عندهم أن الشهر كان تسعا وعشرين فإن صومهم وفطرهم ماض لا شيء عليهم من وزر أو عتب ، وكذلك هذا في الحج إذا أخطئوا يوم عرفة فإنه ليس عليهم إعادته ويجزيهم أضحاؤهم كذلك وإنما هذا تخفيف من الله ورفق بعباده ولو كلفوا إذا أخطئوا العدد أن يعيدوا لم يأمنوا أن يخطئوا ثانيا وأن لا يسلموا من الخطأ ثالثا ورابعا ...إلخ "

وقَالَ الْمُنْذِرِيُّ كما في ( عون المعبود): " وَقِيلَ فِيهِ الْإِشَارَة إِلَى يَوْم الشَّكّ لَا يُصَام اِحْتِيَاطًا وَإِنَّمَا يَصُوم يَوْم يَصُوم النَّاس"اهـ

ويقول الشوكاني في ( نيل الأوطار ) : " وَقِيلَ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ : إنَّهُ إخْبَارٌ بِأَنَّ النَّاسَ يَتَحَزَّبُونَ أَحْزَابًا وَيُخَالِفُونَ الْهَدْيَ النَّبَوِيَّ ، فَطَائِفَةٌ تَعْمَلُ بِالْحِسَابِ وَعَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنْ النَّاسِ ، وَطَائِفَةٌ يُقَدِّمُونَ الصَّوْمَ وَالْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ وَجَعَلُوا ذَلِكَ شِعَارًا وَهُمْ الْبَاطِنِيَّةُ ، وَبَقِيَ الْهَدْيُ النَّبَوِيُّ الْفِرْقَةُ الَّتِي لَا تَزَالُ ظَاهِرَةً عَلَى الْحَقِّ ، فَهِيَ الْمُرَادَةُ بِلَفْظِ النَّاسِ فِي الْحَدِيثِ وَهِيَ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ وَلَوْ كَانَتْ قَلِيلَةَ الْعَدَدِ "اهـ

فثبت بما نقلنا عن هؤلاء العلماء ما يلي :

1. أن لا أحد من العلماء السابقين حمل الحديث على من جاهر بمخالفة النصوص ، ولم يفهموا منه أن المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم ( الصوم ) أيَّ صوم ، ولا بقوله ( الناس ) أيَّ ناس ، بل إما على المنفرد برؤية الهلال أو المنفرد بتقدير المنازل ، أو على الشاهد الواحد الذي ردت شهادته ، أو المعذور في اجتهاده بعد التحري للرؤية.

2. أن في كلام العلامة ابن القيم رد صريح على تفسير الفتوى للحديث حيث جعله حجة على من يخالف الناس ويعتد بالحساب الفلكي .

3. أن حمل الحديث على طاعة الحاكم المخالف لما استفاض عند الناس من عدم ثبوت الشهر أو ثبوته -كما هو ظاهر الفتوى - حمل بعيد جداً ومناف لظاهر الحديث نفسه. إذ لو كان ظاهر الحديث طاعة الحاكم بإطلاق لنص على ذلك بمثل قوله ( الصوم يوم يصوم ولي الأمر ) ، ولكنه عدل عن ( ولي الأمر ) إلى ( الناس ) فلا يمكن حمله على حالة مخالفة ولي الأمر للناس .

4. أن كلام الإمام الشوكاني صريح في بيان المراد من قوله صلى الله عليه وسلم ( الناس ) وهم من وافق الشرع في الصوم والفطر ، لا من أصر على مخالفته .

وخير محمل للحديث هو ما أخذ عن فقهاء الصحابة فهم أعلم بمراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من غيرهم ، فقد أخرج البيهقي من طريق أبي حنيفة قال :حدثني علي بن الأقمر عن مسروق قال :" دخلت على عائشة يوم عرفة فقالت :اسقوا مسروقا سويقا وأكثروا حلواه ،قال ، فقلت :إني لم يمنعني أن أصوم اليوم إلا أني خفت أن يكون يوم النحر ،فقالت عائشة :النحر يوم ينحر الناس ،والفطر يوم يفطر الناس " (انظر السلسلة الصحيحة ، 1/393).

فها هي أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - وهي من أفقه الصحابة تحمل الحديث على المنفرد الشاك في دخول الشهر وأراد أن يحتاط لنفسه ، فبينت له أن مجرد الشك لا يقدم على ما اجتمع عليه الناس ما دام مخالفاً لهم .

ومثله ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من أن رجلين في زمنه رأيا هلال شوال ، فأفطر أحدهما ولم يفطر الآخر ، فلما بلغ ذلك عمر قال للذي أفطر لولا صاحبك لأوجعتك ضربا ،( انظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (25 /204).

فتبين بما ذكر أن الحديث ينبغي أن يحمل على ما لا يتعارض مع الأحاديث المتواترة ، أو ما كان عليه السلف الصالح ، وهو ما أفاد به العلامة الشوكاني .

وقد رد الإمام الشوكاني قول من يقول بأن الحديث في حق من رأى الهلال وحده فقال في ( السيل الجرار : 2 / 114) : " قوله وليتكتم من انفرد بالرؤية : أقول قد قدمنا وجوب العمل بخبر الواحد وأن ذلك يلزم جميع المسلمين إذا كان عدلا مقبول الشهادة ، فهذا الذي انفرد بالرؤية قد حصل له العلم اليقين المستند إلى حاسة البصر ، فلا وجه لتكتمه بالصوم ولا بالإفطار ، بل عليه التظهر بذلك ، وإعلام الناس بأنه رآه ، فمن عمل بذلك عمل ومن ترك ترك ، وأما الاستدلال على هذا التكتم بحديث ( صومكم يوم يصوم الناس وفطركم يوم يفطر الناس ) فمن الاستدلال بما لا مدخل له في المقام ، فإن ذلك إنما هو إرشاد إلى أن يكون الأقل من الناس مع السواد الأعظم ، ولا يخالفونهم إذا وقع الخلاف لشبهة من الشبه ، وأما بعد رؤية العدل فقد أسفر الصبح لذي عينين ، ولم يبق ما يوجب على الرائي أن يقلد غيره أو يعمل بغير ما عنده من اليقين "اهـ

ويزيد بيان ذلك :

ثانيها :أننا نفهم من قوله صلى الله عليه وسلم {الصوم يوم تصومون .. }- جمعا بين الأحاديث- أن الاعتداد إنما يكون بعمل الجماعة التي توافق الشرع ، فإن قوله {...يوم تصومون ...} المقصود به الصوم الشرعي الذي أمر به صلى الله عليه وسلم في مثل قوله {لا تصوموا حتى تروه ...إلخ } ، فكأنه صلى الله عليه وسلم قال: [ صومكم يوم تجتمعون على الصيام الذي أمرتكم به ] إذ ليس المقصود بالحديث - قطعا – أن يكون مراده صلى الله عليه وسلم :[ الصوم يوم تجتمعون على الصيام ولو على غير ما أمرتكم به ]، وحاشاه من ذلك ، كما لا يتصور من السامعين له صلى الله عليه وسلم وهو يخاطبهم بهذا الحديث إلا هذا الفهم الصحيح المتأكد عندهم بقوله وفعله وأمره ونهيه ، والذي لم يخالفوه مطلقا من بعده ، فحمل الحديث على غير هذا الفهم فيه خروج عن دلالته الأصلية ، والواجب أن يعمل بالحديث عملا سلفياً حتى يقبل ، لقوله صلى الله عليه وسلم {من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد} رواه مسلم .
وقد وجدت شيخ الإسلام ابن تيمية قد أشار إلى هذا المعنى في مجموع الفتاوى ( 25/106) ، وكان قوله هو قول الشوكاني ، فقال :" لأن صوم الناس هو اليوم الذي يصومونه ، ولا يمكن أن يصوموا إلا اليوم الذي يمكنهم فيه رؤية الهلال ..". إ هـ .

وقال أيضا (25/106-113): " وحينئذ فشرط كونه هلالاً وشهراً شهرته بين الناس ، واستهلال الناس به حتى لو رآه عشرة ولم يشتهر ذلك عند عامة أهل البلد لكون شهادتهم مردودة أو لكونهم لم يشهدوا به ؛ كان حكمهم حكم سائر المسلمين ، فكما لا يقفون ولا ينحرون ولا يصلون العيد إلا مع المسلمين ؛ فكذلك لا يصومون إلا مع المسلمين ، وهذا معنى قوله: (صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون ) "اهـ.

