المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الدعائم الإيمانية للداعية (الشيخ فركوس حفظه الله)



أبو ليلى نورالدين السلفي
21-Jun-2012, 12:17 PM
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:

فمَهَمَّة الداعي إلى الله تتطلَّب -عمليًّا- تجسيدَ دعائمَ إيمانيةٍ قويَّةِ البنيان متينةِ الإحكام، قصْدَ القيام بوظيفته الدعوية على الوجه الأكمل والمَرْضيِّ، وهي -في الأصل- امتدادٌ لوظيفة الرسل والأنبياء، وهذه الدعائم الإيمانية هو بحاجةٍ ماسَّةٍ إليها، وخاصَّةً في الآونة الراهنة، ويمكن حصرُها في ثلاث دعائمَ إيمانيةٍ محوريةٍ، تتمثَّل في: فهمِ المنهج الدعويِّ وما يصحبه من ركيزتين أساسيَّتين أوَّلاً، وفي صدق الإيمان الراسخ وما يترتَّب عليه من ثمراتٍ ولوازمَ ثانيًا، وفي الاعتماد القلبيِّ الموصول بالله ثالثًا.
وسنتعرَّض لهذه الدعائم الثلاث فيما يلي:
الدِّعامة الأولى: فهم المنهج الدعوي:

وأعني بفهم المنهج الدعويِّ الفهمَ الدقيق للطريق الذي ينتهجه الداعية إلى الله تعالى في سلوكه العمليِّ ودعوته، وهو فهمٌ دقيقٌ قائمٌ على علمٍ بطريق الآخرة، بمعرفة أحكام الشريعة ومعانيها ومراميها ومقاصدها، والوقوفِ عندها تدبُّرًا وتفكُّرًا وإمعانًا وعملاً، ومعرفةِ الخالق الذي يدعو إليه وطريقِ الوصول إليه، وما يحصل عليه المطيع من وعدٍ وكرامةٍ، ومعرفةِ ما يدعو إليه الشيطانُ وحزبُه والسبلِ الموصلة إليه، وما يحصل عليه مطيعُ الشيطان من وعيدٍ وإهانةٍ، وهذه المعرفة تُمَكِّن الداعيةَ إلى الله تعالى من التمييز بين الحقِّ والباطل فيما اختلف الناسُ فيه، فيرى بها الحقَّ حقًّا والهدى هدىً والباطلَ باطلاً والضلالَ ضلالاً، ويجعل اللهُ سبحانه وتعالى بهذه المعرفة نورًا في قلب الداعية وقوَّةً وانشراحًا وتعلُّقًا أكثرَ بالآخرة وعزوفًا أشدَّ عن الدنيا(١- انظر: «مدارج السالكين» لابن القيِّم (1/452).).
ولا يتحقَّق للداعية إلى الله تعالى التمييزُ بين الحقِّ والباطل لِيَخْلُصَ إلى عقيدةٍ صحيحةٍ يعتمد عليها إلاَّ إذا سار وَفْقَ منهجٍ سليمٍ، قائمٍ على صحيح المنقول الثابتِ بالكتاب والسنَّة، والآثار الواردة عن الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين من أئمَّة الهدى ومصابيح الدُّجَى الذين سلكوا طريقَهم، كما قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»(٢- أخرجه البخاري في «الشهادات» باب لا يشهد على شهادة جَوْرٍ إذا شهد (2652)، ومسلم في «الفضائل» رقم (2533)، من حديث عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه. وله شاهدٌ من حديث النعمان بن بشيرٍ رضي الله عنهما بهذا اللفظ إلاَّ أنه قال ثلاث مرَّاتٍ: «ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»، فأثبت القرن الرابع. [انظر: «السلسلة الصحيحة» للألباني (2/320)].). فكان هذا الصراط القويم يتمثَّل في طلب العلم بالمطالب الإلهية عن طريق الاستدلال بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والاسترشادِ بفهم الصحابة والتابعين ومن الْتزم بمنهجهم من العلماء مِن أعظمِ ما يتميَّز به أهلُ السنَّة والجماعة عن أهل الأهواء والفُرقة، ومن مميِّزاتهم الكبرى: عدمُ معارَضتهم الوحيَ بعقلٍ أو رأيٍ أو قياسٍ، وتقديمُهم الشرعَ على العقل، مع أنَّ العقل الصريحَ لا يعارض النصَّ الصحيح بل هو موافقٌ له، ورفضُهم التأويلَ الكلاميَّ للنصوص الشرعية بأنواع المجازات، واتِّخاذُهم الكتابَ والسنَّة ميزانًا للقبول والرفض، تلك هي أهمُّ قواعدِ المنهج السلفيِّ وخصائصِه الكبرى التي لم يتَّصف بها أحدٌ سواهم، ذلك لأنَّ مصدر التلقِّي عند مخالفيهم من أهل الأهواء والباطل والبِدَع هو العقلُ الذي أفسدتْه تُرَّهاتُ الفلاسفة، وخُزَعْبَلات المناطقة، وتَمَحُّلات المتكلِّمين، فأفرطوا في تحكيم العقل وردِّ النصوص ومعارضتِها به، وغيرِ ذلك مِمَّا هو معلومٌ من مذهب الخلف.

