المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ((إجابات)) الشيخ الدكتور عبد الله البخاري على أسئلة الأعضاء (كاملة)



أبو أنس بشير بن سلة الأثري
30-Sep-2010, 01:24 AM
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه .
وبعد:
فهذه إجابات فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله البخاري على أسئلة الأعضاء والتي تم الاعلان عنها في وقت سابق, جزى الله الشيخ خير الجزاء, وبارك له في عمره وعلمه وعمله.
قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحيم البخاري - حفظه الله -:
الحمد لله ربِّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم، أما بعد:
فهذه أجوبة عن أسئلة الإخوة، أسأل الله لي ولهم التوفيق والسَّداد في القول والعمل، إنَّه سميع مجيب.
السؤال الأول: عن حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (خلق الله التربة يوم السبت...) الحديث.
الجواب: الكلام على الحديث جواباً من وجوه:
الأول: تخريجه باختصار.
أخرجه مسلمٌ (كتاب صفات المنافقين وأحكامهم/ باب ابتداء الخلق، وخلق آدم عليه السَّلام)(4/رقم2789(27)/2149) و النسائي في (الكبرى)(كتاب التفسير)(10/رقم 10943/20) و أحمد في (المسند)(14/ رقم 8341/82) وابن حبان في (الصحيح)(14/ رقم 6161/30- الإحسان) والبيهقي في (الأسماء والصفات)(2/ رقم812/250) كلهم من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج عن إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبدالله بن رافع مولى أم سلمة به.
الثاني: تقعيد:
اشتهر القول: بأنَّ أحاديث الصَّحيحين قد تلقتها الأمة بالقبول. والأمر ليس على إطلاقه؛ ذلك أنَّ أحاديث الصحيحين تلقتها الأمة بالقبول سوى أحرف يسيرة انتقدها الحفاظ، وعليه فالأحاديث المنتقدة لا تعتبر مما تلقتها الأمة بالقبول، بغض النظر هل الصواب فيها مع الشيخين أم مع غيرهما،وإنما المقصود أنَّ هذه الأحاديث غير داخلة في القبول.
ينظر: (علوم الحديث) لابن الصلاح (ص29- ط عتر) و(اختصار علوم الحديث) لابن كثير(1/124) و(الإتباع) لابن أبي العز (ص48).
الثالث: هذا الحديث يعتبر من الأحرف التي نقدها أهل العلم على صحيح مسلم، فلا يعتبر من الأحاديث التي تلقتها الأمة بالقبول.
الرابع: أقوال أهل العلم في الحديث:
يمكن تقسيم أهل العلم الذين تكلموا في الحديث على قسمين:
الأول: مَن صحَّحه.
ذهب جماعة من الحفاظ إلى صحته والقول بثبوته، وهم:
1/ الإمام الحافظ مسلم بن الحجاج- رحمه الله- حيث أخرجه في (صحيحه).
2/ الإمام الحافظ ابن حبان البستي- رحمه الله- حيث خرجه في (صحيحه).
3/ الحافظ أبو بكر ابن الأبناري –رحمه الله- ينظر (مجموع الفتاوى)(17/17) و( الفضل المبين) للقاسمي (ص432-434)-.
4/ الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي- رحمه الله – في (زاد المسير)(7/243).
5/ العلامة الحافظ الشوكاني- رحمه الله- في (فتح القدير)(1/62).
ومن المعاصرين:
6/ العلامة الناقد ذهبي العصر عبدالرحمن بن يحيى المعلمي-رحمه الله- في (الأنوار الكاشفة)(ص185-190).
7/ العلامة المحدث ناصر السُّنة محمد ناصر الدين الألباني-رحمه الله- في (سلسلة الأحاديث الصحيحة)(4/رقم1833) و(تحقيق مشكاة المصابيح)(3/رقم5735/ص1598) و(تحقيق مختصر العلو) للذهبي (تعليق رقم57/ص112).
8/ شيخنا العلامة المحدث ربيع بن هادي المدخلي-حفظه الله- في تحقيقه وتعليقه لكتاب (التوسل والوسيلة) لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص173) وقد أكد لي قوله بصحة الحديث أيضاً في اتصال هاتفي معه حفظه الله في الأسبوع الماضي من شهر صفر لعام1428هـ.
9/ شيخنا العلامة عبدالقادر بن حبيب الله السندي-رحمه الله- في رسالته (إزالة الشبهة عن حديث التربة) حيث تكلم عن الحديث سنداً ومتناً، ورسالته منشورة في (مجلة الجامعة الإسلامية) (العدد 49/ محرم- عام 1401هـ) و(العددان 50-51/ ربيع الآخر- رمضان/ عام 1401هـ).
ومما ينبغي التنبه له أنَّ العلامة المعلمي والعلامة الألباني والعلامة السندي- رحمهم الله- تعرضوا في كتبهم آنفة الذكر بالجواب عمن دفع الحديث وأعلَّه بشيء من البسط والبحث، و كلام العلامة المعلمي من أمتن الكلام وأدقه.
الثاني: مَنْ أعلَّه.
تكلَّم بعض أهل العلم من الأئمة الحفاظ في الحديث، وعدَّه بعضهم من غرائب الصَّحيح، وبعضهم رجَّح أنَّه من كلام كعب الأحبار، وأنَّه اشتبه على بعض الرُّواة فجعلوه مرفوعاً، فمن أولئك العلماء:
1/ الإمام الحافظ الناقد علي بن عبدالله المديني حيث قال الحافظ البيهقي في (الأسماء والصفات)(2/ عقب رقم 812/251- ط الحاشدي):" هذا حديث أخرجه مسلم في كتابه عن سريج بن يونس وغيره عن حجاج بن محمد.... وزعم بعضهم أنَّ إسماعيل بن أمية إنما أخذه عن إبراهيم ابن أبي يحيى عن أيوب بن خالد، وإبراهيم غير محتج به" ثم أسند الرواية التي أشار إليها، وفيه سؤال محمد بن يحيى لابن المديني عن الحديث فقال:" هذا حديث مدني، رواه هشام بن يوسف عن ابن جريج عن إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن أبي رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: ( أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، قال علي: وشبك بيدي إبراهيم بن أبي يحيى، وقال لي: شبك بيدي أيوب بن خالد، وقال لي: شبك بيدي عبدالله بن رافع، وقال لي: شبك بيدي أبوهريرة رضي الله عنه، وقال لي: شبك بيدي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وقال لي: خلق الله الأرض يوم السبت ) فذكر الحديث بنحوه.
قال علي بن المديني:" وما أرى إسماعيل بن أمية أخذ هذا إلا من إبراهيم بن أبي يحيى".
قال البيهقي عقبه:" قلت: قد تابعه على ذلك موسى ابن عبيدة الربذي عن أيوب بن خالد، إلا أن موسى بن عبيدة ضعيف، وروي عن بكر بن الشرود عن إبراهيم بن أبي يحيى عن صفوان بن سليم عن أيوب بن خالد، وإسناده ضعيف، والله أعلم".
2/ الإمام الحافظ الناقد يحيى بن معين –رحمه الله-، نقله عنه الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال:" وكذلك روى مسلم (خلق الله التربة يوم السبت)، ونازعه فيه من هو أعلم منه كيحيى بن معين والبخاري وغيرهما، فبينوا أن هذا غلط ليس هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم"، و كذا في (التوسل والوسيلة)(ص173).
3/ الإمام الحافظ شيخ المحدثين أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري-رحمه الله-، حيث رواه معلقاً في (التاريخ الكبير)(1/ص413-414) من طريق إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد به، ثم قال:" وقال بعضهم: عن أبي هريرة عن كعب، وهو أصحُّ".
4/ الإمام شيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني-رحمه الله- حيث تكلم على الحديث في مواطن عديدة من كتبه، فمن ذلك قوله:" وأما الحديث الذي رواه مسلم في قوله (خلق الله التربة يوم السبت)، فهو حديثٌ معلولٌ قدح فيه أئمة الحديث كالبخاري وغيره، قال البخاري: الصحيح أنه موقوف على كعب، وقد ذكر تعليله البيهقي أيضاً، وبينوا أنه غلط ليس مما رواه أبوهريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مما أنكر الحذاق على مسلم إخراجه إياه، كما أنكروا عليه إخراج أشياء يسيرة" (الفتاوى)(17/236-237).
و ينظر أيضاً: (الفتاوى)(1/256-257) و(18/73) و (التوسل والوسيلة)(ص172-173- تحقيق العلامة ربيع بن هادي).
5/ الإمام الحافظ العلامة أبو عبدالله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية- رحمه الله- حيث قال في (المنار المنيف)(ص78- ط الثمالي):" ويُشبه هذا ما وقع فيه الغلط من حديث أبي هريرة (خلق الله التربة يوم السبت) الحديث، وهو في صحيح مسلم، ولكن وقع الغلط في رفعه، وإنما هو من قول كعب الأحبار، كذلك قال إمام أهل الحديث محمد بن إسماعيل البخاري في (تاريخه الكبير) وقال غيره من علماء المسلمين أيضاً. وهو كما قالوا؛ لأن الله أخبر أنه (خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام)، وهذا الحديث يقتضي أن مدَّة التخليق سبعة أيام،والله تعالى أعلم". ونحوه في (بدائع الفوائد)(1/85).
6/ الإمام الحافظ المفسر أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير- رحمه الله- تكلم عن الحديث في مواطن من كتبه، فمن ذلك:" قد تكلم في هذا الحديث علي بن المديني والبخاري والبيهقي وغيرهم من الحفاظ، قال البخاري: وقال بعضهم: عن كعبٍ وهو الأصح. يعني: أن هذا الحديث مما سمعه أبوهريرة وتلقاه عن كعب الأحبار، فإنهما كان يصطحبان ويتجالسان للحديث، فهذا يُحدثه عن صُحفه، وهذا يحدثه بما يُصدِّقه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الحديث مما تلقاه أبو هريرة عن كعب عن صُحفه، فوهم بعض الرواة فجعله مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأكدك رفعه بقوله أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي. ثم في متنه غرابة شديدة؛ فمن ذلك أنه ليس فيه ذكر خلق السموات، وفيه ذكر خلق الأرض وما فيها من سبعة أيام، وهذا خلاف القرآن؛ لأن الأرض خلقت في أربعة أيام، ثم خلقت السموات في يومين من دخان..." (البداية والنهاية/ ط التركي)(1/32-35).
وقال في (تفسيره) (1/ص72) (سورة البقرة: آية:29):" هذا الحديث من غرائب صحيح مسلم، وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ وجعلوه من كلام كعب، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار، وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعلوه مرفوعاً، وقد حرر ذلك البيهقي".
و ينظر نحوه في (التفسير) له (2/229-230)(سورة الأعراف: آية:54) و(3/465-466) (سورة السجدة: آية:4) و(4/101-102)(سورة فصلت: آية:12).
7/ العلامة عبدالرؤوف المناوي- رحمه الله- حيث قال في (فيض القدير)(3/448):" قال بعضهم: هذا الحديث في متنه غرابة شديدة، فمن ذلك: أنه ليس فيه ذكر خلق السموات، وفيه ذكر خلق الأرض وما فيها في سبعة أيام، وهذا خلاف القرآن؛ لأن الأربعة خلقت في أربعة أيام، ثم خلقت السموات في يومين".
الخامس: تنبيه:
تقدَّم النقل من (الفتاوى) و(التوسل) لشيخ الإسلام أنَّ الإمام يحيى بن معين ممن أعل الحديث، و أخشى أنْ يكون تصحف اسم الإمام يحيى بن معين على الناسخ فانقلب عليه اسم علي بن المديني إلى يحيى بن معين؛ ذلك أنَّ الأئمة كابن القيم و ابن كثير الذين تقدم النقل عنهما مع حرصهما على ذكر العلماء الذين أعلوا الحديث لم يذكرا فيمن ذكرا الإمام يحيى بن معين، وإنما ذكرا الإمام علي بن المديني، وكذا شيخ الإسلام فيما عدا الموطن المشار إليه آنفاً، ومما يذكر في هذا المقام أنَّ الحديث أخرجه ابن معين في (تاريخه) (2/ رقم 210/ص305) من طريق هشام بن يوسف عن ابن جريج عن إسماعيل به. ولم يعل الحديث أو يتكلم عليه بشيء!! فالله أعلم.
السادس: من أجوبة بعض أهل العلم المصححين عن مآخذ المعللين.
قال العلامة المعلمي في (الأنوار)(ص186):" ويرد على هذا- أي على كلام ابن المديني المتقدم- أن إسماعيل بن أمية ثقة عندهم غير مدلس، فلهذا والله أعلم لم يرتض البخاري قول شيخه ابن المديني، وأعل الخبر بأمر آخر فإنه ذكر طرفه في ترجمة أيوب..- فذكر قول البخاري السابق، ثم قال- ومؤدَّى صنيعه أنه يحدس أن أيوب أخطأ، وهذا الحدس مبني على ثلاثة أمور:
الأول: استنكار الخبر لما مرَّ .
- قلت: قدَّم رحمه الله أوجهاً ثلاثة في الاستنكار قبل نقل التعليل-.
الثاني: أن أيوب ليس بالقوي، وهو مقل لم يخرج مسلم إلا هذا الحديث، لما يعلم من الجمع بين رجال الصحيحين،وتكلم فيه الأزدي، ولم يُنقل توثيقه عن أحد من الأئمة إلا ابن حبان ذكره في (ثقاته)، وشرط ابن حبان في التوثيق فيه تسامح معروف.
الثالث: الرواية التي أشار إليها بقوله (وقال بعضهم) وليته ذكر سندها ومتنها، فقد تكون ضعيفة في نفسها، وإنما قويت عنده للأمرين الآخرين، ويدل على ضعفها أن المحفوظ عن كعب وعبدالله بن سلام ووهب بن منبه ومَن يأخذ عنهم أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد، وهو قول أهل الكتاب المذكور في كتبهم، وعليه بنوا قولهم في السبت، انظر(الأسماء والصفات)(ص272و275) وأوائل تاريخ ابن جرير، وفي (الدر المنثور)(ص/91) (أخرج ابن أبي شيبة عن كعب قال: بدأ الله بخلق السموات والأرض يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، وجعل كل يوم ألف سنة)، وأسنده ابن جرير في أوائل التاريخ (1/22ط الحسينية)، واقتصر على أوله (بدأ الله بخلق السموات والأرض يوم الأحد والاثنين)، فهذا يدفعُ أن يكون ما في الحديث من قول كعب.
وأيوب لا بأس يه، وصنيع ابن المديني يدل على قوته عنده،وقد أخرج له مسلم في صحيحه، كما علمت وإن لم يكن حده أن يحتج به في (الصحيح)، فمدار الشك في هذا الحديث على الاستنكار، و قد يجاب عنه بما يأتي:
أما الوجه الأول: فيجاب عنه: بأن الحديث و إن لم ينص على خلق السماء فقد أشار إليه بذكره في اليوم الخامس: النور، وفي السادس: الدواب، وحياة الدواب محتاجة إلى الحرارة والنور والحرارة مصدرهما الأجرام السماوية.
والذي فيه أن خلق الأرض نفسها كان في أربعة أيام كما في القرآن، والقرآن إذ ذكر خلق الأرض في أربعة أيام لم يذكر ما يدل أن من جملة ذلك خلق النور والدواب، وإذ ذكر خلق السماء في يومين لم يذكر ما يدل أنه في أثناء ذلك لم يحدث في الأرض شيئاً، والمعقول أنها بعد تمام خلقها أخذت في التطور بما أودعه الله تعالى فيها، والله سبحانه لا يشغله شان عن شان.
ويجاب عن الوجه الثاني: بأنه ليس في هذا الحديث أنَّه خلق في اليوم السابع غير آدم، وليس في القرآن ما يدل أن خلق آدم كان في الأيام الستة ولا في القرآن ولا السنة و لا المعقول أن خالقية الله عز وجل وقفت بعد تلك الأيام الستة، بل هذا معلوم البطلان، وفي آيات خلق آدم أوائل البقرة وبعض الآثار ما يؤخذ منه أنه قد كان الأرض عمار قبل آدم عاشوا فيها دهراً، فهذا يساعد القول بأن خلق آدم متأخر بمدة عن خلق السموات والأرض.
فتدبر الآيات والحديث على ضوء هذا البيان يتضح لك إن شاء الله أن دعوى مخالفة هذا الحديث لظاهر القرآن قد اندفعت،و لله الحمد.
و أما الوجه الثالث: فالآثار القائلة إن ابتداء الخلق يوم الأحد ما كان منها مرفوعاً فهو أضعف من هذا الحديث بكثير، وأما غير المرفوع فعامته من قول عبدالله بن سلام وكعب ووهب ومَن يأخذ عن الإسرائيليات، وتسمية الأيام كانت قبل الإسلام تقليدا لأهل الكتاب، فجاء الإسلام وقد اشتهرت وانتشرت فلم ير ضرورة إلى تغييرها؛ لأن إقرار الأسماء التي قد عرفت واشتهرت وانتشرت لا يعد اعترافاً بمناسبتها لما أخذت منه أو بنيت عليه، إذ قد أصبحت لا تدل على ذلك، وإنما تدل على مسمياتها فحسب،ولأن القضية ليست مما يجب اعتقاده أو يتعلق به نفسه حكم شرعي، فلم تستحق أن يحتاط لها بتغيير ما اشتهر وانتشر من تسمية الأيام".
و أما رواية ابن أبي يحيى المتقدمة: فقال العلامة الألباني كما (الصحيحة)(4/ ص450):" و رواية إبراهيم بن أبي يحيى التي أشار إليها البيهقي، قد أخرجها الحاكم في (علوم الحديث)(ص33)...- فذكرها ثم قال- وأشار الحاكم إلى تضعيفه هكذا مسلسلاً بالتشبيك، وعلته إبراهيم؛ فإنه متروك كما تقدم".