قال : " وأصل ذلك أن الله سبحانه وتعالى علق الحكم بالهلال والشهر فقال تعالى ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ) والهلال اسم لما يستهل به أى يعلن به ويجهر به ، فاذا طلع فى السماء ولم يعرفه الناس ويستهلوا لم يكن هلالا . وكذا الشهر مأخوذ من الشهرة فإن لم يشتهر بين الناس لم يكن الشهر قد دخل
وإنما يغلط كثير من الناس في مثل هذه المسألة ، لظنهم أنه إذا طلع في السماء كانت تلك الليلة أول الشهر، سواء ظهر ذلك للناس واستهلوا به أولا، وليس كذلك ، بل ظهوره للناس واستهلالهم به لابد منه ، ولهذا قال النبي : (صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون،و أضحاكم يوم تضحون). أي : هذا اليوم الذي تعلمون أنه وقت الصوم والفطر والأضحى فإذا لم تعلموه لم يترتب عليه حكم".اهـ.

فهذا كلامه رحمه الله ينفي ترتب أي حكم على غير ثبوت الشهر ثبوتاً شرعياً .

فمن فهم من الحديث جواز مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم في الصوم والفطر لمخالفة الناس لذلك واعتمادهم على ما نهوا عنه فقد أبعد النجعة ، وفسر الحديث بما ينقض أمره صلى الله عليه وسلم وبما لم يسبقه إليه أحد من الأئمة ،
وبخاصة إذا علم أن الحديثين قد جاءا في متن واحد ، مما يدل على عدم المعارضة أصلا ، فقد جاء في سنن البيهقي ، ومصنف عبد الرزاق ، ومسند إسحاق بن راهويه بلفظ : ( عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في هلال رمضان إذا رأيتموه فصوموا ثم إذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين ، صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون ، وزاد بن جريج في هذا الحديث وأضحاكم يوم تضحون ).
فهذا الحديث الواحد بهذا المتن كالصريح في بيان كيفية صوم الناس المأمور بالصوم معهم ، وهو الرؤية لا غير ، فإن لم يكن كذلك فلا يترتب عليه حكم كما قال شيخ الإسلام .

ويزداد بيان ذلك بأنه لو فرض أن مجتمعاً ما تواطأ أفراده مع حاكمهم- اتباعا لأهوائهم - على جعل شهر رمضان أو شعبان سبعاً أو ثمان وعشرين يوماً مثلا ؛ أو استبدال شهر الصوم بشهر آخر كشعبان ، لعلمنا يقينا أن الحديث يصح أن يكون حجة عليهم مع غيرها من الحجج ؛ لأنهم لم يصوموا يوم صام الناس ، ولم يفطروا يوم أفطر الناس ، وعلى هذا فإن هذا الحديث من جملة الأدلة التي تؤيد قول جمهور العلماء القائلين بوجوب الصوم على جميع المسلمين إذا ثبتت رؤية الهلال في أي مكان قريب أو بعيد .
وقد وجدت شيخ الإسلام ينص عليه ، فقال - رحمه الله - في مجموع الفتاوى [25/105] : " فالصواب في هذا - والله أعلم - ما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم (صومكم يوم تصومون ... ) فإذا شهد شاهد ليلة الثلاثين من شعبان أنه رآه بمكان من الأمكنة قريب أو بعيد وجب الصوم ".اهـ
وقال القرطبي:" قد قال شيوخنا إذا كانت رؤية الهلال ظاهرة قاطعة بموضع ثم نقل إلى غيرهم بشهادة اثنين لزمهم الصوم"اهـ

لذا فأن يحمل الحديث على آحاد الدول التي تخالف غالب الدول فتنفرد بالصوم أو التعييد بدون رؤية الهلال ولكن بالحساب يكون من باب أولى ، وبخاصة في هذا العصر الذي أصبح فيه العالم كالقرية الواحدة ، لأنه أظهر في التفرق وأوسع في الخلاف بين المسلمين .

وقد نبه العلامة العثيمين إلى ذلك ، وبين أن من قال من أهل العلم بأن الأمر معلق بولي الأمر إنما يقصد ما إذا كان ولي الأمر مستند إلى حجة شرعية في ثبوت الشهر .

يقول العلامة العثيمين : " وذهب بعض أهل العلم إلى أن الأمر معلق بولي الأمر في هذه المسألة، فمتى رأى وجوب الصوم أو الفطر مستنداً بذلك إلى مستند شرعي فإنه يعمل بمقتضاه ، لئلا يختلف الناس ويتفرقوا تحت ولاية واحدة، واستدل هؤلاء بعموم الحديث. «الصوم يوم يصوم الناس، والفطر يوم يفطر الناس»."اهـ

وقال أيضا : " وهناك قول ثالث: أن الناس يتبعون إمامهم، فإذا قرر الإمام وهو ذو السلطة العليا في البلد دخول الهلال، وكان ذلك بمقتضى الأدلة الشرعية وجب العمل بمقتضى ذلك صوماً في رمضان وإفطاراً في شوال، وإذا لم يقرر ذلك فإنه لا صوم ولا فطر، واستدل لهذا القول بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس» وهذا هو الذي عليه العمل في وقتنا الحاضر.
وعلى هذا فنقول للسائل: الأولى أن لا تظهر مخالفة الناس، فإذا كنت ترى أنه يجب العمل بالقول الأول وأنه إذا ثبتت رؤية الهلال في مكان من بلاد المسلمين على وجه شرعي وجب العمل بمقتضى ذلك، وكانت بلادك لم تعمل بهذا، وترى أحد الرأيين الآخرين فإنه لا ينبغي لك أن تظهر المخالفة لما في ذلك من الفتنة والفوضى والأخذ والرد، وبإمكانك أن تصوم سرًّا في هلال رمضان، وأن تفطر سرًّا في هلال شوال، أما المخالفة فهذه لا تنبغي وليست مما يأمر به الإسلام."اهـ


وكذلك فإن الشيخ الألباني رحمه الله - وهو ممن يرى بصوم المسلم على رؤية بلده خشية زيادة التفرق والاختلاف بين أفراد الشعب الواحد - استثنى من هذا ( الاجتهاد ) ما إذا تسبب الأخذ به مخالفة جذرية للشرع كصيام الشهر ثمان وعشرين يوما أو واحد وثلاثين يوما فإنه - رحمه الله - لا يرى في هذه الحالة الموافقة ، بعكس ما ينقله البعض عنه بإطلاق الحكم بلا استثناء ، ففي بعض فتاويه نجد أنه حين تكلم عن الموافقة أشار إلى أمرين :
الأول: اعتماد إثبات الشهر بالرؤية لا غيرها
والثاني :عدم الوقوع في مخالفة جذرية للشرع .
فقال رحمه الله ما نصه :" أنا رأيي في الموضوع أن قوله عليه السلام [صوموا لرؤيته ...إلخ] هو نص عام يجب على كل المسلمين أن يتجاوبوا معه ولا ينظر إلى ما يقال من اختلاف المطالع والأقاليم ونحو ذلك ، وإنما من بلغه هذا الثبوت فعليه التجاوب مع قوله عليه السلام.
لكن مع الأسف كما أشرت آنفا أن الدول أو الحكومات القائمة اليوم مختلفة - ليت الاختلاف كان في هذا الحكم ، لكن هذا من ذاك - فيقع مثل هذا الاختلاف وهذا الاضطراب.

