أبو أنس بشير بن سلة الأثري
17-Apr-2011, 04:44 PM
تذكير النابهين بمنهج السلف في الرجوع عن الخطأ ومخالفة المعاندين:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه، أرسله إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين ساروا على طريقته في الدعوة إلى سبيله، وصبروا على ذلك، وجاهدوا فيه حتى أظهر الله بهم دينه، وأعلى كلمته ولو كره المشركون، وسلم تسليما كثيرا
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الجن والإنس ليعبد وحده لا شريك له، وليعظم أمره ونهيه، وليعرف بأسمائه وصفاته، كما قال عز وجل: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }الذاريات 56 ، وقال تعالى { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ }الملك 1. 2
قال العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله في ( تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص875):(( فإن الله خلق عباده، وأخرجهم لهذه الدار، وأخبرهم أنهم سينقلون منها، وأمرهم ونهاهم، وابتلاهم بالشهوات المعارضة لأمره، فمن انقاد لأمر الله وأحسن العمل، أحسن الله له الجزاء في الدارين، ومن مال مع شهوات النفس، ونبذ أمر الله، فله شر الجزاء.)) انتهى
وإن مما ابتلى به الله عز وجل عباده الوقوع في الخطأ ، وأن هذا من طبيعة البشر إلا من عصمه الله عز وجل من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام فعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ". رواه الترمذي وابن ماجه.
فالتقصير في أداء ماأوجب الله على عباده حاصل منهم ، مع الوقوع فيما نُهوا عنه، وطريق السلامة من ذلك رجوعهم إلى الله، وتوبتهم من ذنوبهم، وسؤال الله عزَّ وجلَّ أن يغفرها لهم فيما وقعوا فيه .
ومن ألطف ما ذكر في هذا الباب أن تقع هذه الأخطاء في مسائل علمية من طرف أهل العلم، ووقوعهم في زلل أو خطأ لازم من لوازم البشرية؛ حيث كما قلنا إن العصمة لم تكتب لأحد من البشر إلا الأنبياء عليهم السلام، لذا فإن مجرد صدور الخطأ من العالم أو طالب العلم أمر لا ينقص من قدره، لكن الذي يشين العالم أو طالب العلم ويحط من قدره أنه إذا وقع في باطل ثم ظهر له الحق، أن يتمادى في هذا الباطل ويصر عليه ويأبى الرجوع إلى الحق.
ولهذا مما هو متقرر في أصول أهل السنة والجماعة أنه ما من أحد مهما علت منزلته في الإمامة إلا ويؤخذ من قوله ويرد إلا النبي صلى الله عليه وسلم وإننا مأمورين بإتباع هديه صلى الله عليه وسلم وإتباع سَبِيلِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ رضي الله عنهم ،قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الواسيطة
(( ثُمَّ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ إتباع آثَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ،وإتباع سَبِيلِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ،وإتباع وَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ أَصْدَقَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،فَيُؤْثِرُونَ كَلَامَ اللَّهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ كَلَامِ أَصْنَافِ النَّاسِ ،وَيُقَدِّمُونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَدْيِ كُلِّ أَحَدٍ ،وَلهَذَا سُمُّوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ،وَسُمُّوا أَهْلَ الْجَمَاعَةِ ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ الاجْتِمَاعُ، وَضِدُّهَا الْفُرْقَةُ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ «الْجَمَاعَةِ» قَدْ صَارَ اسْمًا لِنَفْسِ الْقَوْمِ الْمُجْتَمِعِينَ.
وَالْإِجْمَاعُ هُوَ الْأَصْلُ الثَّالِثُ؛ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ ،وَهُمْ يَزِنُونَ بِهَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ بَاطِنَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ، مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ.)) انتهى
وإن مما نحمد الله عليه ونشكره أن مشايخنا أهل السنة والجماعة لا يزكون أنفسهم، ولا يبرئونها من الخطأ والزلل، والذنوب والمعاصي، بل هم معترفون بذلك على أنفسهم، وأنهم مقصرون في الأعمال الصالحات، والعصمة إنما هي للرسل؛ولكنهم لا يرضون ما يسخط الله، من الأقوال والأعمال، والغلو، والتجاوز، والمجاوزة للحد، بغير ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا القول على الله بلا علم؛ كما هو حال عباد الأحبار والرُّهبان، و الرّوافض، و غلاة الصّوفيّة، الذين يقدّسون الأشخاص، ويعتقدون فيهم العصمة.
ولكن كما قلنا أن أئمتنا لا يتفقون على خطأ، فلو قدر وجود خطأ ما من شخص أو طائفة، فإن هناك من يبين ذلك الخطأ، ويوضح الصواب، ويرده إلى الكتاب والسنة، لقول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59].
ولتقريب منهج أهل الحديث والسنة للقراء الأعزاء الكرام أود أن أنقل في سفري هذا بعض الآثار والوقائع التي وقعت لأئمتنا فيما وقعوا فيه من الأخطاء ثم رجعوا عنها ، وذلك لما رأينا نفسا غريبا وخللا عظيما وقع في صفنا نحن معشر أهل السنة والجماعة، وبخاصة من بعض الدعاة البارزين فيها بالتلاعب بأصول السنة والتشغيب فيها، فإذا نبهوا عن أخطائهم، ترى منهم المكابرة والعجب بالرأي و التلون والتلاعب والحيدة في الرجوع والذبذبة فيها وعدم الاعتراف بالخطأ، والانكسار بين يدي الله والإنابة والتوبة إليه مع استكمال شروطها المعروفة.
ولهذا كما قلنا سنذكر بعض النماذج من رجوع الأئمة الأتقياء الجهابذة عن أخطائهم التي وقعوا فيها ، ونذكر أيضا بعض النماذج من تلون وتذبذب وتلاعب أهل الانحراف والضلال في رجوعهم عن أخطائهم، بل إصرارهم عليها وتماديهم في الباطل ، وذكر شيء من الأسباب التي أوقعتهم في هذا التمادي والمكابرة حتى إذا وقف عليها ممن ينسب إلى العلم رجع إلى نفسه ، فتصفح أمره ، فإن كان فيه خلق من تلك الأخلاق المكروهة المذمومة استغفر الله ، وأسرع الرجعة عنها إلى أخلاق هي أولى بالعلم.
