تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : بيان بداية خلْق الإنسان وحاله عند موته وفي قبره وحاله يوم القيامة يوم بعثه - تحريم الغلو في القبور والحث على زيارتها فإنها تذكر الموت



أبو هنيدة ياسين الطارفي
03-Jul-2011, 09:48 PM
بسم الله الرحمن الرحيم:

الحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه، وجعل لهم أجلاً للقائه هم بالغوه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد:
فيا عباد الله، استمعوا إلى قول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: 12-16]. أيها المسلمون، اتقوا الله - عباد الله - واعرفوا ماذا خلقتم له وماذا مصيركم، أمَّا ما خلقتم له فقد بيَّنه الله - عزَّ وجل - في قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].
أسأل الله تعالى أن يحقق لي ولكم عبادته على الوجه الذي يرضيه عنَّا .
لم يخلقنا الله تعالى عبثًا، لم يخلقنا لنأكل ونشرب ونتمتع في متاع الدنيا، ثم نصير إلى تراب، بل خلقنا للعبادة، ثم ماذا يكون بعد ذلك ؟ يكون الموت والجزاء والحساب .
أيها الإخوة، إن هذا لحق، إن الله لأكَّد هذا في قوله جلَّ وعلا: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: 15-16] .
قد يقول قائل: لماذا أكَّد الله الموت بمؤكدين: «إنَّ» و«اللام» وبجملة اسميَة ؟
نقول: لأن أكثر بني آدم يعملون في هذه الدنيا عمل مَن لم يوقن بالموت: ينسون الموت وينسون أن الموت ربما يفجعهم بين عشية وضحاها، فلا يعملون لهذا المصير الذي لا بدّ منه، قال الله عزَّ وجل: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: 16] .
لقد خلق الله تعالى أبانا آدم من طين، قال الله تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾ [السجدة: 7-8]، فسواهم في بطون أمهاتهم؛ فإن الجنين في بطن أمه يتنقل إلى أربعة أطوار: «يكون أربعين يومًا نطفة، ثم أربعين يومًا علقة، ثم أربعين يومًا مضغة، فهذه مائة وعشرون يومًا، أربعة أشهر كاملة، ثم ينتقل إلى الطور الذي تنفخ فيه الروح، فيبعث الله إليه ملَكًا فينفخ فيه الروح، ويكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد»(1)، ويبقى بعد ذلك - أي: بعد تمام أربعة أشهر ونفخ الروح فيه - ما شاء الله أن يبقى في بطن أمه، ثم يخرجه الله تعالى إلى دار العمل والكسب، ويمكث فيها ما شاء الله أن يمكث، ثم ينتقل بعد ذلك إلى دار الجزاء، «فإذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»(2) فيبقى في البرزخ إلى قيام الساعة، كما قال الله عزَّ وجل: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [المطففين: 6]، حفاةً عراةً غرلاً، قال الله تعالى: ﴿شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الأنبياء: 97]، وقال جلَّ ذكره: ﴿مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾ [القمر: 8] .
أيها المسلمون، كلُّكم يقرأ القرآن، ولكن أين المتدبّر والمتأمل ؟ ولقد ذكر الله تعالى في سورة الواقعة في آخرها: أن لبني آدم حين انتقالهم من دار الدنيا إلى الدار الآخرة أحوالاً ثلاثًا، بيَّنَها الله تعالى في كتابه، فقال جلَّ من قائل عليمًا: ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ [الواقعة: 88-96]، ولقد بيَّنَ النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وهو المبلّغ عن الله، المبيِّن لكتاب الله، بيَّن صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالتفصيل ماذا يكون عند الموت ؟ وماذا يكون في القبر ؟
فعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: كُنَّا في جنازة رجل من الأنصار في البقيع، فأتانا رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فقعد وقعدنا حوله، كأن على رؤوسنا الطير وهو يلْحد له، فقال صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بالله من عذاب القبر، أعوذ بالله من عذاب القبر، أعوذ بالله من عذاب القبر» ثم قال صلى الله عليه وسلم: «إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزلت إليه ملائكة، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من الجنة، وحنوط من الجنة، فيجلسون منه مدّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فم السقا؛ أي: تخرج بسهولة؛ لأنها بُشّرت بالمغفرة من الله والرضوان، ووصفت بأنها نفس طيبة فيأخذها - يعني: ملك الموت - فإذا أخذها لم يدعوها - يعني: الملائكة - في يده طرفة عين، فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها إلى السماء، فتفتح لها أبواب السماء، ويشيعه مقرّبوها إلى السماء الثانية، وهكذا بقية السماوات، فلا يمرون بها على ملإ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيّبة ؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي يدعى بها في الدنيا - أسأل الله تعالى أن يجعل روحي وأرواحكم من هذه الأرواح - حتى تصل إلى السماء السابعة، فيقول الله عزَّ وجل: اكتبوا كتاب عبدي في علّيين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: مَن ربك ؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك ؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: هذا الرجل الذي بعث فيكم - وفي رواية: مَن نبيك ؟ - فيقول: هو رسول الله، فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة وافتحوا له بابًا إلى الجنة، فيأتيه من ريحها وطيبها، ويفسح له في قبره مدّ بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول له: أَبشر بالذي يسرّك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: مَن أنت ؟ فوجهك الذي يأتي بالخير، فيقول: أنا علمك الصالح، فيقول: ربِ أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي» .
هكذا حال المؤمن، أسأل الله تعالى في هذا المقام في انتظار فريضة من فرائض الله أن يجعلني وإياكم من هؤلاء، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
قال: «وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة نزلَ إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم كفن من النار، وحنوط من النار، فيجلسون منه مدّ البصر، فيجيْئُه ملك الموت فيجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتتفرّق في جسده؛ لأنها بُشّرت بما يسوؤها فتريد الهرب من ذلك، ولكن ملك الموت بأمر الله - عزَّ وجل - ينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، ويخرج منها كأخبث ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرّون بها على ملإ من الملائكة ما بين السماء والأرض إلا قالوا: ما هذا الريح الخبيث ؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي يُدعى بها في الدنيا حتى ينتهي به في السماء الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح له، ثم قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - قول الله عزَّ وجل: ﴿لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾ [الأعراف: 40]، فيقول الله عزَّ وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه إلى الأرض طرحًا، ثم قرأ النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ [الحج: 31] - أجارني الله وإياكم من ذلك - فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيقولان له: مَن ربك ؟ فيقول: ها ها، لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول: ها ها، لا أدري، فينادي منادٍ من السماء: أن كذب عبدي، فأفرشوه من النار وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حرّها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلط أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أَبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: مَن أنت ؟ فوجهك الذي يجيء بالشر، فيقول له: أنا عملك الخبيث، فيقول: ربِ لا تُقم الساعة»(3)؛ لأنه يعلم أن عذاب الساعة أشد وأنكى .
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الميت إذا وضع في قبره وتولّى عنه أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فأقعداه» وذكر الحديث، وفيه: «فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار، أبدلك الله به مقعدًا من الجنة» قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «فيراهما جميعًا»(4).
عباد الله، اتّقوا الله تعالى وأعدّوا لهذا الأمر العظيم عدته، وتعوّذوا بالله من عذاب القبر؛ فقد أمركم النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أن تتعوّذوا بالله من عذاب القبر في كل صلاة في التشهد الأخير، فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا تشهّد أحدكم التشهد الأخير - أو قال: الآخر - فلْيقل: اللهم إنِّي أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال»(5) .
تذكّروا - أيها الإخوة - ذلك واسألوا الله أن يجعل قبوركم روضة من رياض الجنة، قال الله تعالى: +يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" [آل عمران: 102] .
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكْر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنّه هو الغفور الرحيم .

الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمَر، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وإن رغم مَن أشرك به وكفر، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله سيد البشر، الشافع المشفع في المحشر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم المصير والمحشر، وسلَّم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد:
فيا أيها المسلمون، إن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - نهى عن زيارة القبور في أول الأمر؛ خوفًا من أن تكون زيارتها ذريعة للشرك والكفر، فلمّا رسخ الإيمان في قلوب المسلمين واستتبَّ لهم الأمن من الشرك، أمَرَ لهم النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بزيارتها، فقال صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها؛ فإنها تذكّر الموت»(6) وفي لفظ: «فإنها تذكّر الآخرة»(7).
صدق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ إن مَن زار القبور وهم أقوام كانوا معهم بالأمس يمشون على الأرض، ويأكلون الطعام، ويلبسون الثياب، ويركبون المراكب، ويتمتّعون بما أحلَّ الله لهم، صاروا اليوم في أحياء لا يقومون بذلك، صاروا مُرتهنين بأعمالهم، إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشر؛ ولهذا أمرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا زار الإنسان المقبرة أن يدعو لأهلها فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون»(8) «يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين»(9) «نسأل الله لنا ولكم العافية»(10) «اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم»(11) «واغفر لنا ولهم»(12) .
هكذا ينبغي للإنسان إذا زار المقابر يتذكّر الآخرة ويُسلّم على أهلها ويدعو لهم ويسأل الله ألا يحرمهم أجرهم وألا يفتنه بعدهم، هذا هو المقصود بالزيارة .
أما ما عدا ذلك من الأمور التي قد تُفعل في بعض البلاد الإسلامية: مِن رجاء إجابة الدعاء عندها، ومِن التبرك بترابها أو ما أشبه ذلك؛ فإن هذا كله بدعة ووسيلة إلى الشرك، وقد يكون من الشرك الأكبر الذي حرَّم الله على صاحبه الجنة، وأوجب له النار والعياذ بالله، وإذا كان كذلك فإنه لا ينبغي أبدًا أن نغلو في القبور أو أن نحدث ما يكون ذريعة إلى الغلو فيها؛ ولهذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - «عن تجصيص القبور وعن البناء عليها والكتابة عليها»(13)؛ لأن ذلك قد يكون ذريعةً إلى الشرك الأصغر والأكبر، وفتنة القبور عظيمة لا يعرفها إلا مَن تدبَّر تاريخ الأمم فوجد أن أكثر الفتن إنما تكون في القبور، يتدرج الإنسان من عبادة الله إلى عبادة المقبور، نسأل الله العافية .
فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغلو فيها: عن تجصيصها، أو تلوينها، أو تشبيكها؛ أي: أن يوضع عليها شيء تشرف فيه، يشرف فيه القبر على ما حوله من القبور، من رفع النصائد التي تسمونها النصائل أو غير ذلك .
ومن ذلك أيضًا: ما حدث أخيرًا من كون بعض الناس يكتب على جدران المقبرة أرقام الصف الذي فيه ميته، وكذلك نمرة القبر، وهذا لا شك أنه من الأمور المنكرة؛ ولذلك أرى أن يُطمس هذا التعليم وهذه الكتابة على جدار المقبرة؛ لأنه يُخشى منه شرٌ ولو في المستقبل البعيد، وأنت إذا أردت أن تدعو لميتك فادعُ الله تعالى في صلاتك: في انتظار الصلاة، في مواطن الإجابة الزمنية والمكانية، فهذا أفضل بكثير من كونك تكلف نفسك أن تذهب إلى قبره وتدعو له عند القبر .
وإني أقول لكم بصراحة: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات له بنات ثلاث، ودفنّ في مقبرة البقيع، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم فيما أعلم أنه كان يذهب إلى قبور هذه البنات ليزور كل واحدة على حدة وإنما كان يزور المقبرة زيارة عامة، ولم يرد عنه تخصيص قبر معيّن إلا في أمه؛ فإنه صلى الله عليه وسلم استأذن من الله تعالى أن يستغفر لأمه فلم يأذن له الله؛ لأن أمه ماتت على الكفر فلم يأذن الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر لها، وقال: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [التوبة: 113]، وأجاب الله تعالى عن استغفار إبراهيم لأبيه فقال: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة: 114] .
أعود للحديث: استأذنَ النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - من ربه أن يستغفر لأمه ولكن الله لم يأذن له، واستأذنه أن يزورها فأذن له الله - عزَّ وجل - أن يزور قبر أمه، هذا ما أعلمه من السنّة في زيارة القبر المعين، ولستُ أريد بذلك أن أمنع الإنسان من أن يزور قبرًا معيّنًا من أقاربه أو أصدقائه، ولكنّي أريد ألا يكون في ذلك غلوٌّ أو مجاوزة للحد الشرعي .
إن فتنة القبور أمر عظيم؛ ولهذا كان من الجيّد جدًّا أن تسمعوا ما ورد في التعميم الآتي يقول:
إن اللجنة الدائمة للبحوث العلميّة والإفتاء درست ما وردها من كتابات على بعض المقابر في المملكة، وما يقع فيها من مخالفات شرعيّة، وانتهت إلى ضرورة مراعاة ما يلي؛ لصيانة حرمات أموات المسلمين ومنعًا للبدع ووسائل الشرك:
أولاً: لا يجوز تعليم القبر بالكتابة أو وسم القبيلة؛ لأنه - أي: الوسم - نوع من الكتابة؛ لعموم ما رواه جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - نهى أن يُجصّص القبر، أو يقعد عليه، أو يبنى عليه أو يكتب عليه، رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم وأصله في صحيح مسلم .
ثانيًا: لا يجوز أن يُعلّم القبر بلياسة، كجص، وطين ونحوهما؛ لثبوت النهي عن تجصيص القبر في حديث جابر - رضي الله تعالى - عنه المذكور والطين ونحوه وما كان بمعناه ويريد بذلك أن يربي الإنسان الطين ويليِّس القبر .
ثالثًا: لا يجوز أن يُعلّم القبر بأي نوع من أنواع البويات؛ لأنها في معنى الجص .
رابعًا: لا يجوز أن يُعلّم القبر برخام يصنع لهذا الغرض؛ لأنه من مظاهر الغلو، ولم يكن عليه مَن مضى من صالح سلف هذه الأمة، فيمنع ذلك .
خامسًا: لا يجوز التعليم بخرقة تُعقد على نصيبة القبر، والنصيبة هي النصيلة، والصواب في اللغة أن النصيبة دون النصيلة، أقول: لا يجوز التعليم بخرقة تعقد على نصيبتي القبر؛ لأنه قد شاع عقد الخرق في القبور للتبرك، وكل هذا محدث لا يجوز .
سادسًا: القبور التي يحصل بها هضم وخسف، ينبغي تعميد عمال المقبرة بصفة مستمرة بتتبع القبور التي يحصل فيها شيء من ذلك؛ لتسوّى بالتراب؛ حتى تكون على الصفة التي كانت عليها قبل حصول الهضم فيها ولِتَتَساوى مع القبور المجاورة لها؛ حماية لها من الحيوانات، وحفظًا لحرمتها .
سابعًا: تجب صيانة المقابر من إلقاء الأذى والنفايات فيها .
وهذا هو ما أردت أن أنقله من هذا التعميم، وفي قوله: إنه لا يجوز تعليم القبر بالكتابة أو وسم القبيلة، لا شك أن التحرص من ذلك أولى، ولكن بعض أهل العلم رخَّص في الكتابة ليس فيها إلا مجرد الاسم دون شيء آخر أو الوسم؛ لأنه لكثرة القبور قد لا يعرف الإنسان قبر قريبه، أو مَن يريد أن يزور بعينه إلا بهذه الكتابة، مثل: أن يكتب: فلان ابن فلان فقط، أو الوسم، أمّا أن يزيد على ذلك بذكر التاريخ اليومي أو الشهري أو السنوي فإنه لا حاجة إليه، ولا شك أن الورع تركه .
هذا ما أردت أن تسمعوه؛ لتعرفوا أن الأمر خطير وأن الأمر ليس بالهيّن، وأنتم إذا سننتم هذه السنّة بهذه التعليمات وهذه الأرقام فسيأتي قوم بعدكم يزيدون على ذلك ثم تتطوّر المسألة إلى أمر أكثر وأكثر، والحمد لله مادام الله تعالى سميع الدعاء في أي مكان كنت وفي أي زمان، فادعُ الله - تبارك وتعالى - لميّتك وأنت في مكانك، في مواطن الإجابة الزمنية والمكانية .
هذا ما أردت أن أبيِّنه، والأمر خطير جدًّا .
احذروا - أيها الإخوة - مسألة المقابر والمقبرة؛ فإن أمرها خطير، والأمر فيها يكون في أول الأمر سهلاً لكنه في النهاية قد يؤدي إلى أمور عظيمة وفتنة كبيرة .
أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم مِمَّن يستمعون القول ويتبعون أحسنه، وأن يعيننا على الصبر عمّا حرم الله علينا، وأن يرزقنا وإياكم موافقة أمره بفعله، وأن نجتنب ما نهى الله عنه؛ إنه على كل شيء قدير .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
وإني أُكَرِّر أن الأرقام التي على جدران المقبرة ينبغي أو يجب أن تمحى وتطمس؛ لأنها ذريعة إلى أمور لا يمكننا أن ندفعها فيما بعد .
-----------------------
(1) أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [بدء الخلق] باب: ذكر الملائكة، رقم [2969]، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [القدر] باب: كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتاب رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، رقم [4781]، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده واللفظ له في مسند المكثرين من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، رقم [3372] ت ط ع .
(2) أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه، من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [الوصية] باب: ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، رقم [3084] ت ط ع .
(3) أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده في مسند الكوفيين، من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه، رقم [17803] ت ط ع .
(4) أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه، في كتاب [الجنائز] باب: الميت يسمع خفق النعال، رقم [1252]، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه في كتاب [الجنة وصفة نعيمها وأهلها] باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، رقم [5115]، من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، ت ط ع .
(5) أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه في كتاب [الجنائز] باب: التعوّذ من عذاب القبر، رقم [1288]، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه في كتاب [المساجد ومواضع الصلاة] باب: ما يستعاذ منه في الصلاة، رقم [924]، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ت ط ع .
(6) أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه في كتاب [الجنائز] باب: استئذان النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه -عزَّ وجل- في زيارة قبر أمه، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، رقم [1622] ت ط ع .
(7) أخرجه الإمام الترمذي -رحمه الله تعالى- في كتاب [الجنائز] باب: ما جاء في الرخصة في زيارة القبور، من حديث بريدة رضي الله تعالى عنه، رقم [974] ت ط ع .
(8) أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى، كتاب [الطهارة] باب: استحباب إطالة الغرّة والتحجيل في الوضوء، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه [367] ت ط ع .
(9) وفي رواية لمسلم أيضًا في كتاب [الجنائز] باب: ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها، من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها [1619] ت ط ع .
(10)وفي رواية لمسلم [1620] .
(11)أخرجه ابن ماجه -رحمه الله تعالى- في كتاب [ما جاء في الجنائز] باب: ما جاء فيما يقال إذا دخل المقابر، من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها .
(12)أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه، رواية رقم [1618]، أخرجه الترمذي -رحمه الله تعالى- في سننه في كتاب [الجنائز] باب: ما يقول الرجل إذا دخل المقابر، من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما [973]، انظر إليه في مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى الجزء [10] الصفحة [296] .
(13)أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده في باقي مسند المكثرين من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، رقم [14748]، وأخرجه الترمذي -رحمه الله تعالى- في سننه في كتاب [الجنائز] باب: ما جاء في كراهية تجصيص القبور والكتابة عليها، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، رقم [972] ت ط ع .



حقوق النشر والطبع © 1425هـ - 2004م مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
Copyright © 1425 H. - 2004 AD Shaikh binothaimeen Charity . All rights reserved
جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
info2@binothaimeen.com (info@binothaimeen.com)