فأنا أقول :إن الأصل على المسلمين كافة أن يصوموا لمجرد أن تعلن دولة مسلمة إثبات الهلال سواء دخولا أو خروجا.
ومما يتعلق بهذه المسألة أنه جاءتني أسئلة من أوروبا : أننا اعتدنا أن نختلف- وإذا كان المسلمون في بلادهم يختلفون فكيف بهم وهم خارج بلادهم - المهم فكان جوابي : أن عليكم أن تصوموا مع أي إعلان يصدر قبل إعلان الآخر بغض النظر سعودية ..أردنية ...إلخ.
فهنا حكمان بالنسبة للاختلاف الذي يقع :
قلت : الأصل أن يصوم المسلمون جميعا ولا يتفرقوا كما هو الواقع ، هذا الواقع خلاف بين شعب وشعب ، دولة ودولة.. لكن الملاحظ أن هذا الاختلاف يشتد بحيث أنه يشمل الشعب الواحد فينقسم هذا الشعب على نفسه قسمين ، وأنا أذكر جيدا في بعض السنين الماضية وقع مثل هذه البلبلة وسئلت من بعض الناس ، لا في البلد الواحد بل في البيت الواحد : الأب صائم ، والابن مفطر أو العكس ...
فأنا أقول : إن من قواعد الشرع منع ظاهرة الاختلاف ما أمكن ، فالآن قلنا : الأصل أن يصوم المسلمون جميعا برؤية بلد واحد .. لكن هذا غير واقع فإذا بقينا على هذا الأصل في البلد الواحد فستصير الفرقة أوسع دائرة من الفرقة التي لا نملكها .
من أجل تقليل دائرة الاختلاف نقول : نصوم مع البلد الذي نحن فيه ، بشرط ألا نقع في مخالفة جذرية لا يقول بها عالم ، فمثلا : ليس من الممكن أن نصوم ثمان وعشرين يوما ، ليس من الممكن أن نصوم واحدا وثلاثين يوما .فإذا وقع الأمر- مثل هذا الاختلاف - وصام المقيم مع ( رؤية بلده )، لا يزيد على الثلاثين ولا ينقص على تسع وعشرين فهذا ( أقل شرا ) من أن يصوم مع بلد آخر لأن هذا سيزيد الخلاف خلافا والفرقة فرقة ،.هذا الذي أنا أراه.

خلاصة القول : هناك نص عام يجب التسليم له ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ) ، وهناك رأي واجتهاد ممكن للإنسان أن يتبناه أو يخالفه بنوع من الاجتهاد وهو: أن يصوم مع أهل البلد ويفطر مع أهل البلد دون أن يقع في تلك المخالفة الجذرية ، أو أن يصوم مع البلد الذي أعلن لأن هذا هو الأصل ، وهنا تصير الدقة في المسألة كما هو الشأن في كثير من المسائل التي هي من مواطن الخلاف والنزاع والاجتهاد .هذا جوابي } انتهى كلامه .

وهو صريح في أنه - في هذه الفتوى - لا يرى موافقة الحاكم مطلقا ، وصريح في أن ما قاله هو محض اجتهاد يمكن مخالفته وليس شريعة عامة أو قاطعة ، وصريح في هذه الفتوى أن اجتهاده هذا إنما هو فيما يتعلق بالرؤية لا بالحساب الفلكي ، وباشتراط عدم الوقوع في مخالفة جذرية لم يقل بها عالم .

فأي مخالفة جذرية أعظم من مخالفة أمر الله ورسوله وإجماع السلف بالاعتداد بالحساب دون الرؤية ؟!.

مع التنبيه إلى أن من أفتى بالصوم على الحساب – والذي اتخذه البعض حجة لرد صريح المنقول - إنما هو في حال الحكم بإمكانية الرؤية ، ولا يندرج تحته ما عليه بعض الدول من إثبات الصوم بساعة ولادة الهلال ، بل وبساعة الاقتران ، وإن كان ذلك قبل طلوع الفجر بدقيقة واحدة ، مع تصريحهم بعدم إمكانية الرؤية . فإن هذا لم يقل به عالم .

فقول الشيخ الألباني : " بشرط ألا نقع في مخالفة جذرية لا يقول بها عالم " يجب أن تنصب على هؤلاء الذين خالفوا حتى من يعتد بالحساب ، وأتوا بشيء مبتدع لم يقل به عالم قط .

وليكن كلام شيخ الإسلام منا على ذكر حين قال : " فأما اتباع ذلك في الصحو أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم " اهـ

وينبغي التنبه إلى أن الشيخ الألباني رحمه الله حينما اجتهد فرأى الموافقة حتى في حال اعتماد البلاد على الحساب الفلكي – كما في بعض فتاويه – ، ينبغي أن يحمل كلامه على الحساب الذي يتحدث عن إمكانية الرؤية من عدمها ، وهو ما رآه العلامة أحمد شاكر أيضا ، لا مطلق الحسابات الخاطئة .

ومن كلامه- رحمه الله - السديد في الرد على الفلكيين ما نورد نصه حيث قال: " أنا مقتنع تماما أن الله عز وجل حينما شرع ما شرع للأمة المسلمة ،فيه الهدى والنور أولا،وفيه اليسر ورفع الحرج والعنت ثانيا ، فحينما قال صلى الله عليه وسلم [ صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته] هو خاطب المسلمين الذين هم على فطرتهم ،ولو كانوا أميين غير مثقفين أو متعلمين ،وهذا من تأكيد رب العالمين لعمومية الإسلام وأنه صالح في كل زمان وفي كل مكان ،فــ[صوموا لرؤيته ...] يستطيع أن يطبقه كل شعب مهما كانت ثقافته أو أميته ،لأنه أعاد الأمر إلى الرؤية البصرية ، أما إذا أعيد الأمر إلى الرؤية البصيرية العلمية فسيصبح هذا الأمر معلق بأفراد من الناس ثم يا ترى هؤلاء الأفراد هل يشترط فيهم ما يشترطه الفقهاء كلهم في الشاهد إذا ادعى أنه رأى الهلال أن يكون عدلا ؟،أي إذا كان عالما بالفلك من الذي سيحكم عليه من أنه تقبل شهادته أو لا تقبل ؟وبخاصة أن شهادته قائمة على علم هو يدعيه ، ولا يستطيع كل الجمهور أن يشاركوه فيه.
وأنا أفهم - والله أعلم أنه هو الحق - أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال [نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ...] لا يعني أنه يفرض على الأمة المسلمة أن يظلوا على جهل بالكتابة والقراءة ونحو ذلك ،وإنما هو طبعهم بالأمية فيما يتعلق بهذا الحكم المتعلق بالرؤية البصرية قال:[ نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ،الشهر هكذا وهكذا وهكذا ] أي تارة ثلاثون وتارة تسع وعشرون ،وهنا عبرة في الواقع : ما هي الغاية التي يحرص عليها هؤلاء الفلكيون حينما يرفعون رؤوسهم مع عقيرتهم أنه يجب أن نحكم بعلم الفلك لأن الرؤية البصرية قد تخطئ ؟ما هي الغاية ؟،يقولون : قضاء على الخلاف الواقع بين الشعوب المسلمة.
أنا أعتقد أنه بهذا الطلب وهو تحكيم العلم الفلكي سيظل الخلاف قائما، على الأقل أنه سيقال : يرى القمر في البلد الفلاني ولا يرى في البلد الفلاني ، وهم يجمعون على مثل هذه ! إذن ما هو الخلاص ؟.ليس هناك خلاص إلا بالرجوع إلى حكم الشرع .
ثم إن فيه جرأة فظيعة جدا على مقام النبوة والرسالة ، هو صلى الله عليه وسلم يقول لنا [نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ...] وتقول أنت : لا أنا أكتب وأحسب وأعلم علم الفلك ، ولذلك ينبغي إثبات الهلال دخولا أو خروجا بعلم الفلك؟!.
أنا أقرب هذا الموضوع :إننا إذا أدخلنا علم الفلك في الأحكام الشرعية أصابنا ما أصاب اليهود والنصارى من قبل ...، فالهدى والراحة هو في اتباع الشريعة وصلى الله على نبينا محمد القائل [ ما تركت شيئا يقربكم إلى الله ويبعدكم عن النار إلا أمرتكم به ولا شيئا يباعدكم عن الله والجنة ويقربكم إلى النار إلا نهيتكم عنه .."اهـ.

وكلامه من أوضح ما يكون في بيان منهجه، وأنه إنما يتكلم على ما اشتهر عند الحاسبين من قضية إمكانية الرؤية من عدمها ، فلا ينبغي حمل كلامه على الحسابات الفلكية التي لا تعتمد إمكانية الرؤية ، بل وتجعل من الاقتران أو الولادة بداية للصوم أو الفطر ، لأننا إن قلنا بذلك فلا يمتنع حينئذ القول بجواز ابتداء شهر الصوم من منتصف شعبان إلى منتصف رمضان إذا رأى الحاكم ذلك ، أو استبدال رمضان بغيره من الشهور ؛ لأننا نقطع بأن جعل آخر يوم من شعبان أولَ يوم من رمضان ، وآخر يوم من رمضان أولَ يوم من شوال داخل في النسيء الذي حرمه الله عز وجل .

يقول العلامة الشنقيطي في (أضواء البيان ): " ومن أصرح الأدلة في هذا أن الكفار إذا أحلوا شيئا يعلمون أن الله حرمه ، وحرموا شيئا يعلمون أن الله أحله ، فإنهم يزدادون كفرا جديدا بذلك مع كفرهم الأول، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّما النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} وعلى كل حال فلا شك أن كل من أطاع غير الله في تشريع مخالف لما شرعه الله فقد أشرك به مع الله كما يدل لذلك قوله: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام:137], فسماهم شركاء لما أطاعوهم في قتل الأولاد"اهـ.

