أبو عبد المصور مصطفى الجزائري
31-Aug-2012, 01:40 AM
محاسبة النفس قبل دخول الرمس
بسم الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي وعد من حاسب نفسه، وأخذ بزمامها الأمن يوم الوعيد ، واليسر يوم الشدة ، أحمده سبحانه شرّف أولياءه، وتفضل عليهم بيوم المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله العزيز الحميد،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير داع إلى المنهج الرشيد، والهدى السديد، صلى اللهوبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين هم قدوة الناس في محاسبة النفس، حذراً من يومٍ هوله شديد، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم لا مفرّ منه ولا محيد، وسلم تسليماًكثيراً.
أما بعد: إن الناظر في حالِ الناسِ اليوم ، يرى رُخص النفوسِ عند أهلِـها ، ويرى الخسارةَ في حياتِـها لعدمِ مُحاسبتِها ، والذين فقدوا أو تركوا محاسبةَ نفوسِهم سيتحسرون في وقتٍ لا ينفعُ فيه التحسر ، يقول جل شأنه : {{ أنْ تَقولَ نَفسٌ يا حَسْرتى عَلى ما فَرطتُ في جَنْبِ اللهِ وإنْ كُنْتُ لَمِنَ الساخِرين }} .
فيا إخوة الإيمان. أوصيكم ونفسي بتقوى الله ومحاسبة أنفسكم، فإن محاسبة النفس هو طريق استقامتها، وكمالها، وفلاحها، وسعادتها، يقول الله تعالى: {{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْلِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}} [الحشر : 18]، قال ابنكثير في تفسيره: وقوله: {{ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْلِغَدٍ}} قال ابنُ كثيرٍ – رحمه الله – في تفسيرِ قولِه تعالى : {{ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ }} : (( أي حاسبوا أنفسَكم قبل أن تحاسبوا وانظروا ماذا ادخرتُم لأنفسِـكم من الأعمالِ الصالحةِ ليومِ معادِكم وعرضِـكم على ربِكم ، واعلموا أنه عالمٌ بجميعِ أعمالِكم وأحوالِكم ، لا تخفى عليهِ منكم خافيه )) انتهى كلامه رحمه الله .
وقد قال تعالى: {{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْخَابَ مَن دَسَّاهَا}} [ الشمس:7-10]، قال الحسن رحمه الله تعالى : معناه قد أفلح من زكى نفسه فأصلحها وحملها على طاعة الله عز وجل{{ قَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}} أهلكها وأضلها وحملها على المعصية.
وقال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره : أي طهر نفسه من الذنوب ، ونقاها من العيوب ورقاها بطاعة الله ، وعلاها بالعلم النافع ، والعمل الصالح .قلت : ولا يكون ذلك إلا بمحاسبتها وحملها على ذلك .
وفي الحديث عن أنس بن مالك عن رسول الله قال: <<الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني >>رواه الإمام أحمد[ج/124] والترمذي وقال حديث حسن .وابن ماجة والخطيب في المشكاة]. والسفاريني الحنبلي في شرح كتاب الشهاب [رقم 289] وقال إسناده صحيح ، وحسنه النووي في الأربيعين ، وضعفه الألباني في تحريج المشاكاة [ج5289] وفي رياض الصالحين [ج67].وضعيف الترمذي [ح2459].قال الترمذي وغيره من العلماء : دان نفسه : حاسبها .
قال الشيخ العثيمين في شرحه لهذا الحديث من رياض الصالحين [ج1/ص321].
الكيس : هو الرجل الحازم الذي يغتنم الفرص ويتخذ لنفسه الحيطة حتى لا تفوت عليه الأيام والليالي فيضيع.
وقوله : من دان نفسه :أي حاسبها ونظر ماذا فعل من المأمورات ، وماذا ترك من المنهيات ، هل قام بما أمر به وهل ترك ما نهي عنه ؟ إذا رأى من نفسه تفريطا في الواجب استدركه إذا أمكن استدراكه وقام به أو بدله ، وإذا رأى منها انتهاكا لمحرم أقلع وندم وتاب واستغفر .
وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد عن عمر بن الخطاب أنه قال: ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنواأنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً، أن تحاسبوا أنفسكم اليوم،وتزيّنوا للعرض الأكبر{{ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ}}[الحاقة:18] ونقل ابن القيم عن الحسن أنه قال: (المؤمن قوّام على نفسه يحاسب نفسه لله، وإنما خفّ الحساب يوم القيامة على قومحاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر منغير محاسبة.. ).