نماذج من أثار ومواقف السلف الصالح في الرجوع عن الخطأ
جاء في صحيح البخاري (14/ 187):
"حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ :قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ وَكَانَ مِنْ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ يَا ابْنَ أَخِي هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ قَالَ سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ هِيْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ وَلَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ }، وَإِنَّ هَذَا مِنْ الْجَاهِلِينَ وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ " انتهى
قال الإمام أبوالعباس ابن تيمية رحمه الله في (مجموع فتاوى ابن تيمية 1/ 149):
( كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يُبَيِّنُ لَهُ أَشْيَاءَ تُخَالِفُ مَا يَقَعُ لَهُ كَمَا بَيَّنَ لَهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةَ وَيَوْمَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَوْمَ قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُشَاوِرُ الصَّحَابَةَ ؛ فَتَارَةً يَرْجِعُ إلَيْهِمْ وَتَارَةً يَرْجِعُونَ إلَيْهِ وَرُبَّمَا قَالَ الْقَوْلَ : فَتَرُدُّ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَوْلَهُ وَتُبَيِّنُ لَهُ الْحَقَّ فَيَرْجِعُ إلَيْهَا وَيَدَعُ قَوْلَهُ كَمَا قُدِّرَ الصَّدَاقُ وَرُبَّمَا يَرَى رَأْيًا فَيُذْكَرُ لَهُ حَدِيثٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَعْمَلُ بِهِ وَيَدَعُ رَأْيَهُ وَكَانَ يَأْخُذُ بَعْضَ السُّنَّةِ عَمَّنْ هُوَ دُونَهُ فِي قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٍ وَكَانَ يَقُولُ الْقَوْلَ فَيُقَالُ لَهُ : أَصَبْت فَيَقُولُ وَاَللَّهِ مَا يَدْرِي عُمَرُ أَصَابَ الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأَهُ ؟ . فَإِذَا كَانَ هَذَا إمَامَ الْمُحَدِّثِينَ فَكُلُّ ذِي قَلْبٍ يُحَدِّثُهُ قَلْبُهُ عَنْ رَبِّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ هُوَ دُونَ عُمَرَ فَلَيْسَ فِيهِمْ مَعْصُومٌ بَلْ الْخَطَأُ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ تَدَّعِي أَنَّ الْوَلِيَّ مَحْفُوظٌ وَهُوَ نَظِيرُ مَا يَثْبُتُ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْعِصْمَةِ وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ قَدْ أَشَارَ إلَى هَذَا - فَهَذَا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ : يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانُوا مُتَفَاضِلِينَ فِي الْهُدَى وَالنُّورِ وَالْإِصَابَةِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصِّدِّيقُ أَفْضَلَ مِنْ الْمُحَدِّثِ لِأَنَّ الصِّدِّيقَ يَأْخُذُ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ فَلَا يَأْخُذُ إلَّا شَيْئًا مَعْصُومًا مَحْفُوظًا . وَأَمَّا الْمُحَدِّثُ فَيَقَعُ لَهُ صَوَابٌ وَخَطَأٌ وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ تَمَيَّزَ صَوَابُهُ مِنْ خَطَئِهِ ؛ وَبِهَذَا صَارَ جَمْعُ الْأَوْلِيَاءِ مُفْتَقِرِينَ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا بُدَّ لَهُمْ أَنْ يَزِنُوا جَمِيعَ أُمُورِهِمْ بِآثَارِ الرَّسُولِ فَمَا وَافَقَ آثَارَ الرَّسُولِ فَهُوَ الْحَقُّ وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ فِيهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يُثِيبُهُمْ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ وَيَغْفِرُ لَهُمْ خَطَأَهُمْ ) انتهى
وجاء في ( الرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل) (( منتديات البيضاء )) للشيخ أبي عبد الأعلى خالد بن محمد بن عثمان حفظه الله
((وثَمَّ مثال رائع لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في هذا الشأن، حيث قال –رحمه الله- كما في المسائل الماردينية (ص103-ط. ابن تيمية-بتحقيقي) في تحقيقه لحكم السمن الذي وقعت فيه فأرة: "فإن قيل: فقد روي في الحديث: "إن كان جامدًا فألقوها وما حولها كُلوا سمنكم، وإن كان مائعًا فلا تقربوه"، رواه أبو داود وغيره.
قيل: هذه الزيادة التي اعتمد عليها من فرَّق بين الجامد والمائع، واعتقدوا أنها ثابتة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا في ذلك مجتهدين قائلين بمبلغ علمهم واجتهادهم، وقد ضعَّف محمد بن يحيى الذهلي حديث الزهري وصحَّح هذه الزيادة، لكن قد تبين لغيرهم أن هذه الزيادة وقعت خطأ في الحديث ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي تبين لنا ولغيرنا، ونحن جازمون بأن هذه الزيادة ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك رجعنا عن الإفتاء بها بعد أن كنا نفتي بها أولاً؛ فإن الرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل".اهـ
وقال السيوطي في الْمُزهر في علوم اللُّغة (2/320): "وإذا اتفق له –أي العالم- خطأ في شيء ثم بان له الصواب فليرجع، ولا يُصر على غلطه".اهـ
ولقد ضرب سلفنا الصالح أروع الأمثلة في نبذ الباطل والرجوع إلى الحق، وهاك بعض الأمثلة التي تبين هذا النهج السوي:
المثال الأول:قال البخاري في صحيحه (6736): حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا أبو قيس سمعت هزيل بن شرحبيل قال: سئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن وأخت؟ فقال: للابنة النصف وللأخت النصف وأت ابن مسعود فسيتابعني؛ فسئل ابن مسعود وأُخبر بقول أبي موسى فقال: لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم للابنة النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت؛ فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم.
والشاهد هو رجوع أبي موسى عن فتواه لما تبين له أن الدليل مع ابن مسعود رضي الله عنهما.