ومن مميِّزات الفهم السليم لهذا المنهج الدعويِّ -بما تقدَّم من اعتبارٍ-: تحريكُ قلب الداعية وتهييجُه إلى ركوب مطيَّته والاستشعارِ بغربةٍ في الدنيا ودنوِّ رحيله عنها إلى سفرٍ لا عودةَ له منه، ولا ينفع فيه من زادٍ إلاَّ التقوى، قال تعالى: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ [النساء: 77]، وقال تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [البقرة: 197]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا»(٣- أخرجه الترمذي في «الزهد» (2377) وأحمد (3709) من حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه، والحديث صحَّحه الألباني في «الصحيحة» (439).)، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم لابن عمر رضي الله عنهما: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَعُدَّ نَفْسَكَ فِي أَهْلِ القُبُورِ»(٤- أخرجه البخاري في «الرقاق» باب قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» (6416) دون الجملة الأخيرة، والترمذي في «الزهد» باب ما جاء في قِصَرِ الأمل (2333)، وابن ماجه في «الزهد» باب مثل الدنيا (4114)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، والحديث صحَّحه الألباني بالزيادة لشواهدها في «السلسلة الصحيحة» (1157).).
وعليه، فإنَّ الفهم السليم يقوم على ركيزتين أساسيَّتين:
الركيزة الأولى: أن يُدرك الداعية حقيقةَ وجوده في الحياة والغايةَ منها، وتتجلَّى في تحقيق العبودية لله تعالى وتحصيلِ الغاية العظمى مِن خَلْق الخلق ومِن بعْثِ الرسل، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36]، فيَحْمِل الداعية نفْسَه على الطاعة والدعوةِ إلى الله، وهدايةِ الحيارى إلى أقوم صراطٍ، وقيادَتِهم إلى الحقِّ، وإخراجِهم من الظلمات إلى النور، والجهادِ في سبيل الله باليد والمال واللسان والقلم لتكون كلمة الله هي العليا، وعمارةِ الأرض بفعل الحسنات والطاعات، وغيرها من المهامِّ النبيلة التي ينتهض بها الداعية بصحَّة القصد وصِدْق النيَّة، وغايتُه في ذلك مرضاةُ ربِّه سبحانه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ [الحج: 77-78].
فمَنْصِبُ الداعي إلى الله بين الناس -بهذا المنظور في بُعْدِه الدعويِّ- هو الإمامةُ بالحقِّ وهدايةُ الخلق، وحملُ الناس على إصلاح عقيدتهم وعباداتِهم وسلوكهم وأخلاقهم ومعاملاتِهم، وذلك بالقدوة الصالحة وإرشادِهم إلى أكملِ حالةٍ، وبأحسنِ وسيلةٍ، ومِن أقربِ طريقٍ، «لأنَّ فِعْلَ الخير والاتِّصافَ بالكمال دعوةٌ إليهما بالعمل، وهي أبلغُ من الدعوة بالقول»(٥- «مجالس التذكير» لابن باديس (298).).
وفي مقابل ذلك فإنَّ من أسوإ المساعي طَلَبَ الإمامةِ لأجل الترؤُّس على الناس والتقدُّم عليهم، فإنَّ السعي في تحصيله مذمومٌ، لأنه مسعى المتكبِّرين لا مِن عملِ المتَّقين، بَلْهَ من يهتبل فُرَصَ الحياة ليتمتَّع بملاذِّ الجسد ما وَسِعَه وليس له من غايةٍ في الحياة إلاَّ إشباعُ الرغبات والشهوات والتمتُّعُ بالملذَّات، ويأكل كما تأكل الأنعامُ، فذلك منتهى أَمَلِه وأقصى غايته ومبلغُ عِلْمِه، قال تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾ [النجم: 29-30]، وعمارتُهم في الأرض بالبغي والفساد، وعملُهم الدعويُّ الإنكارُ والتشكيك وإثارةُ الشبهات لإخراج الناس من النور إلى الظلمات، فمَنْصِبُ الداعية فيهم الإمامةُ بالباطل وتضليلُ الخلق والسعيُ إلى إفسادهم، فهؤلاء هم دعاة النار، قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [البقرة: 221]، وقال أيضًا: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنْصَرُونَ﴾ [القصص: 41].
الركيزة الثانية: أن يعمل الداعية على تَرْكِ تعلُّقه بالحياة الدنيا وملذَّاتها ويفرِّغ قلبه من سمومها ويتجافى عنها؛ لأنها دارُ غرورٍ(٦- انظر: «مفتاح دار السعادة» لابن القيِّم (1/149).)، وقد حذَّرنا الله ورسولُه من خطورة التعلُّق بها والوقوعِ في شراكها، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ﴾ [فاطر: 5]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ»(٧- أخرجه مسلم في «الرقاق» (2742) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.)، ويحرص الداعيةُ إلى الله -في تحقيق غايته- أن يجعل قلبَه متعلِّقًا بالآخرة ويُقْبِلَ عليها بصدقٍ ويُؤْثِرَها على الدنيا لأنها باقيةٌ، والباقي أحقُّ بالحرص والعمل من الفاني، قال تعالى: ﴿وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الأعلى: 17]، وقال تعالى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ﴾ [النحل: 96]، والباقي الوفير جديرٌ بالتقديم على القليل الزائل، قال تعالى: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ [النساء: 77]، وعلى الداعية إلى الله أن يشعر بالغربة في الدنيا ويُحِسَّ بقرب رحيله عنها حتَّى يقطع التسويفَ وطولَ الأمل، فيَقْصُرُ أملُه في الدنيا ويجعلُها مزرعةَ الآخرة ومطيَّةَ النجاة، وهذه الحقيقة اتَّفقت وصايا الأنبياء وأتباعهم على التنبيه عليها، قال تعالى عن مؤمن آل فرعون: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ﴾ [غافر: 39]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا»(٨- سبق تخريجه.)، وعلى الداعية أن يتزوَّد من دنياه لآخرته، فإنَّ الإحساس بالغربة أدعى له إلى المبادرة بفعل الصالحات والقيامِ بالطاعات والإكثارِ مِن فِعْل الخيرات، فلا يُهْمِل ولا يُمْهِل اغتنامًا للدنيا للفوز بالآخرة قبل فوات الأوان، لأنه لا يدري متى ينتهي أجلُه، قال ابن عمر رضي الله عنهما: «إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ»(٩- أخرجه البخاري في «الرقاق» باب قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» (6416) من قول ابن عمر رضي الله عنهما وقد مضى في الهامش قبله.)، فعلى الداعية أن يجتهد في العمل الصالح ويُكْثِرَ من وجوه الخير، وفي طليعة ذلك الدعوةُ إلى الحقِّ وهدايةُ الخلق، مع التجافي عن الدنيا والزهد فيها والإعراض عن مشاغلها، فما أحْوَجَ الداعيةَ إلى الله إلى هذا الفهم الدقيق لمنهجه في الحياة والدعوة، فهو لبُّ العلم وغايتُه، وبه يتميَّز المنهج الدعويُّ الذي يسلكه مع إخلاص القصد فيه، وبدونه لا يُعَدُّ العالم عالمًا ربَّانيًّا وإن حفظ المتونَ وردَّدها بلسانه، واستوعب شروحَها وملأ بها صدْرَه، واستحكم الأحكامَ بأصولها وسوَّد بها صحائفَ وأوراقًا.


-يتبع-

الجزائر في: أوَّل جمادى الثانية 1433ﻫ
الموافق: 22 أفريل 2012م

١- انظر: «مدارج السالكين» لابن القيِّم (1/452).