السابع: الخلاصة:الذي يظهرُ مما تقدم من كلام أهل العلم عن الحديث أنَّ الحديث من الأحاديث المنتقدة على صحيح الإمام مسلم، و القول بثبوته أظهر وأقوى؛ والقول بتعليله قولٌ قويٌّ، والعلم عند الله.
السؤال الثاني: قول السائل: كيف يكون المحدث ثقة وفي الوقت نفسه يوصف بالتدليس؟
الجواب: هناك أمور لا بد من الانتباه والتنبه لها كي تتضح الصورة جواباً عن هذا السؤال، وهذه الأمور هي كالتالي:
الأول: التدليس له أقسام، منها تدليس الإسناد، و ألحق به: تدليس التسوية، و تدليس القطع، وتدليس السكوت وتدليس العطف، وتدليس الصيغ.
ومنها تدليس الشيوخ، وألحق به تدليس البلدان.
ولكل منها حدُّه وصوره، وليس المقام مقام بسط حدود تلك الأقسام وصورها؛ لذا ينظر في ذلك للتقريب كتب: علوم الحديث عموماً مثل: (معرفة علوم الحديث)(ص103) للحاكم و(الكفاية) للخطيب (ص59)و(ص508- 527) و( علوم الحديث) لابن الصلاح (ص73-76) و(شرح ألفية الحديث) للعراقي (1/180) و(التقييد والإيضاح) له (ص96-97) و (النكت على كتاب ابن الصلاح) لابن حجر(2/614- 651) و غيرها.
وكوني أحلت إلى بعض كتب علوم الحديث، لا يعني ذلك إغفال كتب (العلل) و (التراجم) فإنَّها مليئة بالأمثلة في الباب، ولكن الأمر كما ذكرتُ قبلُ: أنَّه للتقريب فقط لا غير، فليتنبه.
الثاني: ذكر أهل العلم بأنَّ التدليس له بواعث، وعليه فإن الحكم على الراوي يختلف باختلاف باعثه على التدليس.
فمن ذلك: إيهام علو الإسناد، أو ضعف الراوي المدلَّس أو صغر سنِّ الشيخ المدلَّس عن سنِّ المدلِّس أو كراهية ذكره لسوء حاله لا لقدح في حديثه، أو إيهام كثرة الرواية، أو إيهام كثرة الشيوخ أو امتحان الأذهان واختبارها في معرفة الرجال، أو تحسين الحديث، أو غير ذلك من الأسباب والبواعث.
لذا قال الحافظ الخطيب رحمه الله:" التدليس مكروه عند أكثر أهل العلم، وقد عظَّم بعضهم الشأن في ذمه" (الكفاية)(ص508)، فتدليس الإسناد أكثر العلماء والمحققين على ذمه وإنكاره، وأشده كراهة وذماً (التسوية) حتى قال الحافظ العراقي:" إنه قادحٌ فيمن تعمد فعله" (التقييد) (ص97)، وينظر (اختصار علوم الحديث)(1/175).
وأما تدليس الشيوخ فهو أخف من سابقه، إلا أنَّ الحكم يتوقف على معرفة المقصد منه؛ فمن دلَّس لجرح في الراوي فعمَّاه فإنَّه يُجرح به؛ لأن الدين النصيحة، و ما كان إيهاما لكثرة شيوخ أو حديث أو نحو ذلك فإن الأولى تركه؛ لما فيه من التزين والشهرة، والله أعلم.
ينظر: (اختصار علوم الحديث)(1/176) و(تدريب الراوي)(1/223-231) و(فتح المغيث)(1/208-229).
الثالث: تنبيه مهم:إذا ثبت وصف راوٍ ما بأنَّه ثقة، فإنَّ هذا الوصف موجبٌ لقبول خبره- إن سلم من المآخذ-، فإن ثبت ما يوجب ردَّ خبره بالبينة والبرهان رُدَّ خبره.
وعليه: فإذا ثبت وصف الراوي بأنَّه ثقة، ثم وردَ قولٌ فيه بأنَّه مدلِّسٌ، فإن التعامل مع هذا القول يكون كالتالي:
1/ لابدَّ من ثبوت هذا الوصف؛ ذلك أنَّه ليس كل وصف يصح في الراوي، إذ قد ينقل القول وعند التحقيق لا يثبت القول و لا يصح، فمن ذلك ما قاله أبو الفرج المعافى النهرواني في كتابه (الجليس والأنيس) في حق الإمام شعبة بن الحجاج:" كان شعبة ينكر التدليس، ويقول فيه ما يتجاوز الحد- مع كثرة روايته عن المدلسين،ومشاهدته من كان مدلساً من الأعلام، كالأعمش والثوري وغيرهما- إلى أن قال- ومع ذلك فقد وجدنا لشعبة مع سوء قوله في التدليس تدليساً في عدة أحاديث رواها، وجمعنا ذلك في موضع آخر" انتهى.
قال الحافظ ابن حجر في (النكت)(2/628-630) بعد نقله كلام النهرواني هذا:" وما زلت متعجباً من هذه الحكاية شديد التلفت إلى الوقوف على ذلك، و لا أزداد إلا استغراباً لها واستبعاداً إلى أن رأيت في (فوائد أبي عمرو بن أبي عبيدالله بن مندة) وذلك فيما قرأت على أم الحسن بنت المنجا عن عيسى بن عبدالرحمن بن مغالي قال قرئ على كريمة بنت عبدالوهاب ونحن نسمع عن أبي الخير الباغيان أنا عمرو بن أبي عبيدالله بن مندة ثنا أبوعمر عبدالله بن محمد بن أحمد بن محمد بن الأصفر ثنا النفيلي ثنا مسكين بن بكير ثنا شعبة قال: سألت عمرو بن دينار عن رفع الأيدي عند رؤية البيت؟ فقال: قال أبو قزعة حدثني مهاجر المكي أنه سأل جابر بن عبدالله رضي الله عنه: أكنتم ترفعون أيديكم عند رؤية البيت؟ فقال: قد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل فعلنا ذلك؟.
قال الأصفر: ألقيته على أحمد بن حنبل فاستعادني، فأعدته عليه، فقال: ما كنتُ أظن أن شعبة يدلس. حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن أبي قزعة بأربعة أحاديث هذا أحدها، يعني ليس فيه عمرو بن دينار.
قلت: هذا الذي قاله أحمد على سبيل الظنِّ، و إلا فلا يلزم من مجرد هذا أن يكون شعبة دلس في هذا الحديث؛ لجواز أن يكون سمعه من أبي قزعة بعد أن حدثه عمرو عنه، ثم وجدته في (السنن) لأبي داود عن يحيى بن معين عن غندر عن شعبة قال: سمعتُ أبا قزعة...فذكره.
فثبتَ أنَّه ما دلَّسهُ، والظاهر: الذي زعم المعافى أنه جمعه كله من هذا القبيل وإلا فشعبة من أشد الناس تنفيراً عنه.
و أما كونه: كان يروي عن المدلسين، فالمعروف عنه أنه كان لا يحملُ عن شيوخه المعروفين بالتدليس إلا ما سمعوه...".
2/ إن ثبت ثبوتاً صحيحاً وصف الراوي الثقة بأنَّه مدلس، فإنَّ النظر مع هذا الوصف هو كالنظر في ورود جرح في راوٍ ثبت تعديله؛ ذلك أننا قررنا في الأمر الثاني آنفاً أنَّ التدليس مكروه، و قد يُجرحُ به الراوي على ما تقدم بيانه، وعليه فلا بدَّ أولاً من ثبوت تدليسه في خبرٍ ما، وفي أي الأقسام يكون.
لأنَّه قد يوصف الراوي بأنَّه مدلِّسٌ، وعند التأمل في الخبر المستدل به على تدليسه لا يثبت - كما تقدم في المثال السابق مع الإمام شعبة- أو يظهر أنَّه لا يدخل تحت أي قسم من أقسام التدليس المتقدمة، فمثلاً:
عبدالله بن زيد الجرمي أبو قلابة، قال الحافظ أبوحاتم الرازي:" لا يُعرفُ له تدليسٌ" (الجرح والتعديل)(5/58)، وقال الحافظ الذهبي:"..إلا أنه يُدلِّسُ عمن لحقهم وعمن لم يلحقهم، وكان له صحفٌ يحدث منها ويدلِّسُ" (الميزان)(2/426)، و ممن حدَّث عنه ولم يلحقه: حذيفة بن اليمان رضي الله عنه – ينظر (النكت الظراف)(3/45-46).
فالمتأمل في هذا المثال يظهر له بجلاء أنَّ التدليس المذكور في كلام الحافظ الذهبي لا يُراد منه التدليس بالمعنى الاصطلاحي عند بعض أهل العلم كابن حجر وغيره، وإنما هو إرسال؛ لذا عبارة الحافظ أبي حاتم أظهر في المعنى الاصطلاحي للتدليس؛ لذا نجد أن الحافظ ابن حجر علق في (تهذيب التهذيب)(2/340) على عبارة أبي حاتم بقوله:" هذا يقوي من ذهب إلى اشتراط اللقاء في التدليس، لا الاكتفاء بالمعاصرة".
مثال آخر كسابقه: سأل الدوريُّ الحافظَ ابنَ معين عن:" حديث هشيم عن أبي إسحاق عن أبي قيس عن هزيل قال: قال عبدالله...-فذكره- فقلت له: مَن أبو إسحاق هذا؟ فقال يحيى: هشيم لم يلق أبا إسحاق السبيعي، ولم يلق أبا إسحاق الذي يُدلِّسُ عنه، والذي يقالُ له: أبو إسحاق الكوفي" (التاريخ) رواية الدوري (رقم 4861).
الرابع: هل يوجد رواة ثقات وصفوا بالتدليس؟
الجواب، نعم، لكنهم متفاوتون فيه فمنهم من يصنف تدليسه في تدليس الإسناد ومنهم من يصنف تدليسه في تدليس الصيغ أو القطع أو نحو ذلك من الأقسام المتقدمة، وهذا ينظر فيه إلى كلِّ راوٍ بحسبه، وسأذكر هنا بعض الرواة الثقات ممن وصفوا بالتدليس بغض النظر عن نوعه، فمنهم:
أ/ عبدالله بن وهب المصري، قال الحافظ ابن سعد في (الطبقات)(7/518):" كان كثير العلم ثقة فيما قال: حدثنا، وكان يدلس".
ب/ عمر بن علي بن عطاء المقدَّمي، قال الحافظ ابن سعد في (الطبقات)(7/291):" ثقة، وكان يدلس تدليساً شديداً، وكان يقول: وحدثنا، ثم يسكت ثم يقول: هشام بن عروة، الأعمش..".
ج/ حبيب بن أبي ثابت الكوفي، ثقة جليل، قال الحافظ ابن خزيمة في كتاب (التوحيد) (1/87):" إن حبيب بن أبي ثابت أيضاً مدلسٌ، لم يُعلم أنه سمعه من عطاء"، وقال الحافظ ابن حبان في كتاب (الثقات)(4/137):" كان مدلساً".
د/ عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج، ثقة فاضل، قال الحافظ الدارقطني كما في (سؤالات الحاكم له)(ص174):" شر التدليس تدليس ابن جريج، فإنه قبيح التدليس، لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح مثل إبراهيم بن أبي يحيى وموسى بن عبيدة وغيرهما".
و يوجد آخرون كثر، لكن لعل في هذا القدر كفاية في الجواب عن السؤال والله أعلم.
السؤال الثالث: لماذا لا يعتبر العلماء بتوثيق العجلي؟
و قبل الجواب عن السؤال، أرى أنَّ السؤال خطأٌ من أصله؛ إذ قوله (لا يعتبر) غير صحيح، فلا زال العلماء والمعتنون بتراجم الرواة جرحاً وتعديلاًَ ينقلون من كلام الحافظ العجلي ويروونه -كما سيأتي النقل عن بعضهم بإذن الله تعالى-، بغض النظر هل يوافقونه أو يخالفونه، فهذه مسألة أخرى، ولو قال: هل صحيحٌ أنَّ الإمام العجلي موصوف بالتساهل في التوثيق أم لا؟ لكان السؤال صحيحاً والجواب عليه ظاهراً.
وإنَّ من المؤسف أن ينتشر بين طلبة العلم- وبخاصة من له عناية بالحديث- هذا القول من غير تدقيق فيه وتمحيص، لكن يمكن أن يلتمس العذر لهم!! أنهم وجدوا كلاماً لبعض أهل العلم المبرَّزين من المعاصرين قالوا به- فهؤلاء العلماء أهل الفضل والسبق يدورون بين الأجر والأجرين- لكن عند التأمل والتحقيق يحتاج الأمر إلى تأملٍ كبير في هذا القول وأدلته، وميزانه ميزاناً دقيقاً مبنياً على البرهان والدليل، وسأعرض بإذن الله تعالى مَن قال بهذا القول من العلماء ودليله- إن وجدَ- ومِنْ ثَمَّ أذكر الراجح، والله الموفق.
وعود على بدء، فأقول: إنَّ الجواب عن هذا السؤال من أوجه:
الأول: توطئة وتمهيد:
قبل الخوض في الجواب عن السؤال يحسن أنْ نُترجم للحافظ العجلي ترجمة مختصرة، نتعرَّفُ منها على منزلة هذا العَلَم ومعرفته بالحديث والرجال، وثناء العلماء عليه، ومنزلة كتابه في الجرح والتعديل بين أهل العلم. فأقول:
أ/ اسمه ونسبه و مولده ووفاته:
هو الحافظ أبو الحسن أحمد بن عبدالله بن صالح بن مسلم العجلي الكوفي، نزيل طرابلس الغرب. قال الحافظ الخطيب البغدادي:" كوفي الأصل، نشأ ببغداد، وسمع بها وبالكوفة والبصرة" (تاريخ بغداد)(4/214).
ولد سنة (182هـ)، وطلب العلم سنة (197هـ) وتوفي سنة (261هـ) بطرابلس. ينظر المصدر السابق، و (سير أعلام النبلاء)(12/505).
ب/ ثناء العلماء عليه:
1/ قال الحافظ أبو الحسن اللؤلؤي:" سمعت مشايخنا بهذا المغرب يقولون: لم يكن لأبي الحسن أحمد ابن صالح العجلي الكوفي ببلادنا شبيه، و لا نظير له في زمانه بمعرفة الحديث وإتقانه وزهده" (تاريخ بغداد)(4/214).
2/ قال الإمام الحافظ يحيى بن معين:" هو ثقة ابنُ ثقةٍ ابن ثقة" (تاريخ بغداد)(4/215).
قال الحافظ الوليد الأندلسي معلقاً على قول ابن معين:" إنما قال ابن معين بهذه التزكية لأنه عرفه بالعراق، قبل خروج أحمد ابن عبد الله إلى المغرب، وكان نظيره في الحفظ، إلا أنه دونه في السنِّ، وكان خروجه إلى المغرب أيام محنة أحمد بن حنبل، وأحمد بن عبد الله هذا أقدم في طلب الحديث، و أعلى إسناداً وأجل عند أهل المغرب في القديم والحديث ورعاً وزهداً من محمد بن إسماعيل البخاري ، وهو كثير الحديث، خرج من الكوفة والعراق ، بعد أن تفقه في الحديث، ثم نزل أطرابلس الغرب" (تاريخ بغداد)(4/215).
3/ قال الحافظ عباس بن محمد الدوري تلميذ الإمام الحافظ يحيى بن معين:" إنا كنا نعده مثل أحمد ابن حنبل ويحيى بن معين" (تاريخ بغداد)(4/214) و(تذكرة الحفاظ)(2/561).
4/ قال الحافظ علي بن أحمد بن زكريا الأطرابلسي" إنَّ ابن معين وأحمد بن حنبل قد كانا يأخذان عن العجلي " (تاريخ بغداد)(4/214).
5/ قال الحافظ الخطيب البغدادي:" كان ديناً صالحاً، انتقل إلى بلد المغرب، وسكن أطرابلس، وليس بأطرابلس الشام، و انتشر حديثه هناك" (تاريخ بغداد)(4/214).
7/ قال شيخ الإسلام ابن تيمية الحرَّاني في (منهاج السنة)(1/66):" والمقصود هنا أن العلماء كلهم متفقون على أن الكذب في الرافضة أظهر منه في سائر طوائف أهل القبلة، ومن تأمل كتب الجرح والتعديل المصنَّفة في أسماء الرواة والنقلة وأحوالهم مثل: كتب يحيى بن سعيد القطان وعلي بن المديني ويحيى بن معين والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم الرازي والنسائي وأبي حاتم بن حبان وأبي أحمد بن عدي والدارقطني وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني السعدي ويعقوب بن سفيان الفسوي وأحمد بن صالح العجلي والعقيلي ومحمد بن عبدالله بن عمار الموصلي والحاكم النيسابوري والحافظ عبدالغني بن سعيد المصري، وأمثال هؤلاء الذين هم جهابذة ونقَّاد وأهل معرفةٍ بأحوال الإسناد، رأى المعروف عندهم بالكذب في الشيعة أكثر منهم في جميع الطوائف..".
وقال أيضاً في (المنهاج)(7/34-35):" أنَّا نذكر قاعدة فنقول: المنقولات فيها كثير من الصدق وكثير من الكذب، والمرجعُ في التمييز بين هذا وهذا إلى أهل علم الحديث، كما نرجعُ إلى النحاة في الفرق بين نحو العرب ونحو غير العرب، ونرجع إلى علماء اللغة فيما هو من اللغة وما ليس من اللغة، وكذلك علماء الشعر والطب وغير ذلك، فلكل علمٍ رجالٌ يُعرفون به، والعلماء بالحديث أجلُّ هؤلاء قدراً، وأعظهم صدقاً، وأعلاهم منزلةً وأكثر ديناً.