ويقول الطاهر بن عاشور في (التحرير والتنوير ) : " المقصود : ضبط الأشهر الحرم وإبطال مَا أدخله المشركون فيها من النسيء الذي أفسدَ أوقاتها ، وأفضى إلى اختلاطها ، وأزال حُرمة مالَهُ حرمة منها ، وأكسب حرمة لما لا حرمة له منها ، وإن ضبط التوقيت من أصول إقامة نظام الأمة ودفع الفوضى عن أحوالها "اهـ.

ويقول ابن حجر في شرحه لحديث { لا تقدموا شهر رمضان بصيام قبله ...}:" قيل : لأن الحكم علق بالرؤية فمن تقدمه بيوم أو يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحكم ، وهذا هو المعتمد ... قال :" وفي الحديث رد على من يرى تقديم الصوم على الرؤية كالروافض ".!!

ومن كلام العلامة ابن باز في شرحه لهذا الحديث من بلوغ المرام ما نصه :" هذه الأحاديث كلها تتعلق بدخول رمضان وخروجه وصوم يوم الشك يقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه).
هذا الحديث الصحيح يدل على أنه لا يجوز تقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين ؛بل يجب الانتظار حتى يثبت الشهر،هذا هو الواجب ، وهذه عبادة شرعها الله محددة فليس لأحد أن يزيد فيها ما لم يشرعه الله بل يجب التقيد بشرع الله في دخولها وخروجها- هذه العبادة وهي الصوم- إلا رجل له عادة فيصوم فلا بأس ؛ مثل إنسان يصوم الإثنين والخميس فصادف يوم الخميس أو الإثنين آخر الشهر من آخر شعبان فلا بأس أن يصوم بنية عادته صوم الإثنين والخميس ، أما أن يصوم من أجل رمضان فلا حتى يثبت الشهر أو تكمل عدة شعبان - إما ثبوت دخول الشهر بالرؤية أو تكمل عدة شعبان- ولهذا جاء في حديث ابن عمر ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له) وفي رواية (... فاقدروا له ثلاثين) وفي لفظ (فاقدروا العدة) وفي حديث أبي هريرة (... فأكملوا عدة شعبان ) كل هذه الأحاديث تدل على وجوب إكمال العدة ، وأنه لا يجوز لأحد أن يصوم يوم الشك بل إما بالرؤية الثابتة وإما بإكمال العدة ثلاثين لشعبان ، لرمضان، لذي القعدة ، لجميع الشهور التي يحتاج الناس للتثبت فيها فلا بد من التثبت ...
فالمقصود لا يجوز كونه يتعمد صوم يوم الشك وهو يوم الثلاثين سواء كانت السماء مصحية أو كانت غائمة لا ... والصواب أن المسلمين ينتظرون حتى يثبت الشهر بالرؤية أو بإكمال العدة في جميع البلدان ، هذا هو الواجب لأن الحديث الصحيح صريح من القائل ، فالواجب الأخذ به والتمسك به ، ففي رمضان لا بد من تكملة عدة شعبان ثلاثين أو يروا الهلال ليلة الثلاثين فيصومون ، والله جل وعلا أوجب على العباد الصوم وبين لهم حدوده ، فالواجب التقيد بالحدود التي حدها سبحانه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ) اهـ.

قلت : وقد جاء عن عكرمة مولى ابن عباس ما يبين حال التابعين رضي الله عنهم في ذلك ونهيهم عن الصيام قبل أن تثبت الرؤية ففي سنن النسائي بإسناد صحيح عن سماك قال :" دخلت على عكرمة في يوم قد أشكل من رمضان هو أم من شعبان وهو يأكل خبزاً وبقلا ولبنا فقال لي هلم ، فقلت إني صائم قال : وحلف بالله لتفطرن قلت سبحان الله مرتين ..فلما رأيته يحلف لا يستثنى تقدمت ، قلت هات الآن ما عندك ، قال سمعت ابن عباس يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حال بينكم وبينه سحابة أو ظلمة فأكملوا العدة عدة شعبان ولا تستقبلوا الشهر استقبالا ولا تصِلوا رمضان بيوم من شعبان"اهـ

ثالثها: أن بعض البلدان التي تعتمد على الحساب الفلكي تضطرب وتتناقض في منهجها في عيد الأضحى فالغالبية تخالف منهجها ، بل وتغير تأريخها لكي تتفق مع البلدان الأخرى في يوم الحج الأكبر - وهو الصحيح -وبعضها تصر على المخالفة فتجد أكثر أهلها يوافقون أهل مكة في صوم يوم عرفة والتعييد ، مع أن الدولة تعلن على أن ذلك اليوم هو الثامن - مثلا - بناء على اختلاف المطالع ، أو الحساب الفلكي ، فظهر بهذا أن الحديث حجة على الطائفتين حيث قال :{... ، وأضحاكم يوم تضحون }.
فهل يا ترى من زعم أن ظاهر الحديث يقضي بموافقة الحاكم وإن خالف الأمر النبوي هل سيضحي يوم يضحي الناس ، أم سيسبقهم بالأضحية عملا بجهالة الحاسبين وموافقة الحاكم لهم !

أم أنهم سيبترون هذه اللفظة من متن الحديث فيعتدّون به في الصوم والفطر دون الأضحى كما هو ملاحظ ؟!

قال شيخ الإسلام : " فالذي نهى عن صومه - صلى الله عليه وسلم - هو اليوم الذي يفطره المسلمون ، وينسك فيه المسلمون "اهـ.

ولا يشك عاقل أن مخالفة أهل مكة في عيد الأضحى أشد وقعاً على النفوس ، وأبلغ في وجود الخلاف والاختلاف بين الناس ، ولا يزيد الأخذ بظاهر الفتوى إلا توسيع دائرة الخلاف . ولذا رأينا موافقة الناس لهم وعدم اعتدادهم بحكم الحاكم المخالف ، وهكذا ينبغي لهم أن يفعلوا في الصوم حتى لا يقعوا في التناقض.

ولذا فإن المتأمل في أثر عائشة - رضي الله عنها - يخلص إلى أنه حجة على أولئك المعتدين بالحساب الفلكي وليس حجة لهم ، ولذا قال العلامة الألباني ـ رحمه الله ـ في نهاية بحثه في أثر عائشة [السلسلة الصحيحة ج1/393] :ـ {فليتأمل في هذا الأثر المذكور أولئك الذين لا يزالون يتفرقون في صلواتهم ولا يقتدون ببعض أئمة المساجد ، وخاصة في صلاة الوتر في رمضان بحجة كونهم على خلاف مذهبهم ، وبعض أولئك الذين يدعون العـلم بالفلـك ممن يصوم ويفطر وحده متأخرا أو متقدما عن جماعة المسلمين معتدا برأيه وعلمه ، غير مبال بالخروج عنهم ، فليتأمل هؤلاء جميعا فيما ذكرناه من العلم ، لعلهم يجدون شفاء لما في نفوسهم من جهل وغرور فيكونوا صفا واحدا مع إخوانهم المسلمين ،فإن يد الله على الجماعة .}.

فتبين بما ذكر أن حديث ( الصوم يوم تصومون ...) لا يمكن أن يحمل بما يبطل العمل بما تواترت به الأحاديث وأجمع عليه العلماء من الاعتماد على الرؤية ، وقد نقلنا كلام علماء السلف في تفسيره بما يعلم به مخالفة من تأوله على غير تأويله ، فرد به صحيح المنقول وصريح المعقول !.