المثال الثاني:قال أحمد في مسنده (1/217) ثنا مروان بن شجاع حدثني خصيف عن مجاهد عن بن عباس أنه طاف مع معاوية بالبيت فجعل معاوية يستلم الأركان كلها فقال له ابن عباس: لِمَ تستلم هذين الركنين ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما؟ فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورًا، فقال ابن عباس: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، فقال معاوية: صدقت.
وأخرجه أحمد أيضًا في (1/322)، والترمذي (858) من طريق عبد الرزاق عن معمر والثوري عن ابن خثيم عن أبي الطفيل عن ابن عباس بنحوه، وعلّقه البخاري بصيغة الجزم في كتاب الحج (باب: من لا يستلم إلا الركنيين اليمانيين)، وانظر تغليق التعليق (3/72،71).
المثال الثالث: قال مسلم في صحيحه (1547) حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا يزيد بن زريع عن أيوب عن نافع أن ابن عمر كان يُكري مزارعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إمارة أبي بكر وعمر وعثمان وصدرًا من خلافة معاوية حتى بلغه في آخر خلافة معاوية أنَّ رافع بن خَديج يحدِّث فيها بنهي عن النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأنا معه فسأله فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كراء المزارع، فتركها ابن عمر بعد، وكان إذا سئل عنها بعد قال: زعم رافع بن خَديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها.
وقال أيضًا: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا حسين يعني ابن حسن بن يسار حدثنا ابن عون عن نافع: أن ابن عمر كان يَأجُرُ الأرض قال: فنبئ حديثًا عن رافع بن خديج، قال: فانطلق بي معه إليه قال فذكر عن بعض عمومته ذكر فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن كراء الأرض، قال: فتركه ابن عمر فلم يَأجُرْه.
المثال الرابع:قال المزي في تهذيب الكمال في ترجمة نُعَيْم بن حماد: "وروى الحافظ أبو نصر الحسن بن محمد بن إبراهيم اليونارتي بإسناده عن عباس بن محمد الدوري قال: سمعت يحيى بن معين يقول: حضرنا نُعَيْم بن حماد بمصر فجعل يقرأ كتابًا من تصنيفه قال فقرأ ساعة ثم قال: حدثنا ابن المبارك عن ابن عون بأحاديث، قال يحيى: فقلت له: ليس هذا عن ابن المبارك فغضب وقال ترد علي، قال:قلت إي والله أرد عليك أريد زينك، فأبى أن يرجع، فلما رأيته هكذا لا يرجع قلت: لا والله ما سمعت أنت هذا من ابن المبارك قط ولا سمعها ابن المبارك من ابن عون قط، فغضب وغضب من كان عنده من أصحاب الحديث، وقام نُعَيْم فدخل البيت فأخرج صحائف فجعل يقول وهي بيده: أين الذين يزعمون أن يحيى بن معين ليس أمير المؤمنين في الحديث نعم يا أبا زكريا غلطت وكانت صحائف فغلطت فجعلت أكتب من حديث ابن المبارك عن ابن عون وإنما روى هذه الأحاديث عن ابن عون غير ابن المبارك.
قال الحافظ أبو نصر: ومما يدل على ديانة نُعَيْم وأمانته رجوعه إلى الحق لما نبه على سهوه وأوقف على غلطه، فلم يستنكف عن قبول الصواب إذ الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل والمتمادي في الباطل لم يزدد من الصواب إلا بعدًا.اهـ
المثال الخامس:قال الحافظ في الفتح (12/262): "وذكر أبو عبيد بسند صحيح عن زفر أنه رجع عن قول أصحابه فأسند عن عبد الواحد بن زياد قال: قلت لزفر: إنكم تقولون تدرأ الحدود بالشبهات فجئتم إلى أعظم الشبهات فأقدمتم عليها المسلم يقتل بالكافر، قال: فاشهد على أني رجعت عن هذا".
المثال السادس:قال الذهبي في السير (18/474): " وحكى الفقيه أبو عبدالله الحسن بن العباس الرستمي قال حكى لنا أبو الفتح الطبري الفقيه قال دخلت على أبي المعالي في مرضه فقال: اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السنة وأني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور".
المثال السابع:قال الحافظ في التهذيب (4/121) في ترجمة سلمان الفارسي: " وقد قرأت بخط أبي عبد الله الذهبي: رجعت عن القول بأنه –أي سلمان- قارب الثلاثمائة أو زاد عليها وتبين لي أنه ما جاوز الثمانين، ولم يذكر مستنده في ذلك العلم عند الله".
المثال الثامن:قال ابن حزم في المحلى (6/74): "ثم استدركنا فرأينا أن حديث جرير ابن حازم مسند صحيح لا يجوز خلافه، وأن الاعتلال فيه بأن عاصم بن ضمرة أو أبا إسحاق أو جريرًا خلط إسناد الحارث بإرسال عاصم هو: الظن الباطل الذي لا يجوز".
وعلَّق العلامة أحمد شاكر –رحمه الله- في الحاشية قائلاً: "لله در أبي محمد بن حزم رأى خطأه فسارع إلى تداركه وحكم بأنه الظن الباطل الذي لا يجوز وهذا شأن المنصفين من أتباع السنة الكريمة وأنصار الحق وهم الهداة القادة، وقليل ما هم؛ رحمهم الله جميعًا".اهـ
المثال التاسع:قال البغوي في حديث ابن الجعد (357): حدثني ابن زنجويه نا عبد الرزاق عن معمر قال قلت: لحماد كنت رأسًا وكنت إمامًا في أصحابك فخالفتهم فصرت تابعًا، قال: إني أن أكون تابعًا في الحق خير من أن أكون رأسًا في الباطل.
وهذا إسناد حسن، وأخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (10/308) من طريق ابن زنجويه به، وأخرجه بنحوه العقيلي في الضعفاء (1/305، 306).
قلت: وحماد هو ابن أبي سليمان: تابَع المرجئة، وظن أن هذا هو الحق، فرضي أن يكون ذنبًا فيه خير من أن يكون رأسًا في غيره.
المثال العاشر:تراجع أبي الحسن الأشعري –رحمه الله- عن مذهب المعتزلة.
المثال الحادي عشر:تراجعات الحافظ ابن حجر في فتح الباري وهي معروفة مشهورة.
