أبو أنس بشير بن سلة الأثري
25-Feb-2011, 10:01 PM
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الأمن يعتبر من أهم مطالب الحياة والدين، بل لا تتحقق أهم مطالبها إلا بتوفره، حيث يعتبر ضرورة لكل جهد بشري، فردي أو جماعي، لتحقيق مصالح الأفراد والشعوب.
قال شيخنا الفاضل المفضال عبد الحميد العربي الجزائري حفظه الله في كتابه القيم
(الأمن وحاجة البشرية إليه في عبادتها لربها ونمو اقتصادها وطرق المحافظة عليه )( ص 78 )
(( وإن النفوسَ تتوحَّد وتتصالح بالإيمان والأمن، والحياة تزدهِر ويشملها عفو الله بهما، والأرزاق تُغدَق على الخلق، والتعارف ينتشر بين الناس، والعلوم تُتَلقَّى من منابعها الصافية، والحبل الوثيق بين الأمة وعلمائها يزدادُ متانة، والروابط تتوثّق بين أفراد المجتمع، والكلمة تتوحَّد، والجميع يأنس بالصلح والأمن، والناس يتبادلون المنافع، و الشعائر تُقام بطمأنينة، وحدود الله في أرض الله على عباد الله تقُام بكل سكينة، كل هذه النعم وغيرها يتفيأ المسلم ظلالها إذا حلّ في ربوع وطنه الأمن والإيمان.
وأما إذا اختلَّ الأمنُ تبدَّل الحالُ، ولم يهنأ أحدٌ براحةِ بال، فيلحقُ الناسَ الفزعُ في عبادتهم، فتُهجَر المساجد، وتتقطع حبال التواصل، ويعمّ الخوف وتزول الطمأنينة، وحينها يعسر على المسلم إظهار شعائر دينه، قال الله سبحانه: "فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ" [يونس:83]، وتُعاق سُبُلُ الدعوة، وينضَب وُصول الخير إلى الآخرين، وينقطع تحصيلُ العلم وملازمة العلماء، ولا توصَل الأرحام، ويئنُّ المريض فلا دواءَ ولا طبيب، وتختلُّ المعايش، وتهجَر الديار، وتفارَق الأوطان، وتتفرَّق الأسَر، وتنقَضُ عهودٌ ومواثيق، وتبور التجارة، ويتعسَّر طلبُ الرزق، وتتبدَّل طباعُ الخَلق، فيظهرُ الكَذِب ويُلقَى الشحّ ويبادَر إلى تصديق الخبَر المخوف وتكذيب خبر الأمن.
باختلال الأمن تُقتَل نفوسٌ بريئة، وترمَّل نساء، ويُيتَّم أطفال، وتفتقد أنفس، وإذا سُلِبت نعمةُ الأمن فشا الجهلُ وشاع الظلم وسلبتِ الممتلكات، وإذا حلَّ الخوفُ أُذيق المجتمعُ لباسَ الفقر والجوع، قال سبحانه: "فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ" [النحل:112].
قال القرطبي رحمه الله: (سمَّى الله الجوعَ والخوفَ لباسًا لأنه يظهِر عليهم من الهُزال وشحوبةِ اللون وسوءِ الحال ما هو كاللباس).الجامع لأحكام القرآن 10/194
إن الخوف يجلِب الغمَّ والهم والأمراض، وهو قرين الحزن، قال تعالى: "إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" [التوبة:40].
ويقول معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: (إيّاكم والفتنةَ، فلا تهمّوا بها، فإنها تفسِد المعيشةَ، وتكدِّر النِّعمة، وتورثُ الاستئصال) ،وقال ابن تيمية رحمه الله: (والفتنة إذا ثارت عَجَزَ الحكماء عن إطفاء نارها). منهاج السنة 4/367
قلت : صدق معاوية رضي الله عنه وأرضاه؛ إن الفتن لتورثُ في القلوب مرض الاستئصال والإقصاء، وتغير وقائع التاريخ، وتمحو بعض صوره المشرقة، وتؤخر الشريف وتقدم الوضيع، فالفتن تجعل دعاة التغريب يحكمون على الناس بدءً من الشكل والمظهر، ويَقيسون أعمال الخلق انطلاقا من الأيديولوجية التي تربوا عليها؛ قد تكون اشتراكية ماركسية، أو شيوعية ملحدة تنظر إلى المستقيم من أبناء المسلمين بأنه رجعي متخلف ضد الحضارة، ولا يصلح أن يتقلد المناصب العليا، أو أن يكون في الواجهة.
ولهذا كم من مُسلم أُوذي، وظُلم بسبب ارتدائه للقميص الأبيض، وإرخائه للحية، مع أنه غاية في حبّ الوطن، وقمة في الأخلاق، وشعلة في بناء وازدهار الوطن، وكم من طالب عِلمٍ مُتمكن أُبعد عن مناصب التعليم والإرشاد، وهُمِّش وغُرب لمحافظته على هندام أجداده، ولإحيائه لبعض سنن نبيه صلى الله عليه وسلم، ولكن دعاة التغريب ضاق أفقهم، وتكمش عطنهم، وذهب عقلهم، فراحوا يرخون الستور، ويحفرون القبور لكل من يخالفهم، ولو كان من أبرّ الناس، وأتقاهم، وأزكاهم عند الله تعالى.
إن صاحب العقل السليم إذا قلَّب بصرَه في الآفاقِ وجد أن الأمنَ ضرورة في كلّ شأن، ولن تصلَ الأمة إلى غايةِ كمالِ أمرٍ إلا بالأمن والاستقرار، بل لن تجدَ مجتمعًا ناهضًا وحبال الخوف تهزّ كيانَه، والإرهاب الأعمى يمزق أحشاء أبنائه، والفتنة تعربد من تحت أقدامه، وما حال العراق الجريح عنا ببعيد.
إنّ نعمةَ الأمن من أعظم نعَم الله حقًّا وصدقا على الخلق، حقيقٌ بأن تُذكَر ويذكَّر بها، وأن يُحافَظ عليها، وأن تهيأ أسباب بقائها، وتشال عوامل ذهابها، قال الله سبحانه وتعالى: "وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ" [الأنفال:26]. )) انتهى
وإن من الصور التي تخل بالأمن وتهدد استقرار الدول وتخرب البلاد وتضعف الاقتصاد وتفسد المنشأت وتسلب الأموال وتسفك بسببها الدماء وترمل النساء وتيتم الأطفال وتنتهك الأعراض تلك المظاهرات والمسيرات الجاهلية الهمجية الفوضوية التي انتشرت في بلاد الإسلام إذ وجدتها أرض خصبة سهلة النمو والانتشار مع وجود من يغذيها من رؤوس الضلال و دعاة الخروج والعصيان المدني
قال الشيخ عبد الحميد العربي وفقه الله ورفع قدره في كتاب الأمن ( ص 164ـ 168 )
(( إن العالمَ الحديث يعاني من موجات الإرهاب المنظم، والمسند من جهات غربية صليبية؛ إرهابٌ أعمى يقذف بالبشرية في أتون المصائب والشدّة، ويستنزف اقتصاد الدّول الصاعدة كالجزائر، والمملكة العربية السعودية، وجمهورية مصر، فلا يكاد يمر يوم دون أن تُسجل فيه عمليةٌ إرهابيةٌ يتردد صداها عبر أجهزة الإعلام المختلفة، حتى أصبح للعمليات الإرهابية أثرٌ بالغ في توجيه دفة كثير من الدول، وصار لدعاة الإرهاب ومن يمدهم من وراء البحر سلطةٌ في تغيير موازين الاقتصاد، وإحداث تغيرات جوهرية في أنظمة بعض الدول المستهدفة، وقد استغل دعاة الضلالة ممن تغذى من عقائد الفرق الضالة عبر التاريخ الإسلامي؛ كالخوارج والرافضة وضعَ الأمةِ المؤلم، وكوّنوا أحزابا وجماعاتٍ لمناهضة دولهم المسلمة باسم الإسلام، واسترجاع الخلافة الضائعة:
فوظفوا غربة الإسلام في ديار بعض المسلمين، واستغلوا الأسلوب الخاطئ من بعض الأنظمة الإسلامية؛ من تعذيبٍ، وسجنٍ، وقتلٍ، وتشريدٍ، واعتقال عشوائي في علاج اعوجاج الفرق المنحرفة.
وأوقفوا الناس عبر خطبهم النارية، وأشرطتهم الملتهبة، على تضييق الأنظمة الإسلامية على علماء الأمة وطلابها، وفي الوقت نفسه بينوا لهم أن المجال قد فُتح للاتجاه العلماني، وأن العنان قد أُطلق لهم في شتى مؤسسات الأمة؛ من جامعاتٍ، ومراكز ثقافية، وأنظمة شبابية، ومعلوم أن وضعا كهذا يدفع بكثير من الشباب المتحمس، والجاهل بمنهج السّلف الصّالح في التعامل مع جور السلطان إلى العنف والسرية في مواجهة الخطر الذي تصوَّرُوه، أو الذي أُوقفوا عليه.
أضف إلى ما ذكرت الانهيار الاقتصادي الذي تشهده بعض الدول الإسلامية، والظلم في توزيع ثروات الأمة، والبطالة التي خيم شبحُها على كثير من البيوت، وظهورَ الطبقية، والتمييز بين أفراد الأمة في المعاملة، فالشاب الملتحي يرى نفسه منبوذا بالأبواب، لا يسمح له باستخراج جواز سفر بصورة تظهر فيها لحيته، والمرأة المتحجبة تجد نفسها تتنفس من ثقب إبرة، وفي المقابل يرون شبابا واضعين القراط والشُّنوف في آذانهم، ويرتدون ألبسة الهنود الحمر، ونساء تسعون بالمائة من أجسادهن عارٍ، يُقدَّمون ويبجَّلون ويوصفون برواد الحضارة والتقدم. إنّ العوامل كالتي ذكرت، وأخرى لم أذكرها قد استغلها رؤوس الضلال من دعاة الخروج والعصيان المدني، وهيّجوا بها أبناء الأمة العاطفيين على حكّامهم، ودفعوهم إلى الانتقام واسترجاع الحقوق الضائعة، وغرّروا بهم، وأشعروهم أنهم من المجاهدين، وأنهم ظاهرون على الطواغيت وأعوانهم لا محالة، وحتى يُعطيَ رؤوسُ الضّلال للمغرر بهم حُجَجَ القتل والبتر وخلع الرؤوس، أفهموهم أن القائمين على النّظام في الدّول الإسلامية كفارٌ مرتدون، وخارجون عن الشريعة الربانية وعن كلّ قانون!، وأنهم عملاء لدولة صهيون، وأنّ كل من ساعدهم أو كان منضويا في سلكهم فهو منهم، ودواؤه القتل والإبادة بكل بسالة وضراوة، والله المستعان، ولقّنُوا الشّباب المتحمس أنّ عليهم واجبا لا بد أن يقوموا به وفاء لعقيدتهم، وهو إقامة دولة الإسلام التي طمس معالمها مصطفى أتاتورك، وفي الوقت نفسه يحسّسونهم أنهم ممنوعون من إظهار هذا الواجب، فيُوقِعُون الشبابَ في صراع دائم، وتمزق قائم، بين دافع العقيدة، ومانع الواقع، وحينها يشعرُ الشّبابُ المغرر بهم أنهم عاجزون عن تلبية نداء العقيدة، وأنهم في دوامة ضغطٍ ما تفتأ تُفقدهم صوابهم، صرخوا صرخةً أخرجتهم عن صفتهم البشرية، وصيَّرت حالهم إلى وحوش ضارية؛ حالة آلت بهم إلى انفصام بين الإرادة والعلم والواقع، وآنذاك أضحى أبناء الأمة مسلوبي التفكير، وعجينة في أيدي دعاة الدمار والشُّبه وشراء الذمم، يقذفونهم شمالا ويمينا، ويتلاعبون بمصيرهم على الصورة التي تحلوا لهم، وحتى يُفضي زعماء الخروج والتمرد على أفكارهم الصبغة الشرعية، يُهرعون إلى الاستدلال بالمتشابه من النّصوص الشّرعية من قرآن وسنة، وإسقاط آيات نزلت في الكفار على المؤمنين كاستدلالهم بقوله تعالى: "إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ"، وقوله تعالى: "وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ"، وغيرها من آي القرآن الكريم، وكاستدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم لأهل مكة (بعثت بالسيف، وحرف يده)، والاستئناس بفتاوى المرضى نفسيا والمشكوك في عدالتهم، ممن يقيم بديار الصلبان)). انتهى
وليعلم إخواننا وأحبابنا الكرام الفضلاء وكل من وقف على موضوعنا أن هذه المظاهرات والمسيرات الجاهلية الهمجية الفوضوية ما هي إلا صورة من صور الخروج على حكام المسلمين الذين أوجب الله تعالى علينا في حقهم السمع والطاعة لهم في المعروف والصبر على جور الجائرين منهم وأن هذا أصل من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة التي باينوا بها أهل الأهواء والبدع وقد علم بالضرورة من دين الإسلام أنه لا دين إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمامة ولا إمامة إلا بسمع وطاعة ويزيد اهتمام أهل السنة والجماعة بهذا الأصل العقدي وترسيخه عند غلبة الجهل أو فشو الأفكار المنحرفة عن منهج أهل السنة فيه
قال الشيخ عبد الحميد العربي الجزائري حفظه الله في كتابه الأمن ( ص 108 ـ 109)
((لقد تضافرت الأدلة من الكتاب وصحيح السنة والآثار السلفية الغراء، وانعقد الإجماع على وجوب طاعة ولاة أمر المسلمين في المعروف، وتوقيرهم وإكرامهم، وحفظ حقهم، والدعاء لهم، والصلاة خلفهم، ودفع الزكاة الظاهرة لهم، والحج والجهاد معهم، ومناصحتهم سراً، وحرمة غيبتهم، والطعن فيهم، والتشهير بعيوبهم على رؤوس المنابر وأوجه الصحف، وحرمة الخروج عليهم بالسنان أو اللسان، وحرمة الإعانة من خرج عليهم، أو التستر عليهم، أو الاستبشار بصنيعهم، فمتى حقق أبناء الأمّة هذه الأصول ظهر الأمن في ساحتهم، وتآلفت كلمتهم، وجنبوا أمتهم نزيف الفتن، وحرّ الفقر، ولهيب الجريمة المنظمة، وقطعوا دابر دعاة الإحن، والخروج باسم الدين لإقامة دول الإسلام المزعومة في دولة إسلامية قائمة منذ مئات السنين والله المستعان.
إلى أن قال حفظه الله ص 112
إنّ سلوك منهج السلف الصّالح في باب الخلافة والإمارة، والبعد عن عفن الخوارج والعقلانيين، يحقق للوطن نعمة الأمن، ويهبه تماسكا متينا، واستقرارا دائما، ويقطع دابر أهل الشرور من القطبيين والمفسدين في الأرض، والنصوص في هذا الباب كثيرة جدا، ولا يخلو منها مُصنّف من مصنفات أئمة الإسلام المتينة والأمينة، وإن غيّبها عن الناس دعاةُ الفكر المنحرف والفوضى، فسيرا على طريق أهل العلم الفضلاء أسرد ما يحضرني في باب الإمامة من آياتٍ وأحاديثَ وآثارٍ والله ولي التوفيق.
وقال في ص 119 ـ 121
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحِمََـهُ اللهُ-: (يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولابد لهم عند الاجتماع من رأس [ثم قال رحمه الله]: ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل، وإقامة الحج والجمع، والأعياد ونصر المظلوم، وإقامة الحدود، لا تتم إلا بالقوة والإمارة، ولهذا روي أن السلطان ظل الله في الأرض، ويقال: ستون سنة من إمام جائر أصّلح من ليلة واحدة بلا سلطان، والتجربة تبين ذلك [ثم قال رحمه الله]: فالواجب اتخاذ الإمارة ديناً وقربة يُتقرب بها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم من أفضل القربات، وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرياسة أو المال) (مجموع الفتاوى 28/390ـ391).
وقال رحمه الله: (وقَلَّ مَنْ خرج على إمام ذي سلطان؛ إلا كان ما تولَّد على فعله من الشر؛ أعظم مما تولد من الخير، كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة، وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق، وكابن المهلب الذي خرج على ابنه بخراسان، وكأبي مسلم صاحب الدعوة، الذي خرج عليهم بخراسان أيضًا، وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة، وأمثال هؤلاء، [ثم قال رحمه الله]: وغاية هؤلاء إما أن يُغْلَبُوا، وإما أن يَغْلِبُوا، ثم يزول ملكهم، فلا يكون لهم عاقبة، فإن عبد الله بن علي وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلْقًا كثيرًا، وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور، وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم؛ فهُزِموا وهُزِم أصحابهم، فلا أقاموا دينًا، ولا أَبْقَوْا دنيا، والله تعالى لا يأمر بأمر لا يصلح به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا، وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله المتقين، ومن أهل الجنة، فليسوا أفضل من علي، وعائشة، وطلحة، والزبير وغيرهم، ومع هذا لم يَحْمدُوا ما فعلوه من القتال، وهم أعظم قدرًا عند الله، وأحسن نية من غيرهم، [ثم قال رحمه الله]: وكذلك أهل الحرة: كان فيهم من أهل العلم والدين خَلْق، وكذلك أصحاب ابن الأشعث: كان فيهم خَلْق من أهل العلم والدين، والله يغفر لهم كلهم، [ثم قال]: وقد قيل للشعبي في فتنة ابن الأشعث: أين كنت يا عامر؟ قال: كنت حيث يقول الشاعر:
عَوَى الذُئب فاستأنسْتُ بالذئب إذْ عَوَى*وصَـوَّت إنسـانٌ فكـدتُ أطـير.
أصابتنا فتنة؛ لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء، [ثم قال]: وكان الحسن البصري يقول: إن الحجاج عذاب الله، فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم، ولكنْ عليكم بالاستكانة والتضرع؛ فإن الله تعالى يقول: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُون﴾، [ثم قال]: وكان أفاضل المسلمين ينهوْن عن الخروج والقتال في الفتنة، كما كان عبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب، وعلي بن الحسين، وغيرهم ينهوْن عام الحرَّة عن الخروج على يزيد، وكما كان الحسن البصري، ومجاهد، وغيرهما ينهوْن عن الخروج في فتنة ابن الأشعث، ولهذا استقر أمْر أهل السنة على تَرْكِ القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاروا يَذْكُرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جَوْر الأئمة وترْك قتالهم، وإن كان قد قاتل في الفتنة خَلْقٌ كثير من أهل العلم والدين، [إلى أن قال رحمه الله]: وهذا كله مما يُبيِّن أنّ ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الصّبر على جور الأئمة، وتَرْكِ قتالهم والخروج عليهم؛ هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد، وأنّ من خالف ذلك متعمدًا أو مخطئًا؛ لم يحصل بفعله صلاح، بل فساد، ولهذا أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الحسن بقوله: "إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"، ولم يُثْنِ على أحد لا بقتال في فتنة، ولا بخروج على الأئمة، ولا نَزْع يدٍ من طاعة، ولا مفارقة للجماعة).منهاج السنة 4/ 527إلى 531
وقال رحمه الله تعالى: (ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السّنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة، وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة، فلا يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته). منهاج السنة 3/391)) انتهى
ثم اعلم يا أخي المسلم ـ رحمك الله ـ فإنا نحمد إليك الله، ونوصيك بتقواه، فإن دين الله رشد وهدى، وإن دين الله طاعة الله ومخالفة من خالف سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ومنهم أولئك الخوارج الذين خلعوا يدا من طاعة وشقوا العصا وفارقوا الجماعة
ثم اعلم أن الخروج ينقسم إلى قسمين:
خروج بالقول وهو ذكر المثالب علناً في المجامع وعلى رؤوس المنابر ،وخروج بالسلاح
قال العلامة المحدث أحمد بن يحي النجمي رحمه الله في كتابه العظيم ( المورد العذب الزلال فيما انتقد على بعض المناهج الدعوية من العقائد والأعمال ص 19 إلى ص 27 ط مجالس الهدى الجزائرية )
((ثم اعلم أن الخروج ينقسم إلى قسمين:
خروج بالقول وهو ذكر المثالب علناً في المجامع وعلى رؤوس المنابر لأن ذلك يعد عصياناً لهم وتمرداً عليهم وإغراءاً بالخروج عليهم، وزرعاً لعدم الثقة فيهم، وتهييجاً للناس عليهم وهو أساس للخروج الفعلي وسبب له.
وإنما حرم الله علي لسان رسوله الخروج علي الولاة المسلمين لأن فيه مفاسد عظيمة لا يأتي عليها الحصر، من أهمها إزهاق النفس المسلمة البرئية.
ومنها سفك الدماء المعصومة، ومنها استحلال الفروج المحرمة، ومنها نهب الأموال، ومنها إخافة الطرق، ومنها فشو الجوع بدلاً من رغد العيش والخوف بدلاً من الأمن والقلق بدل الطمأنينة، وهذا كله في الدنيا، أما في الآخرة فلا يعلم إلا الله ما سيلقاه من كان سبباً في إثارة الفتنة لأن إسقاط دولة وإقامة دولة مكانها ليس بالأمر الهين ؛ بل هو من الصعوبة بمكان لذلك فقد اشتد تحذير المشرع من ذلك حتى ولو كان الوالي ظالماً فاسقاً، وإليك بعض النصوص الدالة على الصبر، والآمرة به والمحذرة من الخروج والناهية عنه.
ففي صحيح مسلم عن نافع قال جاء عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ إلى عبدالله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية، فقال اطرحوا لأبي عبدالرحمن وسادة، فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثاً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كره من أميره شيئاً فليصبر عليه فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبية أو يدعوا لعصبية أو ينصر عصبية فقتل فقتلته جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشا من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه)().
وفي صحيح مسلم أيضاً عن أبي إدريس الخولاني قال سمعت حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه يقول: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يارسول الله: إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: نعم. فقلت: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم. وفيه دخن. قلت وما دخنه؟ قال قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هدي تعرف منهم وتنكر. فقلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم. دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. فقلت: يارسول الله: صفهم لنا؟ قال: نعم. قوم من جلدتنا ويتكلمون بألستنا. قلت: يارسول الله: فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك).
وفي رواية أبي سلام عنده ـ يعني مسلماً ـ قلت: يارسول الله: إنا كنا في شرٍ فجاء الله بخير، فنحن فيه. فهل من وراء ذلك الخير شر. قال: نعم. قلت: فهل وراء ذلك الخير شر. قال: نعم. قلت: كيف؟ قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قلت: كيف أصنع يارسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع) صحيح مسلم .
وفي صحيح مسلم عن عرفجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنها ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان).
وفي رواية عنه أي عن عرفجة (من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه).
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الاخر منهما).
وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا. ما صلوا).
وفي رواية: (فمن أنكر برئ، ومن كره فقد سلم).
وعن عوف بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قال: قلنا يارسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة. لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة).
وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً معكم من الله فيه برهان)
وفي حديث أبي هريرة مرفوعاً (كانت بنوا إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فيكثرون. قالوا: فما تأمرنا. قال: فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم).
وفي حديث عبدالله بن عمرو بن العاص الطويل مرفوعاً (ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر).
فهذه أحد عشر حديثاً جمعتها من صحيح مسلم فقط وهي كالتالي:
1 ـ حديث عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
2 ـ حديث عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما.
3 ـ حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه.
4 ـ حديث عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما.
5 ـ حديث عن عرفجة الكلابي رضي الله عنه.
6 ـ حديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
7 ـ حديث عن أم سلمة زوج النبي ورضي الله عنها.
8 ـ حديث عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه.
9 ـ حديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
10 ـ حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً.
11 ـ حديث عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
وكل هذه الأحاديث صحيحة من صحيح مسلم الذي تلقته الأمة بالقبول وحكموا عليه بأنه أصح كتاب في الحديث بعد صحيح البخاري، وكل هذه الأحاديث أفادت أحكاماً تتعلق بحق الولاة على الرعية، واتفقت كلها على حكم واحد وهو تحريم الخروج على ولاة أمور المسلمين وإن كانوا ظلمة جائرين.
فنقول: يستفاد من هذه الأحاديث عدة أحكام:
الحكم الأول: تحريم الخروج على ولاة الأمر المسلمين وإن كانوا فسقة عاصين أو ظلمة جائرين، ووجوب الطاعة لهم فيما لم يكن معصية لله تعالى، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما كان وسيلة إلى واجب فهو واجب، وما كان وسيلة إلى محرم فهو محرم، والكلام في الولاة والتجريح لهم علناً محرم لأنه وسيلة إلى الخروج عليهم فكان محرماً.
الحكم الثاني: تحريم المنازعة لهم وهي تكون بأمور منها:
أ ـ إظهار احتقارهم والتهوين من شأنهم.
ب ـ إظهار مثالبهم في المجتمعات وعلى المنابر.
ج ـ اختلاق مثالب وعيوباً لهم من أجل زرع بغضهم في قلوب العامة والناشئة من طلاب العلم.
د ـ ذم العلماء واتهامهم بالمداهنة وبيع الذمم.
هـ ـ استعمال ما من شأنه التهييج عليهم والإثارة ضدهم، وكل هذا من أنواع منازعة الحكام الذي نهى عنه رسول الله كما في حديث عبادة بن الصامت الذي سبق ذكره بلفظ: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً معكم من الله فيه برهان).
الحكم الثالث: يؤخذ من حديث ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة أن من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية.
الحكم الرابع: يؤخذ من هذه الأحاديث أن البيعة المعتبرة هي بيعة الأول، وهي بيعة الإمام الظاهر للناس والمعروف عندهم لقوله (فوا ببيعة الأول فالأول).
الحكم الخامس: يؤخذ من هذه الأحاديث أن البيعة الثانية وهي البيعة الخفية بيعة باطلة فإن قال بعض الحزبيين: أنا لم أبايع، قيل له إن بيعة عريفك وشيخ قبيلتك بيعة عنك وأنت ملزم بها شرعاً، أمام الله عزوجل، ثم أمام خلقه.
الحكم السادس: يؤخذ من هذه الأحاديث أن من أخذ البيعة لنفسه من وراء علم الإمام وبغير إذنه،وجب قتله إن ظفر به، ووجب قتاله مع الإمام إن لم يظفر به، وخرج خروجاً فعلياً لقوله : (من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاضربوا عنقه كائناً من كان).
الحكم السابع: يؤخذ من هذه الأحاديث وجوب الصبر على جور الولاة ماداموا مسلمين، وعدم الخروج عليهم.
لقوله لأصحابه: (إنكم سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض) وقوله: (من رأى من إمامه شيئاً فليصبر ولا ينزعن يداً من طاعة فإنه من خرج من السلطان شبراً فمات مات ميتة جاهلية).
الحكم الثامن: أن من رأى من أميره أو إمامه معصية فعليه أن ينصح له نصيحة بشروطها، فإن لم يقبل وأصر على معصيته وجب عليه أن يكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يداً من طاعة، وكذلك إذا كان لا يستطيع النصيحة، فالواجب عليه أن يكره ذلك لقول النبي في حديث أم سلمة: (من أنكر برئ، ومن كره سلم، ولكن من رضي وتابع).
الحكم التاسع: على الرعية أن يؤدوا حق الولاة عليهم ويكلوا أمرهم إلى الله إن قصروا في حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم ولا يجوز لهم الخروج عليهم.
الحكم العاشر: أن الإمام إذا حصل منه قصور في حق الرعية فلا يجوز لهم أن يكافئوه على ذلك بمنع حقه من الطاعة ؛ بل عليهم أن يؤدوا حقه ويصبروا على ما حصل من الإمام إن فرض، ومعنى الصبر: أنهم لا يتكلمون فيه في المحافل والمجتمعات وعلى رؤوس المنابر ولهم أن يكتبوا إليه كتابة وعظ وتذكير، فإن لم يحصل شئ من التراجع وجب عليهم أن يصبروا، ولا يجوز لهم أن ينزعوا يداً من طاعة.
وأخيراً: فإني أذكر إخواني بما عليه دولتنا أيدها الله وبما نحن فيه من أمن ورخاء ورغد عيش.
فأقول: (1) يا إخواني إن دولتنا دولة مسلمة تحكم شرع الله في محاكمها وتقيم دين الله في واقعها وتعلم التوحيد في مدارسها ومعاهدها وجامعاتها.
قامت على التوحيد من أول يومها، وقضت على مظاهر الشرك في جميع سلطانها، تقيم الصلاة وتخصص المكافآت للأئمة والمؤذنين، وتعمل كل خير ومعروف في الداخل والخارج، وللأقليات المسلمة في كل مكان.
وكذلك ما تقوم به الدولة من إصلاحات في المشاعر المقدسة وسهر على مصلحة الحجيج والمحافظة عليهم وإرشادهم والمحافظة على سلامتهم إلى غير ذلك من الإصلاحات التي لا يحصيها ديوان.
فما الذي تنقمون منها وقد فعلت ما فعلت؟ ألم تسمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من خرج من السلطان قيد شبر فمات مات ميتة جاهلية)؟.
وقوله : (من خلع يداً من طاعة جاء يوم القيامة ولا حجة له: ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)؟
أين أنتم أيها الناقمون من هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة الكثيرة؟
أتتركون أوامر النبي الكريم الذي أوجب الله عليكم طاعته، ورتب عليها محبته وجنته وتطيعون من ليس بمعصوم من الخطأ والزلل؟
أين أنتم يا عباد الله من قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } ومن قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}.
أتطيعون رؤساءكم في منازعة الأمر أهله، وتعصون رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حذركم من منازعة ولاة الأمر أمرهم كما في حديث عبادة بن الصامت (وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن ترو كفراً بواحاً معكم من الله فيه برهان)؟
فهل رأيتم عند المسئولين في دولتنا إسلاماً وتحكيماً للشريعة وحكماً بها أو رأيتم كفراً بواحاً وتركاً للصلاة؟
أيها الناس: احمدوا الله واشكروه على ما أنتم فيه وأنتم في نعمة عظيمة يغبطكم عليها ويحسدكم بها القاصي والداني.
اعلموا أن الله يقول: {لئن شكرتم لأزيدنكم}، ويقول: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}
نحن نعلم بحكم ما كانت عليه المملكة سابقاً ولاحقاً، أن الدراسة فيها كانت ولا زالت على المنهج السلفي الذي يحرم الخروج على الولاة فما الذي حولكم عنه؟
أليس التخطيط السري الرهيب الذي غسل أدمغتكم وقلب أفكاركم رأساً على عقب فحصل ما حصل؟
إن المنهج الإخواني بجميع فصائله من سرورية وقطبية وجماعة تكفير وحزب جهاد وتحرير وغير ذلك كلها تتفق على الفكرة الحركية الحزبية الثورية، كلهم يدعون إلى التخطيط السري والخروج المفاجئ عندما يرون قوتهم قد اكتملت، وإن كانوا يدعون أنهم من أهل السنة والجماعة، وإن من تتبع تصريحاتهم في الأشرطة والصحف والمقالات والكتب يتبين له منها:
أنهم جميعاً متفقون على جواز الخروج على الولاة وإن كانوا مسلمين موحدين يقيمون الصلاة ويحكمون شرع الله )) انتهى
وقال الشيخ عبد المالك الرمضاني الجزائري في كتابه القيم ( مدارك النظر ص 306 ـ 307 ط دار الكتاب لبنان )
(( وعلى كل حال فإن مجرَّد التحريض على السلطان المسلم ـ وإن كان
فاسقا ـ صنعة الخوارج، قال ابن حجر في وصف بعض أنواع الخوارج:
" والقَعَدية الذين يُزَيِّنون الخروجَ على الأئمة ولا يباشِرون ذلك "[2]، وقال عبد الله بن محمد الضعيف: " قَعَدُ الخوارج هم أخبث الخوارج "[3].
قلت: فأيّ الخطباء اليوم سَلِم من هذه اللوثة؟! ولاسيما منهم الذين يخطبون من الناس جمهرتهم والشهرة عندهم! فاللهم سلِّم!!
ولذلك قال الشيخ صالح السدلان فيهم: " .. فالبعض من الإخوان قد يفعل هذا بحسن نية معتقدا أن الخروج إنما يكون بالسلاح فقط، والحقيقة أن الخروج لا يقتصر على الخروج بقوة السلاح، أو التمرد بالأساليب المعروفة فقط، بل إن الخروج بالكلمة أشد من الخروج بالسلاح؛ لأن الخروج بالسلاح والعنف لا يُرَبِّيه إلا الكلمة فنقول للأخوة الذين يأخذهم الحماس، ونظن منهم الصلاح إن شاء الله تعالى عليهم أن يتريثوا، وأن نقول لهم رويدا فإن صلفكم وشدتكم تربي شيئا في القلوب، تربي القلوب الطرية التي لا تعرف إلا الاندفاع، كما أنها تفتح أمام أصحاب الأغراض أبوابا ليتكلموا وليقولوا ما في أنفسهم إن حقا وإن باطلا.
ولا شك أن الخروج بالكلمة واستغلال الأقلام بأي أسلوب كان أو استغلال الشريط أو المحاضرات والندوات في تحميس الناس على غير وجه شرعي أعتقد أن هذا أساس الخروج بالسلاح، وأحذر من ذلك أشد التحذير، وأقول لهؤلاء: عليكم بالنظر إلى النتائج وإلى من سبقهم في هذا المجال، لينظروا إلى الفتن التي تعيشها بعض المجتمعات الإسلامية ما سببها وما الخطوة التي أوصلتهم إلى ما هم فيه، فإذا عرفنا ذلك ندرك أن الخروج بالكلمة واستغلال وسائل الإعلام والاتصال للتنفير والتحميس والتشديد يُرَبِّي الفتنة في
القلوب "[4].
قال عمر بن يزيد: سمعتُ الحسن ـ أي البصري ـ أيّام يزيد بن المهلب قال: وأتاه رهطٌ فأمَرَهم أن يَلزَموا بيوتَهم ويُغلِقوا عليهم أبوابَهم، ثم قال: " والله! لو أنّ الناس إذا ابتُلُوا مِن قِبَل سلطانهم صبروا، ما لبِثوا أن يرفع اللهُ ذلك عنهم؛ وذلك أنهم يَفزَعون إلى السيف فيوكَلُوا إليه! ووالله! ما جاؤوا بيوم خير قطّ!"، ثم تلا:{وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَني إسْرَائِيلَ بِما صَبَرُوا ودَمَّرْنا مَا كان يَصْنَعُ فِرعَوْنُ وقومُه وما كانوا يَعْرِشُون} "[5].)) انتهى
أما بعد:
فإن الأمن يعتبر من أهم مطالب الحياة والدين، بل لا تتحقق أهم مطالبها إلا بتوفره، حيث يعتبر ضرورة لكل جهد بشري، فردي أو جماعي، لتحقيق مصالح الأفراد والشعوب.
قال شيخنا الفاضل المفضال عبد الحميد العربي الجزائري حفظه الله في كتابه القيم
(الأمن وحاجة البشرية إليه في عبادتها لربها ونمو اقتصادها وطرق المحافظة عليه )( ص 78 )
(( وإن النفوسَ تتوحَّد وتتصالح بالإيمان والأمن، والحياة تزدهِر ويشملها عفو الله بهما، والأرزاق تُغدَق على الخلق، والتعارف ينتشر بين الناس، والعلوم تُتَلقَّى من منابعها الصافية، والحبل الوثيق بين الأمة وعلمائها يزدادُ متانة، والروابط تتوثّق بين أفراد المجتمع، والكلمة تتوحَّد، والجميع يأنس بالصلح والأمن، والناس يتبادلون المنافع، و الشعائر تُقام بطمأنينة، وحدود الله في أرض الله على عباد الله تقُام بكل سكينة، كل هذه النعم وغيرها يتفيأ المسلم ظلالها إذا حلّ في ربوع وطنه الأمن والإيمان.
وأما إذا اختلَّ الأمنُ تبدَّل الحالُ، ولم يهنأ أحدٌ براحةِ بال، فيلحقُ الناسَ الفزعُ في عبادتهم، فتُهجَر المساجد، وتتقطع حبال التواصل، ويعمّ الخوف وتزول الطمأنينة، وحينها يعسر على المسلم إظهار شعائر دينه، قال الله سبحانه: "فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ" [يونس:83]، وتُعاق سُبُلُ الدعوة، وينضَب وُصول الخير إلى الآخرين، وينقطع تحصيلُ العلم وملازمة العلماء، ولا توصَل الأرحام، ويئنُّ المريض فلا دواءَ ولا طبيب، وتختلُّ المعايش، وتهجَر الديار، وتفارَق الأوطان، وتتفرَّق الأسَر، وتنقَضُ عهودٌ ومواثيق، وتبور التجارة، ويتعسَّر طلبُ الرزق، وتتبدَّل طباعُ الخَلق، فيظهرُ الكَذِب ويُلقَى الشحّ ويبادَر إلى تصديق الخبَر المخوف وتكذيب خبر الأمن.
باختلال الأمن تُقتَل نفوسٌ بريئة، وترمَّل نساء، ويُيتَّم أطفال، وتفتقد أنفس، وإذا سُلِبت نعمةُ الأمن فشا الجهلُ وشاع الظلم وسلبتِ الممتلكات، وإذا حلَّ الخوفُ أُذيق المجتمعُ لباسَ الفقر والجوع، قال سبحانه: "فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ" [النحل:112].
قال القرطبي رحمه الله: (سمَّى الله الجوعَ والخوفَ لباسًا لأنه يظهِر عليهم من الهُزال وشحوبةِ اللون وسوءِ الحال ما هو كاللباس).الجامع لأحكام القرآن 10/194
إن الخوف يجلِب الغمَّ والهم والأمراض، وهو قرين الحزن، قال تعالى: "إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" [التوبة:40].
ويقول معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: (إيّاكم والفتنةَ، فلا تهمّوا بها، فإنها تفسِد المعيشةَ، وتكدِّر النِّعمة، وتورثُ الاستئصال) ،وقال ابن تيمية رحمه الله: (والفتنة إذا ثارت عَجَزَ الحكماء عن إطفاء نارها). منهاج السنة 4/367
قلت : صدق معاوية رضي الله عنه وأرضاه؛ إن الفتن لتورثُ في القلوب مرض الاستئصال والإقصاء، وتغير وقائع التاريخ، وتمحو بعض صوره المشرقة، وتؤخر الشريف وتقدم الوضيع، فالفتن تجعل دعاة التغريب يحكمون على الناس بدءً من الشكل والمظهر، ويَقيسون أعمال الخلق انطلاقا من الأيديولوجية التي تربوا عليها؛ قد تكون اشتراكية ماركسية، أو شيوعية ملحدة تنظر إلى المستقيم من أبناء المسلمين بأنه رجعي متخلف ضد الحضارة، ولا يصلح أن يتقلد المناصب العليا، أو أن يكون في الواجهة.
ولهذا كم من مُسلم أُوذي، وظُلم بسبب ارتدائه للقميص الأبيض، وإرخائه للحية، مع أنه غاية في حبّ الوطن، وقمة في الأخلاق، وشعلة في بناء وازدهار الوطن، وكم من طالب عِلمٍ مُتمكن أُبعد عن مناصب التعليم والإرشاد، وهُمِّش وغُرب لمحافظته على هندام أجداده، ولإحيائه لبعض سنن نبيه صلى الله عليه وسلم، ولكن دعاة التغريب ضاق أفقهم، وتكمش عطنهم، وذهب عقلهم، فراحوا يرخون الستور، ويحفرون القبور لكل من يخالفهم، ولو كان من أبرّ الناس، وأتقاهم، وأزكاهم عند الله تعالى.
إن صاحب العقل السليم إذا قلَّب بصرَه في الآفاقِ وجد أن الأمنَ ضرورة في كلّ شأن، ولن تصلَ الأمة إلى غايةِ كمالِ أمرٍ إلا بالأمن والاستقرار، بل لن تجدَ مجتمعًا ناهضًا وحبال الخوف تهزّ كيانَه، والإرهاب الأعمى يمزق أحشاء أبنائه، والفتنة تعربد من تحت أقدامه، وما حال العراق الجريح عنا ببعيد.
إنّ نعمةَ الأمن من أعظم نعَم الله حقًّا وصدقا على الخلق، حقيقٌ بأن تُذكَر ويذكَّر بها، وأن يُحافَظ عليها، وأن تهيأ أسباب بقائها، وتشال عوامل ذهابها، قال الله سبحانه وتعالى: "وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ" [الأنفال:26]. )) انتهى
وإن من الصور التي تخل بالأمن وتهدد استقرار الدول وتخرب البلاد وتضعف الاقتصاد وتفسد المنشأت وتسلب الأموال وتسفك بسببها الدماء وترمل النساء وتيتم الأطفال وتنتهك الأعراض تلك المظاهرات والمسيرات الجاهلية الهمجية الفوضوية التي انتشرت في بلاد الإسلام إذ وجدتها أرض خصبة سهلة النمو والانتشار مع وجود من يغذيها من رؤوس الضلال و دعاة الخروج والعصيان المدني
قال الشيخ عبد الحميد العربي وفقه الله ورفع قدره في كتاب الأمن ( ص 164ـ 168 )
(( إن العالمَ الحديث يعاني من موجات الإرهاب المنظم، والمسند من جهات غربية صليبية؛ إرهابٌ أعمى يقذف بالبشرية في أتون المصائب والشدّة، ويستنزف اقتصاد الدّول الصاعدة كالجزائر، والمملكة العربية السعودية، وجمهورية مصر، فلا يكاد يمر يوم دون أن تُسجل فيه عمليةٌ إرهابيةٌ يتردد صداها عبر أجهزة الإعلام المختلفة، حتى أصبح للعمليات الإرهابية أثرٌ بالغ في توجيه دفة كثير من الدول، وصار لدعاة الإرهاب ومن يمدهم من وراء البحر سلطةٌ في تغيير موازين الاقتصاد، وإحداث تغيرات جوهرية في أنظمة بعض الدول المستهدفة، وقد استغل دعاة الضلالة ممن تغذى من عقائد الفرق الضالة عبر التاريخ الإسلامي؛ كالخوارج والرافضة وضعَ الأمةِ المؤلم، وكوّنوا أحزابا وجماعاتٍ لمناهضة دولهم المسلمة باسم الإسلام، واسترجاع الخلافة الضائعة:
فوظفوا غربة الإسلام في ديار بعض المسلمين، واستغلوا الأسلوب الخاطئ من بعض الأنظمة الإسلامية؛ من تعذيبٍ، وسجنٍ، وقتلٍ، وتشريدٍ، واعتقال عشوائي في علاج اعوجاج الفرق المنحرفة.
وأوقفوا الناس عبر خطبهم النارية، وأشرطتهم الملتهبة، على تضييق الأنظمة الإسلامية على علماء الأمة وطلابها، وفي الوقت نفسه بينوا لهم أن المجال قد فُتح للاتجاه العلماني، وأن العنان قد أُطلق لهم في شتى مؤسسات الأمة؛ من جامعاتٍ، ومراكز ثقافية، وأنظمة شبابية، ومعلوم أن وضعا كهذا يدفع بكثير من الشباب المتحمس، والجاهل بمنهج السّلف الصّالح في التعامل مع جور السلطان إلى العنف والسرية في مواجهة الخطر الذي تصوَّرُوه، أو الذي أُوقفوا عليه.
أضف إلى ما ذكرت الانهيار الاقتصادي الذي تشهده بعض الدول الإسلامية، والظلم في توزيع ثروات الأمة، والبطالة التي خيم شبحُها على كثير من البيوت، وظهورَ الطبقية، والتمييز بين أفراد الأمة في المعاملة، فالشاب الملتحي يرى نفسه منبوذا بالأبواب، لا يسمح له باستخراج جواز سفر بصورة تظهر فيها لحيته، والمرأة المتحجبة تجد نفسها تتنفس من ثقب إبرة، وفي المقابل يرون شبابا واضعين القراط والشُّنوف في آذانهم، ويرتدون ألبسة الهنود الحمر، ونساء تسعون بالمائة من أجسادهن عارٍ، يُقدَّمون ويبجَّلون ويوصفون برواد الحضارة والتقدم. إنّ العوامل كالتي ذكرت، وأخرى لم أذكرها قد استغلها رؤوس الضلال من دعاة الخروج والعصيان المدني، وهيّجوا بها أبناء الأمة العاطفيين على حكّامهم، ودفعوهم إلى الانتقام واسترجاع الحقوق الضائعة، وغرّروا بهم، وأشعروهم أنهم من المجاهدين، وأنهم ظاهرون على الطواغيت وأعوانهم لا محالة، وحتى يُعطيَ رؤوسُ الضّلال للمغرر بهم حُجَجَ القتل والبتر وخلع الرؤوس، أفهموهم أن القائمين على النّظام في الدّول الإسلامية كفارٌ مرتدون، وخارجون عن الشريعة الربانية وعن كلّ قانون!، وأنهم عملاء لدولة صهيون، وأنّ كل من ساعدهم أو كان منضويا في سلكهم فهو منهم، ودواؤه القتل والإبادة بكل بسالة وضراوة، والله المستعان، ولقّنُوا الشّباب المتحمس أنّ عليهم واجبا لا بد أن يقوموا به وفاء لعقيدتهم، وهو إقامة دولة الإسلام التي طمس معالمها مصطفى أتاتورك، وفي الوقت نفسه يحسّسونهم أنهم ممنوعون من إظهار هذا الواجب، فيُوقِعُون الشبابَ في صراع دائم، وتمزق قائم، بين دافع العقيدة، ومانع الواقع، وحينها يشعرُ الشّبابُ المغرر بهم أنهم عاجزون عن تلبية نداء العقيدة، وأنهم في دوامة ضغطٍ ما تفتأ تُفقدهم صوابهم، صرخوا صرخةً أخرجتهم عن صفتهم البشرية، وصيَّرت حالهم إلى وحوش ضارية؛ حالة آلت بهم إلى انفصام بين الإرادة والعلم والواقع، وآنذاك أضحى أبناء الأمة مسلوبي التفكير، وعجينة في أيدي دعاة الدمار والشُّبه وشراء الذمم، يقذفونهم شمالا ويمينا، ويتلاعبون بمصيرهم على الصورة التي تحلوا لهم، وحتى يُفضي زعماء الخروج والتمرد على أفكارهم الصبغة الشرعية، يُهرعون إلى الاستدلال بالمتشابه من النّصوص الشّرعية من قرآن وسنة، وإسقاط آيات نزلت في الكفار على المؤمنين كاستدلالهم بقوله تعالى: "إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ"، وقوله تعالى: "وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ"، وغيرها من آي القرآن الكريم، وكاستدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم لأهل مكة (بعثت بالسيف، وحرف يده)، والاستئناس بفتاوى المرضى نفسيا والمشكوك في عدالتهم، ممن يقيم بديار الصلبان)). انتهى
وليعلم إخواننا وأحبابنا الكرام الفضلاء وكل من وقف على موضوعنا أن هذه المظاهرات والمسيرات الجاهلية الهمجية الفوضوية ما هي إلا صورة من صور الخروج على حكام المسلمين الذين أوجب الله تعالى علينا في حقهم السمع والطاعة لهم في المعروف والصبر على جور الجائرين منهم وأن هذا أصل من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة التي باينوا بها أهل الأهواء والبدع وقد علم بالضرورة من دين الإسلام أنه لا دين إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمامة ولا إمامة إلا بسمع وطاعة ويزيد اهتمام أهل السنة والجماعة بهذا الأصل العقدي وترسيخه عند غلبة الجهل أو فشو الأفكار المنحرفة عن منهج أهل السنة فيه
قال الشيخ عبد الحميد العربي الجزائري حفظه الله في كتابه الأمن ( ص 108 ـ 109)
((لقد تضافرت الأدلة من الكتاب وصحيح السنة والآثار السلفية الغراء، وانعقد الإجماع على وجوب طاعة ولاة أمر المسلمين في المعروف، وتوقيرهم وإكرامهم، وحفظ حقهم، والدعاء لهم، والصلاة خلفهم، ودفع الزكاة الظاهرة لهم، والحج والجهاد معهم، ومناصحتهم سراً، وحرمة غيبتهم، والطعن فيهم، والتشهير بعيوبهم على رؤوس المنابر وأوجه الصحف، وحرمة الخروج عليهم بالسنان أو اللسان، وحرمة الإعانة من خرج عليهم، أو التستر عليهم، أو الاستبشار بصنيعهم، فمتى حقق أبناء الأمّة هذه الأصول ظهر الأمن في ساحتهم، وتآلفت كلمتهم، وجنبوا أمتهم نزيف الفتن، وحرّ الفقر، ولهيب الجريمة المنظمة، وقطعوا دابر دعاة الإحن، والخروج باسم الدين لإقامة دول الإسلام المزعومة في دولة إسلامية قائمة منذ مئات السنين والله المستعان.
إلى أن قال حفظه الله ص 112
إنّ سلوك منهج السلف الصّالح في باب الخلافة والإمارة، والبعد عن عفن الخوارج والعقلانيين، يحقق للوطن نعمة الأمن، ويهبه تماسكا متينا، واستقرارا دائما، ويقطع دابر أهل الشرور من القطبيين والمفسدين في الأرض، والنصوص في هذا الباب كثيرة جدا، ولا يخلو منها مُصنّف من مصنفات أئمة الإسلام المتينة والأمينة، وإن غيّبها عن الناس دعاةُ الفكر المنحرف والفوضى، فسيرا على طريق أهل العلم الفضلاء أسرد ما يحضرني في باب الإمامة من آياتٍ وأحاديثَ وآثارٍ والله ولي التوفيق.
وقال في ص 119 ـ 121
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحِمََـهُ اللهُ-: (يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولابد لهم عند الاجتماع من رأس [ثم قال رحمه الله]: ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل، وإقامة الحج والجمع، والأعياد ونصر المظلوم، وإقامة الحدود، لا تتم إلا بالقوة والإمارة، ولهذا روي أن السلطان ظل الله في الأرض، ويقال: ستون سنة من إمام جائر أصّلح من ليلة واحدة بلا سلطان، والتجربة تبين ذلك [ثم قال رحمه الله]: فالواجب اتخاذ الإمارة ديناً وقربة يُتقرب بها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم من أفضل القربات، وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرياسة أو المال) (مجموع الفتاوى 28/390ـ391).
وقال رحمه الله: (وقَلَّ مَنْ خرج على إمام ذي سلطان؛ إلا كان ما تولَّد على فعله من الشر؛ أعظم مما تولد من الخير، كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة، وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق، وكابن المهلب الذي خرج على ابنه بخراسان، وكأبي مسلم صاحب الدعوة، الذي خرج عليهم بخراسان أيضًا، وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة، وأمثال هؤلاء، [ثم قال رحمه الله]: وغاية هؤلاء إما أن يُغْلَبُوا، وإما أن يَغْلِبُوا، ثم يزول ملكهم، فلا يكون لهم عاقبة، فإن عبد الله بن علي وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلْقًا كثيرًا، وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور، وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم؛ فهُزِموا وهُزِم أصحابهم، فلا أقاموا دينًا، ولا أَبْقَوْا دنيا، والله تعالى لا يأمر بأمر لا يصلح به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا، وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله المتقين، ومن أهل الجنة، فليسوا أفضل من علي، وعائشة، وطلحة، والزبير وغيرهم، ومع هذا لم يَحْمدُوا ما فعلوه من القتال، وهم أعظم قدرًا عند الله، وأحسن نية من غيرهم، [ثم قال رحمه الله]: وكذلك أهل الحرة: كان فيهم من أهل العلم والدين خَلْق، وكذلك أصحاب ابن الأشعث: كان فيهم خَلْق من أهل العلم والدين، والله يغفر لهم كلهم، [ثم قال]: وقد قيل للشعبي في فتنة ابن الأشعث: أين كنت يا عامر؟ قال: كنت حيث يقول الشاعر:
عَوَى الذُئب فاستأنسْتُ بالذئب إذْ عَوَى*وصَـوَّت إنسـانٌ فكـدتُ أطـير.
أصابتنا فتنة؛ لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء، [ثم قال]: وكان الحسن البصري يقول: إن الحجاج عذاب الله، فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم، ولكنْ عليكم بالاستكانة والتضرع؛ فإن الله تعالى يقول: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُون﴾، [ثم قال]: وكان أفاضل المسلمين ينهوْن عن الخروج والقتال في الفتنة، كما كان عبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب، وعلي بن الحسين، وغيرهم ينهوْن عام الحرَّة عن الخروج على يزيد، وكما كان الحسن البصري، ومجاهد، وغيرهما ينهوْن عن الخروج في فتنة ابن الأشعث، ولهذا استقر أمْر أهل السنة على تَرْكِ القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاروا يَذْكُرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جَوْر الأئمة وترْك قتالهم، وإن كان قد قاتل في الفتنة خَلْقٌ كثير من أهل العلم والدين، [إلى أن قال رحمه الله]: وهذا كله مما يُبيِّن أنّ ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الصّبر على جور الأئمة، وتَرْكِ قتالهم والخروج عليهم؛ هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد، وأنّ من خالف ذلك متعمدًا أو مخطئًا؛ لم يحصل بفعله صلاح، بل فساد، ولهذا أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الحسن بقوله: "إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"، ولم يُثْنِ على أحد لا بقتال في فتنة، ولا بخروج على الأئمة، ولا نَزْع يدٍ من طاعة، ولا مفارقة للجماعة).منهاج السنة 4/ 527إلى 531
وقال رحمه الله تعالى: (ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السّنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة، وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة، فلا يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته). منهاج السنة 3/391)) انتهى
ثم اعلم يا أخي المسلم ـ رحمك الله ـ فإنا نحمد إليك الله، ونوصيك بتقواه، فإن دين الله رشد وهدى، وإن دين الله طاعة الله ومخالفة من خالف سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ومنهم أولئك الخوارج الذين خلعوا يدا من طاعة وشقوا العصا وفارقوا الجماعة
ثم اعلم أن الخروج ينقسم إلى قسمين:
خروج بالقول وهو ذكر المثالب علناً في المجامع وعلى رؤوس المنابر ،وخروج بالسلاح
قال العلامة المحدث أحمد بن يحي النجمي رحمه الله في كتابه العظيم ( المورد العذب الزلال فيما انتقد على بعض المناهج الدعوية من العقائد والأعمال ص 19 إلى ص 27 ط مجالس الهدى الجزائرية )
((ثم اعلم أن الخروج ينقسم إلى قسمين:
خروج بالقول وهو ذكر المثالب علناً في المجامع وعلى رؤوس المنابر لأن ذلك يعد عصياناً لهم وتمرداً عليهم وإغراءاً بالخروج عليهم، وزرعاً لعدم الثقة فيهم، وتهييجاً للناس عليهم وهو أساس للخروج الفعلي وسبب له.
وإنما حرم الله علي لسان رسوله الخروج علي الولاة المسلمين لأن فيه مفاسد عظيمة لا يأتي عليها الحصر، من أهمها إزهاق النفس المسلمة البرئية.
ومنها سفك الدماء المعصومة، ومنها استحلال الفروج المحرمة، ومنها نهب الأموال، ومنها إخافة الطرق، ومنها فشو الجوع بدلاً من رغد العيش والخوف بدلاً من الأمن والقلق بدل الطمأنينة، وهذا كله في الدنيا، أما في الآخرة فلا يعلم إلا الله ما سيلقاه من كان سبباً في إثارة الفتنة لأن إسقاط دولة وإقامة دولة مكانها ليس بالأمر الهين ؛ بل هو من الصعوبة بمكان لذلك فقد اشتد تحذير المشرع من ذلك حتى ولو كان الوالي ظالماً فاسقاً، وإليك بعض النصوص الدالة على الصبر، والآمرة به والمحذرة من الخروج والناهية عنه.
ففي صحيح مسلم عن نافع قال جاء عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ إلى عبدالله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية، فقال اطرحوا لأبي عبدالرحمن وسادة، فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثاً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كره من أميره شيئاً فليصبر عليه فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبية أو يدعوا لعصبية أو ينصر عصبية فقتل فقتلته جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشا من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه)().
وفي صحيح مسلم أيضاً عن أبي إدريس الخولاني قال سمعت حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه يقول: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يارسول الله: إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: نعم. فقلت: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم. وفيه دخن. قلت وما دخنه؟ قال قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هدي تعرف منهم وتنكر. فقلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم. دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. فقلت: يارسول الله: صفهم لنا؟ قال: نعم. قوم من جلدتنا ويتكلمون بألستنا. قلت: يارسول الله: فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك).
وفي رواية أبي سلام عنده ـ يعني مسلماً ـ قلت: يارسول الله: إنا كنا في شرٍ فجاء الله بخير، فنحن فيه. فهل من وراء ذلك الخير شر. قال: نعم. قلت: فهل وراء ذلك الخير شر. قال: نعم. قلت: كيف؟ قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قلت: كيف أصنع يارسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع) صحيح مسلم .
وفي صحيح مسلم عن عرفجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنها ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان).
وفي رواية عنه أي عن عرفجة (من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه).
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الاخر منهما).
وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا. ما صلوا).
وفي رواية: (فمن أنكر برئ، ومن كره فقد سلم).
وعن عوف بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قال: قلنا يارسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة. لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة).
وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً معكم من الله فيه برهان)
وفي حديث أبي هريرة مرفوعاً (كانت بنوا إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فيكثرون. قالوا: فما تأمرنا. قال: فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم).
وفي حديث عبدالله بن عمرو بن العاص الطويل مرفوعاً (ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر).
فهذه أحد عشر حديثاً جمعتها من صحيح مسلم فقط وهي كالتالي:
1 ـ حديث عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
2 ـ حديث عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما.
3 ـ حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه.
4 ـ حديث عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما.
5 ـ حديث عن عرفجة الكلابي رضي الله عنه.
6 ـ حديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
7 ـ حديث عن أم سلمة زوج النبي ورضي الله عنها.
8 ـ حديث عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه.
9 ـ حديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
10 ـ حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً.
11 ـ حديث عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
وكل هذه الأحاديث صحيحة من صحيح مسلم الذي تلقته الأمة بالقبول وحكموا عليه بأنه أصح كتاب في الحديث بعد صحيح البخاري، وكل هذه الأحاديث أفادت أحكاماً تتعلق بحق الولاة على الرعية، واتفقت كلها على حكم واحد وهو تحريم الخروج على ولاة أمور المسلمين وإن كانوا ظلمة جائرين.
فنقول: يستفاد من هذه الأحاديث عدة أحكام:
الحكم الأول: تحريم الخروج على ولاة الأمر المسلمين وإن كانوا فسقة عاصين أو ظلمة جائرين، ووجوب الطاعة لهم فيما لم يكن معصية لله تعالى، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما كان وسيلة إلى واجب فهو واجب، وما كان وسيلة إلى محرم فهو محرم، والكلام في الولاة والتجريح لهم علناً محرم لأنه وسيلة إلى الخروج عليهم فكان محرماً.
الحكم الثاني: تحريم المنازعة لهم وهي تكون بأمور منها:
أ ـ إظهار احتقارهم والتهوين من شأنهم.
ب ـ إظهار مثالبهم في المجتمعات وعلى المنابر.
ج ـ اختلاق مثالب وعيوباً لهم من أجل زرع بغضهم في قلوب العامة والناشئة من طلاب العلم.
د ـ ذم العلماء واتهامهم بالمداهنة وبيع الذمم.
هـ ـ استعمال ما من شأنه التهييج عليهم والإثارة ضدهم، وكل هذا من أنواع منازعة الحكام الذي نهى عنه رسول الله كما في حديث عبادة بن الصامت الذي سبق ذكره بلفظ: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً معكم من الله فيه برهان).
الحكم الثالث: يؤخذ من حديث ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة أن من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية.
الحكم الرابع: يؤخذ من هذه الأحاديث أن البيعة المعتبرة هي بيعة الأول، وهي بيعة الإمام الظاهر للناس والمعروف عندهم لقوله (فوا ببيعة الأول فالأول).
الحكم الخامس: يؤخذ من هذه الأحاديث أن البيعة الثانية وهي البيعة الخفية بيعة باطلة فإن قال بعض الحزبيين: أنا لم أبايع، قيل له إن بيعة عريفك وشيخ قبيلتك بيعة عنك وأنت ملزم بها شرعاً، أمام الله عزوجل، ثم أمام خلقه.
الحكم السادس: يؤخذ من هذه الأحاديث أن من أخذ البيعة لنفسه من وراء علم الإمام وبغير إذنه،وجب قتله إن ظفر به، ووجب قتاله مع الإمام إن لم يظفر به، وخرج خروجاً فعلياً لقوله : (من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاضربوا عنقه كائناً من كان).
الحكم السابع: يؤخذ من هذه الأحاديث وجوب الصبر على جور الولاة ماداموا مسلمين، وعدم الخروج عليهم.
لقوله لأصحابه: (إنكم سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض) وقوله: (من رأى من إمامه شيئاً فليصبر ولا ينزعن يداً من طاعة فإنه من خرج من السلطان شبراً فمات مات ميتة جاهلية).
الحكم الثامن: أن من رأى من أميره أو إمامه معصية فعليه أن ينصح له نصيحة بشروطها، فإن لم يقبل وأصر على معصيته وجب عليه أن يكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يداً من طاعة، وكذلك إذا كان لا يستطيع النصيحة، فالواجب عليه أن يكره ذلك لقول النبي في حديث أم سلمة: (من أنكر برئ، ومن كره سلم، ولكن من رضي وتابع).
الحكم التاسع: على الرعية أن يؤدوا حق الولاة عليهم ويكلوا أمرهم إلى الله إن قصروا في حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم ولا يجوز لهم الخروج عليهم.
الحكم العاشر: أن الإمام إذا حصل منه قصور في حق الرعية فلا يجوز لهم أن يكافئوه على ذلك بمنع حقه من الطاعة ؛ بل عليهم أن يؤدوا حقه ويصبروا على ما حصل من الإمام إن فرض، ومعنى الصبر: أنهم لا يتكلمون فيه في المحافل والمجتمعات وعلى رؤوس المنابر ولهم أن يكتبوا إليه كتابة وعظ وتذكير، فإن لم يحصل شئ من التراجع وجب عليهم أن يصبروا، ولا يجوز لهم أن ينزعوا يداً من طاعة.
وأخيراً: فإني أذكر إخواني بما عليه دولتنا أيدها الله وبما نحن فيه من أمن ورخاء ورغد عيش.
فأقول: (1) يا إخواني إن دولتنا دولة مسلمة تحكم شرع الله في محاكمها وتقيم دين الله في واقعها وتعلم التوحيد في مدارسها ومعاهدها وجامعاتها.
قامت على التوحيد من أول يومها، وقضت على مظاهر الشرك في جميع سلطانها، تقيم الصلاة وتخصص المكافآت للأئمة والمؤذنين، وتعمل كل خير ومعروف في الداخل والخارج، وللأقليات المسلمة في كل مكان.
وكذلك ما تقوم به الدولة من إصلاحات في المشاعر المقدسة وسهر على مصلحة الحجيج والمحافظة عليهم وإرشادهم والمحافظة على سلامتهم إلى غير ذلك من الإصلاحات التي لا يحصيها ديوان.
فما الذي تنقمون منها وقد فعلت ما فعلت؟ ألم تسمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من خرج من السلطان قيد شبر فمات مات ميتة جاهلية)؟.
وقوله : (من خلع يداً من طاعة جاء يوم القيامة ولا حجة له: ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)؟
أين أنتم أيها الناقمون من هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة الكثيرة؟
أتتركون أوامر النبي الكريم الذي أوجب الله عليكم طاعته، ورتب عليها محبته وجنته وتطيعون من ليس بمعصوم من الخطأ والزلل؟
أين أنتم يا عباد الله من قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } ومن قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}.
أتطيعون رؤساءكم في منازعة الأمر أهله، وتعصون رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حذركم من منازعة ولاة الأمر أمرهم كما في حديث عبادة بن الصامت (وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن ترو كفراً بواحاً معكم من الله فيه برهان)؟
فهل رأيتم عند المسئولين في دولتنا إسلاماً وتحكيماً للشريعة وحكماً بها أو رأيتم كفراً بواحاً وتركاً للصلاة؟
أيها الناس: احمدوا الله واشكروه على ما أنتم فيه وأنتم في نعمة عظيمة يغبطكم عليها ويحسدكم بها القاصي والداني.
اعلموا أن الله يقول: {لئن شكرتم لأزيدنكم}، ويقول: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}
نحن نعلم بحكم ما كانت عليه المملكة سابقاً ولاحقاً، أن الدراسة فيها كانت ولا زالت على المنهج السلفي الذي يحرم الخروج على الولاة فما الذي حولكم عنه؟
أليس التخطيط السري الرهيب الذي غسل أدمغتكم وقلب أفكاركم رأساً على عقب فحصل ما حصل؟
إن المنهج الإخواني بجميع فصائله من سرورية وقطبية وجماعة تكفير وحزب جهاد وتحرير وغير ذلك كلها تتفق على الفكرة الحركية الحزبية الثورية، كلهم يدعون إلى التخطيط السري والخروج المفاجئ عندما يرون قوتهم قد اكتملت، وإن كانوا يدعون أنهم من أهل السنة والجماعة، وإن من تتبع تصريحاتهم في الأشرطة والصحف والمقالات والكتب يتبين له منها:
أنهم جميعاً متفقون على جواز الخروج على الولاة وإن كانوا مسلمين موحدين يقيمون الصلاة ويحكمون شرع الله )) انتهى
وقال الشيخ عبد المالك الرمضاني الجزائري في كتابه القيم ( مدارك النظر ص 306 ـ 307 ط دار الكتاب لبنان )
(( وعلى كل حال فإن مجرَّد التحريض على السلطان المسلم ـ وإن كان
فاسقا ـ صنعة الخوارج، قال ابن حجر في وصف بعض أنواع الخوارج:
" والقَعَدية الذين يُزَيِّنون الخروجَ على الأئمة ولا يباشِرون ذلك "[2]، وقال عبد الله بن محمد الضعيف: " قَعَدُ الخوارج هم أخبث الخوارج "[3].
قلت: فأيّ الخطباء اليوم سَلِم من هذه اللوثة؟! ولاسيما منهم الذين يخطبون من الناس جمهرتهم والشهرة عندهم! فاللهم سلِّم!!
ولذلك قال الشيخ صالح السدلان فيهم: " .. فالبعض من الإخوان قد يفعل هذا بحسن نية معتقدا أن الخروج إنما يكون بالسلاح فقط، والحقيقة أن الخروج لا يقتصر على الخروج بقوة السلاح، أو التمرد بالأساليب المعروفة فقط، بل إن الخروج بالكلمة أشد من الخروج بالسلاح؛ لأن الخروج بالسلاح والعنف لا يُرَبِّيه إلا الكلمة فنقول للأخوة الذين يأخذهم الحماس، ونظن منهم الصلاح إن شاء الله تعالى عليهم أن يتريثوا، وأن نقول لهم رويدا فإن صلفكم وشدتكم تربي شيئا في القلوب، تربي القلوب الطرية التي لا تعرف إلا الاندفاع، كما أنها تفتح أمام أصحاب الأغراض أبوابا ليتكلموا وليقولوا ما في أنفسهم إن حقا وإن باطلا.
ولا شك أن الخروج بالكلمة واستغلال الأقلام بأي أسلوب كان أو استغلال الشريط أو المحاضرات والندوات في تحميس الناس على غير وجه شرعي أعتقد أن هذا أساس الخروج بالسلاح، وأحذر من ذلك أشد التحذير، وأقول لهؤلاء: عليكم بالنظر إلى النتائج وإلى من سبقهم في هذا المجال، لينظروا إلى الفتن التي تعيشها بعض المجتمعات الإسلامية ما سببها وما الخطوة التي أوصلتهم إلى ما هم فيه، فإذا عرفنا ذلك ندرك أن الخروج بالكلمة واستغلال وسائل الإعلام والاتصال للتنفير والتحميس والتشديد يُرَبِّي الفتنة في
القلوب "[4].
قال عمر بن يزيد: سمعتُ الحسن ـ أي البصري ـ أيّام يزيد بن المهلب قال: وأتاه رهطٌ فأمَرَهم أن يَلزَموا بيوتَهم ويُغلِقوا عليهم أبوابَهم، ثم قال: " والله! لو أنّ الناس إذا ابتُلُوا مِن قِبَل سلطانهم صبروا، ما لبِثوا أن يرفع اللهُ ذلك عنهم؛ وذلك أنهم يَفزَعون إلى السيف فيوكَلُوا إليه! ووالله! ما جاؤوا بيوم خير قطّ!"، ثم تلا:{وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَني إسْرَائِيلَ بِما صَبَرُوا ودَمَّرْنا مَا كان يَصْنَعُ فِرعَوْنُ وقومُه وما كانوا يَعْرِشُون} "[5].)) انتهى