وصدق الإمام الشاطبي حين قال : " وكذلك الأمر في كل مسألة فيها الهوى أولا ثم يطلب لها المخرج من كلام العلماء أو من أدلة الشرع وكلام العرب أبدا لاتساعه وتصرفه واحتمالاتها كثيرة ، لكن يعلم الراسخون المراد منه من أوله إلى آخره وفحواه أو بساط حاله أو قرائنه ، فمن لا يعتبره من أوله إلى آخره ويعتبر ما ابتنى عليه زل في فهمه وهو شأن من يأخذ الأدلة من أطراف العبارة الشرعية ولا ينظر بعضها ببعض ، فيوشك أن يزل وليس هذا من شأن الراسخين ، وإنما هو من شأن من استعجل طلباً للمخرج في دعواه "اهـ

3 . وهو ما يتعلق بشبهة (درء الخلاف) فنقول :
أولا/ إننا لا نشك أن الخلاف شر ، وأن من قواعد الشريعة التقليل منه ما أمكن ، ولكن علينا أن ندرأه بدعوة المخالفين للحق إلى الحق ، لا أن يدفعنا إلى ترك ما لدينا من الحق والمداهنة فيه ، بل يعالج الخلاف معالجة شرعية بحيث لا يترتب عليها مناقضة للأحكام الشرعية أو تكون على حسابها .
ذلك ما نستفيده من السنة النبوية ومنها بخاصة الحديث النبوي الذي تنبأ فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمر عظيم سينتاب بعض العبادات ، بل وأعظمها وهي الصلاة ، وهو ما سيفعله بعض الأمراء من تأخيرها عن وقتها الذي شرعه الله لها .

فهل أمرهم بموافقة أولئك الأمراء في تأخيرها درأ للخلاف ؟!!.

الجواب - بالطبع - كان على خلاف ما قد يتوهمه من يريد درء الخلاف بأي وسيلة ، فقد قدم - صلى الله عليه وسلم - حق الله وأمره أولا ؛ فأمر بأداء الصلاة لوقتها ، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، ثم عالج قضية الخلاف بأمره بالصلاة معهم نافلة .

ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَضَرَبَ فَخِذِى « كَيْفَ أَنْتَ إِذَا بَقِيتَ فِي قَوْمٍ يُؤَخِّرُونَ الصَّلاَةَ عَنْ وَقْتِهَا ». قَالَ : قَالَ مَا تَأْمُرُ قَالَ : « صَلِّ الصَّلاَةَ لِوَقْتِهَا ثُمَّ اذْهَبْ لِحَاجَتِكَ فَإِنْ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ وَأَنْتَ فِي الْمَسْجِدِ فَصَلِّ » .

فعالج الخلاف بدون إهدار لحكم الله - فكان ذلك هو حكم الله - وهذا في أجل عبادة وهي الصلاة التي تتكرر خمس مرات في اليوم والليلة ، فمن باب أولى ما تكون الفتنة والخلاف فيه - إن حصل - أقل وأضيق كالصوم الذي هو سر بين العبد وربه ، وبالإمكان إخفاؤه .

وهذا على قول من حمل التأخير حتى يخرج وقت الصلاة ، وقد استنكره الإمام النووي فقال في شرحه على صحيح مسلم (ج 2 / ص 443): " وَالْمُرَاد بِتَأْخِيرِهَا عَنْ وَقْتهَا ، أَيْ عَنْ وَقْتهَا الْمُخْتَار لَا عَنْ جَمِيع وَقْتهَا ، فَإِنَّ الْمَنْقُول عَنْ الْأُمَرَاء الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ إِنَّمَا هُوَ تَأْخِيرهَا عَنْ وَقْتهَا الْمُخْتَار ، وَلَمْ يُؤَخِّرهَا أَحَد مِنْهُمْ عَنْ جَمِيع وَقْتهَا ، فَوَجَبَ حَمْل هَذِهِ الْأَخْبَار عَلَى مَا هُوَ الْوَاقِع ...قال : وَفِيهِ : الْحَثّ عَلَى مُوَافَقَة الْأُمَرَاء فِي غَيْر مَعْصِيَة لِئَلَّا تَتَفَرَّق الْكَلِمَة وَتَقَع الْفِتْنَة "اهـ

فتنبه إلى قوله : " فِي غَيْر مَعْصِيَة " ففيها بيان لما ندندن حوله ، وأن قضية الصوم لا تقاس عليها إن كان في موافقة الحاكم معصية لله عز وجل ورسوله وإجماع الأمة .

ويجب التنبيه - أيضا - إلى أن مسألة درء الخلاف وما ورد عن الصحابة الأخيار في ذمه وتجنبه لا ينبغي أن يسحب أو يحمل على كل مسألة اختلف الناس فيها ، إذ لم يزل الصحابة والتابعون والعلماء من بعدهم والصادقون من المؤمنين منذ حدوث الفتن إلى يومنا هذا لا يتخلون عما يعتقدونه من صواب في دينهم مهما كانت منزلة المخالف لهم ، فلا الإمام أحمد بن حنبل أجاب الحاكم إلى القول بخلق القرآن بدعوى أن الخلاف شر ، ولا كذلك شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم استسلما للبدع وأهلها متذرعين بأن الخلاف شر ، بل وإلى زماننا هذا حيث السنن وأهلها في جهاد ونزاع مستمر مع الكثرة الكاثرة من البدع وأهلها في العقائد والعبادات .

ولعل ما يناسب ما نحن فيه - حالا وواقعاً - ما حكاه الإمام الذهبي في ترجمة القاضي محمد بن الحبلي كما في سير أعلام النبلاء (15/374) فيقول : " الإمام الشهيد قاضي مدينة برقة محمد بن الحبلي . أتاه أمير برقة فقال : غداً العيد ، قال : حتى نرى الهلال ، ولا أفطر الناس ، وأتقلد إثمهم ، فقال : بهذا جاء كتاب المنصور - وكان هذا من رأي العبيدية يفطرون بالحساب ولا يعتبرون رؤية - فلم ير هلال ، فأصبح الأمير بالطبول والبنود وأهبة العيد. فقال القاضي: لا أخرج ولا أصلي ، فأمر الأمير رجلا خطب ، وكتب بما جرى إلى المنصور، فطلب القاضي إليه ، فأحضر، فقال له: تنصل، وأعفو عنك، فامتنع ، فأمر فعلق في الشمس إلى أن مات ، وكان يستغيث العطش، فلم يسق. ثم صلبوه على خشبة. فلعنة الله على الظالمين "اهـ .

والمتأمل في الآثار الواردة في منهج درء الخلاف يجد أغلبها ورد في المسائل المجتهد فيها اجتهاداً معتبراً ، أو مما يعذر فيه المخالف عذراً مقبولا . ولا أعلم بواقعة ما يعلن فيها المخالف صراحة مخالفته للنصوص ورفضه لها ثم يتبعه أحد من الناس - فضلا عن العلماء - على تلك المخالفة ،كما هو الحال في مسألتنا هذه ، وخير شاهد لهذا ما ذكرناه في شأن من يؤخرون الصلاة من الأمراء ، وهو ما نراه مطابقاً لمسألتنا ، حيث إن الحاكم - في هذا العصر - اشترك مع أولئك في إيقاع العبادة في غير وقتها ، فليس لأحد أن يفتي بعد فتوى رسول اللهصلى الله عليه وسلم .

ولا ينبغي أن يفهم أن مراده صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث درأ الخلاف بطاعة الحاكم وإن أمر بمعصية الله تعالى ، بل على العكس تماماً . فمن استنبط من هذا الحديث قاعدة في طاعة الحاكم لدرء الخلاف وإن كان في ذلك معصية لله فقد أغرق في النزع ، وخالف مراد الشارع .
يقول الحق جل وعلا : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ }( سبأ 31 ،32 ) .

ويحق لي أن أعجب من بعضهم وهو يعلم محاربة بعض الحكام لكثير من ( السنن ) وتنكيلهم بمن التزم بها ، فيجاهر بمعصية الحاكم فيها ، ويصر على الأخذ بها بالرغم من التهديد والوعيد والإيذاء الشديد ، ثم ينقلب على عقبيه فيفرّط في ( فريضة الصوم ) طاعة للحاكم !!

ولهذا فإن العلماء الأجلاء الذين فهموا أمر الله ورسوله أفتوا بعدم طاعة الحاكم ومتابعته إن كان يعتمد على الحساب لا الرؤية .

فقال علماء المالكية أن الحاكم ينقض حكمه ولا يتبع إن خالف أربعة أمور وهي : النص والإجماع والقواعد والقياس الجلي ، وقد جمعها بعضهم في بيت فقال :

إذا قضى حاكم يوما بأربعة ** فالحكم منتقض من بعد إبرام
خلاف نص وإجماع وقاعدة ** ثم قياس جلي دون إبهام

ويهمنا من تلك الفتاوى ما نلجم به متعصبة المذهب الذي يدندن بعضهم بالتمسك به دون سواه ، حيث ذهب علماؤهم الأقدمون ، بل ومن ينتسبون إليه تمذهباً إلى ما تقرر آنفا :

فقد حكى العلامة القرطبي - وهو من أئمتهم - في تفسيره [2/293] الإجماع على بطلان القول بالحساب ، ثم قال : " وقد روى ابن نافع عن [ مـالك ] في الإمام لا يصوم لرؤية الهلال ولا يفطر لرؤيته وإنما يصوم ويفطر على الحساب :[ إنه لا يقتدى به ولا يتبع ] ".اهـ .