وهم من أعظم الناس صدقاً وأمانةً، وعلماً وخبرةً، فيما يذكرونه من الجرح والتعديل، مثل: مالك وشعبة وسفيان ويحيى بن سعيد وعبدالرحمن بن مهدي وابن المبارك ووكيع والشافعي وأحمد وإسحاق ابن راهويه وأبي عبيد و ابن معين وابن المديني والبخاري ومسلم وأبي داود وأبي زرعة وأبي حاتم والنسائي والعجلي وأبي أحمد بن عدي وأبي حاتم البستي والدارقطني وأمثال هؤلاء خلق كثير لا يحصى عددهم، من أهل العلم بالجرح والتعديل، وإنْ كان بعضهم أعلم بذلك من بعض، وبعضهم أعدل من بعض في وزن كلامه، كما أنَّ الناس في سائر العلوم كذلك..".
8/ قال الحافظ مؤرخ الإسلام أحمد بن عثمان الذهبي:" الإمام الحافظ الأوحد الزاهد " (سير أعلام النبلاء) (12/505)، وقال في (تذكرة الحفاظ)(2/560):" الإمام الحافظ القدوة".
9/ قال الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي:" كان إماماً، حافظاً، قدوة ، من المتقنين وكان يعد كأحمد ابن حنبل ويحيى بن معين " (شذرات الذهب)(3/266) .
ج/ مكانة كتابه في الجرح والتعديل عند أهل العلم:
إن كتاب الحافظ العجلي المؤلف في الجرح والتعديل من أعظم مؤلفاته، وهو كتاب عظيم النفع، جليل القدر، متين العبارة، مفيد في بابه.
وسبق من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ما يدلُّ على عظم الكتاب والكاتب، وأزيدُ أقوالاً أخرى عن غيره:
1/ قال الحافظ الذهبي- رحمه الله-:" حدث عنه ولده صالح مصنَّفه في الجرح والتعديل، وهو كتابٌ مفيدٌ، يدلُّ على سعة حفظه" (تذكرة الحفاظ)(2/560-561).
2/ وقال أيضاً في (السير)(12/506):" وله مصنَّفٌ في الجرح والتعديل، طالعتُه وعلَّقتُ منه فوائد، يدل على تبحره بالصَّنعةِ وسعة حفظه".
3/ قال الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي:" وكتابه في الجرح والتعديل يدلُّ على سعة حفظه وقوَّة باعه الطويل" (شذرات الذهب)(2/141).
4/ قال الصفدي في (الوافي بالوفيات)(7/79):" روى عنه ابنه صالح بن أحمد كتابه في الجرح والتعديل، وهوكتابٌ مفيدٌ يدلُّ على إمامته وسعة حفظه".
فهذه بعض النقول مما قيل في الإمام العجلي وكتابه، ومنها يظهر لك جلياً مكانته رحمه الله في هذا الفنِّ الشريف وتقدمه بين أهله، وأنَّه من كبار النقاد وعلماء الجرح والتعديل، ومنزلة كتابه وأهمتيه.
ثانياً: هل الحافظ العجلي متساهل؟
و قبل الجواب عن هذه الفقرة، يقال:
أ/ هل وصفَ أحدٌ من الحفاظ العجليَّ بالتساهل في التوثيق أم لا؟
فأقول جواباً: لم أجد أحداً من أهل العلم من الحفاظ قد وصف الحافظ العجلي بالتساهل أو أنه لا يعتمد على توثيقه إذا انفرد بتوثيق راو لم نجد فيه قولاً لغيره .
بل إنَّ الناظر والمتأمل بإنصافٍ فيما تقدَّم نقله عن بعض أهل العلم- وفي ترجمته المطولة- ما يدلُّ على الثناء عليه وأنَّه إمامٌ من أئمة النقد، ومن كبار الحفاظ مع الدين المتين والورع والزهد، وهو يقارن بأحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وهما من أئمة أهل السنة وحفاظ الدنيا، وذلكم الثناء ثبت واستمر وظلَّ حتى العصور المتأخرة كعصر الإمام الذهبي وابن ناصر الدين وغيرهما، فلم يصمه أحدٌ منهم بالتساهل.
لكن حصل في العصر الحاضر مَنْ وصف الأمام العجلي بالتساهل، وأول مَنْ وجدتُه يصفه بذلك هو:
1/ العلامة المحدث ذهبي العصر عبدالرحمن بن يحيى المعلمي –رحمه الله- (ت1386هـ) فقال في (التنكيل)(1/66):" و العجلي قريب منه- أي ابن حبان- في توثيق المجاهيل من القدماء"، و قال في (الأنوار الكاشفة)(ص72):" وتوثيق العجلي وجدته بالاستقراء كتوثيق ابن حبان أو أوسع".
و في تحقيقه لـ(الفوائد المجموعة) تعليقات عدَّة منها مثلاً: (ح رقم 879/252-253) قال معلقاً على ذكر ابن حبان لراوٍ في كتابه (الثقات) و لقول العجلي فيه (تابعي ثقة):" و أما ابن حبان فقاعدته معروفة، والعجلي مثله، أو أشد تسهلاً في توثيق التابعين، كما يعلم بالاستقراء".
وينظر أيضاً: (ح رقم 660/ص202) و (ح 1354/418).
2/ و قال بنحوه أيضاً الإمامُ محدِّث الدنيا محمد ناصر الدين الألباني-رحمه الله- في مواطن عدَّة من كتبه فمن ذلك قوله في (صحيح سنن أبي داود)(7/ ح 2345/361- الكتاب الكبير) بعد نقله توثيق العجلي لراوٍ:" ولعل هذا القول منه كان السبب الذي حملني على أن جودت إسناد الحديث في تعليقي على (المشكاة)، و كان ذلك قبل أن يتبين لي أن العجلي متساهل في التوثيق مثل تساهل ابن حبان أو نحوه، فالحمد لله على هدايته..".
وقال أيضاً في (سلسلة الأحاديث الصحيحة)(2/ رقم 633/ ص218-219):" العجلي معروف بالتساهل في التوثيق ، كابن حبان تماماً ، فتوثيقه مردود إذا خالف أقوال الأئمة الموثوق بنقدهم وجرحهم ".
وينظر أيضاً: (سلسلة الأحاديث الصحيحة)(6/ القسم الأول: تحت رقم 2750/ص572-573)، و (سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة)(12/ رقم 5848/ص760-761).
3/ و كذا أيضاً العلامة محدث اليمن ومجددها مقبل بن هادي الوادعي-رحمه الله- حيث قال كما في كتابه (المقترح في أجوبة بعض أسئلة المصطلح)( رقم 32/37-38) وكان السؤال عن توثيق العجلي، ووجه كونه متساهلاً؟ فأجاب:" عرف بالاستقراء من تفرده – مع ابن حبان- بتوثيق بعض الرواة الذين لم يوثقهم غيرهما، فهذا عرف بالاستقراء، و إلاَّ فلا أعلم أحداً من الحفاظ نصَّ على هذا، والذي لا يوثقه إلا العجلي والذي يوثقه أحدهما أو كلاهما فقد لا يكون بمنزلة صدوق، ويصلحُ في الشواهد والمتابعات، وإن كان العجلي يعتبر أرفعُ في هذا الشأن، فهما متقاربان..".
قلتُ: قول الشيخ مقبل-رحمه الله- (فلا أعلم أحداً من الحفاظ نصَّ على هذا) يُصدِّقُ ما قدَّمته في أول الجواب عن هذه الفقرة، والحمد لله على توفيقه.
ومما سبق نقله عن هؤلاء العلماء الأفاضل، يظهر أنَّ سبب وصم الحافظ العجلي بالتساهل هو:
أولاً / توثيقه لرواة ليس لغيره فيهم كلاماً.
ثانياً / مخالفته لغيره من الحفاظ في عدد من الرواة حيث يوثقهم و يخالفونه في ذلك إما بتضعيف أو تجهيل أو نحو ذلك من أوجه الردِّ.
و الجواب عن هذه المآخذ بما يلي:
أولاً: تقدَّم بيان مكانة الحافظ العجلي وتقدَّمه في الفن و أنَّه من كبار أئمة النقد، فمثله لا يضرُّه تفرده بتوثيق راوٍ؛ إذ ما الفرق بينه وبين غيره من الحفاظ النقاد؟ فإن المنصف المتجرد يجد كبار النقاد والأئمة يتفرد أحدهم بتعديلٍ لا يقوله غيره، وقد يخالف جمهور الحفاظ في بعض الرواة.
فإن عددناه مأخذاً يؤخذ على الحافظ العجلي لزمنا أن نأخذه على سائر أئمة النقد والحفاظ كأحمد ابن حنبل والبخاري ويحيى بن معين وعلي بن المديني وأبي زرعة و أبي حاتم و أبي داود وغيرهم؛ إذ لن ينجو إمام من ذلك!! وعليه فالمتعين في حقِّ المنصف أن يعتبرَ بنقد العجلي توثيقاً وتضعيفاً، ما لم يظهر بالحجة والبرهان خطؤه، والله الموفق.
ثانياً: مخالفة العجلي لغيره من الحفاظ في راوٍ ما لا تعدو أن تكون كغيرها من الأقوال التي تتعارض فيها أقوال أئمة النقد والجرح والتعديل في الراوي. وأقوال الحافظ العجلي في الرواة لا تخلو من ثلاث حالات:
الأولى: أن يتفرد بقول في الرواي تضعيفاً أو تعديلاً ولا يشاركه غيره في الراوي، فهذه تقدم الكلام عليها وأن الواجب اعتبار قوله، ؛إذ إعماله أوجب من إهماله! إلا إن تبين بالبرهان خطؤه.
الثانية: أن يوافق غيره من النقاد تعديلاً وتجريحاً، فهذا ظاهر في القبول.
الثالثة: أن يخالف غيره، فهنا نقول: قد ثبتت إمامة العجلي واعتباره من أئمة النقد - وأنه كان يقرن بأحمد وابن معين، وهو أعلى إسناداً وأكبر سناً من الإمام البخاري- كما تقدم النقل عن جمع من العلماء، وعليه، فهذا المخالفة إن كانت- كما قيل- بتوثيق راو جهله غيره؛ فإنَّ من الوارد جداً أن يعلم براو جهله غيره، وماذا في هذا؟ فكم من راوٍ جهلهُ إمام و عرفه غيره، وسيأتي في الأمثلة ما يدلُّ على هذا بإذن الله.
وإن كانت المخالفة بتوثيق راوٍ ضعفه أو تركه غيره؛ فمن المعلوم والمتقرر لدى أهل العلم بالحديث ورجاله أنَّ اختلاف الأئمة في الرواة تعديلاً و تجريحاً من أظهر ما يكون فالمطالع لـ(تهذيب الكمال) للحافظ المزي مثلاً يجد أمثلة كثيرة جداً جداً في هذا الباب، وهذا مبني على اختلاف اجتهاداتهم،ونظرهم، وإذا كان الأمر كذلك فإنَّ الأمر ينظر له بمنظار قواعد أهل العلم عند تعارض الجرح والتعديل بين النقاد، وهي قواعد يعرفها أهل الفنِّ!.
ثالثاً: مما يدلُّ على اعتبار أهل العلم بتوثيق الحافظ العجلي.
تقدم في الترجمة المختصرة للحافظ العجلي مكانته وتقدمه في الفن، وأن كتابه في (الجرح والتعديل) كتاب عظيم النفع دال على سعة حفظه واطلاعه، لذا فقد مضى الأئمة على اعتماد أقوال العجلي، وحكايتها، بل والرد على من جهَّل راوياً وثبت توثيق العجلي له.
ومما يذكر في هذا المقام أنَّ الإمام الذهبي قد ذكره وعدَّه من الأئمة المعتمدين في الجرح والتعديل في كتابه (ذكر من يعتمد قوله في الجرج والتعديل) (الطبقة الخامسة: رقم 286/ص179) وأول مَنْ ذكر في هذه الطبقة الإمام البخاري.
و ذكره أيضاً الحافظ السخاوي في كتابه (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ) فصل (المتكلمون في الرجال) (344)، وكذا في كتابه الماتع (فتح المغيث)(4/ص 358- ط علي حسين) مبحث (معرفة الثقات والضعفاء).
و سأعرض هنا جملة من العلماء أُدلل بهم على ما قدَّمتُ قبلُ:
1/ شيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم الحراني (ت 728هـ)، في مواطن من كتبه، فمثلاً:
أ/ قال في (اقتضاء الصراط المستقيم)(1/ص236):" وأما عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان: فقال يحيى ابن معين وأبو زرعة وأحمد بن عبدالله: ليس به بأس..".
قلت: أحمد بن عبدالله هو العجلي، فأنت تراه يعول على كلام العجلي وينقله من غير وصمه بالتساهل أو نحوه.
ب/ وقال أيضاً (المصدر السابق)(1/237):" وأما أبو منيب الجرشي: فقال فيه أحمد بن عبدالله العجلي: هو ثقة،وما علمت أحداً ذكره بسوء وقد سمع منه حسان بن عطية، وقد احتج الإمام أحمد وغيره بهذا الحديث".
قلت: لم يذكر شيخ الإسلام أحداً وثقه إلا العجلي، فنقل قوله من غير تعقب, معتمداً عليه!!
ج/ وقال أيضاً كما في (مجموع الفتاوى)(24/349) مجيباً عمن تكلم في راوٍ يسمى: عمر بن أبي سلمة، بأنَّ شعبة تركه، وتكلم فيه بعض الأئمة، فقال:" الجواب على هذا من وجوه:
أحدها: أن يقال كل من الرجلين قد عدَّله طائفة من العلماء، وجرحه آخرون، أما عمر فقد قال فيه أحمد بن عبدالله العجلي: ليس به بأس، وكذلك قال يحيى بن معين: ليس به بأس، وابن معين وأبو حاتم من أصعب الناس تزكية..".
قلت: ظاهر من كلامه اعتماده في الجواب على قول العجلي وابن معين، في معارضة من جرَّحه!.
2/ الإمام الحافظ مؤرخ الإسلام شمس الدين أحمد بن عثمان الذهبي (ت741هـ)، تكلم في مواطن من كتبه، ففي بعضها اعتماد على توثيقه حيث يقول (وثقه العجلي) ويسكت ولا يتعقب، ومنها ما يعتبر قوله في الراوي جرحاً أو تعديلاً ويحكيه مع أقوال أئمة آخرين، فمثلاً:
أ/ أبان بن إسحاق المدني، ترجم له في (الميزان)(1/ص5) وقال:" قال ابن معين وغيره: ليس به بأس، وقال أبو الفتح الأزدي: متروك. قلت- أي الذهبي-: لا يترك، فقد وثقه أحمد العجلي، وأبو الفتح يسرفُ في الجرح وله مصنف كبير إلى الغاية في المجروحين، جمع فأوعى، وجرح خلقاً بنفسه لم يسبقه أحد إلى التكلم فيهم، وهو المتكلم فيه".
تنبيه: حصل في المطبوع من (الميزان) خطأ، حيث جاء فيه (وثقه أحمد والعجلي) فالواو زائدة، وهي خطأ، ينظر تعليق الدكتور بشار عواد على (تهذيب الكمال) للحافظ المزي (2/ص6) ترجمة (أبان بن إسحاق).
ب/ أسلم بن الحكم، ترجم له في (الكاشف)(1/رقم 343/242) وقال:".. وثَّقه العجلي".
فلم ينقل توثيقه عن غيره!
ج/ عبدالله بن فروخ، عن مولاته عائشة، ترجم له في (الميزان)(2/ رقم4505/471) مصدراً قول أبي حاتم فيه وهو:" مجهول" ثم علَّق فقال:" قلتُ: بل صدوق مشهور، حدث عنه جماعة، وثَّقه العجلي، وما ذكر أبو حاتم له إلا راوياً واحداً، وهو مبارك بن أبي حمزة الزبيدي، وقال: مبارك أيضاً مجهول.". ينظر قول أبي حاتم في (الجرح والتعديل) لابنه (5/رقم638/137).
قلت: عبدالله بن فروخ هذا ترجم له الذهبي أيضاً في (الكاشف)(1/رقم 2905/584) فقال:" ثقة"، فهذا الراوي كما ترى لم يذكر الذهبي-رحمه الله- في ترجمته السابقة إلا توثيق العجلي فحسبُ، وعارض به تجهيل أبي حاتم، مما أداه ذلك إلى الحكم عليه بأنه صدوق، وفي الموطن الآخر: ثقة، فهذا دليل واضح على اعتباره رحمه الله بكلام الحافظ العجلي وأخذه به.
د/ معلى بن منصور الرازي، ترجم له في (الكاشف)(2/رقم5564/282) وقال:" قال العجلي: ثقة نبيل صاحب سنة، طلبوه على القضاء غير مرة فأبى، وكان من كبار أصحاب أبي يوسف ومحمد".
وهذا نصٌّ واضحٌ في اعتباره كلام العجلي؛ حيث لم ينقل في الترجمة سواه!.
هـ/ عبدالواحد بن عبدالله النصري، ترجم له في (الميزان)(4/ رقم 5294/674):"..صدوق، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال أبو الحسن الدارقطني والعجلي وغيرهما: ثقة".
و في هذا النص تبيين واضح على اعتبار كلامه و حكايته مع كلام غيره من الحفاظ، والله أعلم.
وينظر: (ميزان الاعتدال)(1/450) و(4/674).