المثال الثاني عشر:وهذا العلامة ابن عثيمين –رحمه الله- يضرب لنا مثالاً فريدًا في الرجوع إلى الحق في مسألة من أدق مسائل الاعتقاد، وهي مسألة إثبات معية الله لخلقه مع إثبات علوه سبحانه على العرش، فيقول الشيخ حمود التويجري –رحمه الله- في مقدِّمة كتابه "إثبات علو الله ومباينته لخلقه والرد على من زعم أن معية الله للخلق ذاتية":
"فقد رأيت مقالاً لبعض المعاصرين –يشير إلى العلامة ابن عثيمين- زعم في أوله أن معية الله لخلقه معية ذاتية تليق بجلاله وعظمته وأنها لا تقتضي اختلاطًا بالخلق ولا حلولاً في أماكنهم، وقال في آخر مقاله:
وهكذا نقول في المعية، نثبت المعية لربنا معية ذاتية تليق بعظمته وجلاله ولا تشبه معية المخلوق للمخلوقين وتثبت مع ذلك علوه على خلقه واستوائه على عرشه على الوجه اللائق بجلاله، ونرى أن من زعم أن الله تعالى بذاته في كل مكان، فهو كافر أو ضال إن اعتقده وكاذب إن نسبه إلى غيره من سلف الأمة أو أئمتها؛ فعقيدتنا أن لله تعالى معية ذاتية تليق به وتقتضي إحاطته بكل شيء علمًا وقدرة وسمعًا وبصرًا وسلطانًا وتدبيرًا، وأنه سبحانه منزه أن يكون مختلطًا بالخلق أو حالاًّ في أمكنتهم بل هو العلي بذاته وصفاته، وعلوه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها وأنه مستو على عرشه كما يليق بجلاله وإن ذلك لا ينافي معيته ثم صرح أنه قال ذلك مُقررًا له ومعتقدًا له، مُنشرحًا له صدره.
وأقول: لا يخفى على من له علم وفهم ما في كلام الكاتب من التناقض والجمع بين النقيضين، وموافقته من يقول من الحلولية إن الله بذاته فوق العالم وهو بذاته في كل مكان، وما فيه أيضًا من مخالفة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أئمتها.
فأما التناقض ففي تقريره لمعية الله الذاتية لخلقه مع زعمه أن هذه المعية الذاتية لا تقتضي الاختلاط بخلقه، ولا الحلول في أمكنتهم، ولا يخفى على عاقل أن المعية الذاتية للخلق تستلزم مخالطتهم، والحلول في أمكنتهم فقد تناقض شاء أم أبى.
وأما الجمع بين النَّقيضين ففي تقريره لمعية الله الذاتية لخلقه مع تقريره أن الله مستو على عرشه، وأنه العلي بذاته وصفاته، وأن علوه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها فقد جمع في هذا التقرير بين إثبات صفة العلو لله تعالى وإثبات ضدها وهي صفة السّفل الذي تستلزمه المعية الذاتية للخلق، وعلى هذا فمن أثبت المعية الذاتية للخلق وأثبت مع ذلك أن علو الرب من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها فقد جمع بين النَّقيضين شاء أم أبى.
وأما الموافقة لبعض القائلين بالحلول فإنه لازم لمن زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية لأنه يلزم على هذا القول الباطل أن يكون الله مع الخلق في الأرض، وأن يكون مخالطًا لهم وحالاًّ معهم في أماكنهم.......".
وفي نهاية الكتاب أردف الشيخ حمود التويجري تراجع العلامة ابن عثيمين –رحمه الله-، فقال كما في ص156:
"فقد طلب الشيخ محمد الصالح العثيمين من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز أن يبعث إليه بكتابي في الرد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية، فبعث إليه وبعد قراءته له كتب الكلمة التي سيأتي ذكرها، وطلب أن تنشر مع كتابي، وحيث إن فيها ردًّا على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية فقد أجبت الشيخ محمد إلى طلبه، والله المسئول أن يوفق الجميع لما يحب ويرضى".
وهاك نص رسالة الشيخ ابن عيثمين كما في ص157:
"وبعد، فقد قرأت الكتاب الذي ألَّفه أخونا الفاضل الشيخ حمود بن عبد الله التويجري في إثبات علو الله تعالى ومباينته لخلقه والرد على من زعم أن معية الله تعالى لخلقه معية ذاتية، فوجدته كتابًا قيِّمًا قرَّر فيه مؤلِّفه الحقائق التالية........" –إلى أن قال-: "وبطلان القول بالحلول معلوم بدلالة الكتاب والسنة والعقل والفطرة والإجماع، وذلك أن القول به مناقض تمام المناقضة للقول بعلو الله تعالى بذاته وصفاته، فإذا كان علو الله تعالى بذاته وصفاته ثابتًا بهذه الأدلة كان نقيضه باطلاً.
وإنكار معية الله الذاتية واجب حيث تستلزم القول بالحلول لأن القول بالحلول باطل، فكان ما استلزمه فهو باطل يجب إنكاره وردُّه على قائله كائنًا مَن كان...
قاله كاتبه محمد الصالح العثيمين في 15/4/1404".اهـ
المثال الثالث عشر:تراجعات الإمام الألباني -رحمه الله-، وهي معلومة مشهورة.
بل كان الألباني رحمه الله يذكر تراجعه في الموضع نفسه الذي أخطأ فيه، رغم أنه كان يستطيع أن يحذف القول الخطأ ويبقي القول الصواب قبل دفعه الكتاب إلى المطبعة، ويمثل لهذا بما في "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم" (هامش رقم 1 ص41) حيث قال الشيخ الألباني عن حديث "اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم":
"صحيح أخرجه الترمذي وأحمد وابن أبي شيبة، وعزاه الشيخ محمد بن سعيد الحلبي في مسلسلاته (1/2) إلى البخاري فوهم.
ثم تبين لي أن الحديث ضعيف، وكنت اتبعت المناوي في تصحيحه لإسناد ابن أبي شيبة فيه، ثم تيسر لي الوقوف عليه؛ فإذا هو بيِّن الضعف، وهو نفس إسناد الترمذي وغيره، راجع كتابي سلسلة الأحاديث الضعيفة المجلد الأول".اهـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه، أرسله إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين ساروا على طريقته في الدعوة إلى سبيله، وصبروا على ذلك، وجاهدوا فيه حتى أظهر الله بهم دينه، وأعلى كلمته ولو كره المشركون، وسلم تسليما كثيرا
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الجن والإنس ليعبد وحده لا شريك له، وليعظم أمره ونهيه، وليعرف بأسمائه وصفاته، كما قال عز وجل: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }الذاريات 56 ، وقال تعالى { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ }الملك 1. 2
قال العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله في ( تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص875):(( فإن الله خلق عباده، وأخرجهم لهذه الدار، وأخبرهم أنهم سينقلون منها، وأمرهم ونهاهم، وابتلاهم بالشهوات المعارضة لأمره، فمن انقاد لأمر الله وأحسن العمل، أحسن الله له الجزاء في الدارين، ومن مال مع شهوات النفس، ونبذ أمر الله، فله شر الجزاء.)) انتهى
وإن مما ابتلى به الله عز وجل عباده الوقوع في الخطأ ، وأن هذا من طبيعة البشر إلا من عصمه الله عز وجل من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام فعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ". رواه الترمذي وابن ماجه.
فالتقصير في أداء ماأوجب الله على عباده حاصل منهم ، مع الوقوع فيما نُهوا عنه، وطريق السلامة من ذلك رجوعهم إلى الله، وتوبتهم من ذنوبهم، وسؤال الله عزَّ وجلَّ أن يغفرها لهم فيما وقعوا فيه .
ومن ألطف ما ذكر في هذا الباب أن تقع هذه الأخطاء في مسائل علمية من طرف أهل العلم، ووقوعهم في زلل أو خطأ لازم من لوازم البشرية؛ حيث كما قلنا إن العصمة لم تكتب لأحد من البشر إلا الأنبياء عليهم السلام، لذا فإن مجرد صدور الخطأ من العالم أو طالب العلم أمر لا ينقص من قدره، لكن الذي يشين العالم أو طالب العلم ويحط من قدره أنه إذا وقع في باطل ثم ظهر له الحق، أن يتمادى في هذا الباطل ويصر عليه ويأبى الرجوع إلى الحق.
ولهذا مما هو متقرر في أصول أهل السنة والجماعة أنه ما من أحد مهما علت منزلته في الإمامة إلا ويؤخذ من قوله ويرد إلا النبي صلى الله عليه وسلم وإننا مأمورين بإتباع هديه صلى الله عليه وسلم وإتباع سَبِيلِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ رضي الله عنهم ،قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الواسيطة
(( ثُمَّ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ إتباع آثَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ،وإتباع سَبِيلِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ،وإتباع وَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ أَصْدَقَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،فَيُؤْثِرُونَ كَلَامَ اللَّهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ كَلَامِ أَصْنَافِ النَّاسِ ،وَيُقَدِّمُونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَدْيِ كُلِّ أَحَدٍ ،وَلهَذَا سُمُّوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ،وَسُمُّوا أَهْلَ الْجَمَاعَةِ ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ الاجْتِمَاعُ، وَضِدُّهَا الْفُرْقَةُ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ «الْجَمَاعَةِ» قَدْ صَارَ اسْمًا لِنَفْسِ الْقَوْمِ الْمُجْتَمِعِينَ.
وَالْإِجْمَاعُ هُوَ الْأَصْلُ الثَّالِثُ؛ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ ،وَهُمْ يَزِنُونَ بِهَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ بَاطِنَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ، مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ.)) انتهى
وإن مما نحمد الله عليه ونشكره أن مشايخنا أهل السنة والجماعة لا يزكون أنفسهم، ولا يبرئونها من الخطأ والزلل، والذنوب والمعاصي، بل هم معترفون بذلك على أنفسهم، وأنهم مقصرون في الأعمال الصالحات، والعصمة إنما هي للرسل؛ولكنهم لا يرضون ما يسخط الله، من الأقوال والأعمال، والغلو، والتجاوز، والمجاوزة للحد، بغير ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا القول على الله بلا علم؛ كما هو حال عباد الأحبار والرُّهبان، و الرّوافض، و غلاة الصّوفيّة، الذين يقدّسون الأشخاص، ويعتقدون فيهم العصمة.
ولكن كما قلنا أن أئمتنا لا يتفقون على خطأ، فلو قدر وجود خطأ ما من شخص أو طائفة، فإن هناك من يبين ذلك الخطأ، ويوضح الصواب، ويرده إلى الكتاب والسنة، لقول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59].
ولتقريب منهج أهل الحديث والسنة للقراء الأعزاء الكرام أود أن أنقل في سفري هذا بعض الآثار والوقائع التي وقعت لأئمتنا فيما وقعوا فيه من الأخطاء ثم رجعوا عنها ، وذلك لما رأينا نفسا غريبا وخللا عظيما وقع في صفنا نحن معشر أهل السنة والجماعة، وبخاصة من بعض الدعاة البارزين فيها بالتلاعب بأصول السنة والتشغيب فيها، فإذا نبهوا عن أخطائهم، ترى منهم المكابرة والعجب بالرأي و التلون والتلاعب والحيدة في الرجوع والذبذبة فيها وعدم الاعتراف بالخطأ، والانكسار بين يدي الله والإنابة والتوبة إليه مع استكمال شروطها المعروفة.
ولهذا كما قلنا سنذكر بعض النماذج من رجوع الأئمة الأتقياء الجهابذة عن أخطائهم التي وقعوا فيها ، ونذكر أيضا بعض النماذج من تلون وتذبذب وتلاعب أهل الانحراف والضلال في رجوعهم عن أخطائهم، بل إصرارهم عليها وتماديهم في الباطل ، وذكر شيء من الأسباب التي أوقعتهم في هذا التمادي والمكابرة حتى إذا وقف عليها ممن ينسب إلى العلم رجع إلى نفسه ، فتصفح أمره ، فإن كان فيه خلق من تلك الأخلاق المكروهة المذمومة استغفر الله ، وأسرع الرجعة عنها إلى أخلاق هي أولى بالعلم.
نماذج من أثار ومواقف السلف الصالح في الرجوع عن الخطأ
جاء في صحيح البخاري (14/ 187):
"حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ :قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ وَكَانَ مِنْ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ يَا ابْنَ أَخِي هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ قَالَ سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ هِيْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ وَلَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ }، وَإِنَّ هَذَا مِنْ الْجَاهِلِينَ وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ " انتهى
قال الإمام أبوالعباس ابن تيمية رحمه الله في (مجموع فتاوى ابن تيمية 1/ 149):
( كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يُبَيِّنُ لَهُ أَشْيَاءَ تُخَالِفُ مَا يَقَعُ لَهُ كَمَا بَيَّنَ لَهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةَ وَيَوْمَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَوْمَ قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُشَاوِرُ الصَّحَابَةَ ؛ فَتَارَةً يَرْجِعُ إلَيْهِمْ وَتَارَةً يَرْجِعُونَ إلَيْهِ وَرُبَّمَا قَالَ الْقَوْلَ : فَتَرُدُّ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَوْلَهُ وَتُبَيِّنُ لَهُ الْحَقَّ فَيَرْجِعُ إلَيْهَا وَيَدَعُ قَوْلَهُ كَمَا قُدِّرَ الصَّدَاقُ وَرُبَّمَا يَرَى رَأْيًا فَيُذْكَرُ لَهُ حَدِيثٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَعْمَلُ بِهِ وَيَدَعُ رَأْيَهُ وَكَانَ يَأْخُذُ بَعْضَ السُّنَّةِ عَمَّنْ هُوَ دُونَهُ فِي قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٍ وَكَانَ يَقُولُ الْقَوْلَ فَيُقَالُ لَهُ : أَصَبْت فَيَقُولُ وَاَللَّهِ مَا يَدْرِي عُمَرُ أَصَابَ الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأَهُ ؟ . فَإِذَا كَانَ هَذَا إمَامَ الْمُحَدِّثِينَ فَكُلُّ ذِي قَلْبٍ يُحَدِّثُهُ قَلْبُهُ عَنْ رَبِّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ هُوَ دُونَ عُمَرَ فَلَيْسَ فِيهِمْ مَعْصُومٌ بَلْ الْخَطَأُ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ تَدَّعِي أَنَّ الْوَلِيَّ مَحْفُوظٌ وَهُوَ نَظِيرُ مَا يَثْبُتُ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْعِصْمَةِ وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ قَدْ أَشَارَ إلَى هَذَا - فَهَذَا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ : يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانُوا مُتَفَاضِلِينَ فِي الْهُدَى وَالنُّورِ وَالْإِصَابَةِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصِّدِّيقُ أَفْضَلَ مِنْ الْمُحَدِّثِ لِأَنَّ الصِّدِّيقَ يَأْخُذُ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ فَلَا يَأْخُذُ إلَّا شَيْئًا مَعْصُومًا مَحْفُوظًا . وَأَمَّا الْمُحَدِّثُ فَيَقَعُ لَهُ صَوَابٌ وَخَطَأٌ وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ تَمَيَّزَ صَوَابُهُ مِنْ خَطَئِهِ ؛ وَبِهَذَا صَارَ جَمْعُ الْأَوْلِيَاءِ مُفْتَقِرِينَ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا بُدَّ لَهُمْ أَنْ يَزِنُوا جَمِيعَ أُمُورِهِمْ بِآثَارِ الرَّسُولِ فَمَا وَافَقَ آثَارَ الرَّسُولِ فَهُوَ الْحَقُّ وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ فِيهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يُثِيبُهُمْ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ وَيَغْفِرُ لَهُمْ خَطَأَهُمْ ) انتهى
وجاء في ( الرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل) (( منتديات البيضاء )) للشيخ أبي عبد الأعلى خالد بن محمد بن عثمان حفظه الله
((وثَمَّ مثال رائع لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في هذا الشأن، حيث قال –رحمه الله- كما في المسائل الماردينية (ص103-ط. ابن تيمية-بتحقيقي) في تحقيقه لحكم السمن الذي وقعت فيه فأرة: "فإن قيل: فقد روي في الحديث: "إن كان جامدًا فألقوها وما حولها كُلوا سمنكم، وإن كان مائعًا فلا تقربوه"، رواه أبو داود وغيره.
قيل: هذه الزيادة التي اعتمد عليها من فرَّق بين الجامد والمائع، واعتقدوا أنها ثابتة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا في ذلك مجتهدين قائلين بمبلغ علمهم واجتهادهم، وقد ضعَّف محمد بن يحيى الذهلي حديث الزهري وصحَّح هذه الزيادة، لكن قد تبين لغيرهم أن هذه الزيادة وقعت خطأ في الحديث ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي تبين لنا ولغيرنا، ونحن جازمون بأن هذه الزيادة ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك رجعنا عن الإفتاء بها بعد أن كنا نفتي بها أولاً؛ فإن الرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل".اهـ
وقال السيوطي في الْمُزهر في علوم اللُّغة (2/320): "وإذا اتفق له –أي العالم- خطأ في شيء ثم بان له الصواب فليرجع، ولا يُصر على غلطه".اهـ
ولقد ضرب سلفنا الصالح أروع الأمثلة في نبذ الباطل والرجوع إلى الحق، وهاك بعض الأمثلة التي تبين هذا النهج السوي:
المثال الأول:قال البخاري في صحيحه (6736): حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا أبو قيس سمعت هزيل بن شرحبيل قال: سئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن وأخت؟ فقال: للابنة النصف وللأخت النصف وأت ابن مسعود فسيتابعني؛ فسئل ابن مسعود وأُخبر بقول أبي موسى فقال: لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم للابنة النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت؛ فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم.
والشاهد هو رجوع أبي موسى عن فتواه لما تبين له أن الدليل مع ابن مسعود رضي الله عنهما.
المثال الثاني:قال أحمد في مسنده (1/217) ثنا مروان بن شجاع حدثني خصيف عن مجاهد عن بن عباس أنه طاف مع معاوية بالبيت فجعل معاوية يستلم الأركان كلها فقال له ابن عباس: لِمَ تستلم هذين الركنين ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما؟ فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورًا، فقال ابن عباس: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، فقال معاوية: صدقت.