و في ( التاج والإكليل: 3 / 183) :" قَالَ الْقَرَافِيُّ : " وَلَوْ كَانَ إمَامٌ يَرَى الْحِسَابَ فَأَثْبَتَ بِهِ الْهِلَالَ لَمْ يُتَّبَعْ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى خِلَافِهِ "اهـ.

فهذا فيمن يثبت الهلال بالحساب فكيف بمن لا يعتد بالرؤية أصلا. !!

وفي المنتقى - شرح الموطأ - (ج 2 / ص 152): وَقَدْ رَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَدَنِيَّةِ فِي الْإِمَامِ لَا يَصُومُ لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَلَا يُفْطِرُ لِرُؤْيَتِهِ ، وَإِنَّمَا يَصُومُ وَيُفْطِرُ عَلَى الْحِسَابِ أَنَّهُ لَا يُقْتَدَى بِهِ وَلَا يُتَّبَعُ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ فَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِمَا صَامَ مِنْهُ عَلَى الْحِسَابِ وَيَرْجِعُ إِلَى الرُّؤْيَةِ وَاكَمَالِ الْعَدَدِ فَإِنْ اقْتَضَى ذَلِكَ قَضَاءَ شَيْءٍ مِنْ صَوْمِهِ قَضَاهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ."اهـ

وفي فتح العلي المالك ( كتاب الصيام ) سئل الشيخ عليش عن رجل في زمانه اعتمد على حسابه في ثبوت رمضان وشوال ولم يعتبر رؤية الهلال بالبصر أهو ضلال ؟
فقال- رحمه الله- نعم هو ضلال تحرم موافقتهم فيه ويجب إنكاره والنهي عنه حسب الإمكان ، إذ هو هدم للدين ومصادم لحديث سيد المرسلين "ا هـ .
ثم نقل الإجماع على أنه لا يجوز لأحد أن يعول في صومه وفطره على الحساب ونقل عن ابن رشد الجد الإجماع على ذلك .

فهذا هو قول الإمام مالك وعلمه الذي يزعم الكثيرون أنه إمام مذهبهم وهم من أبعد الناس عن منهجه ومذهبه ، وهذا أحد كبار أئمة السلف الذي ينتسب إليهم بعض إخواننا .

وقول الإمام مالك هذا - وهو من كبار أئمة السلف - يرد قول العلامة الألباني في بعض فتاويه بالاعتداد برأي الحاكم المخالف للنص والإجماع ، بدعوى أن إثبات الصوم والفطر من اختصاص الحاكم كإقامة الحدود !
فقال الألباني- رحمه الله - : " فأهل البلد الواحد باستطاعتهم أن الدولة إذا أعلنت الصيام يوم كذا صام الشعب كله و لو كان هذا الإعلان غير شرعي أي غير ثابت شرعاً ، لأن الأمر بيد الدولة ، و ليس بيد فرد من الأفراد، كالحدود الشرعية لو أقامها الأفراد لحصل فساد في البر و البحر . فالدول الآن أكثرها لا تقيم الحدود ، فهل يتولى الأفراد إقامة الحدود ؟!"اهـ

وللأسف فقد أخذ برأيه بعض طلبة العلم بلا حجة ، مع علمهم برأي الإمام مالك في ذلك ، فلا أدري سبب ترجيحهم لقول المتأخر بلا بينة ، وتركهم لقول المتقدم مع تواتر أدلته في ترك طاعة من أمر بمعصية الله ؟!

مع أن هذه الدعوى غريبة عن فهم السلف ، إذ لو كان قياس الصوم على إقامة الحدود يصح لأمكن طاعة الحاكم في ترك الصوم أصلا كما أطيع في عدم إقامة الحدود ، مع ما فيها من تجهيل للسلف الصالح كالإمام مالك الذي لا يرى طاعة الحاكم حال مخالفته ، ولم يقيسوا هذه المسألة على إقامة الحدود ، مع خلو هذه المقايسة من أثارة سلفية .!

وإنما الذي عليه السلف هو عدم التقدم بين يدي الإمام إذا كان ممن التزم الحكم الشرعي ، وبهذا القيد يرد ما أورده الإمام البخاري في "تاريخه الكبير" (4/271/2773): عن شميم بن عبد الرحمن قال: كنت عند الحجاج في اليوم يُشَك فيه ، فأرسل إلى عبد الله بن عكيم ، فقال له: أكنت شهدت هذا الشهر مع النبي صلى الله عليه و سلم ؟ قال: لا. ولكن مع عمر بن الخطاب ، قال: فكيف كان يقول ؟ قال: "كان يقول : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، ألا لا تقدموا الإمام ". فقال الحجاج : كلمة لم أفهمها ؛ قال أصحابنا : قال: هذا والله السنة . قال عبد الله : إنه كان والله للمتقين إماماً." اهـ

مع ضرورة التنبيه إلى الاختلاف الجذري بين المعتمد على الحساب - سابقا- وبين المعتمد عليه الآن والذي يتمثل في الآتي :
1. أن العمل بالحساب سابقا إنما كان مناط حكم العمل به عند من يرى ذلك ممن شذ عن الإجماع هو إمكانية الرؤية من عدمها بحيث يغلب على ظن الحاسب إمكانية رؤية الهلال أو عدمها ، فليس مناط الحكم عنده ساعة ولادة الهلال أو لحظة الاقتران التي يجزم بعدم إمكانية الرؤية فيها مطلقا ، وليس الحكم عاماً في الصحو والغيم ، كما أنه لم يكن مع ذلك في يوم من الأيام شريعة عامة لأي طائفة من المسلمين ، وإنما استن ذلك الروافض الضالين .

2. أن العمل بالحساب الآن إنما مناط العمل به عند بعض من ابتدعه هو ساعة ولادة الهلال أو لحظة الاقتران ، مع تصريحهم بعدم إمكانية الرؤية ، وهو عام في الغيم والصحو ، وأصبح شريعة عامة بحيث يفتى بذلك ، حتى إنهم نادوا بإهمال الاعتداد بالرؤية أو تعليق الحكم بها واستهزؤا بالعاملين بها ، ورموهم بالجمود والتأخر ، مع اضطرابهم واختلافهم الشديد في حساباتهم هذه في تحديد دخول الشهر ، وهو مما لم يعمل به منذ أربعة عشر قرنا، بل لم يكن في يوم من الأيام عند العرب كافة حتى قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حكماً عاماً بحيث يثبت دخول الشهر بساعة ولادة الهلال أو قول المنجم.

ثانيا / قد مر بنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته في شأن من يؤخرون الصلاة عن وقتها من الأمراء ، وعلمنا منه ومن غيره من الأوامر وجوب أداء الصلاة في وقتها ، ومن هنا أفتى بعض العلماء حديثا بعدم الاعتداد بالتقويم الفلكي لتحديد وقت الصلاة - في بعض البلدان العربية- ومنهم العلامة الألباني كما في ( السلسلة الصحيحة : 5 / 30)، لأن ذلك التقويم لم يراع فيه اختلاف المدن من حيث الارتفاع والانخفاض فحدث أن يؤذن للمغرب - مثلا - والناس القاطنون في قمة الجبل يرون الشمس لما غربت ، ويؤذن للفجر كذلك والناس في الوادي لم يروا الفجر الصادق بعد، نتيجة لاعتماد التقويم على الخط المستقيم في عرض البحر غروبا وشروقا ، مما عرض إلى بطلان الصلاة في بعض البلدان ولم نعلم أحدا من العلماء أفتى لمن يرى الشمس أن يصلي المغرب طاعة للحاكم ودرءا للخلاف ! ، ولا لمن لم ير الفجر أن يصلي الفجر قبل وقته طاعة للحاكم ودرءا للخلاف الذي حدث بالفعل ، ويتكرر كل يوم !.

وما أفتى به العلماء هنا هو ما يجب أن يفتى به في مسألة الصوم لتعلق العبادتين بوقت محدد ، قال تعالى: { إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا }وقال في شأن الصوم و الأهلة :{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} وقال رسوله صلى الله عليه وسلم : {لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه }
ومن فرق بينهما فعليه بالدليل وأنى له ذلك ، والله أعلم .

