المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حديث عظيم



أم رشا السلفية
03-Apr-2011, 08:00 PM
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته :

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير . أحرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز . وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كان كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله ، ما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان ) . رواه مسلم.

قــــــــــــال الشيـــــــخ العثيميــــن رحمــــه الله :

........فالإنسان العاقل الذي يقبل وصية صلى الله عليه وسلم هو الذي يحرص على ما ينفعه ، وما أكثر الذين يضيعون أوقاتهم اليوم في غير فائدة ، بل في مضرة على أنفسهم وعلى دينهم ، وعلى هذا فيجدر بنا أن نقول لمثل هؤلاء : إنكم لم تعملوا بوصية النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إما جهلاً منكم وإما تهاوناً ، لكن المؤمن العاقل الحازم هو الذي يقبل هذه النصيحة ، ويحرص على ما ينفعه في دينه ودنياه .

وهذا حديث عظيم ينبغي للإنسان أن يجعله نبراساً له في عمله الديني والدنيوي ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( احرص على ما ينفعك ) وهذه الكلمة كلمة جامعة عامة ، ( على ما ينفعك ) أي على كل شيء ينفعك سواء في الدين أو في الدنيا ، فإذا تعارضت منفعة الدين ومنفعة الدنيا فقدم منفعة الدين ؛ لأن الدين إذا صلح صلحت الدنيا ، أما الدنيا إذا صلحت مع فساد الدين فإنها تفسد .

وفي قوله : ( احرص على ما ينفعك ) إشارة إلى أنه تعارضت منفعتان إحداهما أعلى من الأخرى ، فإننا نقدم المنفعة العليا ؛ لأن المنفعة العليا فيها المنفعة التي دونها وزيادة ، فتدخل في قوله ( احرص على ما ينفعك ) .

فإذا اجتمع صلة أخ وصلة عم كلاهما سواء في الحاجة ، وأنت لا يمكنك أن تصل الرجلين جميعاً ،فهنا تقدم صلة الأخ لأنها أفضل وأنفع ، وكذلك أيضاً لو أنك بين مسجدين كلاهما في البعد سواء لكن أحدهما أكثر جماعة فإننا نقدم الأكثر جماعة لأنه الأفضل ، فقوله ( على ما ينفعك ) يشير إلى أنه اجتمعت منفعتان إحداهما أعلى من الأخرى فإنها تقدم الأعلى .

وبالعكس إذا كان الإنسان لابد أن يرتكب منهياً عنه من أمرين منهي عنهما وكان أحدهما أشد، فإنه يرتكب الأخف ، فالمناهي يقدم الأخف منها ، والأوامر يقدم الأعلى منها .

وقوله عليه الصلاة والسلام : ( واستعن بالله ) : ما أروع هذه الكلمة بعد قوله ( احرص على ما ينفعك ) لأن الإنسان إذا كان عاقلاً ذكياً فإنه يتتبع المنافع ويأخذ بالأنفع ويجتهد ، ويحرص ، وربما تغره نفسه حتى يعتمد على نفسه وينسى الاستعانة بالله ، وهذا يقع لكثير من الناس ، حيث يعجب بنفسه ولا يذكر الله عز وجل ويستعين به ، فإذا رأى من نفسه قوة على الأعمال وحرصاً على النافع وفعلاً له ، أعجب بنفسه ونسى الاستعانة بالله ، ولهذا قال : ( أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ) أي لا تنس الاستعانة بالله ولو على الشيء اليسير ، وفي الحديث : (ليسأل أحدكم ربه حاجته حتى يسأله الملح ، وحتى يسأله شسع نعله إذا انقطع )(61) يعني حتى الشيء اليسير لا تنس الاستعانة بالله عز وجل ، حتى ولو أردت أن تتوضأ أو تصلى أو تذهب يميناً أو شمالاً أو تضع شيئاً فاستحضر أنك مستعين بالله عز وجل ، وأنه لولا عون الله ما حصل لك هذا الشيء .

ثم قال : ( ولا تعجز ) يعني استمر في العمل ولا تعجز وتتأخر ، وتقول : إن المدى طويل والشغل كثير ، فما دمت صممت في أول الأمر أن هذا هو الأنفع لك واستعنت بالله وشرعت فيه فلا تعجز .

وهذا الحديث في الحقيقة يحتاج إلى مجلدات يتكلم عليه فيها الإنسان ؛ لأن له من الصور والمسائل ما لا يحصى ، منها مثلاً طالب العلم الذي يشرع في كتاب يرى أن فيه منفعة ومصلحة له ، ثم بعد أسبوع أو شهر يمل ، وينتقل إلى كتاب آخر ، هذا نقول عنه : إنه استعان بالله وحرص على ما ينفعه ولكنه عجز ، كيف عجز ؟ بكونه لم يستمر ، لأن معنى قوله : ( لا تعجز ) أي لا تترك العمل ؛ بل ما دمت دخلت فيه على أنه نافع فاستمر فيه ، ولذا تجد هذا الرجل يمضي عليه الوقت ولم يحصل شيئاً ؛ لأنه أحياناً يقرأ في هذا ، وأحياناً في هذا .

حتى في المسألة الجزئية ؛ تجد بعض طلبة العلم مثلاً يريد أن يرجع مسألة من المسائل في كتاب ، ثم يتصفح الكتاب ، يبحث عن هذه المسألة ، فيعرض له أثناء تصفح الكتاب مسألة أخرى يقف عندها ، ثم مسألة ثانية ، فيقف عندها ، ثم ثالثة ، فيقف ، ثم يضيع الأصل الذي فتح الكتاب من أجله ، فيضيع عليه الوقت ، وهذا ما يقع كثيراً في مثل فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ تجد الإنسان يطالعها ليأخذ مسألة ، ثم تمر مسألة أخرى تعجبه وهكذا ، وهذا ليس بصحيح ؛ بل الصحيح أن تنظر الأصل الذي فتحت الكتاب من أجله .

كذلك أيضاً في تراجم الصحابة ، في الإصابة ـ مثلاً ـ لابن حجر ـ رحمه الله ـ حين يبحث الطالب عن ترجمة صحابي من الصحابة ، ثم يفتح الكتاب من أجل أن يصل إلى ترجمته ، فتعرض له ترجمة صحابي آخر ، فيقف عندها ويقرؤها ، ثم يفتح الكتاب ، يجد صحابياً آخر ، ثم هكذا يضيع عليه الوقت ولا يحصل الترجمة التي من أجلها فتح الكتاب ، وهذا فيه ضياع للوقت .

ولهذا كان من هدي الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يبدأ بالأهم الذي تحرك من أجله ، ولذلك لما دعا عتبان بن مالك الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال له : أريد أن تأتي لتصلي في بيتي ؛ لأتخذ من المكان الذي صليت فيه مصلى لي ، فخرج النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ومعه نفر من أصحابه ، فلما وصلوا ، إلي بيت عتبان واستأذنوا ودخلوا ، وإذا عتبان قد صنع لهم طعاماً ، ولكن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يبدأ بالطعام ، بل قال : ( أين المكان الذي تريد أن نصلي فيه ؟ ) فأراه إياه ، فصلى ، ثم جلس للطعام(62) ، فهذه دليل على أن الإنسان يبدأ بالأهم ، وبالذي تحرك من أجله ؛ من أجل ألا يضيع عمله سدى .

فقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( لا تعجز ) أي لا تكسل وتتأخر في العمل إذا شرعت فيه ، بل استمر ؛ لأنك إذا تركت ثم شرعت في عمل آخر ، ثم تركت ثم شرعت ثم تركت ، ما تم لك عمل .

ثم قال ـ عليه الصلاة والسلام : ( فإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت لكان كذا وكذا ) ويعني بعد أن تحرص وتبذل الجهد ، وتستعين بالله ، وتستمر ، ثم يخرج الأمر على خلاف ما تريد ، فلا تقل : لو أني فعلت لكان كذا لأن هذا أمر فوق إرادتك ، أنت فعلت الذي تؤمر به ، ولكن الله ـ عز وجل ـ غالب على أمره ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف:21)، ونضرب مثالاً لذلك : إذا سافر رجل يريد العمرة ، ولكنه في أثناء الطريق تعطلت السيارة ، ثم رجع فقال : لو أني أخذت السيارة والأخرى لكان أحسن ، ولما حصل على التعطل ، نقول : لا تقل هكذا ؛ لأنك أنت بذلت الجهد ، ولو كان الله ـ عز وجل ـ أراد أن تبلغ العمرة ليسر لك الأمر ، ولكن الله لم يرد ذلك .

فالإنسان إذا بذل ما يستطيع مما أمر ببذله ، وأخلفت الأمور ؛ فحينئذ يفوض الأمر إلى الله ؛ لأنه فعل ما يقدر عليه ، ولهذا قال : ( إن أصابك شيء ) يعني بعد بذل الجهد والاستعانة بالله ـ عز وجل ـ ( فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا كَذا ) .

وجزى الله عنا نبينا خير الجزاء ؛ فقد بين لنا الحكمة من ذلك ، حيث قال : ( فإن لو تفتح عمل الشيطان ) أي تفتح عليك الوساوس والأحزان والندم والهموم ، حتى تقول : لو أني فعلت لكان كذا . فلا تقل هكذا ، والأمر انتهى ، ولا يمكن أن يتغير عما وقع ، وهذا أمر مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن تخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وسيكون على هذا الوضع مهما عملت .

ولهذا قال ( ولكن قل : قدر الله ) أي هذا قدر الله ، أي تقدير الله وقضاؤه ، وما شاء الله ـ عز وجل ـ فعله ( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) (هود:107) ، لا أحد يمنعه أن يفعل في ملكه ما يشاء ، ما شاء فعل ـ عز وجل .

............................

مقتطف من شرح_ رياض الصالحين _ المجلد الثاني .
المكتبة المقروءة .