وأخرجه أحمد أيضًا في (1/322)، والترمذي (858) من طريق عبد الرزاق عن معمر والثوري عن ابن خثيم عن أبي الطفيل عن ابن عباس بنحوه، وعلّقه البخاري بصيغة الجزم في كتاب الحج (باب: من لا يستلم إلا الركنيين اليمانيين)، وانظر تغليق التعليق (3/72،71).
المثال الثالث: قال مسلم في صحيحه (1547) حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا يزيد بن زريع عن أيوب عن نافع أن ابن عمر كان يُكري مزارعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إمارة أبي بكر وعمر وعثمان وصدرًا من خلافة معاوية حتى بلغه في آخر خلافة معاوية أنَّ رافع بن خَديج يحدِّث فيها بنهي عن النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأنا معه فسأله فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كراء المزارع، فتركها ابن عمر بعد، وكان إذا سئل عنها بعد قال: زعم رافع بن خَديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها.
وقال أيضًا: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا حسين يعني ابن حسن بن يسار حدثنا ابن عون عن نافع: أن ابن عمر كان يَأجُرُ الأرض قال: فنبئ حديثًا عن رافع بن خديج، قال: فانطلق بي معه إليه قال فذكر عن بعض عمومته ذكر فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن كراء الأرض، قال: فتركه ابن عمر فلم يَأجُرْه.
المثال الرابع:قال المزي في تهذيب الكمال في ترجمة نُعَيْم بن حماد: "وروى الحافظ أبو نصر الحسن بن محمد بن إبراهيم اليونارتي بإسناده عن عباس بن محمد الدوري قال: سمعت يحيى بن معين يقول: حضرنا نُعَيْم بن حماد بمصر فجعل يقرأ كتابًا من تصنيفه قال فقرأ ساعة ثم قال: حدثنا ابن المبارك عن ابن عون بأحاديث، قال يحيى: فقلت له: ليس هذا عن ابن المبارك فغضب وقال ترد علي، قال:قلت إي والله أرد عليك أريد زينك، فأبى أن يرجع، فلما رأيته هكذا لا يرجع قلت: لا والله ما سمعت أنت هذا من ابن المبارك قط ولا سمعها ابن المبارك من ابن عون قط، فغضب وغضب من كان عنده من أصحاب الحديث، وقام نُعَيْم فدخل البيت فأخرج صحائف فجعل يقول وهي بيده: أين الذين يزعمون أن يحيى بن معين ليس أمير المؤمنين في الحديث نعم يا أبا زكريا غلطت وكانت صحائف فغلطت فجعلت أكتب من حديث ابن المبارك عن ابن عون وإنما روى هذه الأحاديث عن ابن عون غير ابن المبارك.
قال الحافظ أبو نصر: ومما يدل على ديانة نُعَيْم وأمانته رجوعه إلى الحق لما نبه على سهوه وأوقف على غلطه، فلم يستنكف عن قبول الصواب إذ الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل والمتمادي في الباطل لم يزدد من الصواب إلا بعدًا.اهـ
المثال الخامس:قال الحافظ في الفتح (12/262): "وذكر أبو عبيد بسند صحيح عن زفر أنه رجع عن قول أصحابه فأسند عن عبد الواحد بن زياد قال: قلت لزفر: إنكم تقولون تدرأ الحدود بالشبهات فجئتم إلى أعظم الشبهات فأقدمتم عليها المسلم يقتل بالكافر، قال: فاشهد على أني رجعت عن هذا".
المثال السادس:قال الذهبي في السير (18/474): " وحكى الفقيه أبو عبدالله الحسن بن العباس الرستمي قال حكى لنا أبو الفتح الطبري الفقيه قال دخلت على أبي المعالي في مرضه فقال: اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السنة وأني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور".
المثال السابع:قال الحافظ في التهذيب (4/121) في ترجمة سلمان الفارسي: " وقد قرأت بخط أبي عبد الله الذهبي: رجعت عن القول بأنه –أي سلمان- قارب الثلاثمائة أو زاد عليها وتبين لي أنه ما جاوز الثمانين، ولم يذكر مستنده في ذلك العلم عند الله".
المثال الثامن:قال ابن حزم في المحلى (6/74): "ثم استدركنا فرأينا أن حديث جرير ابن حازم مسند صحيح لا يجوز خلافه، وأن الاعتلال فيه بأن عاصم بن ضمرة أو أبا إسحاق أو جريرًا خلط إسناد الحارث بإرسال عاصم هو: الظن الباطل الذي لا يجوز".
وعلَّق العلامة أحمد شاكر –رحمه الله- في الحاشية قائلاً: "لله در أبي محمد بن حزم رأى خطأه فسارع إلى تداركه وحكم بأنه الظن الباطل الذي لا يجوز وهذا شأن المنصفين من أتباع السنة الكريمة وأنصار الحق وهم الهداة القادة، وقليل ما هم؛ رحمهم الله جميعًا".اهـ
المثال التاسع:قال البغوي في حديث ابن الجعد (357): حدثني ابن زنجويه نا عبد الرزاق عن معمر قال قلت: لحماد كنت رأسًا وكنت إمامًا في أصحابك فخالفتهم فصرت تابعًا، قال: إني أن أكون تابعًا في الحق خير من أن أكون رأسًا في الباطل.
وهذا إسناد حسن، وأخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (10/308) من طريق ابن زنجويه به، وأخرجه بنحوه العقيلي في الضعفاء (1/305، 306).
قلت: وحماد هو ابن أبي سليمان: تابَع المرجئة، وظن أن هذا هو الحق، فرضي أن يكون ذنبًا فيه خير من أن يكون رأسًا في غيره.
المثال العاشر:تراجع أبي الحسن الأشعري –رحمه الله- عن مذهب المعتزلة.
المثال الحادي عشر:تراجعات الحافظ ابن حجر في فتح الباري وهي معروفة مشهورة.
المثال الثاني عشر:وهذا العلامة ابن عثيمين –رحمه الله- يضرب لنا مثالاً فريدًا في الرجوع إلى الحق في مسألة من أدق مسائل الاعتقاد، وهي مسألة إثبات معية الله لخلقه مع إثبات علوه سبحانه على العرش، فيقول الشيخ حمود التويجري –رحمه الله- في مقدِّمة كتابه "إثبات علو الله ومباينته لخلقه والرد على من زعم أن معية الله للخلق ذاتية":
"فقد رأيت مقالاً لبعض المعاصرين –يشير إلى العلامة ابن عثيمين- زعم في أوله أن معية الله لخلقه معية ذاتية تليق بجلاله وعظمته وأنها لا تقتضي اختلاطًا بالخلق ولا حلولاً في أماكنهم، وقال في آخر مقاله:
وهكذا نقول في المعية، نثبت المعية لربنا معية ذاتية تليق بعظمته وجلاله ولا تشبه معية المخلوق للمخلوقين وتثبت مع ذلك علوه على خلقه واستوائه على عرشه على الوجه اللائق بجلاله، ونرى أن من زعم أن الله تعالى بذاته في كل مكان، فهو كافر أو ضال إن اعتقده وكاذب إن نسبه إلى غيره من سلف الأمة أو أئمتها؛ فعقيدتنا أن لله تعالى معية ذاتية تليق به وتقتضي إحاطته بكل شيء علمًا وقدرة وسمعًا وبصرًا وسلطانًا وتدبيرًا، وأنه سبحانه منزه أن يكون مختلطًا بالخلق أو حالاًّ في أمكنتهم بل هو العلي بذاته وصفاته، وعلوه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها وأنه مستو على عرشه كما يليق بجلاله وإن ذلك لا ينافي معيته ثم صرح أنه قال ذلك مُقررًا له ومعتقدًا له، مُنشرحًا له صدره.
وأقول: لا يخفى على من له علم وفهم ما في كلام الكاتب من التناقض والجمع بين النقيضين، وموافقته من يقول من الحلولية إن الله بذاته فوق العالم وهو بذاته في كل مكان، وما فيه أيضًا من مخالفة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أئمتها.
فأما التناقض ففي تقريره لمعية الله الذاتية لخلقه مع زعمه أن هذه المعية الذاتية لا تقتضي الاختلاط بخلقه، ولا الحلول في أمكنتهم، ولا يخفى على عاقل أن المعية الذاتية للخلق تستلزم مخالطتهم، والحلول في أمكنتهم فقد تناقض شاء أم أبى.
وأما الجمع بين النَّقيضين ففي تقريره لمعية الله الذاتية لخلقه مع تقريره أن الله مستو على عرشه، وأنه العلي بذاته وصفاته، وأن علوه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها فقد جمع في هذا التقرير بين إثبات صفة العلو لله تعالى وإثبات ضدها وهي صفة السّفل الذي تستلزمه المعية الذاتية للخلق، وعلى هذا فمن أثبت المعية الذاتية للخلق وأثبت مع ذلك أن علو الرب من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها فقد جمع بين النَّقيضين شاء أم أبى.
وأما الموافقة لبعض القائلين بالحلول فإنه لازم لمن زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية لأنه يلزم على هذا القول الباطل أن يكون الله مع الخلق في الأرض، وأن يكون مخالطًا لهم وحالاًّ معهم في أماكنهم.......".
وفي نهاية الكتاب أردف الشيخ حمود التويجري تراجع العلامة ابن عثيمين –رحمه الله-، فقال كما في ص156:
"فقد طلب الشيخ محمد الصالح العثيمين من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز أن يبعث إليه بكتابي في الرد على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية، فبعث إليه وبعد قراءته له كتب الكلمة التي سيأتي ذكرها، وطلب أن تنشر مع كتابي، وحيث إن فيها ردًّا على من زعم أن معية الله لخلقه معية ذاتية فقد أجبت الشيخ محمد إلى طلبه، والله المسئول أن يوفق الجميع لما يحب ويرضى".
وهاك نص رسالة الشيخ ابن عيثمين كما في ص157:
"وبعد، فقد قرأت الكتاب الذي ألَّفه أخونا الفاضل الشيخ حمود بن عبد الله التويجري في إثبات علو الله تعالى ومباينته لخلقه والرد على من زعم أن معية الله تعالى لخلقه معية ذاتية، فوجدته كتابًا قيِّمًا قرَّر فيه مؤلِّفه الحقائق التالية........" –إلى أن قال-: "وبطلان القول بالحلول معلوم بدلالة الكتاب والسنة والعقل والفطرة والإجماع، وذلك أن القول به مناقض تمام المناقضة للقول بعلو الله تعالى بذاته وصفاته، فإذا كان علو الله تعالى بذاته وصفاته ثابتًا بهذه الأدلة كان نقيضه باطلاً.
وإنكار معية الله الذاتية واجب حيث تستلزم القول بالحلول لأن القول بالحلول باطل، فكان ما استلزمه فهو باطل يجب إنكاره وردُّه على قائله كائنًا مَن كان...
قاله كاتبه محمد الصالح العثيمين في 15/4/1404".اهـ
المثال الثالث عشر:تراجعات الإمام الألباني -رحمه الله-، وهي معلومة مشهورة.
بل كان الألباني رحمه الله يذكر تراجعه في الموضع نفسه الذي أخطأ فيه، رغم أنه كان يستطيع أن يحذف القول الخطأ ويبقي القول الصواب قبل دفعه الكتاب إلى المطبعة، ويمثل لهذا بما في "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم" (هامش رقم 1 ص41) حيث قال الشيخ الألباني عن حديث "اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم":
"صحيح أخرجه الترمذي وأحمد وابن أبي شيبة، وعزاه الشيخ محمد بن سعيد الحلبي في مسلسلاته (1/2) إلى البخاري فوهم.
ثم تبين لي أن الحديث ضعيف، وكنت اتبعت المناوي في تصحيحه لإسناد ابن أبي شيبة فيه، ثم تيسر لي الوقوف عليه؛ فإذا هو بيِّن الضعف، وهو نفس إسناد الترمذي وغيره، راجع كتابي سلسلة الأحاديث الضعيفة المجلد الأول".اهـ