المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : في حكم تلقِّي السلع - للشيخ الفاضل محمد علي فركوس -حفظه الله-



أبو خالد الوليد خالد الصبحي
18-Jun-2011, 02:33 PM
.:: في حكم تلقِّي السلع ::.
للشّيخ الفَاضِل أبي عَبدِ المعِزّ مُحمَّد عَلي فَركُوس - حفظه الله -



السـؤال:
جرت عادةُ بعضِ التجَّارِ في المعارضِ الدُّوَليَّة أن يتلقَّوْا دُورَ النشر الوافدةَ -وأحيانًا قبل فتحِ أبوابِ المعرضِ- فيشترون منهم بضاعتَهم جملةً، ثم يبيعونها في محلاَّتِهم الخاصَّةِ بأسعارٍ مرتفعةٍ مقارنةً بسعر المعرض ممَّا يُلْحِق الحرجَ بالزبون، فما حكمُ هذه المعاملةِ؟ والله الموفِّق.

الجواب:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنه لا يجوز تلقِّي البيوع في الشارعِ قبل دخولِهم إلى المحلاَّتِ والأماكنِ المخصَّصةِ للعرضِ والبيعِ، ذلك لأنَّ هذه الصورةَ من المعاملةِ تدخل فيما يسمِّيه المالكيَّةُ ﺑ«تلقِّي السلع»، ويعبِّر عنه الحنفيَّةُ ﺑ«تلقِّي الجلب»، والشافعيَّةُ والحنابلةُ ﺑ«تلقِّي الركبان»، وقد ثبت النهيُ عنه في أحاديثَ كثيرةٍ منها: قولُه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «... وَلاَ تَلَقَّوْا السِّلَعَ حَتَّى يُهْبَطَ بِهَا إِلَى السُّوقِ»(١)، وقولُه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لاَ تَلَقَّوْا الْجَلَبَ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ، فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ»(٢)، وقولُه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لاَ تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ، وَلاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ»(٣)، وفي حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: «كُنَّا نَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ، فَنَشْتَرِي مِنْهُمُ الطَّعَامَ فَنَهَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى يُبْلَغَ بِهِ سُوقُ الطَّعَامِ»(٤)، وعنه رضي الله عنهما قال: «كَانُوا يَبْتَاعُونَ الطَّعَامَ فِي أَعْلَى السُّوقِ، فَيَبِيعُونَهُ فِي مَكَانِهِ، فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِ حَتَّى يَنْقُلُوهُ»(٥).
فهذه المناهي الثابتةُ بهذه الأحاديثِ المتقدِّمة تدلُّ على تحريم التلقِّي، وأنَّ صاحبه -إن كان عالمًا بالنهي- آثمٌ وعاصٍ بفعله؛ لِمَا تتضمَّنه صورةُ هذه المعاملةِ من تغريرٍ وخداعٍ بالبائع من جهةٍ، وإضرارٍ بأهل السوق أو أهل البلد من جهةٍ أخرى، فكانت علَّةُ النهي حاصلةً في أمرين وهما: إزالةُ الضرر عن الجالب وصيانتُه ممَّن يخدعه من جهةٍ، وإزالةُ الضرر عن أهل السوق وتحقيقُ النفع لهم تقديمًا للمصالح العامَّةِ على المصالح الخاصَّة من جهةٍ أخرى، فمُنِعَتْ مصلحةُ المتلقِّي الخاصَّةُ نظرًا لتعارُضِها مع مصلحة أهل السوق العامَّة، مع ما فيه من إزالةِ الغَبْنِ والضرر عن الجالب ودفعِه عنه.

هذا، وتقريرُ حُرمةِ التلقِّي وإثمِ فاعله لا يَلْزَمُ منه بطلانُ عقدِ البيع، بل هو عقدٌ صحيحٌ عند الجمهور، خلافًا لبعض المالكيَّة وبعضِ الحنابلة والبخاريِّ، فإنهم يذهبون إلى بطلان العقد أخذًا بظاهر النهي المقتضي للفساد(٦)، ومذهبُ الجمهور أصحُّ لأنَّ النهي توجَّه لأمرٍ خارجٍ عن العقد لا يرجع إلى ذاتِ المنهيِّ عنه، ولا يُخِلُّ بأركان العقد وشروطه، وإنما هو لدفع الإضرار بالركبان وأهل السوق، فلا يقتضي النهيُ -على هذا الوجه- فسادًا، ولأنَّ ثبوتَ الخيار في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ» قاضٍ بصحَّةِ العقد، إذِ الخيارُ فرعٌ من صحَّة العقد، وما شُرع للبائع الخيارُ إلا ليكونَ العقدُ من تمام رضاه، ويؤيِّد صحَّةَ العقدِ حديثُ حكيمِ بنِ حِزَامٍ رضي الله عنه مرفوعًا: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا -أَوْ قَالَ: حَتَّى يَتَفَرَّقَا-، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا»(٧)، فإنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لم يُبطل بيْعَهما بالكذب والكتمان للعيب، وكذلك في بيعِ المُصَرَّاة في قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «وَلاَ تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالْغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا، فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ»(٨)، فإنَّ في صورةِ هذه المعاملة خداعًا وتغريرًا وتدليسًا، ومع ذلك لم يُبْطِلِ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أصْلَ البيع، وإنما جعله قابلاً للإبطال موقوفًا على خيار المشتري بين الإمساك والردِّ، فثبوتُ الخيار فيه يقتضي صحَّةَ بيع المُصَرَّاة. وإذا تقرَّر صحَّةُ البيع؛ فإنَّ للبائع الجالبِ الخيارَ بين إمضاء العقد وفسخِه إذا ما حصل له غَبْنٌ فاحشٌ أو لم تَجْرِ العادةُ بمثله، ويشهد لخيارِ الغَبْنِ فيه حديثُ أبي هريرةَ رضي الله عنه المتقدِّم. والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.



الجزائر في: 30 جمادى الثانية 1432ﻫ
المـوافق ﻟ: 02 جـــوان 2011م

ــــــــــــ
١- أخرجه البخاري في «البيوع» باب النهي عن تلقي الركبان وأن بيعه مردود لأنّ صاحبه عاصٍ آثمٌ إذا كان به عالمًا وهو خداعٌ في البيع، والخداع لا يجوز (2165) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
٢- أخرجه مسلم في «البيوع» (2/709) رقم: (1519) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
٣- أخرجه البخاري في «البيوع» باب: هل يبيع حاضر لبادٍ بغير أجر، وهل يعينه أو ينصحه (2158)، من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما.
٤- أخرجه البخاري في «البيوع» باب منتهى التلقّي (2166)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
٥- أخرجه البخاري في «البيوع» باب منتهى التلقّي (2167)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
٦- انظر «بداية المجتهد» لابن رشد (2/166)، «المهذّب» للشيرازي (1/299)، «فتح الباري» لابن حجر (4/374)، «شرح السنّة» للبغوي (8/117)، «المحلّى» لابن حزم (8/449)، «نيل الأوطار» للشوكاني (6/307).
٧- أخرجه البخاري في «البيوع» باب إذا بيّن البيعان ولم يكتما ونصحا (2079)، ومسلم في «البيوع» (2/713) رقم: (1532)، من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه.
٨- أخرجه البخاري في «البيوع» باب النهي للبائع أن لا يحفِّل الإبل، والبقر والغنم وكل محفَّلة (2148)، ومسلم في «البيوع» (2/708) رقم: (1515)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.


.. من موقع الشيخ -حفظه الله- .. (http://www.ferkous.com/rep/Bi181.php)