وقد سئل الشيخ عبيد الجابري عن متابعة الدولة التي تعتد بالحساب السؤال التالي " :شيخنا السؤال من ... يسألون : هل نصوم سراً في يوم العيد أو يومي العيد إذا أفطر بلدنا قبل السعودية بيوم أو يومين؟ ثم هل نذهب نصلي العيد معهم في المصلى؟ والسؤال الثالث والأخير عندهم في هذه "الفترة"، هل عليهم القضاء فيما فاتهم إذا أفطروا مع بلدهم درءاً للمفسدة، مع مراعاة أن المفسدة غير متحققة في كل شخص .
فأجاب : وجوابنا على هذه المسألة المتعلقة بالصوم والفطر باتباع من يعتدّون بالفلك أقول:
أولاً : ذكرت لكم قبل سؤال أو سؤالين في الجواب أنه لا يُعتد بالحساب الفلكي، بل العبرة بالرؤية، كما ذكرت آنفاً في الأدلة واستمعتم إليها بالعربية والإنجليزية.
وثانياً : إذا كان أهل ذلك القطر الذي لا يعتد حاكمه بالرؤية ، بل يُعوّل على الفلك ، الأصل أنهم لا يتابعونه ، لأن هذا خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلّم ، لا يتابعونه لا صوماً ولا فطراً .
وهم في هذا لهم حالتان ، إحداهما: أن يخافوا سطوة الحاكم الجائر الظالم ، ولذلك : فبالنسبة للصوم، هم مخيرون بين أمرين ، إما أن يُفطروا سراً ، أو يحتسبوه نافلة، ولا يجوز أن يحتسبوه فريضة ، هذا في حال الصوم ، وفي حال الفطر ، لهم أن يفطروا سراً إذا خشوا منه .
وفي حالة أنهم إذا لم يخشوا سطوة ذلك الحاكم الجائر الظالم ، فلا يتابعونه لا صوماً ولا فطراً. يتابعون من يجتهدون أو من تجتهد من الدول في تحري الهلال وفق شرع محمد صلى الله عليه وسلم .
الحالة الثانية: أنهم لا يخشونه ، ولا يتابعهم ، ولا يهتم، فهؤلاء الأمر فيهم واضح. فإذا صام قطرهم على الفلك، لا يصومون. وكذلك إذا أفطروا ، إذا أفطر القطر على الفلك، لا يفطرون. فيتبعون أوثق الدول في تحري الهلال صوماً وفطراً. وبالله التوفيق... ثم قال الشيخ: وصلاة العيد مع المسلمين تتبع ما فصلناه في الصوم والفطر.
لكن قد يوجد رجال لهم مكانة في الدولة، وهؤلاء لا يغيبون عن أعينها. فإذا خافوا المفسدة وسطوة الحاكم، صاموا سراً وحضروا صلاة العيد " اهـ

ثالثا / اضطراب أهل الحساب وتناقضهم في إثبات الشهور القمرية وإمكان رؤية الهلال من عدمها :
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في الرد على الذين يحسبون مسير القمر : ( انه ليس لأحد منهم طريقة منضبطة أصلا ، بل أية طريقة سلكوها فإن الخطأ واقع فيها ، فإن الله سبحانه لم يجعل لمطلع الهلال حسابا مستقيما ، بل لا يمكن أن يكون إلى رؤيته طريق مطرد إلا الرؤية ) .. إلى أن قال : ( اعلم أن المحققين من أهل الحساب كلهم متفقون على أنه لا يمكن ضبط الرؤية بحساب بحيث يحكم بأنه يرى لا محالة أو لا يرى البتة على وجه مطرد وإنما قد يتفق ذلك أو لا يمكن بعض الأوقات ) . انتهى من مجموع الفتاوى 25/182-183.

وقال أيضا في صفحة 174 من المجلد المذكور : " إن أرباب الكتاب والحساب لا يقدرون على أن يضبطوا الرؤية بضبط مستمر ، وإنما يقربون ذلك فيصيبون تارة ويخطئون أخرى " .

وقال أيضا في صفحة 208 من المجلد المذكور : " إن طريقة الحساب ليست طريقة مستقيمة ولا معتدلة ، بل خطؤها كثير وقد جرب . وهم يختلفون كثيرا هل يرى أم لا يرى ، وسبب ذلك أنهم ضبطوا بالحساب ما لا يعلم بالحساب فأخطؤوا طريق الصواب " . انتهى .

ولقد صدق رحمه الله فيما قال ، والواقع يشهد على ذلك فالقائلون بالحساب الفلكي قد انقسموا إلى أقسام كثيرة نوجزها ههنا :
الفريق الأول: يرى أنه متى كانت ولادة الهلال في أي وقت من بعد الفجر إلى قبل الفجر الذي يليه ولو بدقيقة ، فإنه يجب على المسلمين صيام اليوم الذي يلي الفجر الثاني ، وحجتهم أن الهلال موجود في السماء بعد ولادته ؛ لأن العلم اليقيني الثابت يثبت وجوده ، والعبرة بالوجود الفلكي لا الرؤية الخاطئة ، وهذا ما يسير عليه مركز الاستشعار عن بعد وعلوم الفضاء بالدولة الليبية ، ثم تبين أنهم يعنون بالولادة لحظة المحاق !
الفريق الثاني : أراد أن يوفق بين الرؤية والحساب فاشترط أن تكون ولادة الهلال قبل الغروب ولو بوقت قصير جدا فمتى كان ذلك وجب على الناس عقد نية الصيام وحجتهم أن اليوم الإسلامي يبدأ بعد غروب الشمس.
الفريق الثالث : أراد أن يكون أكثر توفيقاً بين الرؤية البصرية والحساب الفلكي فاشترط إمكان الرؤية لثبوت دخول الشهر ، وهذا يعني أن الهلال لابد أن يكون مولودا قبل الغروب بوقت اختلف فيه الفلكيون حتى تتمكن العين أو التلسكوب من رؤيته.
الفريق الرابع : اشترط للدخول في الشهر والخروج منه الرؤية البصرية ، حتى لو كانت ولادة الهلال قبل الغروب بقليل ، غير ملتفت إلى نزاع الفلكيين حول إمكان رؤية الهلال ، والتي اشترطها الفريق الثالث ولكن هذا الفريق اشترط شرطا آخر وهو أن لا تقبل شهادة من قال برؤية الهلال متى كانت ولادته بعد الغروب لاستحالة الرؤية بالعين الباصرة ، وحجة هذا الفريق أن قدرة الله لا يمكن حصرها وربما يؤتي أحدا من خلقه قدرة بصرية نافذة تستطيع أن ترى الهلال ولو كانت ولادته قبل الغروب بقليل جدا.
فإذن لم نحقق بالحساب الفلكي الوحدة المنشودة بل إن الحساب الفلكي زادنا تفرقا حتى أصبح لكل فلكي رأي في المسألة . والحساب الفلكي يجعل من بعضنا يصوم اليوم والبعض يصوم بعده بيومين ، ويجعلنا نفرط أحيانا بيومين من شهر رمضان المبارك ونضطر للدخول في يوم أو أكثر من شهر شوال .

وقد رد الإمام الصنعاني في حواشي شرح العمدة 3/1062 على من رد شهادة الشهود إذا اقتضى الحساب عدم إمكانية الرؤية لأن الحساب قطعي بزعمه فقال : " هذه القطعية المدعاة إن أراد أنها قطعية عند الحاسب وسلمنا له ذلك فهو رجوع إلى قول بعض أكابر الشافعية إنه يختص الحاسب بالعمل بذاك بالنسبة إليه ، وإن أراد أنه قطعي عند غير الحاسب فهذا باطل ؛ لأن غير الحاسب إنما يستفيد هذا الحكم ، وهو أن الحساب يحيل الرؤية التي قامت عليها الشهادة من كلام الحاسب ، وغاية ما يفيده خبره عند سامعه المحسن به الظن ظنه صدقه , فأين القطع الذي زعمه " ا.هـ

يقول العلامة اللحيدان :"وما وجد من شذوذ بعد الإجماع فهو مردود لا يعول عليه ويكفي أنه قول طائفة باطنية عدوة للإسلام والمسلمين وتسعى لهدم الملة الحنيفية فلا يليق بطالب علم أن يغتر بها أو بقول من انخدع بالحساب لمصادمة ذلك للسنة الصحيحة وإجماع السلف الصالح- رضي الله عنهم- والواجب أن يسعنا ما وسعهم وأن لا نبتدع في ديننا ما لم يأذن به الله سبحانه ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولم يؤثر عن الصحابة الكرام- رضي الله عنهم - "اهـ .