وقال وهب بن منبه رحمه الله فيما ذكره الإمام أحمد رحمه الله: ( مكتوب في حكمة آل داود: حق على العاقل، أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيهانفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوته الذين يخبرونه بعيوبه ويَصدقونه عن نفسه، وساعة يتخلى فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن في هذه الساعة عوناً على تلك الساعات وإجماماً للقلوب ). وقال ميمون بن مهران: ( لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوّان إن لم تحاسبه ذهب بما لك ).
وكتب عمر بن الخطاب إلى بعض عماله: ( حاسب نفسك في الرخاء قبل حسابالشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضى والغبطة، ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة ) [أخرجه البيهقي في الزهد وابن عساكر].
ونقل ابن الجوزي في ذم الهوى عن السلمي قال: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت أبا محمد الحريري يقول: من استولت عليه النفس صار أسيراً في حكم الشهوات محصوراً في سجن الهوى. وحرَّم الله على قلبه الفوائد، فلا يستلذ كلامه ولايستحليه، وإن كثر ترداده على لسانه.
وكان الأحنفُ بن قيسٍ يجيءُ إلى المصباحِ فيضعُ إصبَعهُ فيه ثم يقول : يا حُنيف ، ما حمَلَكَ على ما صنعتَ يومَ كذا ؟ ما حمَلَكَ على ما صنعتَ يومَ كذا ؟ وقال الحسن – رحمه الله - : " إن المؤمنَ واللهِ ما تراهُ إلا يلومُ نفسهُ على كلِّ حالاته ، يستقصرها في كل ما يفعل ، فيندمُ ويلومُ نفسَهُ ، وإنّ الفاجرَ ليمضي قُدُمـاً لا يعاتبُ نفسَه " .
فيجبُ أن يكونَ المؤمنُ محاسباً لنفسهِ مهتماً بها ، لائماً على تقصيرِها قال الإمامُ ابنُ القيمِ رحمه الله تعالى : (( ومن تأملَ أحوالَ الصحابةِ رضي الله عنهُم وجدَهم في غايةِ العملِ معَ غايةِ الخوف ، ونحن جمعنا بين التقصير ، بل بين التفريطِ والأمن )) .هكذا يقولُ الإمامُ ابن القيمِ عن نفسه وعصره !فماذا نقولُ نحنُ عن أنفسِـنا وعصرِنا ؟!
وقال الشيخ عبد العزيز السلمان رحمه الله فيكتابه موارد الظمآن: ( فإذا علم أنه مناقش في الحساب عن مثاقيل الذر، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة أحوج ما يكون إلى الحسنات، وغفران السيئات، تحقق أنه لا ينجيه من هذه الأخطار إلا اعتماده على الله، ومعونته على محاسبة نفسه ومراقبتها ومطالبتها في الأنفاس والحركات، ومحاسبتها في الخطرات واللحظات، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه وحضر عند السؤال جوابه وحسن متقلبه ومآبه.
تجهزي بجهاز تبلغين به *** يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثاً
وحاذري سقطة الذل وانكسري *** باب كريم كم هدى وعفا
واخشي حوادث صرف الدهر في مهل *** واستيقظي لا تكوني كالذي سقطا
في هوة الذل كان فيها قطع مدته *** فوافت النفس سعيها كما سلفا
قال ابن قدامة رحمه الله في منهاج القاصدين: ( واعلم أن أعدى عدو لك نفسك التي بين جنبيك،وقد خلقت أمارة بالسوء، ميالة إلى الشر، وقد أُمرت بتقويمها وتزكيتها وفطامها منمواردها وأن تقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها، فإن أهملتها جمحت وشردت ولم تظفربها بعد ذلك وإن لزمتها بالتوبيخ رجونا لك أن تصير مطمئنة، فلا تغفلن من تذكيرها.
إهمال محاسبة النفس وترك الزمام لها:
ويترتبُ على ترك محاسبة النفس أمرٌ هامٌ جداً ، ألا وهو هلاكُ القلب ، هـلاكُ القلب واسوداده بالران حتى يصبح لايعرف معروفا ، ولاينكر منكرا ! وتعتاد النفس على الانهماك في الرذائل والقبائح ، يقولُ ابنُ القيّم – رحمه الله - : " وهلاكُ القلب من إهمالِ النفسِ ومن موافقتها وإتباع هواها " .