٢- أخرجه البخاري في «الشهادات» باب لا يشهد على شهادة جَوْرٍ إذا شهد (2652)، ومسلم في «الفضائل» رقم (2533)، من حديث عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه. وله شاهدٌ من حديث النعمان بن بشيرٍ رضي الله عنهما بهذا اللفظ إلاَّ أنه قال ثلاث مرَّاتٍ: «ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»، فأثبت القرن الرابع. [انظر: «السلسلة الصحيحة» للألباني (2/320)].

٣- أخرجه الترمذي في «الزهد» (2377) وأحمد (3709) من حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه، والحديث صحَّحه الألباني في «الصحيحة» (439).

٤- أخرجه البخاري في «الرقاق» باب قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» (6416) دون الجملة الأخيرة، والترمذي في «الزهد» باب ما جاء في قِصَرِ الأمل (2333)، وابن ماجه في «الزهد» باب مثل الدنيا (4114)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، والحديث صحَّحه الألباني بالزيادة لشواهدها في «السلسلة الصحيحة» (1157).

٥- «مجالس التذكير» لابن باديس (298).


٦- انظر: «مفتاح دار السعادة» لابن القيِّم (1/149).

٧- أخرجه مسلم في «الرقاق» (2742) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.

٨- سبق تخريجه.

٩- أخرجه البخاري في «الرقاق» باب قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» (6416) من قول ابن عمر رضي الله عنهما وقد مضى في الهامش قبله.
الدعائم الإيمانية للداعية
«الحلقة الثانية»

الدِّعامة الثانية: صدقُ الإيمان الراسخ:

والمراد بهذا الركن أن يكون إيمانُ الداعية صادقًا وعميقًا راسخًا، بحيث يتيقَّن أنَّ الإسلام مصدرُ وحيٍ ودينُ حقٍّ، وأنَّ ما جاء به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم من الله تعالى هو الهداية ليُخْرِج الناسَ من الظلمات إلى النور، وأنَّ الله هداه إلى دينه القويم الذي لا يقبل دينًا غيرَه وأمَرَه بالدعوة إليه.
فهذا الرسوخ في الإيمان العميق مؤسَّسٌ على علمٍ قطعيٍّ وبيِّنةٍ ثابتةٍ مستمَدَّةٍ من الإسلام ذاته ومستوحاةٍ من مقاصده ومراميه، فيمنعه من قَبول أيِّ تحوُّلٍ عمَّا تيقَّنه أو أدنى شكٍّ أو مساومةٍ فيما آمن به واعتقده، بل يَعتبر صاحبُه أنَّ أيَّ انحرافٍ عنه ضلالٌ واتِّباعٌ للهوى، وقد جاء في التنزيل قولُه تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لاَ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ [الأنعام: 56]، أمَّا من تتخطَّفه الشُّبَهُ وتؤثِّر فيه الشكوكُ أو يضطرب إذا ما صادفتْه محنةٌ أو عارضتْه فتنةٌ أو شدَّةٌ؛ فهذا مرتابٌ ضعيف الإيمان سريعُ الميلان متقلِّبٌ أشْبَهُ بالمنافق الذي وصَفَه الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج: 11]، ذلك لأنَّ المنافق يدخل في الدين على طَرَفٍ، فإن وجد ما يُحِبُّه ويُصلح له دنياه أقام العبادةَ واستقرَّ عليها، وإن وجد ما لا يُحبُّه وتغيَّرت عليه دنياه وفسدت انقلب عن العبادة وصَرَفَ نفْسَه عنها، فإن ألمَّت به شدَّةٌ أو أصابته فتنةٌ أو محنةٌ ترك دينَه وارتدَّ عنه، فلا هو حصل من الدنيا على شيءٍ، وأمَّا في الآخرة فهو في غاية الشقاء والإهانة(١- انظر: «تفسير ابن كثير» (3/209).).
وهذا الإيمان الراسخ ضروريٌّ للداعي إلى الله تعالى، فإنه يثبِّته اللهُ به على الحقِّ اليقين، فلا يتحوَّل عنه مهما لاقى من فتنٍ ومحنٍ، ولا يتأثَّر إيمانُه الصادق العميق ولا يزول بأيِّ سببٍ خارجيٍّ مهما كان نوعُه وطبيعته، سواءً اجتمعت عليه قوى الشرِّ والفساد أو اقترنت شبهات المضلِّين بخوارق العادات، أو انصرف عنه الناس ولم يستجب له إلاَّ القليلُ أو تركوه جميعًا، فإنه لا يضعف أمام الجبهات المؤذية ولا للكثرة المعادية، وقد أخبر الله تعالى في كتابه عن نوحٍ عليه السلام أنه لبث في قومه ألْفَ سنةٍ إلاَّ خمسين عامًا يدعوهم إلى عبادة الله وحده ولم يؤمن معه إلاَّ قليلٌ، ومع ذلك لم يتسرَّبْ إلى صفاء قلبه كدرُ الشكِّ والارتياب، بل بقي قائمًا بالحقِّ ثابتًا عليه وموصولاً به يدعو إليه، فكذلك الداعيةُ المسلم ينبغي أن لا يتزعزع إيمانه الراسخ بما هو عليه حالُ الأمَّة وضعْفُ كلمة الإسلام فيها، ولا تُدْهِشَه صولةُ الكفَّار على المسلمين وجولُتهم، ولا تزلزلَه قذائف الباطل ومثاراتُ الشكوك والشبهاتِ على أحقِّية الإسلام وصدْقِ القرآن، سواءً من الكَفَرَة الفَجَرَة أو من أدعياء الإسلام وعلماء السوء المستترين وراء كلمة الإسلام التي ينطقونها بألسنتهم ويُبدونها في مجالسهم، ويبيِّتون مكرًا شديدًا وكيدًا عظيمًا وضلالاً مبينًا، بل الداعية إلى الله تعالى يفرح بالإسلام والقرآن، ولا يزداد بهما إلاَّ إيمانًا وتثبيتًا، قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58]، ولا تستهويه أحوالُ وأهوالُ المتربِّصين والشانئين والمناوئين لهذا الدين ولا تُضعفه، بل على العكس تدفعه للمزيد من بَذْلِ الجهد والتضحية في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى.
هذا، ولا يتخلَّف عن ذهن المتأمِّل المتفحِّص ما يولِّده الإيمان العميق الراسخ من ثمراتٍ طيِّبةٍ ولوازمَ حسنةٍ، وهي كثيرة العدد جليلة القدر، وتأتي في طليعة ثمرات الإيمان الراسخ:
الأولى: محبَّة العبد لربِّه ومحبَّةُ ما جاء به اللهُ من العلم والعمل، وتقديمُ مرادِه على ما سواه، وهي محبَّةٌ مستلزمةٌ لغاية الذلِّ والخضوع، وهي أعلى الحبِّ وأرْفَعُه قدرًا، قال تعالى: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: 54]، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ﴾ [البقرة: 165]، وهذه المحبَّة تخلِّف أثرًا طيِّبًا يُحسُّ العبد بحلاوته من منطلق ثلاث مقاماتٍ:
مقام التكميل: وهو كمال حبِّ الله ورسولِه، وتقديمُ محبَّتهما على ما سواهما إلى أبعد الحدود والغايات.
مقام التفريق: وهو التفريق بين ما يحبُّه الله تعالى من الأقوال والأعمال والأشخاص وبين ما يُبغضه، فيحبُّ العبد ما يحبُّه ويُبغض ما يُبغضه الله.
مقام دفع الضدِّ: وهو أن يكره ما يضادُّ الإيمانَ أعْظَمَ من كراهيته الإلقاءَ في النار، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ»(٢- أخرجه البخاري في «الإيمان» باب حلاوة الإيمان (16)، ومسلم في «الإيمان» (43) من حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه.).
وللمحبَّة علاماتٌ منها:
- اتِّباع الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم في هديه، والاقتداءُ به في سيرته وفي دعوته، وطاعتُه في أوامره، واجتنابُ نواهيه لقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ [آل عمران: 31]، وقولِه تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: 7]، وقولِه تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ﴾ [الأحزاب: 21]، وقولِه تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [النساء: 80]، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ»(٣- أخرجه مسلم في «الحج» (1337) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.)، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»(٤- أخرجه البخاري في«الإيمان» باب: حبِّ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم من الإيمان (15)، ومسلم في «الإيمان» (44) من حديث أنسٍ رضي الله عنه.).
- الشعور بالشفقة والرحمة على المؤمنين متجلِّيةً في ذلَّةٍ مشروعةٍ لقوله تعالى في صفة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع أصحابه: ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: 29]، وبقدر ما هو ليِّنٌ رحيمٌ بالمؤمنين فهو قويٌّ على الكافرين، عزيزٌ في ظاهره وباطنه، شديدٌ لا يُحسُّ بهوانٍ أو استكانةٍ أمامهم ولا بصغارٍ في غَيْبتهم، قال تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾ [الفتح: 29].
- الجهاد في سبيل الله، وهو الاجتهاد في حصول المطالب العليا التي يُحبُّها الله من الإيمان والعمل الصالح، ودفعِ ما يُبغضه من الكفر والفسوق والعصيان، لا يردُّه عمَّا هو فيه مِن طاعة الله والدعوةِ إليه وإقامةِ الحدود ونصرةِ الحقِّ وقتالِ أعدائه والأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، لا يردُّه عن ذلك كلِّه رادٌّ، ولا يصدُّه عنه صادٌّ، ولا يحول منه لومُ اللائمين، ولا يمنعه منه عذلُ العاذلين(٥- انظر: «تفسير ابن كثير» (2/70).)، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ﴾ [المائدة: 54]، ويتبلور جهادُ الداعيةِ المبذولُ في دوام النشاط في طاعة الله والاشتغالِ بقضايا دعوته والتفكيرِ في وسائلها ودعائمها وطريقِ تحصيل الغاية منها، ويبقى حريصًا على إنجاح عمله، يُؤْثر دائمًا ما يُحبُّه محبوبُه من غير مبالاةٍ بالمشاقِّ التي تعترضه والأتعابِ التي تصيبه حتَّى يتمَّ التبليغُ والتبيينُ وتيسيرُ سُبُلِ الهداية للناس، وهو في ذلك يقدِّم المحبَّةَ الشرعية على المحبَّة الفطرية الغريزية من محبَّة الآباء والأولاد والأهل والعشيرة والأموال والأوطان، وسائرِ ملاذِّ الدنيا وحُطامها، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 24].
والداعية إلى الله تعالى إن ترك موالاةَ الله بموافقته فيما يحبُّ ويكره، ولم يبذلِ الجهدَ في تحصيل ما يحبُّه الله من أنواع الطاعات وسائر الخيرات، ودفعِ ما يكرهه من الكفر والفسوق والعصيان؛ كان ذلك علامةً ظاهرةً على ضَعْفِه في تحقيق إحدى أصول العبادة وهي محبَّةُ الله تعالى.
هذا، ومن لوازم تلك المحبَّة: الإكثارُ من تلاوة القرآن وذكرِ الله في جميع أحواله، بالإضافة إلى تلذُّذِه بالقيام بالطاعة على غير وجه استثقالٍ ولا استيحاشٍ، بل يتنعَّم بطاعته ويأنس بمناجاة ربِّه ويأسف على كلِّ فراغٍ ضائعٍ في غير ذكرِ الله، وعلى كلِّ وقتٍ فاته في غير طاعته، ومن لوازمها -أيضًا- أن يُؤثر ما يحبُّه الله ورسوله على ما يحبُّه هو في ظاهره وباطنه، فلا يغضبُ لنفسه، وإنما يغضب لربِّه غيرةً لله إذا ما انتُهكت محارمُه، ويحبُّ لقاءَ الله لمحبَّة المحبِّ لحبيبه، لذلك فهو لا يكره الموتَ إذا جاءه، لأنه مفتاح لقائه مع الله تعالى وطريقُ الوصول إليه.
وليس بخافٍ على الداعية إلى الله أنَّ محبَّة الله تعالى هي النافعة في الآخرة وحدها، وهي سبب كلِّ محبَّةٍ دينيةٍ أخرى: مِن محبَّة الرسول ومحبَّةِ المؤمنين، فإنها ترجع إليها لكونها مبنيَّةً عليها، فكلُّ محبَّةٍ خَلَتْ من محبَّة الله فهي دنيويةٌ لا نفْعَ فيها في الآخرة، بل عاقبتُها العداوةُ والبغضاء، قال تعالى: ﴿الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 67]، وقال تعالى: ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ﴾ [البقرة: 166]، قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: المودَّة أي: المحبَّة(٦- انظر: «تفسير ابن كثير» (1/477)، «إغاثة اللهفان» لابن القيِّم (2/132).)، لذلك كان من مَهمَّات الداعية إلى الله أن يدعوَ الناسَ إلى أن يبنوا علاقتَهم على محبَّة الله الجامعةِ لأنواع المحبَّة، وأن يؤسِّسوا عليها النيَّاتِ والمعتقداتِ والأقوالَ والأعمال.
الثانية: خوف العبد من ربِّه
ومِن ثمرات الإيمان الراسخِ أن تنبعث في القلب خشيةٌ من توقُّع المكروه، سواءً كان متيقَّنًا أو مظنونًا، والمراد بالخوف الصيرورةُ إلى أبعدِ غاياته ومنتهى كماله، بحيث لا يخاف شيئًا أعْظَمَ من الله تعالى، ذلك لأنَّ الخوف موجِبُ الهروب إلى الله مع اقترانه بحلاوةٍ وطمأنينةٍ وسكينةٍ ومحبَّةٍ(٧- «مدارج السالكين» لابن القيِّم (1/514).)، فالخوفُ عبودية القلب لا تصلح إلاَّ لله وحده، وهو شرط تحقيق الإيمان لقوله تعالى: ﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175]، ومنشأُ خوفِ العبد من الله: علمُه بالجناية وقبحِها، وتصديقُه بوعيد الله على ارتكابها، وأنَّ عصيانه وعدمَ القيام بحقِّ الله تعالى يُفضي إلى ترتيب العقوبة عليه، كما يعلم أنَّ المعاصيَ قد تحول بينه وبين التوبة وهكذا، فازديادُ الخوف من الله والرهبةِ من حصول المكروه في نفس العبد إنما يكون بازدياد معرفته بالله وفِقْهِ عِظَم الجناية في مخالفة ربِّ البريَّة، وبالعكس ينقص الخوف من الله لِنَقْصِ معرفته به تعالى، فبحَسَبِ معرفته بالله وفِقْهِه لحجم الجريمة ونوعها تكون قوَّةُ الخوف وضَعْفُه(٨- انظر: «طريق الهجرتين» لابن القيِّم (413).)، ولهذا قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «وَاللهِ، إِنِّي لَأَعْلَمُكُمْ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَخْشَاكُمْ لَهُ»(٩- أخرجه أحمد (24912). وهو في البخاري في «الإيمان» باب قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «أنا أعلمكم بالله» وأنَّ المعرفة فعلُ القلب (20)، ولفظه: «إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللهِ أَنَا».)، وقد أخبر الله تعالى أنَّ العلماء هم أخشى الناس لله تعالى، فقال عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28].
والداعي إلى الله إذا استشعر خوفَ الله أقبل على كلِّ ما أمر الله به وابتعد عن كلِّ ما نهى عنه، وأخذ الوقايةَ من كلِّ الآثام المفضية إلى العقوبات في الآخرة، وفي طليعة الوقايةِ تقوى الله، وعلى رأس تقوى الله الجهادُ في سبيله، ومنه الدعوة إليه.
والداعي إلى الله حتَّى يستشعرَ حلاوةَ عبادةِ الخوف من الله ينبغي أن يقترن خوفُه بذلِّه لله وخضوعِه له وانكسارِه بين يديه، ويُذعنَ لأحكام الله ويَصْدُقَ في الامتثال لطاعته، مِن غير أن يُوصله خوفُه من الله إلى سوء الظنِّ به أو القنوط من رحمته، وقد أثنى الله تعالى على أنبيائه بالخوف منه، فقال عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾ [الأنبياء: 90]، كما امتدح عبادَه المؤمنين بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ. أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون: 57-61].
إنَّ ازدياد خوف العبد من ربِّه ورهبته من عقابه وعذابِه يُكسبه هدىً ورحمةً، وهما من ثمرات الإيمان الراسخ ومِن لوازم الخوف من الله، كما أخبر الله تعالى بقوله: ﴿هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ [الأعراف: 154].
الثالثة: رجاء العبد ربَّه:
ومن الآثار الطيِّبة التي يُثمرها الإيمان الراسخ: الرجاء، وهو طلبُ ما عند الله تعالى من الرحمة والثوابِ والفضل والنِّعَمِ، والمطلوبُ هو كمال الرجاء وغايتُه؛ لأنَّ كلَّ فضلٍ فالله واهبُه، وكلَّ نعمةٍ فالله معطيها، فهو الصمد سبحانه المقصودُ في الحوائج، لذلك كان كمال الرجاء لا يصلح إلاَّ لله تعالى، وقد أثنى الله على أنبيائه به فقال: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾ [الأنبياء: 90].
ولا يتحقَّق رجاءُ المطيع في ثواب الله ورضوانِه، ولا رجاءُ التائب في عفو الله ومغفرته إلاَّ باعتراف العبد بلطف الله وكرمِه وإنعامه وإحسانه، وصدقِ الرغبة فيما عند الله تعالى، والاجتهادِ في القيام بالأعمال الصالحة، والمسابقةِ في الخيرات، فتلك أسبابٌ موجِبةٌ لرحمة الله ورضوانه وتأييدِه ونصرِه، لذلك لا ينبغي لراجي رحمة ربِّه أن يقنط من رحمة الله أو ييأس من رَوْحه، فقد وعد الله تعالى عبادَه المؤمنين وعدًا صادقًا بحصول رحمته، ومَنَعَهم من القنوط واليأس منها، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ﴾ [الحجر: 56]، وقال تعالى: ﴿وَلاَ تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87].
ولا يُعَدُّ راجيًا من فرَّط في أسباب الرجاء وقصَّر في العمل الصالح أو لم تَصْدُقْ رغبتُه فيما عند الله تعالى، فهذا رجاء المتمادي في المعاصي الذي يطلب الثوابَ بلا عملٍ ولا توبةٍ تمنِّيًا وغرورً(١٠- انظر: «مدارج السالكين» لابن القيِّم (2/36).).
والداعية الصادق يدفعه إيمانُه الراسخ إلى تحصيل أسباب الرحمة والتأييد والقَبول ما وَسِعَتْه قدرتُه بالوجه المطلوب شرعًا من غير تسويفٍ ولا تأخيرٍ، وهو في ذلك يرجو من الله أن يعينه في تصحيح أعماله ومساعيه، وأن يوفِّقه للاستمرار على تحصيل أسباب القَبول من غير أن يقترن بسريرته أدنى قنوطٍ أو يأسٍ، فهو يعلم أنَّ الله تعالى صادقٌ في وَعْدِه، وأنه على كلِّ شيءٍ قديرٌ، لذلك يؤمن إيمانًا جازمًا أنَّ وَعْدَ الله متحقِّقٌ للمؤمنين الصادقين وللدعاة العاملين بالنصر والتأييد والتمكينِ والثواب الجزيل، قال تعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40]، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69].
فهذه من ثمرات الإيمان الراسخ: محبَّةٌ وخوفٌ ورجاءٌ، وهي الأصول التي تقوم عليها العبادة، ولا تتمُّ العبادة إلاَّ باجتماعها جميعًا في قلب المؤمن الصادقِ مقرونةً بلوازمها، لذلك فكلُّ داعيةٍ يدَّعي محبَّةَ الله والخوفَ منه ورجاءَه ثمَّ لم يُذْعِنْ لأحكام الله وأوامره ونواهيه على وجه الذلِّ والخضوع فهو مبطلٌ منحرفٌ عن سواء السبيل، وأيُّ انفرادٍ بإحدى العبادات الثلاث في قلب العبد قد يحصل له من جرَّاء تخلُّف بعضِها خطأٌ في مسلكه العقديِّ والدعويِّ، وقد أفصح بعضُ السلف عن هذا المعنى بقوله: «من عبد الله بالحبِّ وحده فهو زنديقٌ، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئٌ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروريٌّ، ومن عبده بالحبِّ والخوف والرجاء فهو مؤمنٌ موحِّدٌ»(١١- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (10/81، 207، 11/390، 15/21)، «معارج القبول» للحكمي (2/437).).

الجزائر في: أوَّل جمادى الثانية 1433ﻫ
الموافق: 22 أفريل 2012م

-يتبع-

١- انظر: «تفسير ابن كثير» (3/209).

٢- أخرجه البخاري في «الإيمان» باب حلاوة الإيمان (16)، ومسلم في «الإيمان» (43) من حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه.

٣- أخرجه مسلم في «الحج» (1337) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

٤- أخرجه البخاري في«الإيمان» باب: حبِّ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم من الإيمان (15)، ومسلم في «الإيمان» (44) من حديث أنسٍ رضي الله عنه.

٥- انظر: «تفسير ابن كثير» (2/70).

٦- انظر: «تفسير ابن كثير» (1/477)، «إغاثة اللهفان» لابن القيِّم (2/132).

٧- «مدارج السالكين» لابن القيِّم (1/514).

٨- انظر: «طريق الهجرتين» لابن القيِّم (413).

٩- أخرجه أحمد (24912). وهو في البخاري في «الإيمان» باب قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «أنا أعلمكم بالله» وأنَّ المعرفة فعلُ القلب (20)، ولفظه: «إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللهِ أَنَا».

١٠- انظر: «مدارج السالكين» لابن القيِّم (2/36).

١١- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (10/81، 207، 11/390، 15/21)، «معارج القبول» للحكمي (2/437).
الدِّعامة الثالثة: الاعتماد القلبيُّ الموصول بالله
والمراد بالاعتماد القلبيِّ أن يفوِّض الداعية أمْرَ الدعوة ولواحقَها من النصر والتأييد والتمكين إلى مولاه وناصره، ﴿بَلِ اللهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾ [آل عمران: 150]، ويعتمدَ عليه سبحانه في تحصيل هذه المطالب العالية، يسعى لتحقيقها والظَّفَرِ بها، فهو يدين الله بالتوكُّل عليه والاطِّراح الكامل بين يديه، فالتوكُّل المطلق على الله تعالى هو جزءٌ من عقيدة المؤمن، لا يجوز -بحالٍ- أن يكون لغيره، قال تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ﴾ [الفرقان: 58]، وقال تعالى: ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: 122، 160 وفي غيرها]، وقال تعالى: ﴿وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 23].
ولا ينبغي للداعية أن يفهم التوكُّلَ بمعنى التواكل أو كلمةً يلوك بها لسانه دون فهمٍ لمعناها أو وعيٍ لمرماها، فينبذَ الأسبابَ ويتركَ العمل، ويقنعَ بالهُون والدُّون، ويرضى بما تجري به الأقدار تحت مبدإ التوكُّل على الله، فمجرَّدُ الظنِّ بأنَّ التوكُّل يُغني عن الأسباب المطلوبة ضلالٌ، فهو ظنُّ خصوم العقيدة والمحجوبين بمعاصيهم، وإنما الداعية المؤمن يوثِّق الصلةَ بربِّه بالطاعة والتقوى، ويعمِّق الرباطَ بالتوكُّل عليه وتفويضِ أعماله الدعوية وسائرِ شؤونه إليه، وذلك بإعداد الأسباب المطلوبة لها، وتسخيرِ طاقته في إحضارها، واستفراغ وُسْعِه في إكمالها، فيعملُ ولا يَعْجَز ولا يَكْسَل، ويحرِصُ على ما ينفعه، فإنَّ العجْزَ والكسل خُلُقان ذميمان استعاذ منهما رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ العَجْزِ وَالكَسَلِ»(١- أخرجه البخاري في «الجهاد والسير» باب ما يُتعوَّذ من الجبن (2823)، ومسلم في «الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار» (2706) من حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه. (javascript:AppendPopup(this,'pjdefOutline_1')))، وأوصى بالعمل والحرص فقال: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلاَ تَعْجَزْ»(٢- أخرجه مسلم في «القدر» (2664) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (javascript:AppendPopup(this,'pjdefOutline_2')))، مع اعتقاده الجازم أنَّ تحصيل الأسباب والسعيَ إلى إيجادها فيما أَمَرَه الله به عبادةٌ لله وطاعةٌ له، واللهُ تعالى فَرَضَ على العباد أن يعبدوه ويتوكَّلوا عليه، قال تعالى: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ [هود: 123]، وقال تعالى: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً. رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً﴾ [المزَّمِّل: 8-9]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 2-3]، والعبد لا يكون مطيعًا لله إلاَّ بفعل ما أَمَر به وتركِ ما نهى عنه، ويدخل التوكُّل في هذا المعنى من الإنابة إلى الله والمتاب إليه، قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ﴾ [الرعد: 30]، وقال الله تعالى عن شعيبٍ عليه السلام: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود: 88].
فالداعية يؤمن بأنَّ الأسباب ليست بمفردها كفيلةً بإنجاح المساعي وتحصيلِ المبتغى وتحقيقِ الأمل، فإنَّ الاعتماد عليها لوحدها ينافي التوحيد، وإهمالَها مع القدرة على إحضارها وإعدادِها فسقٌ ومعصيةٌ، وإنما يتعلَّق قلبُه بخالق الأسباب ومُوجدها، فيَكِلُ الداعيةُ أمْرَه إليه في تحصيل النتائج والفوزِ بالرغائب دون الخَلْق الذين لا يملكون لأنفُسِهم ولا لغيرهم نفعًا ولا ضرًّا، قال ابن تيمية -رحمه الله-: «فالالتفات إلى الأسباب شركٌ في التوحيد، ومحوُ الأسباب أن تكون أسبابًا نقصٌ في العقل، والإعراضُ عن الأسباب المأمورِ بها قدحٌ في الشرع؛ فعلى العبد أن يكون قلبُه معتمِدًا على الله لا على سببٍ من الأسباب، والله ييسِّر له من الأسباب ما يُصلحه في الدنيا والآخرة، فإن كانت الأسباب مقدورةً له وهو مأمورٌ بها فَعَلَها مع التوكُّل على الله: كما يؤدِّي الفرائضَ وكما يجاهد العدوَّ ويحمل السلاحَ ويلْبَس جُنَّةَ الحرب، ولا يكتفي في دفعِ العدوِّ على مجرَّد توكُّله بدون أن يفعل ما أُمر به من الجهاد، ومَن ترك الأسبابَ المأمورَ بها فهو عاجزٌ مفرِّطٌ مذمومٌ»(٣- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (8/ 528). (javascript:AppendPopup(this,'pjdefOutline_3'))).
وكذلك كان التعليم النبويُّ، فقد كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يجمع بين الأسباب الإيمانية والمادِّية في معاركه وقتاله، فلا يخوض حربًا حتَّى يُعِدَّ لها عُدَّتها ويهيِّئ لها أسبابها، فيرسمُ الخطَّة وينظِّم الصفوفَ ويختار الزمنَ والمكانَ المناسبَيْن، إذ نظام الأسباب من السنن الكونية لا ينافي التوكُّلَ، بل هي أسبابٌ مأمورٌ بها شرعًا لقوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: 60]، والإعراضُ عنها قدحٌ في الشرع، وكان صلَّى الله عليه وسلَّم لا يُعلِّق نصْرَه إلاَّ على الله ولا يُنيط فلاحَه وفوزَه إلاَّ بمشيئة مولاه، فيرفع يديه صلَّى الله عليه وسلَّم سائلاً اللهَ تعالى النصرَ والتمكينَ بقوله: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ وَمُجْرِيَ السَّحَابِ وَهَازِمَ الأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ»(٤- أخرجه البخاري في «الجهاد والسير» باب: كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إذا لم يقاتل أوَّل النهار أخَّر القتالَ حتى تزول الشمس (2966)، ومسلم في «الجهاد والسير» (1742) من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما. (javascript:AppendPopup(this,'pjdefOutline_4'))).

فالداعية إذا ما استمدَّ نظرتَه إلى الأسباب من روح الإسلام ومِن هدي سيِّد الأنام عليه الصلاةُ والسلام؛ تيقَّن أنَّ التوكُّل على الله عملٌ وأملٌ، وأنَّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنَّ الله لا يضيع ﴿أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً﴾ [الكهف: 30]، وأنَّ ﴿اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128]، وكلَّما ازداد تعلُّقه بخالقه ورازقِه ومولاه وناصرِه أكسبه قربًا وتأييدًا، وزاده رفعةً وتمجيدًا، وكفاه ما يريد وحقَّق له ما يصبو إليه من عزٍّ وكمالٍ، فينال به الرغائب، ويحصل به على المطالب، ويحفظه من المصائب، ويدافع عنه ويؤيِّده ويمكِّن له، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصافَّات: 171-173]، وقال تعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40]، وقال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ [الحج: 38].
وعلى الداعية أن يتيقَّن أنَّ نصْرَ الله لعباده المؤمنين وعوْنَه لهم وانتقامَه ممَّن حادَّهم أو شاقَّهم أو آذاهم أو كذَّبهم في دعوتهم أو نفَّر الناسَ عنهم وصدَّهم عن دعوة الحقِّ وعن هدايتهم لهم إلى صراطٍ مستقيمٍ آتٍ في الحياة الدنيا لا محالةَ، سواءً كان ذلك بحضرتهم أو في غَيْبَتِهم أو بعد موتهم، ونصرُ الله يوم القيامة حاصلٌ يشهده الملائكةُ والأنبياء والمؤمنون على أُمَمِهم المكذِّبة(٥- انظر: «جامع البيان» للطبري (24/ 74). (javascript:AppendPopup(this,'pjdefOutline_5')))، قال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾ [غافر: 51]، قال ابن كثيرٍ -رحمه الله-: «المراد بالنصر الانتصارُ لهم ممَّن آذاهم، وسواءٌ كان ذلك بحضرتهم أو في غَيْبَتِهم أو بعد موتهم كما فَعَلَ بقَتَلَة يحيى وزكريا وشِعْيَا: سلَّط عليهم من أعدائهم مَن أهانهم وسَفَك دماءَهم ... وأمَّا الذين راموا صلْبَ المسيح عليه السلام من اليهود فسلَّط الله تعالى عليهم الرومَ فأهانوهم وأذلُّوهم، وأظهرهم الله تعالى عليهم، ثمَّ قبل يومِ القيامة سينزل عيسى ابنُ مريم عليه الصلاة والسلام إمامًا عادلاً وحَكَمًا مُقْسِطًا، فيقتل المسيحَ الدجَّال وجنودَه من اليهود، ويقتل الخنزيرَ ويكسر الصليب، ويضع الجزيةَ فلا يقبل إلاَّ الإسلامَ، وهذه نصرةٌ عظيمةٌ وهذه سنَّة الله تعالى في خَلْقه في قديم الدهر وحديثِه: أنه ينصر عبادَه المؤمنين في الدنيا ويُقِرُّ أعينَهم ممَّن آذاهم.
ففي صحيح البخاريِّ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: «يقول الله تبارك وتعالى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالحَرْبِ»(٦- أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (6395)، وأخرجه البخاري في «الرقاق» باب التواضع (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظ البخاري: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ». (javascript:AppendPopup(this,'pjdefOutline_6')))، وفي الحديث الآخَر: «إِنِّي لَأَثْأَرُ لِأَوْلِيَائِي كَمَا يَثْأَرُ اللَّيْثُ الحَرِبُ»(٧- أخرجه البغوي في «شرح السنَّة» (1249) بلفظ: «وَإِنِّي لأَغْضَبُ لأَوْلِيَائِي كَمَا يَغْضَبُ اللَّيْثُ الْحَرِدُ»، وضعَّف الألبانيُّ إسنادَه في «السلسلة الضعيفة» (4/ 256). (javascript:AppendPopup(this,'pjdefOutline_7')))، ولهذا أهلك الله عزَّ وجلَّ قومَ نوحٍ وعادٍ وثمودَ وأصحابَ الرسِّ وقومَ لوطٍ وأهلَ مَدْيَنَ وأشباهَهم وأضرابَهم ممَّن كذَّب الرسلَ وخالف الحقَّ، وأنجى الله تعالى مِن بينهم المؤمنين فلم يُهلك منهم أحدًا، وعذَّب الكافرين فلم يُفْلِتْ منهم أحدًا.
قال السُّدِّيُّ: لم يبعث اللهُ عزَّ وجلَّ رسولاً قطُّ إلى قومٍ فيقتلونه، أو قومًا من المؤمنين يَدْعون إلى الحقِّ فيُقتلون، فيذهب ذلك القرن حتَّى يبعثَ الله تبارك وتعالى لهم من ينصرهم، فيطلبُ بدمائهم ممَّن فَعَلَ ذلك بهم في الدنيا. قال: فكانت الأنبياء والمؤمنون يُقْتَلون في الدنيا وهُم منصورون فيها. وهكذا نَصَرَ الله نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابَه على من خالفه وناوأه وكذَّبه وعاداه، فجعل كلمتَه هي العليا، ودينَه هو الظاهرَ على سائر الأديان، وأمره بالهجرة من بين ظهرانَيْ قومه إلى المدينة النبوية، وجعل له فيها أنصارًا وأعوانًا، ثمَّ منحه أكتافَ المشركين يومَ بدرٍ فنصره عليهم وخَذَلَهم له، وقتل صناديدَهم وأسَر سَرَاتَهم، فاستاقهم مقرَّنين في الأصفاد، ثمَّ منَّ عليهم بأخْذِه الفداءَ منهم، ثمَّ بعد مدَّةٍ قريبةٍ فتح عليه مكَّةَ فقرَّت عينُه ببلده وهو البلد المحرَّم الحرام المشرَّف المعظَّم، فأنقذه الله تعالى به ممَّا كان فيه من الكفر والشرك، وفتح له اليمنَ ودانت له جزيرة العرب بكاملها، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، ثمَّ قبضه الله تعالى إليه لِما له عنده من الكرامة العظيمة، فأقام الله تبارك وتعالى أصحابَه خلفاءَ بعده، فبلَّغوا عنه دينَ الله عزَّ وجلَّ ودعَوْا عبادَ الله تعالى إلى الله جلَّ وعلا، وفتحوا البلادَ والرساتيقَ(٨- الرزتاق والرُّستاق واحدٌ، فارسيٌّ معربٌ، ألحقوه بقرطاسٍ، ويقال: رزداقٌ ورستاقٌ، والجمع الرساتيق، وهي السواد، انظر: «لسان العرب» (10/ 116)، وقال في باب «خلف»: (9/ 84): «قال ابن بري: المخاليف لأهل اليمن كالأجناد لأهل الشام، والكُوَرِ لأهل العراق، والرساتيق لأهل الجبال، والطساسيج لأهل الأهواز». (javascript:AppendPopup(this,'pjdefOutline_8'))) والأقاليمَ والمدائنَ والقرى والقلوبَ، حتَّى انتشرت الدعوة المحمَّدية في مشارق الأرض ومغاربها، ثمَّ لا يزال هذا الدين قائمًا منصورًا ظاهرًا إلى قيام الساعة، ولهذا قال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾ [غافر: 51] أي: يومَ القيامة تكون النصرةُ أعظمَ وأكبرَ وأجلَّ»(٩- «تفسير ابن كثير» (4/ 73-84). (javascript:AppendPopup(this,'pjdefOutline_9'))).
هذا، وقلب الداعيةِ الموصولُ بالله المعتمدُ عليه المقتدي بالهدي النبويِّ والمؤتسي بالتعليم المحمَّديِّ يشعر بحلاوة الإيمان ويُحسُّ بعزَّة الإسلام، ويَعْظُمُ في نفسه الحقُّ وحُبُّ أهله، ويصغر في عينيه الباطلُ ورُوَّاده، فيُنتزع من قلبه مخافةُ الناس ويحتمل أذاهم في ذات الله، فلا يضرُّه فِعالُ المبطلين الصادِّين، ولا يخشى كيدَ الكائدين والحاسدين، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران: 173].
فهذه -إذن- الدعائم الإيمانية للداعية، وهي مقوِّماتُ زادِه في الدعوة إلى الله تعالى، وكلَّما قويت معانيها في نفس الداعية كانت علامةً ظاهرةً على عُمْقِ إيمانه وصحَّةِ منهجه وصدقِ دعوته، سالكًا فيها درْبَ العلماء العاملين، وماضيًا فيها على سنن المرسلين والصدِّيقين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.


الجزائر في: أوَّل جمادى الثانية 1433ﻫ
الموافق: 22 أفريل 2012م ١- أخرجه البخاري في «الجهاد والسير» باب ما يُتعوَّذ من الجبن (2823)، ومسلم في «الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار» (2706) من حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه.

٢- أخرجه مسلم في «القدر» (2664) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

٣- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (8/ 528).

٤- أخرجه البخاري في «الجهاد والسير» باب: كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إذا لم يقاتل أوَّل النهار أخَّر القتالَ حتى تزول الشمس (2966)، ومسلم في «الجهاد والسير» (1742) من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما.

٥- انظر: «جامع البيان» للطبري (24/ 74).

٦- أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (6395)، وأخرجه البخاري في «الرقاق» باب التواضع (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظ البخاري: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ».

٧- أخرجه البغوي في «شرح السنَّة» (1249) بلفظ: «وَإِنِّي لأَغْضَبُ لأَوْلِيَائِي كَمَا يَغْضَبُ اللَّيْثُ الْحَرِدُ»، وضعَّف الألبانيُّ إسنادَه في «السلسلة الضعيفة» (4/ 256).

٨- الرزتاق والرُّستاق واحدٌ، فارسيٌّ معربٌ، ألحقوه بقرطاسٍ، ويقال: رزداقٌ ورستاقٌ، والجمع الرساتيق، وهي السواد، انظر: «لسان العرب» (10/ 116)، وقال في باب «خلف»: (9/ 84): «قال ابن بري: المخاليف لأهل اليمن كالأجناد لأهل الشام، والكُوَرِ لأهل العراق، والرساتيق لأهل الجبال، والطساسيج لأهل الأهواز».

٩- «تفسير ابن كثير» (4/ 73-84).