3/ الإمام الحافظ المتقن جمال الدين أبو الحجاج المزي (ت742هـ)، وكتابه (تهذيب الكمال في أسماء الرجال) خير شاهد على اعتباره بكلام الحافظ العجلي في الراوي وسياقه له إما وحده إن لم يقف على قول لغيره و إما مع قول غيره من الأئمة جرحاً أو تعديلاً، والأمثلة كثيرة جداً، لكن أذكر بعضاً منها:
أ/ مثال لما يذكر فيه قول العجلي وحده دون غيره، إسحاق بن عبدالله بن الحارث القرشي، ذكر في ترجمته طبقته ومن قال بها، ثم قال:" وقال أحمد بن عبدالله العجلي: مدني ثقة" (تهذيب الكمال)(2/443).
ب/ ومثله أيضاً ما قاله في ترجمة: أسماء بن الحكم الفَزَاري، حيث قال:" قال العجلي: كوفي تابعي ثقة" ولم ينقل توثيقه عن غيره، ثم نقل قولاً للإمام البخاري لحديث رواه الفزاري، وقال فيه:" لم يتابع عليه"، وردَّ على قول البخاري بردٍّ مطولٍ، و بدايته:" قلت: ما ذكره البخاري رحمه الله، لا يقدحُ في صحة هذا الحديث و لا يوجب ضعفه، أما كونه لم يتابع عليه، فليس شرطاً في صحة كل حديث صحيح أن يكون لراويه متابعٌ عليه..." (تهذيب الكمال)(2/533-535).
ج/ وأما من أمثلة نقله لقول العجلي مع قول غيره، فهذا كثير جداً، فمنه: ما جاء في ترجمة إبراهيم بن عقيل بن معقل اليماني الصنعاني، نقل فيه قول ابن معين والعجلي، وحادثة لأحمد بن حنبل معه. (تهذيب الكمال)(2/154-155).
د/ وأيضاً: بُرْد بن أبي زياد الهاشمي، نقل فيه توثيق العجلي والنسائي. (4/43).
وينظر: (تهذيب الكمال)(1/344) و(2/173 و213 و292 و521 و530) و (4/51 و252 و347) وغيرها كثير.
4/ الإمام الحافظ العلامة شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أبي بكر الدمشقي المعروف بابن القيم (ت751هـ)، فقد نقل في مواطن من كتبه أقوالاً للحافظ العجلي معتبراً بها معولاً عليها، غير ناقد لها بحجة تساهله أو نحو ذلك، فمن ذلك:
أ/ ما قاله في (تهذيب السنن)(1/173-174) مجيباً على ابن حزم لتضعيفه حديثاً رواه أبو داود بسبب شريك وخصيف، وكلاهما ضعيف، قال:" شريك هذا هو القاضي، قال زيد بن الهيثم: سمعت يحيى بن معين يقول: شريك ثقة، وقال أيضاً: قلت ليحيى بن معين: روى يحيى بن سعيد القطان عن شريك؟ قال: لم يكن شريك عند يحيى بشيء، وهو ثقة ثقة. وقال العجلي: ثقة حسن الحديث..".
2/ قال أيضاً في (زاد المعاد)(5/708-709) راداً على ابن حزم في تضعيفه لإبراهيم بن طهمان، وأنَّه من الحفاظ الأثبات الثقات الذين اتفق الأئمة الستة على إخراج حديثه، ومنهم الشيخان، ولم يحفظ أن جرحه أو خدشه عن أحد، وقال :"..عن ابن المبارك: صحيح الحديث، وقال عبدالله بن أحمد بن حنبل عن أبيه، وأبي حاتم: ثقة، وقال عبدالله بن أحمد بن حنبل عن يحيى بن معين: لا بأس به، وكذلك قال العجلي، وقال أبو حاتم: صدوق حسن الحديث....".
وينظر: (الفروسية) له (ص 117 و132-134).
5/ الحافظ المحدث المؤرخ أبو المحاسن محمد بن علي بن الحسن الحسيني الدمشقي (ت765هـ). وجدت قولاً له فيه اعتماد على توثيق العجلي، حيث قال في (الإكمال في ذكر من له رواية في مسند أحمد سوى من ذُكر في تهذيب الكمال)(1/ رقم 115/170) ترجمة: جندب بن عبدالله الوالبي، قال:" قال العجلي: كوفي ثقة".
6/ الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي (ت795هـ) تكلم في مواطن، منها:
أ/ قال في (جامع العلوم والحكم)(1/ ح16/ص 362- ط شعيب) شارحاً حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: ( لا تغضب) فردد مراراً، قال: ( لا تغضب) رواه البخاري.
قال:" يغلب على الظنِّ أن السائل هو جارية بن قدامة، ولكن ذكر الإمام أحمد عن يحيى القطان أنه قال: هكذا: قال هشام، يعني أن هشاماً ذكر في الحديث أن جارية سأل النبي صلى الله عليه وسلم. قال يحيى: وهم يقولون: لم يُدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا قال العجلي وغيره: إنه تابعي وليس بصحابي".
قلت: و هو ظاهر في اعتماده على قول العجلي.
ب/ وقال في (جامع العلوم والحكم) أيضاً (2/ ح41/395) شارحاً حديث ابن عمرو مرفوعاً (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به).
:" قلت: تصحيح هذا الحديث بعيد جداً من وجوه: ..- فذكر عدة أوجه ومنها قوله- ومنها: أن في إسناده عقبة بن أوس السدوسي البصري، ويقال فيه: يعقوب بن أوس أيضاً، وقد خرج له أبوداود والنسائي وابن ماجه...وقد وثقه العجلي وابن سعد و ابن حبان، وقال ابن خزيمة: روى عنه ابن سيرين مع جلالته. وقال ابن عبدالبر: مجهول. وقال الغلابي في (تاريخه): يزعمون أنه لم يسمع من عبدالله بن عمرو، وإنما يقول: قال عبدالله بن عمرو، فعلى هذا تكون رواياته عن عبدالله بن عمرو منقطعة، والله أعلم".
قلت: يظهر للمتأمل في كلامه السابق عدم اعتماده على تجهيل ابن عبدالبر، وإنما الميل إلى توثيقه، بناء على توثيق بعض أهل العلم له ومنهم العجلي!، وإنما المأخذ عنده الانقطاع في رواية عقبة عن ابن عمرو، والله أعلم.
ج/ وقال في (شرح علل الترمذي)(2/857):" قال العجلي: إذا قال سفيان بن عيينة: عن عمرو، سمع جابراً، فصحيحٌ. وإذا قال سفيان: سمع عمرو جابراً؛ فليس بشيء.
يشيرُ إلى أنه إذا قال: عن عمرو، فقد سمعه منه، وإذا قال: سمع عمرو جابراً، فلم يسمعه ابن عيينة من عمرو".
قلت: فأنت ترى أنَّه لم يكتف بنقل قول الحافظ العجلي فقط، بل وشرحه وبيانه، وهذا يدلك على اعتماده واعتباره لقوله، والله أعلم.
وينظر أيضاً: (شرح العلل)(2/ص819 و848 و 858).
7/ الحافظ أبو زرعة أحمد بن عبدالرحيم العراقي (ت826هـ) في مواطن:
أ/ قال في (ذيل الكاشف)(رقم 172/60):" جارية بن قدامة التميمي البصري، مختلف في صحبته...وثقه العجلي، وقال: إنه تابعي، وابن حبان، وقال: إنه صحابي".
تنبيه: وقع خطأ في المطبوع من (الذيل) إذ فيه (وقال إنه تقي) والصواب كما أثبت، كما في (كتاب العجلي)(معرفة الثقات من رجال أهل العلم والحديث ومن الضعفاء وذكر مذاهبهم وأخبارهم)(1/ رقم 207/264).
ب/ ترجم لجندب بن عبدالله الوالبي، فقال:" قال العجلي: كوفي تابعي ثقة" (ذيل الكاشف)(رقم197/64).
ج/ وترجم لجندل بن والق الثعلبي، وقال:" وعنه خ وأبو زرعة وأبو حاتم،وقال: صدوق...وثقه ابن حبان، وقال العجلي: لا بأس به" (ذيل الكاشف)(رقم 199/64).
د/ وترجم لربيعة بن لقيط التجيبي، وقال:" وثقه العجلي وابن حبان"(ذيل الكاشف)(رقم 439/104).
د/ وترجم لرجاء بن أبي رجاء الباهلي، وقال:" وثقه العجلي وابن حبان" (ذيل الكاشف)(رقم 441/104).
هـ/ وترجم لعبدالله بن غالب، وقال:" وثقه العجلي وابن حبان" (الذيل)(رقم 810/163).
وينظر: (رقم 527/119) و(رقم 1665/301).
8/ الحافظ المحقق أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت852هـ)، فقد تكلَّم في مواطن كثيرة جداً من كتبه، فتجده يعتبر قوله و ينقله مع أقوال غيره من الأئمة، وهذا كثير جداً لمن طالع كتابه (تهذيب التهذيب) فلينظر، و في مواطن ينتقد بعض الحفاظ تجهيلهم لبعض الرواة بتوثيق العجلي لهم، وله مسلك آخر وهو اعتماد توثيق العجلي للرواي مع عدم وجود موثق له غيره، وفي مواطن أخرى ينقل يقول (وثقه العجلي) ويسكت!.
أ/ فمن أمثلة نقده لبعض الحفاظ في تجهيلهم لبعض الرواة ما جاء في (البراء بن ناجية) قال في (تهذيب التهذيب)(1/427):" قرأت بخط الذهبي في (الميزان): فيه جهالة، لا يُعرف. قلت- أي ابن حجر- قد عرفه العجلي وابن حبان فيكفيه". وقال في (التقريب)(رقم 656/ص165):" ثقة".
ب/ وقال في ترجمة (سعيد بن حيان التيمي الكوفي) من (تهذيب التهذيب)(4/19):"..قال العجلي: كوفي ثقة، ولم يقف ابن القطان على توثيق العجلي فزعم أنه مجهول".
ومن أمثلة توثيقه لبعض الرواة مع عدم ذكره لغير العجلي موثِّقاً له:
أ/ قال مترجماً لحفص بن عمر بن عبيد الطنافسي في (التقريب) (رقم 1426/259):" ثقة "، و عند النظر في ترجمته المطولة من (تهذيب التهذيب)(2/409) نجده لم يذكر موثقاً غير العجلي.
ب/ قال مترجماً لأم الأسود الخزاعية، ويقال: الأسلمية في (التقريب)(رقم 8800/1377):"ثقة"، وعند النظر في ترجمتها من (تهذيب التهذيب)(12/459) نجده لم يذكر موثِّقاً غير العجلي.
وهناك أمثلة أخرى.
ومن أمثلة نقله لتوثيق العجلي و لا يعقب:
أ/ قوله في ترجمة إبراهيم بن أبي موسى الأشعري:" له رؤية، ولم يثبت له سماع إلا من بعض الصحابة، ووثقه العجلي" (رقم 201/110).
ب/ قوله في ترجمة زياد بن أبي مريم :" وثقه العجلي" (التقريب)(رقم 2111/348).
ج/ قوله في ترجمة سعيد بن حيان التيمي الكوفي:" وثقه العجلي" (التقريب)(رقم 2302/376).
د/ قوله في ترجمة سيف الشامي :" وثقه العجلي" (التقريب)(رقم2744/428).
وغيرها كثير.
وتبعه على هذه أيضاً تلميذه الحافظ السخاوي (ت902هـ) ينظر (التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة)(1/ص 300 و335 و 339 و438 و529) و(2/30 و55) وغيرها كثير.
رابعاً: الخلاصة:
مما تقدَّم يظهر للمنصف بجلاء أنَّ القول بتساهل الحافظ العجلي ليس صحيحاً فيما يظهر لي، و أن الحافظ العجلي له مكانة ومنزلة عالية بين الحفاظ والنقاد، وأنَّ كتابه يعد من أعظم الكتب وأنفعها كما شهد بذلك عدد من أهل العلم، فالله أسأل أن يرحم جميع علمائنا السابقين واللاحقين، وأن يغفر لنا ولهم، والحمد لله أولاً وآخراً ظاهراً وباطناً،وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

أبو أنس بشير بن سلة الأثري
30-Sep-2010, 01:27 AM
السؤال الرابع: يقال: إن شرط النسائي أقوى من شرط البخاري فلما لم يكن سنن النسائي بمستوى الصحيح؟
الجواب: لعل هذا السؤال مبعثه ما قرأه السائل في (شروط الأئمة الستة) لابن طاهر (ص26) قوله: سألت الإمام أبا القاسم سعد بن علي الزنجاني بمكة عن حال رجلٍ من الرواة، فقلتُ: إنَّ أبا عبدالرحمن النسائي ضعفه؟ فقال:" يا بُنيَّ إنَّ لأبي عبدالرحمن في الرجال شرطاً أشد من شرط البخاري ومسلم".
و هذا النصُّ لا يُفهم منه تقديم (السنن) للنسائي على الصحيحين أو أحدهما أو مساواةٍ لهما أو لأحدهما، وبيانه:
أولاً: أنَّ الإمام النسائي لم يشترط الصِّحة في كتابه، فضلاً عن أن يصفه بالصَّحيح، ومما يدلُّ على ذلك أنَّ المأثور في ذلك قوله:" لما عزمتُ على جمع كتاب السُّنن، استخرت الله تعالى في الرِّواية عن شيوخٍ كان في القلبِ منهم بعض الشيء، فوقعت الخِيَرةُ على تركهم، فتركتُ جملةً من الحديث كنتُ أعلو فيه عنهم" أخرجه ابن طاهر في (شروط الأئمة الستة)(ص 26) بإسناد صحيح.
ومن هؤلاء الشيوخ الذين ترك الحديث عنهم عبدالله بن لهيعة، كما في (سؤالات السلمي للدارقطني)(رقم 33/ص114).
ينظر: (برنامج التجيبي)(ص116) و (بغية الراغب المتمني في ختم النسائي) للسخاوي (ص49) و(زهر الربى) للسيوطي(1/ص4).
فأنت ترى أنَّّه لم يصف كتابه بـ(الصحيح) وإنما وصفه بـ(السنن)، وفرقٌ بينهما، وكذا وصفه به جماعة من الحفاظ كالحافظ أبي عبدالله الحاكم في (معرفة علوم الحديث)(ص 82-83) حيث قال:"و من نظرَ في كتاب (السنن) له تحيَّرَ في حُسن كلامه"، و ابن الصلاح في (علوم الحديث)(ص37 و40) و المزيِّ في (تهذيب الكمال)(1/328) و ابن كثير في (اختصار علوم الحديث)(1/116)، وسبط ابن العجمي في (حاشيته على الكاشف)(1/ص195) و ابن حجر في (تهذيب التهذيب)(1/ 36) و السَّخاوي في (فتح المغيث)(1/98)، وغيرهم.
ثانياً: أنَّ هذا القول لم يُسلِّم به بعض الحفاظ، كالحافظ ابن كثير، حيث قال في (اختصار علوم الحديث)(1/116-117):" وقول..أنَّ له شرطاً في الرجال أشد من شرط مسلمٍ، غيرُ مُسَلَّمٍ؛ فإنَّ فيه رجالاً مجهولين إما عيناً أو حالاً، وفيهم المجروح، وفيه أحاديث: ضعيفةٌ و مُعلَّلة ومنكرةٌ، كما نبهنا عليه في (الأحكام الكبير)".
ثالثاً: أنَّ كتاب (السنن) للحافظ النسائي جمع الصَّحيح وغيره، وإن كان هو أقل الكتب بعد الصحيحين حديثاً ضعيفاً، قال الحافظ ابن رشيد:" فكتاب النسائي أقل الكتب بعد الصحيحين حديثاً ضعيفاً و رجلاً مجروحاً، ويقاربه كتاب أبي داود وكتاب الترمذي، ويقابله في الطرف الآخر كتاب ابن ماجه، فإنه تفرد فيه بإخراج أحاديث عن رجال متهمين بالكذب وسرقة الأحاديث" من (النكت على كتاب ابن الصلاح)(1/484)، و ينظر: (البحر الذي زخر)(3/1159-1164).
ونحوه قال الحافظ السخاوي في (بغية الراغب)(ص90).
ولهذا قال الحافظ ابن الصَّلاح في (علوم الحديث)(ص21) لما تكلم عن الزيادات على الصحيحين قال: " و لا يكفي في ذلك مجرد كونه موجوداً في كتاب أبي داود وكتاب الترمذي، وكتاب النسائي، وسائر مَنْ جمعَ في كتابه بين الصحيح وغيره".
رابعاًً: لا يوجد أحدٌ من أهل العلم- حسب علمي- جعلَه في منزلة الصحيحين أو أحدهما أو مساوٍ لهما، قال النَّاظم السيوطي في (ألفيته)(ص 10- بشرح أحمد شاكر):
( وليس في الكتبُ أصحُّ منهما ... بعدَ القُرآن ولهذا قُدِّما ).
و أما قول أبي عبدالله بن رُشيد:" إنه أبدع الكتب المصنَّفة في السُّنن تصنيفاً وأحسنها توصيفاً، وهو جامع بين طريقتي البخاري و مسلم مع حظٍّ كبير من بيان العلل التي كأنها كِهانة من المتكلِّم" نقله الحافظ السخاوي في (بغية الراغب)(ص48).
وينظر (النكت على كتاب ابن الصلاح)(1/484) و(البحر الذي زخر) للسيوطي (3/1159).
فإنَّ هذا منه لا يدلُّ على مساواتهما فضلاً عن كونه أعلى منهما! غاية ما فيه بيان مزية كتاب السُّنن من كونه جمع هذه الطرائق البديعة في التأليف، وتفصيل ذلك وبيانه في كتاب الحافظ السخاوي (بغية الراغب) من (ص27) وما بعده.
خامساً: قال الحافظ ابن منده قال: سمعت محمد بن سعد البارودي يقول:" كان من مذهب أبي عبدالرحمن النسائي أن يخرج عن كلِّ مَن لم يجمع على تركه" ثم قال ابن منده:" وكذلك أبو داود السجستاني يأخذ مأخذه ويخرِّج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره؛ لأنه أقوى عنده من رأي الرجال".
ينظر: (علوم الحديث) لابن الصلاح (ص37) و (شروط الأئمة الستة) لابن طاهر (ص19) و(مختصر سنن أبي داود) للمنذري (1/8) و(شرح الألفية) للعراقي (1/103) و (النكت) (1/482) و (فتح المغيث) (1/98-99) و(بغية الراغب)(ص54-55).
قال الحافظ السخاوي في (بغية الراغب)(ص55) و(فتح المغيث) (1/99) معلقاًً على قول ابن منده :" يعني في عدم التقيُّد بالثقة، والتخريج لمن ضُعف في الجملة، وإن اختلف صنيعهما".
قال الحافظ العراقي عن هذا المذهب:" مذهب مُتَّسعٌ". (شرح الألفية)(1/103).
وقال السخاوي:" هو مذهب متسعٌ إن حُملَ على ظاهره، لاقتضائه التخريج لجُلِّ الضعفاء وليس الواقع كذلك، بل الحق إرادته إجماعاً خاصاً، وذلك أن كل طبقة من المتكلمين في الجرح والتعديل لا لا تخلو من متشدد ومتوسط، فمتى اتفق الفريقان على ترك واحد تجنَّبه النسائي، بخلاف ما إذا ضعَّفه المتشدد ووثقه الآخر". وهو توجيه الحافظ ابن حجر لكلام البارودي ينظر (النكت)(1/482-483)، وينظر (فتح المغيث)(1/98).
فبالتأمل فيما سبق هنا يظهر لك جلياً الفرق بين السنن و الصحيحين أو أحدهما، إذ ليس فيهما مثل أو نحو هذا الشرط!!
سادساً: قال الحافظ ابن طاهر في (شروط الأئمة الستة)(ص17-18):" فاعلم أنَّ شرط البخاري ومسلم أن يخرجا الحديث المتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور من غير اختلاف بين الثقات الأثبات، ويكون إسناده متصلاً غير مقطوع، فإن كان للصحابي راويان فصاعداً فحسن وإن لم يكن له إلا راو واحد إذا صح الطريق إلى ذلك الراوي أخرجاه، إلا أن مسلماً أخرج أحاديث أقوام ترك البخاري حديثهم لشبهة وقعت في نفسه،و أخرج مسلم أحاديثهم بإزالة الشبهة.." إلى آخر كلامه.
علَّق الحافظ العراقي على هذا القول معترضاً في (شرح الألفية)(1/66) بقوله:" ما قاله ليس بجيد؛ لأن النسائي ضعَّف جماعة أخرج لهم الشيخان أو أحدهما".
و أجيب عن اعتراض الحافظ العراقي:" بأنهما أخرجا من أُجمع على ثقته إلى حين تصنيفهما، فلا يقدحُ في ذلك تضعيف النسائي بعد وجود الكتابين" من (البحر الذي زخر)(2/699).
وقال الحافظ ابن حجر:" تضعيف النسائي إن كان باجتهاده أو نقله عن معاصرٍ، فالجواب ذلك- أي ما تقدم قبلُ- وإن نقله عن متقدِّمٍ، قال: ويمكن أن يجاب: بأنَّ ما قاله ابن طاهر هو الأصل الذي بنيا عليه أمرهما، وقد يخرجان عنه لمرجح يقوم مقامه". نقله عنه الحافظ السيوطي في (البحر الذي زخر) (2/700).
سابعاً: قد يقال: ما القول إذن في وصف بعض أهل العلم من الحفاظ لكتاب (السنن) للنسائي بـ(الصحيح) كأبي علي النسابوري و ابن السكن وأبي أحمد بن عدي والدارقطني والخطيب وأبي طاهر السِّلَفي والذهبي في بعض المواضع، وفي (تذكرة الحفاظ) و(السير) قال:" صاحب السنن"!.
وقال فيه الحافظ أبو طاهر السِّلفي لما ذكر الكتب الخمسة ومنها السنن للنسائي قال:" اتفق على صحتها علماء الشرق والغرب".
ينظر: (تاريخ بغداد)(11/397) و (التقييد لمعرفة السنن والمسانيد)(1/152) و (علوم الحديث) لابن الصلاح (ص40) و(الكاشف) ترجمة(النسائي)(1/ رقم 39/195) و (الموقظة)(ص 55- فصل آداب المحدث) و (تذكرة الحفاظ)(2/698) و(سير أعلام النبلاء)(14/125) و (البدر المنير) لابن الملقن (1/ص 306-307) و (النكت على كتاب ابن الصلاح) (1/480) و(فتح المغيث)(1/100) و(بغية الراغب المتمني)(ص 50) و(البحر الذي زخر)(3/1171).
فالجواب: أنَّ هذا القول لَم يسلم من الاعتراض والرَّدِّ، فقد عارضه أئمة غيرهم، فقد قال الحافظ ابن الصلاح (علوم الحديث)(ص 40):" هذا تساهلٌ؛ لأنَّ فيها ما صرَّحوا بكونه ضعيفاً أو منكراً أو نحو ذلك من أوصاف الضعف".
وقال الحافظ العراقي في (ألفيته) (1/87- مع شرحها فتح المغيث):
" ومَنْ عليها أطلق الصحيحا... فقد أتى تساهلاً صريحاً".
و بنحو قول ابن الصلاح قال السخاوي في (فتح المغيث)(1/100) وكذا الحافظ السيوطي في (البحر الذي زخر)(3/1171)، وقال الحافظ ابن كثير في (اختصار علوم الحديث)(1/116):" فيه نظرٌ.." ثم ذكر العبارة التي تقدَّمت في (ثانياً)، وقال في (1/ص120) راداً قول السلفي السابق بأنَّه:"تساهلٌ منه، وقد أنكره ابن الصلاح وغيره"، وعلَّق الحافظ ابن الملقن في (البدر المنير)(1/ص307-ط دار الهجرة) على كلام السِّلفي:" لا يخلو من نزاعٍ".
فالأمر كما سبق أنَّه لم يسم كتابه بالصحيح، ومع هذا فهو أقل الكتب بعد الصحيحين حديثاً ضعيفاً، والله أعلم.
تنبيهات:
التنبيه الأول: قد يقول قائل: ورد في (رابعاً) قولك: أنَّك لم تجد أحداً من أهل العلم جعل (السنن) للنسائي في منزلة الصحيحين أو أحدهما أو مساوٍ لهما أو لأحدهما، مع العلم بأنَّ بعض المغاربة قد صرَّح بتفضيل كتاب النسائي على صحيح البخاري، وقال:" إن مَنْ شَرَطَ الصِّحَّة فقد جعل لمن لم يستكمل في الإدراك سبباً إلى الطعن على ما لم يُدْخِلْ، وجعل للجدال موضعاً فيما أَدْخَلَ" نقله الحافظ السخاوي في (فتح المغيث)(1/34) و(بغية الراغب)(ص48).
فالجواب:
أ/ لا يُعرف قائل هذا القول، فإنَّه محكي عن بعض المغاربة! و لا تُعلم منزلته في العلم وبخاصة في علم الحديث، و القول لا يعتبر إلا بعد أن يعرف قائله ودليله، وهذا مفقود هنا، ومما يدلُّ على هذا، ما يرد في فقرة:
ب/ حيث قال الحافظ السخاوي عقب نقله لهذا القول في (فتح المغيث)(1/35):" هو قولٌ شاذٌّ، لا يُعوَّلُ عليه حكماً ولا تعليلاً، والحقُّ أنهما لم يلتزما حصر الصَّحيح فيما أودعاه كتابيهما".
وقال في (بغية الراغب)(ص48):" هو كلامٌ ساقطٌ حكماً وتعليلاً، وإن اعتمده المجد البرماوي فيما بلغني عنه".
ج/ حتى من نصَّ على ذكره في كلامه السابق ممن اعتمد القول السابق، عاد فعلَّق فيما نسب إلى البرماوي مشككاً في صحته عنه:" وأستغفر الله من حكاية كلِّ هذا، بل كان علامة.." (الضوء اللامع)(2/297).
وعليه فهذا القول لا يمكن التعويل عليه، فضلاً عن الاعتماد عليه، والله أعلم.
التنبيه الثاني:
قد يقول قائل أيضاً: ألم يُرجِّح الحافظ الذهبي والتقي السُّبكي الإمامَ النسائي على الإمام مسلم، حيث قال الذهبي في (السير)(14/133):" هو أحذق بالحديث وعلله ورجاله من مسلمٍ ومن أبي داود و من أبي عيسى، وهو جارٍ في مضمار البخاري وأبي زرعة".
وقال التاج السبكي:" سألت شيخنا الذهبي: أيهما أحفظ مسلمٌ أو النسائي؟ فقال: النسائي. ثم ذكرتُ ذلك لوالدي فوافق عليه" (طبقات الشافعية الكبرى)(3/14).
فالجواب: كما قاله الحافظ السخاوي في (بغية الراغب)(ص49):" وإن رجَّح كلٌّ من الذهبي والتقي السبكي..الإمام النسائي على الإمام مسلم: فترجيح العالِم وإن كان ظاهراً في ترجيح مصنًَّفه، فذاك في الغالب، و إلا فرب مرجوحٍ يكون مصنَّفه أرجح".
التنبيه الثالث:
قد يقول قائل: نفيت أنْ يكون الإمام النسائي قد سمى كتابه بـ(الصحيح) أو شرط الصحة، فكيف التوفيق بين هذا النفي، وبين ما يلي:
أ/ ما ذكره الحافظ ابن الأثير في (مقدمة جامع الأصول)(1/ص197) حيث قال:" سأل بعض الأمراء أبا عبدالرحمن عن كتابه (السنن) أكله صحيحٌ؟ فقال: لا، قال: فاكتب لنا الصحيح منه مجرداً" ثم قال ابن الأثير:" فصنع المجتبى فهو المجتبى من السنن، تركَ كل حديث أورده في السنن مما تكلم في إسناده بالتعليل". ينظر (البحر الذي زخر)(3/1168-1169) و(بغية الراغب)(ص53) وسلَّم بها!!.
ب/ ما قاله تلميذ الإمام النسائي محمد بن معاوية بن الأحمر:" كتاب النسائي كلُّه صحيح، وبعضه معلولٌ، إلا أنَّه لم يُبين علته، والمنتخب منه المسمى بالمجتبى صحيحٌ كله" من (النكت على كتاب ابن الصلاح)(1/484).
الجواب: يجاب عما ذُكر بما يلي، أما:
عن الفقرة (أ)، فمن وجوه:
الأول: أنَّ القصة لم يذكر لها الإمام ابن الأثير سنداً يمكن الرجوع والنظر فيه، ولم أجد مَن أسندها!.
الثاني: أنَّ هذه الحكاية غير صحيحة، و قد بيَّن ذلك الحافظ الذهبي رحمه الله، بعد أن ذكرها عن ابن الأثير قال:" قلتُ: هذا لم يصح، بل المجتبى اختيار ابن السُّنِّي".
الثالث: قال العلاَّمة عبدالصمد شرف الدين في مقدمة تحقيقه لـ(السنن الكبرى) للنسائي (1/19) :"هكذا ذكر ابن الأثير هذه الواقعة المزعومة بين أمير مجهول، وبين إمام من حفاظ الحديث، وحامليه في عصره بدون أي إسناد في إثباتها..".
عن الفقرة (ب) فمن وجوه أيضاً:
الأول: أنَّ القول ذكره الحافظ ابن حجر بغير إسناد يمكن الرجوع إليه والنظر فيه، فبين الحافظ ابن حجر و ابن الأحمر مفاوز، وهو- أي ابن حجر- لم يشترط الصحة فيمن علَّق عنه النقل في كتابه (النكت) حتى يطمئن إلى القول!
الثاني: أنَّ قول ابن الأحمر يصف كتاب (السنن) في بدء كلامه، ويريد به (الكبرى)، وأنَّ بعض أحاديثه معلولة، لكن الإمام النسائي " لم يبين علته"، وهذه العبارة تستوقف الباحث الجاد كثيراً؛ ذلك أنَّ المتأمل في كتاب (السنن الكبرى) للإمام النسائي يظهر بجلاء مدى عنايته رحمه الله ببيان علل الأحاديث، وهذا الأمر أكثر من أن يُذكر في مثل هذا المقام، فمثلاً: أسند الإمام النسائي في (الكبرى) (كتاب الطهارة/ باب المسح على العمامة مع الناصية) (1/ رقم 109/ص115-ط شعيب) حديثاً من طريق بكر بن عبدالله المزني عن حمزة بن المغيرة بن شعبة عن أبيه قال: (تخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فتخلفت معه...- وفيه- فغسل ذراعيه ومسح بناصيته وعلى العمامة وعلى خفيه).
قال عقبه:" قال أبو عبدالرحمن: وقد روى هذا الحديث إسماعيل بن محمد بن سعد عن حمزة بن المغيرة، ولم يذكر العمامة".
وينظر: (1/رقم 129/124) و1/ رقم 155/135) و(1/ رقم 312/201) و(1/رقم 329/209) و غيرها كثير جداً.
الثالث: قد نصَّ جمع من الحفاظ على عناية الإمام النسائي ببيان العلل، ومن ذلك قول الحافظ ابن رشيد:" وهو جامع بين طريقتي البخاري ومسلم مع حظٍّ كبير من بيان العلل التي كأنها كهانة"، (بغية الراغب)(ص48).
وقال الحافظ الذهبي في (السير)(14/125):" الإمام الحافظ الثبتُ شيخ الإسلام، ناقدُ الحديث.." وقال :" كان من بحور العلم، مع الفهم والإتقان، والبَصر، ونقد الرجال، وحسن التأليف" (المصدر السابق)(14/127). وسبق النقل عنه أيضاً في بيان تقدّمه على مسلم في علل الحديث ورجاله!
فإذا كانت هذه هي مكانته في معرفة العلل والعناية بها، كيف لا يبين ما يقف عليه من علةٍ، وفي كتابه أيضاً؟! هذا أمرٌ مستبعدٌ جداً، و لك أنْ تتأمل في قول ابن الأحمر:"كتاب النسائي كلُّه صحيح، وبعضه معلول.." فكيف الجمع بين قوله (كلُّه صحيح) و(بعضه معلول إلا أنه لم يبين علته)! فبين العبارتين عدم توافق، أو قل إن شئت: بينهما تناقض، فإنَّ بين (الصِّحة) و (العلة) تضاد؛ إذ من شروط الحديث الصحيح: سلامته من العلل!! ولو قال:" كتاب النسائي: فيه الصحيح والمعلول" لكان قريباً من الصواب، لكن تبقى عبارة: (لم يبين علته) مشكلة!
وعليه فالذي يظهر أنَّ القول بصحة هذه المقولة فيه نظر، والحكم عن الشيء فرعٌ عن تصوره، والله أعلم.
السؤال الخامس: هل تنصحون بحفظ نخبة الفكر أم بحفظ نظمها قصب السكر للصنعاني؟
الجواب:
الأصل لمن أراد أن يحفظ متناً لعالم من علماء فنٍّ معينٍ أنْ يحفظَ ما كتبه ذلك العالم، لا ما نظمه غيره لمتنه، وهذا إنْ
وجدَ المرء منْ نفسهِ قدرةً على حفظ النَّثر- إن كان منثوراً-، وإنْ لم يجد من نفسه تلك القدرة فله أن يحفظ النَّظمَ، لكن
بشرط: إنْ أراد الاستدلال بقول العالم، فإنَّه يقول: قال الناظم فلان كذا، و لا يقول: قال العالم أو الحافظ فلان صاحب
النثر؛ لأنَّ صاحب المتن لم ينظمه، وعبارات العلماء قد تختلف، وقد يأتي الناظم بأمر لا يريده صاحب المتن، وهكذا، فلا
يُحمل الناثر تبعات و أخطاء الناظم!
وهذا ينطبق على ما ذَكره السَّائل في سؤاله، فمَن وجدَ من نفسه قدرة و تمكناً حفظ متن (نخبة الفكر) للحافظ ابن حجر
فهذا أفضل، ومن لم يجد في نفسه قدرة على حفظ النثر، فله أن يحفظ النظم، بالشرط المذكور آنفاً، فلا يذكر بيتاً من
(قصب السكر) ويقول في بدايته: قال الحافظ ابن حجر..، فهذا غلط؛ لأنَّ الحافظ ابن حجر لم ينظم النظم، وإنَّما كتب
النثر، فالأمانة العلمية تقتضي ما ذكرته، والله أعلم.
السُّؤال السَّادس: ما الفرق بين الشاذِّ وزيادة الثِّقة؟
الجواب: هذا السؤال يحتاج جوابه إلى بحثٍ كاملٍ متكاملٍ؛ إذ تتعلَّق به أمور كثيرة، ولكن سأجيب بشيء من الاختصار غير المخل بإذن الله تعالى، فأقول، الكلام جواباً عن السُّؤال مِنْ وُجوه:
الأوَّل: صُورة زيادة الثِّقة:قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في (شرح العلل)(2/ص635- ط همام):" أنْ يروي جماعة حديثاً واحداً بإسنادٍ واحدٍ، ومتنٍ واحدٍ، فيزيدَ بعضُ الرُّواة فيه زيادة لم يذكرها بقيَّة الرُّواة".
قوله (رحمه الله): ( فيزيد بعض الرواة فيه زيادة) لم يذكر أين وقعت هذه الزيادة، أهي في المتن أم في السَّند أم في كليهما؟
والصَّحيح أنَّ الزيادة تشمل ذلك كلَّه، فتارة تقع في المتن وتارة في الإسناد وتارة فيهما، فكلُّ ذلك داخل في (زيادة الثِّقة).
الثَّاني: إذا تقرَّر ما سبقَ من أنَّ الزيادة تقع في المواطن المتقدِّمة، فهذا يعني أنَّ دخول بعض المسائل المهمة في هذا الصُّورة، وهي- باختصار-:
1/مسألة: تعارض الوصل والإرسال، ينظر: (علوم الحديث)لابن الصَّلاح (ص71-72) و(النكت على كتاب ابن الصلاح) لابن حجر (2/612) و (فتح المغيث) للسخاوي (1/ ص200-207- ط على حسين) و (توضيح الأفكار) للصنعاني(1/339).
2/ مسألة: تعارض الوقف والرَّفع، ينظر: المصادر السَّابقة.
3/ مسألة: المزيد في متَّصل الأسانيد، ينظر مثلاً: (علوم الحديث)لابن الصلاح (ص 278) و(شرح علل الترمذي) لابن رجب (2/ص638).
4/ الشَّاذ و المنكر، وهذا ظاهر؛ حيث توجد زيادةٌ أو نقص سنداً أو متناً.
5/ الإدارج، وهو يقع في الإسناد والمتن، وله صورٌ عدَّة؛ ينظر (علوم الحديث)(ص95-98) و(المقنع) لابن الملقن (1/227) و(النكت)(2/811-837)، وغيرها.
فكلُّ هذه المسائل وما يتفرَّع عنها تدخلُ في مسألة (زيادة الثِّقة)! لكن الذي يظهرُ مِن سؤال السَّائل أنَّه لم يُرد أيَّاً من هذه المسائل وكيفية دخولها في مسألة (زيادة الثِّقة) وإنَّما أراد:
اللفظة التي زادها الثِّقة في متنٍ ما، متى يحكمُ عليها بالشُّذوذ ومتى يُحكمُ عليها بأنَّها زيادة ثقة؟.
و للجواب عن هذه النقطة- وهي من المسائل المتعلِّقة بمسألة زيادة الثقة- أقول، الجواب عنها تأمَّله في الوجه التَّالي، وهو:
الثَّالثُ: لا يصحُّ أنْ يطلقَ القول: بقبول زيادة الثِّقة أو ردِّها، و إنَّما الْمَرَدُّ في ذلك إلى القرائن المحتَّفة بِهَا؛ فمتى رُجِّحَ بالقرائن قبولها؛ فحينئذٍ هي زيادة ثقة مقبولة، ومتى رجح بالقرائن ردَّها فإنَّها معلولة لا تقبل، فتكون شاذَّةً مردودة، وسيأتي نقل عن بعض الحفاظ من المحدِّثين ما يدلُّ على هذا.
الرَّابع: بعض النقول عن أهل العلم فيما تقدَّم تقريره في الوجه السَّابق:
1/ قال الحافظ ابن الصَّلاح في مبحث (الحديث المعل)- من كتابه (علوم الحديث)(ص90)- مبيناً معناه وكيف يُعرف، وأنَّه:"الحديثُ الَّذي اطُّلع فيه على علَّة تقدحُ في صحَّته مع أنَّ الظَّاهر السَّلامة منها، ويَتطرَّق ذلك إلى الإسناد الَّذي رجاله ثقات، الجامع شروط الصِّحة من حيث الظَّاهر.
ويُستعانُ على إدراكها بتفرّد الرَّاوي، وبمخالفةِ غيرهِ لهُ مع قرائنَ تَنضمُّ إلى ذلك، تُنبِّهُ العارف بهذا الشأن على إرسالٍ في الموصول، أو وقفٍ في المرفوع، أو دخولُ حديث في حديثٍ أو وهمِ واهمٍ بغير ذلك، بحيثُ يغلبُ على ظنِّه ذلك، فيُحكمُ به أو يُتردّد فيُتَوقَّف فيه، وكلُّ ذلك مانعٌ من الحكم بصحَّة ما وجدَ ذلك فيه".
إشكال: قد يَستشكلُ بعض الإخوة فيقولُ: كَلامُ الحافظ ابن الصَّلاح عن الحديث المعلِّ، لاَ عن زيادة الثِّقَة، و قد أفردَ مبحث زيادة الثِّقة بمبحثٍ مُستقلٍّ، فالَّذي يظهر أن لا ترابطَ بينهما؟
فيُجَابُ: بأنَّه لا انفكاك بينهما؛ إذ العلَّة تشملُ مسألة (زيادة الثقة) و بينهما صلة وثيقة، ذلك أنَّ ما ذكره (رحمه الله) مِنْ: وَصْلِ الْمُرْسَلِ أو رَفْعِ الْمَوقوفِ أو تَداخل حديثٍ في حديثٍ، وغير ذلك من الأوهام، قَد سبقَ بَيان أنَّ هذه المذكورة كلُّها متَّصلة بمسألة: ( زيادة الثقة)، إذ قد يصل الثقة المرسلَ، أو يرفع الموقوف أو يدخلُ حديث في حديث- وهذا من صور الإدارج-، فظهرَ بذلك انِّضَمام المسألة إلى مبحث الحديث المعلّ و لابدَّ!.
2/ قال الحافظ ابن دقيق العيد فيما نقله عنه العلاَّمة الصَّنعاني في (توضيح الأفكار)(1/308) قوله تحت مبحث تعارض الوصل والإرسال:" مَنْ حكى عن أهل الحديث أو أكثرهم أنَّهم، إذا تعارض رواية مسنِدٍ و مُرْسِلٍ أو رافعٍ وواقفٍ أو ناقصٍ وزائدٍ؛ إنَّ الحكم للزَّائد، لم يُصب في هذا الإطلاقِ، فإنَّ ذلك ليس قانوناً مطَّرداً، والمراجعةُ لأحكامهم الجزئية تعرف صواب ما نقولُ".
وكلامه رحمه الله في غاية الظهور والوضوح.
3/ قال الحافظ العلائي في (نظم الفرائد لما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد)(ص 376) :" وأما أئمة الحديث فالمتقدمون منهم كيحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي ومن بعدهما كعلي بن المديني و أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وهذه الطَّبقة وكذلك من بعدهم كالبخاري وأبي حاتم وأبي زرعة الرازي ومسلم والنسائي و الترمذي وأمثالهم ثم الدارقطني والخليلي كلُّ هؤلاء يقتضي تصرفهم مِنَ الزيادة قبولاً وردَّاً التَّرجيح بالنِّسبة إلى ما يَقوى عند الواحد منهم في كلِّ حديثٍ، و لا يحكمون في المسألة بحكمٍ كُلِّي يَعم جميع الأحاديث وهذا هو الحقُّ الصَّواب ".
و نقل عنه الحافظ ابن حجر نحوه في (النكت)(2/604)، وهو كلامٌ واضح الدِّلالة.
4/ قد قرَّر نحوه الحافظ ابن رجب الحنبلي في كلام مطوَّل في كتابه (شرح علل الترمذي)(2/ص 631-643).
5/ الحافظ الزيلعي في (نصب الرَّاية) ( 1 / 336 ـ 337 ) حيث قال معلِّقاً في نقلٍ عن الحافظ ابن عبد الهادي قوله ( والزيادة من الثقة مقبولة) في تفصيل جميلٍ قال:
" قلنا ‏:‏ ليس ذلك مجمعاً عليه ‏,‏ بل فيه خلاف مشهور:
فمنَ النَّاس مَنْ يَقبلُ زيادة الثِّقَة مطلقاً. و مِنهم مَنْ لا يَقبلها.
‏وَالصَّحيحُ التَّفْصيل,؛ وهو أنَّهَا تُقبلُ في مَوضعٍ دُونَ موضعٍ:
فتقبلُ: إذَا كان الرَّاوي الَّذي رواها ثقةً حافظاً ثبتاً ‏,‏ والَّذي لم يذكرْها مثلُهُ أَو دُونَهُ فِي الثِّقَةِ، كَما قَبلَ النَّاسُ زيادةَ مالكِ بنِ أنسٍ‏ قولَه ( منَ المسلمين )‏‏ في صدَقة الفِطْرِ، واحتجَّ بِهَا أكثرُ العُلماء.
وَتُقْبَلُ: في موضعٍ آخرَ لِقَرائنَ تَخُصُّها.
وَ مَنْ حَكَمَ في ذلك حُكماً عامَّاً فَقد غَلِطَ،‏ بَل كُلُّ زيادةٍ لها حُكمٌ يَخُصُّها، ففي موضعٍ يُجزم بصحِّتها؛‏ كزيادة مالكٍ.
وفي موضعٍ يَغلُبُ على الظَّن ‏‏صِحَّتُها، كزيادة سعد بن طارق في حديث ‏( جُعلت الأرضُ مسجداً ‏,‏ وجُعلتْ تُربتُها لنَا طَهُوراً )، وَ كزيادة سُليمان التَّيمي في حديث أبي موسى ‏( و إذا قَرأَ فَأنْصِتُوا ).
و في موضعٍ يُجزمُ بخطأِ الزِّيادة، كزيادة معمرٍ ‏ وَ مَن وَافقه ‏,‏ قوله ‏(‏ وإنْ كَان مائعاً فلا تَقْربوه )‏,‏ وكزيادة عبد الله بن زيادٍ ذكرَ البسملة في حديث ( قَسمتُ الصَّلاةَ بَيني وبين عَبْدي نصِفين)، ‏و إنْ كانَ مَعمرٌ ثقةً،‏ وعبدالله بن زياد ضعيفاً ‏,‏ فإنَّ الثِّقَةَ قَدْ يَغلَطُ.
وفي موضعٍ يغلبُ على الظَّنِّ خَطؤها، كزيادة معمرٍ في حديثِ مَاعزٍ ( الصَّلاةَ عليه)‏ ‏,‏ رواها البُخاريُّ في( صحيحه)‏,‏ وسُئلَ: هل رواها غيرُ معمرٍ ‏؟‏ فقالَ ‏:‏ لا. وقد رواه أصحاب السُّنن الأربعة عن معمرٍ ‏,‏ وقالَ فيه ( ولم يُصَلِّ عَليه)‏,‏ فقد اختُلِف على معمرٍ في ذلك، والرَّاوي عن معمرٍ هو عبد الرزاق وقد اختُلِفَ عليه أيضاً ‏,‏ والصَّواب أنَّه قال ( ولم يُصل عليه).
وفي موضعٍ يُتَوقَّفُ في الزِّيَادة ، كما في أحاديثَ كثيرةٍ، وزيادةُ نُعيم المْجُمْرِ التَّسميةَ في هذا الحديث مِمَّا يُتَوقَّفُ فيه‏,‏ بَلْ يَغلُب على الظَّنِّ ضعفُهُ".
6/ الحافظ ابن حجر العسقلاني، حيث قال في (نزهة النظر)(ص95-96):" اشتهر عن جمعٍ من العلماء القولُ: بقبولِ الزِّيادةِ مطلقاً من غير تفصيلٍ، ولا يتأتى ذلك على طريق المحدِّثين الذين يشترطونَ في الصَّحيحِ: أنْ لا يكونَ شاذَّاً، ثم يُفسِّرونَ الشّذوذ: بمخالفة الثِّقة من هو أوثق منه.
و العجبُ ممن أغفلَ ذلك منهم مع اعترافه باشتراطِ انتفاء الشُّذوذ في حدِّ الحديث الصَّحيح وكذا الحسن!.
والمنقولُ عن أئمَّة الحديث المتقدِّمين كعبدالرحمن بن مهدي، ويحيى القطان وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، والبخاري، وأبي زرعة وأبي حاتم، والنسائي والدارقطني وغيرهم: اعتبارُ التَّرجيح فيما يتعلًّقُ بالزِّيادةِ وغيرها، ولا يُعرفُ عن أحدٍ منهم إطلاق قبولِ الزِّيادة".
و قال أيضاً في (النكت على كتاب ابن الصلاح)(2/687) معلِّقاً على القسم الثَّالث من الأقسام التي ذكرها ابن الصلاح في مبحث (زيادات الثقات):" قلتُ: لم يحكم ابنُ الصَّلاح على هذا الثَّالث بشيءٍ.
والذي يجري على قواعد المحدِّثين: أنَّهم لا يحكمونَ عليه بحُكمٍ مُسْتَقلٍّ من القبولِ والرَّدِّ، بل يُرجِّحونَ بالقرائن كما قدَّمناه في مسألة تعارض الوصل والإرسال".
وهذا الأخير يبين و يظهرُ لكَ دُخُول مسألة: تعارض الوصل والإرسال تحت مبحث (زيادة الثقة) كما قدَّمتُ لكَ في (الوجه الثَّاني) من الجواب، و إذا ما ضممتَ كلام الحافظ ابن حجر هنا إلى جوابي عن الإشكال الوارد على قول ابن الصلاح المذكور أولاً في أقوال العلماء، يظهرُ لك جلياً دخولُ مسألة (زيادة الثقة) تحت (العلَّة) كما سبقَ، والله أعلم.
السُّؤال السَّابع: ما المرادُ بعلمِ العِلَل، و مَا أهميَّته، و أين يبحث، وهل لكلِّ أحدٍ أن يتكلَّم فيه؟
الجواب: الكلامُ عن علم العلل كلامٌ مطوَّلٌ، ويُستحسنُ في مثل هذا المقام أنْ يكون الكلام على نقاطٍ، يتبين للناظر فيها بتأمِّل،ماهِيَّتُه و أهمِّيتُه، ومَنْ هم أهله، وهي كالتالي:
الأولى: ما المرادُ بالعلَّة؟
العلَّة في اللغة: قَال ابنُ فارس في (معجم مقاييس اللغة)(4/13-14):" عَلَّ:العين واللام أصول ثلاثة صحيحة: أحدها:تكرُّرٌ أو تكرير.
والآخر:عائق يعوق.
والثَّالث: ضعف الشَّيء،000-إلى أن قال-: والأصل الثَّالث: العِلَّةُ: المرضُ، وصاحبها مُعْتَلٌ، قال ابن الأعرابي: عَلَّ المريضُ يَعِلُّ عِلَّةً فهو عَلِيلٌ. ورجلٌ عُلَلَة أي كثير العِلَل".
والعلَّة تنقسم إلى قسمين: علَّة ظاهرة، كالتَّعليل بالانقطاع الظَّاهر أو الإرسال أو الجهالة أو ضعفه بعض الرُّواة و نحو ذلك من العلل الظَّاهرة. وعلَّة خفية غير ظاهرة، وهي المعنية هنا في هذا المبحث، لذا يمكننا القول بأنَّ:
العلَّة في الاصطلاح: تَقَارَبت عباراتُ الحفَّاظ في حَدِّهَا، لذا يُمكنُ القَول بأنَّ العِلَّةَ اصطلاحاً:
هي عبارة عنْ: أَسَباب خَفيِّة غَامضة تَقْدحُ في الحديثِ مَعَ أنَّ ظاهره الصِّحَّة و السَّلامة.
فالحديثُ المعلول: هو الحديث الذي اطُّلع فيه على علَّة تقدحُ في صحَّته مع أنَّ ظاهره السَّلامة.
ينظر مثلاً: (علوم الحديث) لابن الصلاح(90) و( التَّقييد والإيضاح)للعراقي(96) و(شرح الألفية) له (1: 224) و(المقنع) لابن الملقن(1: 211) و(النكت على كتاب ابن الصلاح) لابن حجر (1: 710) و (فتح المغيث بشرح ألفية الحديث) للسَّخاوي(1: 260).
الثَّانية: محلُّ علم العلل.مَحَلُّ و ميدانُ علمِ العِلل هو: حَديثُ الثِّقَات؛ ذلكَ أنَّ الأصلَ في أَخْبارِ الثِّقَاتِ القَبول و الاحتِجَاج؛ لِذَا تخفى عللُ أحاديِثهم عَلى كثيرٍ مِمَّن يَشتغلُ بالحديثِ و لا يَظهرُ لَه خَلل تلك الأحاديث، قَال الحافظ أبو عبدالله الحاكم في كتابه ( معرفة علوم الحديث)(ص112-113) :"وَ إِنَّمَا يُعلَّلُ الحديث مِنْ أوجهٍ لَيس للجرْحِ فِيها مَدْخَلٌ، فَإنَّ حَديثَ الْمَجْرُوحِ سَاقطٌ وَاهٍ، و عِلَّةُ الحديثِ يَكثرُ فِي أحاديث الثِّقاتِ، أنْ يُحدِّثوا بحديثٍ له عِلَّةٌ، فَيَخْفَى عَليهم عِلمهُ فَيصير الحديثُ مَعلولاً.
والحجَّةُ فيه عندنا الحفظ والفهم والمعرفة لا غير" انتهى كلامه رحمه الله.
فهو يبحثُ في أحاديثهم لكشفِ ما قد يَعْتَري حديثَهم مِنَ الخطأ والوَهم، وَهُو يُعْنى بسبرِ مَرْوِيَّاتِهم مع النَّظر و التَّدْقيق فيها، يدلُّ على ذلك ما قَاله الإمام مسلم في كتابه العظيم (التمييز)(169-170):" فإنَّك يَرحَمُك اللهُ ذَكرتَ أنَّ قِبَلك قَوماً يُنْكِرونَ قَولَ القَائِل مِنْ أهلِ العِلْمِ إذَا قَال: هَذا حَديثٌ خَطأٌ، وَ هَذا حديثٌ صحيحٌ، وَفُلانٌ يُخطئُ في روايتِهِ حَديثَ كَذا، والصَّوابُ مَا روى فُلانٌ بِخِلافِهِ، وذَكرتَ أنَّهم استَعْظَمُوا ذَلكَ مِنْ قَولِ مَنْ قَالَهُ، وَ نَسبوهُ إلى اغْتِيَابِ الصَّالحين مِنَ السَّلف الماضين، وحتَّى قَالوا: إنَّ مِنَ ادَّعى تَمْييز خَطأ رِوايتهم مِنْ صَوابها مُتَخَرِّصٌ بِمَا لا عِلَمَ لَهُ بِهِ، و مُدَّعٍ عِلَمَ غَيبٍ لا يُوصل إليه. اعْلَم وفَّقنا الله وإيِّاك:
أنَّ لولا كَثْرة جَهَلة العَوامِّ مُسْتَنْكِري الحقّ و رَايِهِ بِالْجَهَالَةِ؛ لما بَانَ فَضل عَالِمٍ عَلى جَاهلٍ، وَلا تَبيَّن عِلْمٌ مِنْ جَهْلٍ، و لكنَّ الْجَاهل يُنكرُ العِلْمَ لِتَركيبِ الْجَهْلِ فِيْهِ.
وَضِدُّ العِلمِ هُو الْجهلُ، فكُلٌّ ضِدٍّ نَافٍّ لِضِدِّهِ، دِافعٌ لَه لاَ مَحالَةَ، فَلا يَهُولَنَّكَ استنكارُ الْجُهَّالِ وَ كَثْرَة الرّعاع لِمَا خُصَّ بِه قَومٌ وحُرموهُ؛ فِإنَّ اعْتِداد العِلْم دَائرٌ إلى مَعدنهِ، وَ الْجَهْلِ وَاقفٌ عَلَى أهْلِهِ.
وسألتَ أنْ أذكرَ لَك في كِتابِي رِوَايَةَ أَحاديثَ مِمَّا وَهِمَ قَومٌ فِي روايَتِهِا، فَصَارت تلكَ الأحَاديث عِنْدَ أهل العلمِ في عِدَاد الغَلَط وَ الخطأ000
فمنْهُم الحافظُ المتْقِنِ الحفْظَ، المتوقِّي لما يلزمُ تَوقِّيه فيهِ.
ومنْهُم المتَسَاهِلُ المشيب حِفْظه بِتَوهُّمٍ يَتَوهَّمهُ، أو تلقينٍ يُلقنه مِنْ غيرهِ فَيخلطهُ بحفظهِ، ثُمَّ لا يُميزه عَن أدائه إلى غيرهِ.
ومنهُم مَنْ هَمُّهُ حُفظُ مُتونِ الأحَاديث دونَ أَسانيدها، فيتهاونُ بحفظِ الأَثرِ، يَتَخَرَّصُها من بَعدُ فَيحيلُها بالتَّوهُّمِ عَلَى قومٍ غَير الذين أدَّي إليه عَنهم.
وكُلُّ مَا قُلنا مِنْ هَذا في رواة الحدِيثِ وَ نقَّال الأخبارِ، فهو مَوجودٌ مُستفيضٌ.
وِ مِمَّا ذكرتُ لَك مِنْ منازلهم، ومراتبهم فيهِ، فَليس مِنْ نَاقلِ خَبرٍ وَ حَاملِ أثرٍ مِنَ السَّلف الماضين إلى زماننا- وإنْ كَانَ مِنْ أحفظِ النَّاس وأشدهم توقياً واتقاناً لِمَا يَحْفظُ وَينْقُل- إلاَّ الغَلط والسَّهو مُمْكن في حفظهِ وَنقلهِ، فَكيفَ بِمنْ وَصفتُ لكَ مِمَّن طريقُة الغَفلة والسُّهولة في ذلك".
ففي هذا النَّقل عن الإمامِ مُسلمٍ يكشفُ لنَا بوضوحٍ وجلاءٍ عن مجالِ هذا النَّوع من النَّقد، وهو أحاديثُ الثِّقات لتنقيتها من الأوهام والأخطاء، لذا النَّاظُر في كتابهِ المنقول عنهُ آنفاً يجدُ تطبيقه لهذا النَّقد والإعلال من أحاديث الثِّقات، وسيأتي نقلٌ عن الحافظ ابن الصَّلاح يفيدُ ذلك، والله أعلم.
الثالثة: أهمية علم العلل.إنَّ الأئمَّة منْ حفَّاظ الدِّين وحرَّاسه قَد أَوْلَو هَذا العِلم عِنَايةً فائقةً ومهمَّةً؛ لِعِلْمهمِ بِأهمِّيَتِهِ وَ خَطر التَّهاون فيهِ؛ إذْ قَد يُقال عَلَى رَسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ما لم يَقُلْ، وهنا تَقعُ المصيبة، فيتعبدُ النَّاس بما لَمْ يَثْبت عَن نبيهم!! و لا يَخْفَى عَلى مَنْ لَه عناية ودِرَاية ما يَجُرُّ ذلك من تَبِعِاتٍ عَلى الدِّين والدُّنيا.
فحفاظاً على السُّنَّة الغرَّاء نقيةً كمَا تركها نبيِّنُا صلَّى الله عليه وسلَّم اجتهدَ جَهابذة الفنِّ ونقَّادهِ فَنَظروا وتأمَّلوا وَ صَحَّحوا وضعَّفوا وأعلُّوا، ولاغَرو في ذلك فقد قَال الإمام النَّاقد عبد الرَّحمن بن مهدي:" لأنْ أعرف علَّةَ حديثٍ هو عندي أحب إليَّ من أن أكتب حديثاً ليس عندي" (العلل) لابن أبي حاتم (1: 10).
وقال الحافظ الحاكم:"معرفة علل الحديث، وهو علمٌ برأسهِ غير الصَّحيح والسَّقيم والجرْحِ والتَّعديل" (معرفة علوم الحديث)(112).
و المتمعِّنُ في هذا القول وفي صنيع الأئمة في تعليل الأحاديث يظهر له صدق قول الحاكم (رحمه الله). وحَقَّاً إنَّ هذا العلم مِنْ أجَلِّ علوم الحديث علماً، وأدقِّها فَهماً، وأخفاها نَظماً، وأرفعها مكانةً، قَال الحافظ أبوعمرو ابن الصَّلاح:" اعلم أنَّ معرفةَ علل الحديثِ مْن أجلِّ علوم الحديثِ وأدقِّهِا وأشْرَفِهِا، وَ إنَّمَا يَضطلعُ بِذلك أهلُ الحفظ والخبرة والفَهم الثَّاقبِ" (معرفة أنواع علم الحديث)(90).
ولأجلِ هَذا الدِّقة و الغموض والوعورة لَم يَتَكَلَّم فيه إلاَّ الجهابذة من النُّقَّاد أهلِ الحفظ والخبرة والفهم الثَّاقب، و إنَّ من المنَاسب أنْ أذكر في هذا المقام بعض النُّصوص الواردة عن بعض علماءِ الفنِّ الدَّالة على أهميَّة هذا العِلْمِ وَ شَرفهِ وعزَّته وخفائه، ومَنْ يَقُومُ بِهِ:
1/ قال الإمام النَّاقد عبد الرحمن بن مهدي:"إنكارنا الحديث عند الجهال كهانة"(العلل) لابن أبي حاتم(1: 10)، و سبق له قولٌ في أهمية علم العلل في بدء هذا الوجه فانظره.
2/ قال الحافظ أبو عبدالله الحاكم في (معرفة علوم الحديث)(112-113):" وَ إِنَّمَا يُعلَّلُ الحديث مِنْ أوجهٍ لَيس للجرْحِ فِيها مَدْخَلٌ، فَإنَّ حَديثَ الْمَجْرُوحِ سَاقطٌ وَاهٍ، و عِلَّةُ الحديثِ يَكثرُ فِي أحاديث الثِّقاتِ، أنْ يُحدِّثوا بحديثٍ له عِلَّةٌ، فَيَخْفَى عَليهم عِلمهُ فَيصير الحديثُ مَعلولاً.
والحجَّةُ فيه عندنا الحفظ والفهم والمعرفة لا غير".
3/ قال الحافظ ابن الصلاح في كتابه (علوم الحديث) (ص 90) :"الحديث المعلل: هو الَّذي اطُّلِعَ فيه على علَّةٍ تَقدحُ في صِحَّتِهِ مَع أنَّ ظَاهره السَّلامة منها.
ويتطرَّقُ ذلك إلى الإسناد الذي رجاله ثقات الجامع شروط الصحة من حيث الظاهر، ويُسْتعانُ على إدراكها بتفرُّد الرَّاوي، و بمخالفة غيره له مع قرائن تنضمُّ إلى ذلك، تُنَبِّهُ العارف بهذا الشَّأن على إرسالٍ في الموصول، أو وقفٍ في المرفوع، أو دخول حديثٍ في حديثٍ، أو وهم واهمٍ بغير ذلك، بحيث يغلبُ على ظنِّه ذلك، فيحكم به أو يتردد فيتوقف فيه، وكلُّ ذلك مانعٌ من الحكمِ بصحَّة ما وجدَ ذلك فيه ".
4/ قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في (شرح علل الترمذي)(1: 339-340).:" وقد ذكرناَ فيمَا تقدَّمَ، في كتابِ العِلْم: شرَف عِلم العِلَلِ وعِزَّتهِ، و أنَّ أهلَه المتَحقِّقين بهِ أَفْرادٌ يَسيرةٌ مِنْ بِين الحفَّاظ وَ أهلِ الحديثِ، وَقد قَال أبو عبدالله بن مندة الحافظ: إنَّما خَصَّ اللهُ بمعرفةِ هَذهِ الأخبارِ نَفَراً يسيراً في كَمٍّ كَثيرٍ مِمَّنْ يَدَّعي عِلْمَ الحديثِ، فَأمَّا سَائر النَّاس مَنْ يَدَّعي كَثرةَ كِتَابة الحديث، أوْ مُتفقِّهٍ في عِلم الشَّافعي وأبي حنيفة، أو مُتَّبعٍ لكلام الحارث المحاسبي، و الجنيد و ذي النَّون، وأهلِ الخواطِر، فَليسَ لَهم أنْ يَتَكَلَّمُوا في شيءٍ مِنْ عِلْمِ الحديثِ، إلاَّ مَنْ أخذه عَنْ أهْلِهِ وَأهلِ المعْرِفةِ بِه، فَحينئذٍ يَتكلَّم بمعرفتِهِ، انتهى".
وقال أيضاً في (شرح علل الترمذي)(1: 346):" الكَلاَمُ في العِلَلِ والتَّواريخ قد دوَّنه الأئمة، وقَد هُجِرَ فِي هَذا الزَّمَان ودُرِسَ حِفظهُ وَ فَهمهُ؛ فَلولا التَّصَانيف المتقدِّمة فيهِ لَمَا عُرفَ هَذا العِلْم اليَوم بالكُلِّيَّةِ، فَفي التَّصنيفِ فيه ونقْل كلامِ الأئمَّةِ المتقدِّمين مَصْلَحةٌ عظيمةٌ جِدَّاً، وقد كانَ السَّلف الصَّالح مَع سِعَةِ حِفْظهمِ، وكَثرةِ الحفظِ فِي زَمانهم، يَأْمُرونَ بالكتَابِةِ لِلحفظِ ، فكيفَ بِزَمانِنا هَذا الَّذي هُجرتْ فِيه عُلُوم سَلفِ الأُمَّةِ وأئمتها، ولم يبقَ منها إلاّ مَا كانَ مُدوَّناً في الكتُبِ؛ لِتَشَاغُل أهلِ هَذا الزَّمانِ بِمُدَارَسَةِ الآراءِ وَحْفِظها؟".
وقال أيضاً (2: 894):" أمَّا أهْلُ العِلْمِ وَالمعْرِفَةِ وَ السُّنَّة وَالجماعَة، فِإنَّمَا يَذْكُرونَ عِلَل الْحَديث نَصِيحةً للدِّيْنِ وَحِفْظَاً لِسُنَّة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وَ صِيَانةً لَهَا، وَ تَمْييزاً مِمَّا يَدْخُلُ عَلَى رُواتِهَا مِنَ الغَلَطِ وَ السَّهْو وَ الوَهم، وَ لاَ يُوجِبُ ذَلكَ عِنْدَهم طَعْنَاً فِي غَير الأَحَادِيث الْمُعْلَنَةِ، بَلْ تَقَوى بِذَلِكَ الأحاديث السَّليمة عِنْدهم؛ لِبَرَاءَتِهَا مِنَ العِلَل وَسَلامتِهَا مِنَ الآفات.
فَهَؤلاء العَارِفُونَ بِسُنًّة رَسُولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم حَقَّاً، وَهُم النُّقَّادُ الْجَهَابِذة الَّذين يَنْتَقِدُون انْتِقَادَ الصَّيرفي الْحَاذِق للنَّقْد البهرج مِنَ الْخَالِص، وانْتِقَادَ الْجَوهَريِّ الحاذِق لِلجَوْهَرِ مِمَّا لَيس بهِ".
5/ قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في (النكت)(2/711):" وهذا الفنُّ أغمضُ أنواع الحديث وأدقِّها مَسلكاً، و لا يَقُومُ به إلاَّ مَنْ منَحهُ الله تعالى فَهماً غَايِصَاً وَ اطِّلاعاً حَاوياً، وإدْرَاكاً لمراتب الرُّواة وَ مَعْرفةً ثاقبةً.
ولهذا لم يَتكلَّم فيه إلاَّ أفْرَاد أئمَّة هَذا الشَّأْن وحذَّاقهمْ، وَ إليهم المرجِعُ في ذلِك؛ لِمَا جَعلَ الله فيهم منْ مَعرفةِ ذَلك، والاطِّلاع عَلى غَوامضهِ دُونَ غَيْرِهم مِمَّن لَمْ يُمَارِس ذلك.
وقَدْ تَقصرُ عبارة الْمُعَلِّلِ مِنْهُم، فَلا يُفصحُ بما استقرَّ في نفسهِ مِنْ تَرجيحِ إحْدى الرِّوَايتين عَلَى الأُخْرى، كمَا في نَقد الصَّيرفي سَواء، فمتى وجدْنا حديثاً قد حكمَ إمامٌ من الأئمَّة المرجوعِ إليهم بتَعليلهِ، فَالأولى اتِّباعهُ في ذلكَ كما نَتَّبعهُ في تَصحيحِ الحديث إذا صَحَّحه... وهذا حيثُ لا يُوجَدُ مُخَالِفٌ منْهم لِذَلك الْمُعَلِّل، وحيثُ يُصرِّحُ بإثْبَات العِلَّة، فأمَّا إنْ وُجِدَ غيرهُ صَحَّحه فَينبغي حِيْنئذٍ تَوجه النَّظر إلى التَّرجيحِ بَيْنَ كَلاميهما.
وَكذلكَ إذَا أشَار المُعلِّلُ إلى العلَّة إشارةً، وَلَمْ يَتَبيَّن منْهُ ترجيحٌ لإحدى الرِّوَايتين، فَإنَّ ذلك يَحْتَاج إلى تَرجيحٍ، والله أعلم"، و ينظر أيضاً (نزهة النظر)(ص45-46).
6/ قال الحافظ السَّخاوي في (فتح المغيث)(1: 274).:" فالله تَعالى بِلَطيف عنايته أقامَ لِعْلِم الحديثِ رِجَالاً نُقَّاداً تَفرَّغوا له، وأَفْنَوا أعْمَارهم في تَحْصيلهِ وَالبحْثِ عَن غَوامضهِ وَعِلَلهِ وَرِجَالهِ وَمْعَرفةِ مَراتبهمْ في القُّوَّةِ والِّلين، فَتَقْليدُهُم وَالمشي وَرَاءهم وَ إِمْعَان النَّظر في تَوآلِيْفهم، وَكَثْرة مُجَالَسَةِ حُفَّاظ الوَقْتِ، مَع الفَهْم وَ جَوْدَة التَّصَور، وَمُدَاومة الاشْتِغَالِ، وَمُلازَمَةِ التَّقْوى والتَّواضِع، يُوجبُ لَكَ إْنْ شَاء الله مَعْرفةَ السُّنَن النَّبويِّة، ولا قوة إلاَّ بالله".
ولعلَّ في هذا القدر كفاية، والله أعلم.
السُّؤال الثَّامنُ: ما هي وَسائل الكشف عن العلَّة؟هذا السُّؤال في غاية من الأهمية، وهو متعلِّق بما سبق في السؤال السَّابق، ويظهرُ للمتأمِّل فيما سبق منْ كلامِ مَنْ تقدَّم من أهل العلم: أنَّ هذا الفنّ من أغمضِ أنواع علوم الحديثِ وأدقِّها، و أنَّه لا يتكلَّم فيه إلاَّ مَنْ رَزقه الله بصيرةً وَ عِلْماً وفهماً ثاقباً؛ لذا نجدُ أنَّ المتكلِّمين فيه مِن أهل الحديث قلَّة، وهم نقَّاده وجهابذة الفنِّ، كعلي بن المديني و أحمد بن حنبل والبخاري ويعقوب بن شيبة و مسلم وغيرهم، لهم في الكشف عن العلل طرائق ومسالك، قال الحافظ ابن الصَّلاح لما تكلَّم عن الحديث المعلِّ والعلَّة قال:"..و يُسْتعانُ على إدراكها بتفرُّد الرَّاوي، و بمخالفة غيره له مع قرائن تنضمُّ إلى ذلك، تُنَبِّهُ العارف بهذا الشَّأن على إرسالٍ في الموصول، أو وقفٍ في المرفوع، أو دخول حديثٍ في حديثٍ، أو وهم واهمٍ بغير ذلك، بحيث يغلبُ على ظنِّه ذلك، فيحكم به أو يتردد فيتوقف فيه، وكلُّ ذلك مانعٌ من الحكمِ بصحَّة ما وجدَ ذلك فيه ".
فمن الوسائل لكشف العلِّة- وهي كثيرة، و نجملها فيما يلي-:
1/ جمعُ طرق أحاديث الباب الواحد؛ قال الإمام علي بن المديني :" الباب إذا لم تُجمع طرقه لم يتبين خطؤه" (علوم الحديث) لابن الصلاح (ص91).
وقال الإمام عبدالله بن المبارك:" إذا أردتَ أن يصحَّ لك الحديث فاضرب بعضه ببعض" (الجامع لأخلاق الراوي)(2/ص452).
وقال الحافظ إبراهيم بن سعيد الجوهري:" كلُّ حديثٍ لا يكونُ عندي من مائة وجهٍ فأنا فيه يتيم" (تهذيب الكمال)(2/97).
وقال الحافظ أبو بكر الخطيب في (الجامع لأخلاق الراوي)(2/452):" والسبيل إلى معرفة علَّة الحديث: أنْ يُجمع بين طرقهِ، وينظر في اختلاف رواته، ويعتبر بمكانتهم من الحفظ ومنزلتهم في الإتقان والضبط".
2/ معرفة مراتب الرُّواة الثقات الذين يدور عليهم الإسناد، وتمييزها.
بحيث يعرف مراتب الرواة الذين تدور عليهم الأسانيد في مختلف البلدان، وتمييزها عن غيرها، ومَن أوثق النَّاس فيهم، كتمييز أصحاب نافع والزهري وقتادة وغيرهما من الحفاظ.
قال الإمام علي بن المديني في كتابه (العلل)(ص 17) وما بعدها :" نظرتُ فإذا الإسنادُ يدورُ على ستَّةٍ، فلأهل المدينة: ابنُ شهابٍ.... ولأهل مكَّة: عمرو بن دينار... ولأهل البصرة: قتادة بن دعامة السدوسي... ويحيى بن أبي كثير... ولأهل الكوفة: أبو إسحاق، واسمه عمرو بن عبدالله ... و سليمان بن مهران ... ثم صارَ علمُ هؤلاء السِّتَّة إلى أصحاب الأصناف ممَّن صنَّف... – وعدَّد اثنا عشر علماً ثم قال- ثم انتهى.. وعلمُ الإثني عشر إلى ستَّة....".
3/ معرفة طبقات أصحاب أولئك الرُّواة الثِّقات المكثرين ممن تدور عليهم الأسانيد، وهذه الوسيلة يُدركُ بها تفاوت الرُّواة الثِّقات- فضلاً عن غيرهم- في بعض شيوخهم، وتقديم رواية بعضهم على بعض-عند التعارض- في الشَّيخ الواحد!! فمثلاً: قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في (شرح علل الترمذي)(2/ص613-614) لما تكلم عن شروط الأئمة:" ونذكر لذلك مثالاً:
وهو أصحاب الزهري خمس طبقات:
الطبقة الأولى: جمعت الحفظ و الإتقان، وطول الصحبة للزهري، والعلم بحديثه والضَّبط له، كمالك وابن عيينة وعبيدالله بن عمر... وغيرهم،وهؤلاء متفق على تخريج حديثهم عن الزهري.
الطبقة الثانية: أهل حفظ واتقان، لكن لم تطل صحبتهم للزهري، وإنما صحبوه مدَّة يسيرة، ولم يُمارسوا حديثه، وهم في اتقانه دون الطبقة الأولى، كالأوزاعي والليث وعبدالرحمن بن خالد...ونحوهم. وهؤلاء يخرِّج لهم مسلمٌ عن الزهري.
الطبقة الثالثة: لازموا الزهري، وصحبوه، ورووا عنه، ولكن تُكلم في حفظهم، كسفيان بن حسين ومحمد بن إسحاق وصحالح بن أبي الأخضر..ونحوهم.
وهؤلاء يخرج لهم أبوداود والترمذي والنسائي، وقد يخرج لهم مسلم لبعضهم متابعةً.
الطبقة الرابعة: قومٌ رووا عن الزهري من غير ملازمةٍ و لا طولِ صحبةٍ، ومع ذلك تُكلم فيهم، مثل إسحاق بن يحيى الكلبي، ومعاوية بن يحيى الصدفي، وإسحاق بن أبي فروة... ونحوهم.
وهؤلاء قد يخرج الترمذي لبعضهم.
الطبقة الخامسة: قومٌ من المتروكين والمجهولين كالحكم الأيلي وعبدالقدوس بن حبيب، ومحمد بن سعيد المصلوب.. ونحوهم.
فلم يخرج لهم الترمذي ولا أبوداود ولا النسائي، و يخرِّج ابن ماجه لبعضهم..".
و نحوه قاله قبله الحازمي في (شروط الأئمة الخمسة)(ص56-58)، وينظر (التمييز) للإمام مسلم (ص 172) ففيه مثالٌ يُظهر المقام أيضاً، وينظر أيضاً (شرح علل الترمذي)(2/ص 665- وما بعدها).
4/ معرفة الرواة الثقات المضَّعف حديثهم في وقتٍ دونَ وقتٍ، أي الرواة المختلطين.
فمثلاً: تكلَّم الإمام أحمد في عبدالرحمن بن عبدالله المسعودي- وهو ثقة- فقال:" إنَّما اختلط ببغدادَ، ومَنْ سمعَ منه بالكوفة والبصرة فسماعه جيِّدٌ" (العلل) رواية ابنه عبدالله (1/رقم 575/325).
و ممن سمع منه قبل الاختلاط: معاذ العنبري، فهو عنه صحيح، ومثله أيضاً الفضل بن دكين. ينظر (الكواكب النيرات)(ص291).
مثال آخر: عارم أبو النعمان، أحد الثقات، قال الإمام أبو حاتم:".. وبالجملة فمن سمعَ منه قبل سنة عشرين ومائتين فسماعه جيِّدٌ" (الجرح والتعديل)(8/58).
وقال الحافظ الدارقطني:" ثقة، وتغيَّر بأخرةٍ، و مَا ظَهَرَ عنه بعد اختلاطهِ حَديثٌ منكرٌ " (سؤالات السُّلمي للدارقطني)(رقم 349/316).
مثالٌ ثالث: إبراهيم بن أبي العباس السامري الكوفي، قال الحافظ ابن سعد:" كان قد اختلطَ في آخر عمره، فحجبهُ أهله في منزله حتى ماتَ" (الطبقات الكبرى)(7/346).
فهذا يعني أنَّه لم يُحمل عنه بعد اختلاطه!!.
5/ معرفة الرواة الثقات المضعَّف حديثهم في مكانٍ دون مكان، فإنْ حدَّث عن أهل بلدٍ فلا يحفظ حديثهم، وإن حدَّث عن غيرهم حفظ حديثهم.مثل: إسماعيل بن عياش، فإذا حدَّث عن الشَّاميين فحديثه صحيح، وإذا حدَّث عن الحجازيين والعراقيين فحديثه غير صحيح، مضطرب. ينظر (الجرح والتعديل)(2/191) و(شرح العلل)(2/773).
مثال آخر: سفيان بن عيينة، قال الإمام أحمد:" كان ابن عيينة حافظاً إلا أنَّه في حديث الكوفيين له غلطٌ كثير" (شرح علل الترمذي)(2/776).
6/ معرفة الرُّواة الثقات المضعَّفة أحاديثهم إنْ روى عنهم أهل بلدٍ ما؛ لأنَّهم لم يحفظوا حديثه، وإنْ روى عنه غيرهم أقَاموا حديثه.مثلاً: زهير بن محمد الخراساني، ما روى عنه أهل العراق فأحاديثه مستقيمة، و ما روى عنه أهل الشَّام فمنكرة، وما خُرِّج في الصَّحيح عنه فمن رواية العراقيين عنه. (شرح العلل)(2/777).
مثال آخر: محمد بن عبدالرحمن بن أبي ذئب، رواية الحجازيين عنه صحيحة، بخلاف العراقيين عنه، فيها وهم كبير. ينظر (التمييز)(ص191) و(شرح العلل)(2/780).
7/ معرفة الرواة الثقات الضَّابطين لحديث بعض شيوخهم دون بعض.
فمثلاً: قال الحافظ الدارقطني: " المسعودي إذا حدَّث عن أبي إسحاق وعمرو بن مرة و الأعمش فإنَّه يغلطُ، وإذا حدَّث عن معنٍ والقاسم وعون فهو صحيحٌ، وهؤلاء هم أهل بيته" (سؤالات السلمي للدارقطني (رقم 255/262).
مثال آخر: جعفر بن برقان الجزري، قال الإمام أحمد:" جعفر بن بُرقان، ثقةٌ ضابطٌ لحديث ميمون، وحديث يزيد بن الأصم، وهو في حديثِ الزهري يضطرب ويختلف فيه" (العلل) للإمام أحمد رواية المروذي (رقم 355/200)، وينظر (شرح العلل)(2/791).
مثال ثالث: قال الحافظ ابن رجب في (فتح الباري) له (3/29):" أبو معاوية ليس بالحافظ المتقن لحديث هشام بن عروة، إنَّما هو متقنٌ لحديث الأعمش".
مثال رابع: قال الحافظ ابن رجب في (فتح الباري) له (2/313):" روايات جرير بن حازم عن قتادة خاصَّة فيها منكرات كثيرة لا يُتابعُ عليها..".
8/ معرفة الرواة الثقات الضابطين ضبط كتابٍ دون ضبط صدر.مثل: همام بن يحيى العَوذي البصري، الثقة المشهور، قال الحافظ ابن رجب:" قال يزيد بن زريع و عبدالرحمن بن مهدي: كتابه صحيحٌ، وحفظهُ ليس بشيءٍ" (شرح العلل)(2/758).
لكنَّه في آخر عمره قلَّما يخطئُ إنْ حدَّث من حفظه؛ لأنَّه قريب عهد بكتبه، قال الإمام أحمد:" من سمع من همام بأخرة فهو أجود؛ لأنَّ هماما كان في آخر عمره أصابته زمانة، فكان يقرب عهده بالكتاب، فقلَّ ما كانَ يُخطئُ" (العلل) برواية عبدالله بن أحمد (1/ رقم 683/357)، و ينظر (شرح العلل)(2/759).
مثالٌ آخر: يونس بن يزيد الأيلي، من أصحاب الزهري، قال الإمام أحمد:" إذا حدَّث من حفظه يخطئُ" (شرح العلل)(2/765)، وقال الإمام أبو زرعة الرازي:" كان صاحب كتابٍ، فإذا أخذ من حفظهِ لم يكن عند شيء" (أسئلة البرذعي لأبي زرعة)(2/684-685).
وينظر: (الجرح والتعديل)(9/ رقم 1042/247) و(تهذيب الكمال)(32/551) و(شرح العلل)(2/765).
9/ معرفة الرواة الثقات المضعَّف حديثهم إذا جمعوا الشيوخ دون ما إذا أفردوهم.فمثلاً: قال الإمام شعبة بن الحجاج لابن علية:" إذا حدَّثكَ عطاء بن السَّائب عن رجلٍ واحدٍ؛ فهو ثقةٌ، وإذا جمعَ فقال: زاذان وميسرة وأبو البختري، فاتَّقه، كان الشَّيخ قد تغير" (شرح العلل)(2/813).
مثالٌ آخر: ليث بن أبي سليم، قال الحافظ الدارقطني:" صاحبُ سنَّة يُخرَّج حديثه، إنما أنكروا عليه الجمع بين عطاء وطاووس ومجاهد، حسبُ" (سؤالات البرقاني)(رقم421/58)، وينظر (شرح العلل)(2/814).
مثالٌ ثالثٌ: قال الحافظ أبو يعلى الخليلي في كتابه (الإرشاد)(1/417-418/ المنتخب):" ذاكرتُ يوماً بعض الحفَّاظ فقلتُ: البخاريُّ لم يُخرِّج حماد بن سلمة في الصَّحيح، وهو زاهدٌ ثقة؟.
فقال: لأنَّه جمعَ بين جماعةٍ من أصحاب أنسٍ، فيقولُ: حدثنا قتادة وثابت وعبدالعزيز بن صهيب، وربَّما يُخالف في بعض ذلك.
فقلتُ: أليس ابنُ وهبٍ اتفقوا عليه، وهو يَجمعُ بين أسانيدَ، فيقولُ: حدثنا مالكٌ، وعمرو بن الحارث والليث بن سعد و الأوزاعي بأحاديث، ويجمعُ بين جماعة غيرهم؟.
فقال: ابنُ وهبٍ أتقنُ لما يرويه، و أحفظُ له".
قال الحافظ ابن رجب في (شرح العلل)(2/816) معلقاً على الكلام السَّابق:" و معنى هذا أنَّ الرجل إذا جمعَ بين حديث جماعةٍ، وساق الحديث سياقة واحدةً، فالظاهر أنَّ لفظهم لم يتفق، فلا يقبلُ هذا الجمع إلا من حافظٍ مُتقنٍ لحديثه، يَعرفُ اتفاق شيوخه واختلافهم كما كان الزهري يجمعُ بين شيوخ له في حديث الإفك وغيره.
وكان الجمعُ بين الشيوخ يُنكرُ على الواقدي وغيره ممن لا يضبطُ هذا، كما أُنكر على ابن إسحاق وغيره، وقد أنكر شعبة أيضاً على عوف الأعرابي..".
10/ معرفة المتشابه من الأسماء و الكنى والألقاب، إذ قد يُحدِّثُ الراوي الثقة عن رجلٍ ضعيف ويسميه باسم الثِّقة!!فمثلاً: روى زهير بن معاوية الحافظ الثِّقة، قال الحافظ ابن أبي حاتم في (العلل)(3/رقم 2182/ص7- ط الدباسي):" سألت أبي عن حديثٍ رواه زهير بن معاوية قال: حدثنا واصل بن حيان عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكمأة والحبَّة السَّوداء، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (عرضت علي الجنة...)؟.
فقال: أخطأ زهيرٌ مع إتقانه، هذا هو صالح بن حيان، وليس هو واصلاً، وصالح بن حيان ليس بالقوي، هو شيخٌ، ولم يُدرك زهيرٌ واصلاً".
وقال الإمام أبوداود كما في (سؤالات الآجري له)(1/ رقم 509/308):" سمعتُ يحيى بن معين يقول: أخطأ زهير في اسمه، فقال: واصل بن حيان، يعني عن ابن بريدة، وهو صالح بن حيان. قال أبوداود: سمعت يحيى يقول: هو ضعيفٌ".
وقال الحافظ الدارقطني في (الضعفاء) له(رقم 289/ص246):" صالح بن حيان، كوفي عن ابن بريدة، روى عنه زهير وسماه (واصلاً) وهمَ في اسمه، ليس بالقوي"، وينظر (شرح العلل)(2/819-821).
وواصل بن حيان الأسدي، قال ابن حجر في (التقريب)(رقم7382- ط عوامة):" ثقة ثبت..ع".
11/ معرفة ما قيل فيه أصح الأسانيد، وما قيل فيه أوهى الأسانيد.والناظر في كتب علوم الحديث يجد عدداً منها، وكذا يجدها مفرَّقة في كتب (العلل)، فمثلاً: قال الإمام علي بن المديني في (العلل)(ص 87-88):" لم يكن في أصحاب ثابت أثبت من حماد بن سلمة، ثم بعده سليمان بن المغيرة ثم بعده حماد بن زيد، وهي صحاحٌ. وروى عنه حميد شيئاً، فأما جعفر فأكثرَ عن ثابتٍ وكتب مراسيل، وكان فيها أحاديث مناكير...وفي أحاديث معمر عن ثابت أحاديثُ غرائب ومنكرة، جعل: ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم كان كذا، شيءٌ يذكره، وإنما هذا حديث أبان بن أبي عياش عن أنس".
12/ معرفة وتمييز المراسيل، وبخاصة الخفية منها، وكذا التدليس والمدلسين.لأنَّ في تحقيق ذلك وتمييزه تحقيقٌ لأحد شروط الصِّحة الواجب توفرها ألا وهو (الاتصال)، وقد سبق في جواب متقدِّم بيان لبعض ما يتعلق بالتدليس والمدلسين.
ومن المهم في هذا المقام أن يفرِّق النَّاظر وبدقَّة بين التَّدليس والإرسال الخفي، وقد أبنت ذلك و أوضحته في كتابي (مرويات أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود عن أبيه جمعاً ودراسة)- وهو يُعدُّ للطبع بإذن الله تعالى- بياناً كافياً بأدلة- أحسبها إن شاء الله- ظاهرة الدلالة في التفرقة، والله الموفق.
ولعل في هذا القدر كفاية في بيان ما يمكن أنْ يعين على كشف العلَّة، مع العلم بأنَّ هناك وسائل أخرى غيرها، تظهر لمن استجمع الآلية والأهلية في النظر في كتب أهل العلم وبخاصة كتب العلل والسؤالات والتراجم المطوَّلة، أسأل الله التوفيق والسَّداد للجميع.

و ختاماً أقول: بهذا يتم الجواب عن بعض الأسئلة التي وردت إليَّ من الإخوة، وأعتذر عمن لم أجب عن أسئلته؛ و أعدهم بأنْ أزودهم بما أتمكن من الإجابة عنه في أقرب وقتٍ ممكنٍ، والله يعفو عنا وعن الجميع، وفَّق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وجعلنا من حُماة دينه وأنصار سنَّة نبيِّه صلى الله عليه وآله وسلَّم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نقل من شبكة سحاب

أبو الوليد خالد الصبحي
16-Oct-2010, 10:50 PM
جزاء الله شيخنا عبدالله البخاري خير الجزاء علي مابيان واضح علي بعض اسئلة
وبارك الله في نقل اخينا أبو أنس بن سلة بشير

أبو أنس بشير بن سلة الأثري
18-Jan-2011, 02:10 AM
بارك الله في الأخ العزيز وليد على مروره الطيب