والعجيب أن يجزم كثيرون بصحة صومهم ، بل ويحلفون على ذلك وهم قد صاموا على الحساب لا الرؤية ، وقد أبطل العلماء صومهم حتى وإن كثرت إصابتهم :

قال ابن قدامة في المغني (3/9) : " لو بنى على قول المنجمين وأهل المعرفة بالحساب فوافق الصواب , لم يصح صومه , وإن كثرت إصابتهم , لأنه ليس بدليل شرعي يجوز البناء عليه ولا العمل به , فكان وجوده كعدمه , قال النبي صلى الله عليه وسلم : " صوموا لرؤيته , وأفطروا لرؤيته " . وفي رواية : " لا تصوموا حتى تروه , ولا تفطروا حتى تروه " اهـ.

وقال ابن مفلح الحنبلي في الفروع( 27: 109)في كتاب الصوم : " ومن صام بنجوم أو حساب لم يجزئه وإن أصاب ولا يحكم بطلوع الهلال بهما ولو كثرت إصابتهما"اهـ

وفي المبسوط - (ج 4 / ص 61) عن ابي حنيفة رحمه الله قال : " وَإِنْ صَامَ أَهْلُ الْمِصْرِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَلَمْ يَصُمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى أَبْصَرَ الْهِلَالَ مِنْ الْغَدِ فَصَامَ أَهْلُ الْمِصْرِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَالرَّجُلُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا فَلَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ قَضَاءُ شَيْءٍ وَقَدْ أَخْطَأَ أَهْلُ الْمِصْرِ حِينَ صَامُوا بِغَيْرِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا } فَأَهْلُ الْمِصْرِ خَالَفُوا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانُوا مُخْطِئِينَ ."اهـ


ولكن العلماء لم يختلفوا في صحة صوم من صام بالطريقة الشرعية وإن كانت خلاف الواقع :

قال الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله : " ولو فرضنا أن المسلمين أخطأوا في إثبات الهلال دخولا أو خروجا وهم معتمدون في إثباته على ما صحت به السنة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم لم يكن عليهم في ذلك بأس ، بل كانوا مأجورين ومشكورين من أجل اعتمادهم على ما شرعه الله لهم وصحت به الأخبار عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ، ولو تركوا ذلك لأجل قول الحاسبين مع قيام البينة الشرعية برؤية الهلال دخولا أو خروجا لكانوا آثمين ، وعلى خطر عظيم من عقوبة الله عز وجل ؛ لمخالفتهم ما رسمه لهم نبيهم وإمامهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم التي حذر الله منها في قوله عز وجل : {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} ، وفي قوله: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب} (سورة الحشر : 7) ، وقوله سبحانه وتعالى : {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين} "اهـ

يقول الشيخ د. صالح بن فوزان الفوزان في مقال له بعنوان : ( التحذير من " أدعياء " يشوشون على المسلمين كل عام في رؤية الهلال ) " : ولو قدر أن المسلمين اجتهدوا في تحري الهلال ليلة الثلاثين فلم يروه ؛ فأكملوا الشهر ثلاثين ، ثم تبين بعد ذلك أنه قد رئي في تلك الليلة فإنهم يقضون اليوم الذي أفطروه ولا حرج عليهم وهم معذورون ومأجورون . وأما لو صاموا بخبر الحاسب ؛ فإنهم آثمون ولو أصابوا ؛ لأنهم فعلوا غير ما أمروا به ، ثم إن عملهم بقول الحاسب قد يؤدي إلى أن يصوموا قبل وقت الصيام ، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين ". اهـ

ويقول الملا علي القاري في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - (ج 6 / ص 270):" بل أقول لو صام المنجم عن رمضان قبل رؤيته بناء على معرفته يكون عصيا في صومه ولا يحسب عن صومه إلا إذا ثبت الهلال ، على خلاف فيه ، ولو جعل عيد الفطر بناء على زعمه الفاسد يكون فاسقاً ، وتجب عليه الكفارة في قول وهو الصحيح ، وإن استحل إفطاره فرضاً عن عده واجباً صار كافراً "اهـ

ومن العجب أيضا أن تسمع من أحدهم أنه يؤكد صحة بدء صومه بالحساب بعد مضي ليال لأنه يزعم أن الهلال ابن ليلتين أو ثلاث بحسب ما يهوى ، وقد بين العلماء أن حجم الهلال لا اعتبار له في بيان صحة الصوم أو معرفة الوقت وأن الله تعالى يطيل مدة الهلال ليراه الناس فضلا منه تعالى ونعمة فله الحمد والشكر ، ولا اعتبار بكبره وصغره :

فعن أبي البختري قال : " خرجنا للعمرة فلما نزلنا ببطن نخلة قال تراءينا الهلال فقال بعض القوم هو ابن ثلاث وقال بعض القوم هو ابن ليلتين قال فلقينا ابن عباس فقلنا : إنا رأينا الهلال فقال بعض القوم هو ابن ثلاث وقال بعض القوم هو ابن ليلتين فقال : أي ليلة رأيتموه قال فقلنا ليلة كذا وكذا فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله مده للرؤية " فهو لليلة رأيتموه " . رواه مسلم .
وبوب عليه الإمام مسلم رحمه الله تعالى : ( باب بيان أنه لا اعتبار بكبر الهلال وصغره وأن الله تعالى أمده للرؤية فإن غم فليكمل ثلاثون )
قال النووي في شرحه له : " وهو ظاهر الدلالة للترجمة " ا.هـ

وقال الشيخ علي القاري في شرح المشكاة : " قال بعض القوم هو ابن ثلاث أي صاحب ثلاث ليال لعلو درجته وقال بعض القوم هو ابن ليلتين ، فقال ابن عباس : إن الله مده للرؤية أي جعل مدة رمضان زمان رؤية الهلال ذكره الطيبي قال القاري : والمعنى رمضان حاصل لأجل رؤية الهلال في تلك الليلة ولا عبرة بكبره بل ورد أن انتفاخ الأهلة من علامات الساعة " اهـ.

قلت : يشير بذلك إلى ما عند الطبراني وغيره بسند صحيح : " من اقتراب الساعة انتفاخ الأهلة ، و أن يرى الهلال لليلة ، فيقال : هو ابن ليلتين "، وقد صححه العلامة الألباني في " السلسلة الصحيحة " برقم 2292 .

فعلى المسلمين عامة وطلبة العلم خاصة أن يتحروا من أقوال العلماء ما يوافق الدليل الصحيح الصريح ، وأن يحتاطوا لعبادتهم ، ولا يجنحوا إلى التقليد ، ومن كانت فتواه عارية عن الدليل ، أو بخلافه فلا ينبغي أن يقدم قوله على أمر الله ورسوله ، وأنه في حال اختلاف العماء فالواجب هو الرد إلى الله ورسوله لا إلى قول فلان أو فلان .

وفيما ذكرنا كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، وليحذر المسلم من أن يعرض صومه لتلاعب المتلاعبين ، فيتعمد الفطر في رمضان ، مع ما جاء في ذلك من الوعيد الشديد :
ففي صحيح الترغيب وغيره عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال :" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : بينا أنا نائم أتاني رجلان فأخذا بضبعي ، فأتيا بي جبلا وعرا فقالا اصعد ، فقلت إني لا أطيقه ، فقالا إنا سنسهله لك ، فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل ، إذا بأصوات شديدة ، قلت ما هذه الأصوات قالوا هذا عواء أهل النار ، ثم انطلق بي فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم ، مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دما ، قال قلت من هؤلاء ؟ قالا : الذين يفطرون قبل تحلة صومهم " اهـ.

ومعناه يفطرون قبل وقت الإفطار .

وقد أحسنَ ابنُ الأثيرِ الأديبُ حين قال في رسالةٍ له: «لا تَكُنْ ممَّن تَبِعَ الرَّأيَ والنَّظَر ، وتركَ الآيةَ والخَبَر ، فحكمةُ الله مطويَّةٌ فيما يأمُر به على ألسنةِ رسلِهِ ، وليست مما يَسْتَنْبِطُهُ ذو العلمِ بعلمه ، ولا يستدلُّ عليه ذو العَقْلِ بِعقله ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا ».

ولله در القائل:


العلم للرجل اللبيب زيادة *** ونقيصة للأحمق الطياش
مثل النهار يزيد أبصار الورى *** نورا ويعمي أعين الخفاش


وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك