المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : في ضابط جواز رفع اليدين في الدعاء الشيخ أبي بعد المعز محمد علي فركوس -حفظه الله-



أبو عبد المصور مصطفى الجزائري
19-Nov-2011, 11:46 PM
الفتوى رقم: 1120

الصنف: فتاوى متنوعة

في ضابط جواز رفع اليدين في الدعاء

السـؤال:

هل يوجد ضابطٌ لمعرفة متى يجوز رفعُ اليدين في الدعاء ومتى يُمنع؟ وهل يجوز الاقتصار على رفع اليدين في دعاء الاستسقاء دون غيره عملاً بحديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه أنه قال: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إِلاَّ فِي الاسْتِسْقَاءِ»(١)؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فيُعَدُّ رفعُ اليدين في الدعاء -في الجملة- من آداب الدعاء ومن أسباب الإجابة، ذلك لورود أحاديثَ كثيرةٍ تدلُّ على مشروعيته، وهي ثابتةٌ من أقواله وأفعاله بلغت مبلغَ التواتر المعنوي، قال النووي -رحمه الله-: «قد ثبت رفعُ يديه صلَّى الله عليه وسلَّم في الدعاء في مواطنَ غيرِ الاستسقاء، وهي أكثرُ من أن تُحصر، وقد جمعتُ منها نحوًا من ثلاثين حديثًا من الصحيحين أو أحدهما»(٢)، وقال السيوطي -رحمه الله-: «فقد رُوي عنه صلَّى الله عليه وسلَّم نحوُ مائة حديثٍ فيه رفعُ يديه في الدعاء، وقد جمعتُها في جزءٍ، لكنَّها في قضايا مختلفةٍ؛ فكلُّ قضيةٍ منها لم تتواتر، والقدر المشترك فيها -وهو الرفع عند الدعاء- تواترَ باعتبار المجموع»(٣).

ومن الأحاديث القولية الثابتة عنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه قال: «إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ، أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا»(٤)، وقال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّبًا، ... ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، ...» الحديث(٥).

ومن الأحاديث الفعلية أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطَيْهِ يَدْعُو لِعُثْمَانَ»(٦)، ومن ذلك صنيعُ خالد بن الوليد رضي الله عنه مع بني جَذِيمَةَ وفيه: «فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ» مَرَّتَيْنِ»(٧)، وفي فتح مكَّةَ: «رَفَعَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَحْمَدُ اللهَ وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَ»(٨)، وفي قصَّة الكسوف: «فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ يَدْعُو»(٩)، وفي دعائه لأهل البقيع: «فَرَفَعَ يَدَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ»(١٠)، وفي حديث أسامة رضي الله عنه: «كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَاتٍ فَرَفَعَ يَدَيْهِ يَدْعُو، فَمَالَتْ بِهِ نَاقَتُهُ فَسَقَطَ خِطَامُهَا، فَتَنَاوَلَ الخِطَامَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَهُ الأُخْرَى»(١١)، وفي حديث القنوت(١٢) رفع يديه -أيضًا- وغيرها من الأحاديث الصحيحة.

وهذه الأحاديث المتواترة معنًى قد جاء من حديث أنسٍ رضي الله عنه ما يعارضها في الظاهر، ونصُّ حديثه: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إِلاَّ فِي الاسْتِسْقَاءِ»(١٣).

وقد جمع العلماء بينهما -توفيقًا بين الأدلَّة- من جهتين:

الأولى: أنَّ المنفيَّ في حديث أنسٍ رضي الله عنه هو صفةٌ خاصَّةٌ، تلك الصفة التي سمَّاها ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما الابتهال، فإنَّ رفْعَ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ليديه في الاستسقاء كان شديدًا بحيث يخالف غيرَه بالمبالغة فيه فيُرى فيه بياضُ إبطيه، وينحني فيه بدنُه، ومن ثَمَّ فإنَّ نفي صفةٍ خاصَّةٍ لا يلزم منه نفيُ أصل الرفع، ومع ذلك فإنَّ هذه الصفة الخاصَّة لم تكن قاصرةً على دعاء الاستسقاء، بل ثبتت في مواطنَ أخرى، ففي قصَّة ابن اللتبية: «ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبِطَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ»»(١٤)، وقد روى أبو داود في «المراسيل»(١٥) من حديث أبي أيُّوبَ سليمانَ بن موسى الدمشقي -رحمه الله-: «لم يُحفظ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنه رفع يديه الرفعَ كلَّه إلاَّ في ثلاثة مواطنَ: الاستسقاء، والاستنصار، وعشيَّة عرفة، ثمَّ كان بعدُ رفعٌ دون رفعٌ».

الثانية: يمكن حملُ حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه على نفي رفع اليدين وهو على المنبر يومَ الجمعة، لأنه لم يُنقل عن النبيِّ صلَّى الله عليه آله وسلَّم ولا عن صحابته الكرام رفعُ اليدين حالَ خطبة الجمعة مع كثرة الجُمَع وتوافُر الدواعي إلى نقلها، وإنما الثابتُ عنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه كان لا يزيد على أن يرفع إصبعه المسبِّحة، وصفة رفع السبَّابة من اليد اليمنى هي ثابتةٌ بمقام الذكر والدعاء حالَ الخطبة على المنبر، وكذلك عند التشهُّد في الصلاة وفي أحوال عموم الذكر والتهليل والتسبيح خارجَ الصلاة.

ويؤيِّد ذلك حديثُ عُمَارَةَ بْنِ رُؤَيْبَةَ، قَالَ: رَأَى بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ رَافِعًا يَدَيْهِ، فَقَالَ: «قَبَّحَ اللهُ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الْمُسَبِّحَةِ»(١٦).

هذا، وإذا تقرَّر أنَّ الأصل في آداب الدعاء وأسباب الإجابة رفعُ اليدين مطلقًا إلاَّ أنه يُستثنى منه الدعاءُ المقيَّد بعبادةٍ نُقلت صفتُها مجرَّدةً من رفع اليدين بالنقل الثابت، فتكون -والحال هذه- مستثناةً من الأصل السابق بالسنَّة التركية مثل رفع اليدين من الدعاء في الصلاة أو في التشهد الأخير أو حالَ الخطبة يوم الجمعة وغيرها من العبادات الخالية من رفع اليدين.

والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: 28 من ذي القعدة 1432 ﻫ

الموافق ﻟ: 26 أكتوبر 2011 م



١- أخرجه البخاري في «الجمعة» باب رفع الإمام يده في الاستسقاء (1031)، ومسلم في «صلاة الاستسقاء» (895)، من حديث أنس رضي الله عنه.

٢- «شرح النووي على مسلم» (6/ 190).

٣- «تدريب الراوي» للسيوطي (2/ 162).

٤- أخرجه أبو داود في «الصلاة» باب الدعاء (1488)، والترمذي في «الدعوات» (3556)، من حديث سلمان رضي الله عنه. وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (1337).

٥- أخرجه مسلم في «الزكاة» (1015) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

٦- أخرجه الطبراني في «الأوسط» (7/ 195)، من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه. وحسّنه الهيثمي في «مجمع الزوائد» (9/ 96).

٧- أخرجه البخاري في «المغازي» بَاب بعث النَّبيِّ صَلّى الله عليه وسلَّم خالد بن الوليد إلى بني جَذيمة (4339)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

٨- أخرجه مسلم في «الجهاد والسير» (1780)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

٩- أخرجه مسلم في «الكسوف» (913)، من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه.

١٠- أخرجه مسلم في «الجنائز» (974) من حديث عائشة رضي الله عنها.

١١- أخرجه أحمد في «مسنده» (36/ 146)، والنسائي في «مناسك الحج» رفع اليدين في الدّعاء بعرفة (3011)، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه. وحسّنه عبد القادر الأرناؤوط في تحقيقه ﻟ«جامع الأصول» (3/ 272).

١٢- أخرجه أحمد في «مسنده» (19/ 394)، من حديث أنس رضي الله عنه، والحديث جوّد إسناده العراقي في «تخريج الإحياء»: (1/ 130)، وانظر «الإرواء» (2/ 163)، و«السلسلة الضعيفة» كلاهما للألباني (6/ 60).

١٣- سبق تخريجه.

١٤- أخرجه البخاري في «الهبة وفضلها والتحريض عليها» باب من لم يقبل الهديَّة لعِلَّة (2597)، ومسلم في «الإمارة» (1832)، من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه.

١٥- (1/ 153).

١٦- أخرجه مسلم في «الجمعة» (847).
منقول من موقع الشيخ أبي بعد المعز محمد علي فركوس -حفظه الله- (http://www.ferkous.com/rep/Bq144.php)