وقالَ رحمه الله في إغاثةِ اللهفان : " وتركُ المحاسبة والاسترسالُ وتسهيلُ الأمورِ وتمشيتُـها ، فإنَّ هذا يؤولُ بهِ إلى الهلاكِ ، وهذه حالُ أهلِ الغرور ، يُغْمضُ عينيهِ عن العواقبِ ويُمَشّي الحال ، ويتكلُ على العفو ، فيهملُ محاسبة نفسهِ والنظرُ في العاقبة ، وإذا فعلَ ذلكَ سَهُلَ عليه مواقعةُ الذنوبِ وأنِسَ بها وعَسُرَ عليه فِطامُها ولو حَضَرَه رُشْدَه لعلِم أنّ الحميةَ أسهلُ من الفِطام وتركُ المألوف والمعتاد " انتهى كلامه رحمه الله . وكتبَ عمرُ بن الخطابِ رضي الله عنه إلى بعضِ عمُّالِهِ ( حاسب نفسكَ في الرخاء قبلَ حسابِ الشدة ، فإن من حاسبَ نفسهُ في الرخاءِ قبلَ حساب الشدة ، عادَ أمرُه إلى الرضا والغبطة ، ومن ألهته حياته وشغلتْـهُ أهواؤه عادَ أمرُه إلى الندامةٍ والخسارة )) .
أنواع المحاسبة وسبلها.
إن لمحاسبة النفس أنواع. قال ابن القيم رحمه الله ومحاسبة النفس نوعان: نوعٌ قبل العمل ونوعٌ بعده.
قلت: ونوع أثاء العمل .
فالنوع الأول:الذي هو قبل العمل فهو: أن يقف عند أول همه وإرادته، ولايبادر بالعمل حتى يتبين الدافع له على ذلك الهم ليعالج نيته ويصححها ويحسب نفسه عليها .
النوع الثاني : عند إرادة العمل وبدايته ينظر العبد هل هذا العمل مقدور عليه أو غير مقدور عليه ، وهل ترجح العمل به على تركه؟ وهل يجد في نفسه ما طرأ عليه من الرياء الذي يفسده ؟ قال الحسن رحمه الله: ( رحمالله عبداً وقف عند همه فإن كان لله مضى وإن كان لغيره تأخر).
النوع الثالث:محاسبة النفس بعد العمل وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي. ثم يحاسب نفسه هل قام بطاعة الله على وجه يرضي الله تعالى أم قصر بذلك؟
الثاني: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيراً من فعله.
الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد، لِمَ فعله؟ وهل أراد به وجه اللهوالدار الآخرة؟ فيكون رابحاً، أو أراد به الدنيا وعاجلها؟ فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به.
... تبع إن شاء الله
بسم الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي وعد من حاسب نفسه، وأخذ بزمامها الأمن يوم الوعيد ، واليسر يوم الشدة ، أحمده سبحانه شرّف أولياءه، وتفضل عليهم بيوم المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله العزيز الحميد،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير داع إلى المنهج الرشيد، والهدى السديد، صلى اللهوبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين هم قدوة الناس في محاسبة النفس، حذراً من يومٍ هوله شديد، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم لا مفرّ منه ولا محيد، وسلم تسليماًكثيراً.
أما بعد: إن الناظر في حالِ الناسِ اليوم ، يرى رُخص النفوسِ عند أهلِـها ، ويرى الخسارةَ في حياتِـها لعدمِ مُحاسبتِها ، والذين فقدوا أو تركوا محاسبةَ نفوسِهم سيتحسرون في وقتٍ لا ينفعُ فيه التحسر ، يقول جل شأنه : {{ أنْ تَقولَ نَفسٌ يا حَسْرتى عَلى ما فَرطتُ في جَنْبِ اللهِ وإنْ كُنْتُ لَمِنَ الساخِرين }} .
فيا إخوة الإيمان. أوصيكم ونفسي بتقوى الله ومحاسبة أنفسكم، فإن محاسبة النفس هو طريق استقامتها، وكمالها، وفلاحها، وسعادتها، يقول الله تعالى: {{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْلِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}} [الحشر : 18]، قال ابنكثير في تفسيره: وقوله: {{ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْلِغَدٍ}} قال ابنُ كثيرٍ – رحمه الله – في تفسيرِ قولِه تعالى : {{ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ }} : (( أي حاسبوا أنفسَكم قبل أن تحاسبوا وانظروا ماذا ادخرتُم لأنفسِـكم من الأعمالِ الصالحةِ ليومِ معادِكم وعرضِـكم على ربِكم ، واعلموا أنه عالمٌ بجميعِ أعمالِكم وأحوالِكم ، لا تخفى عليهِ منكم خافيه )) انتهى كلامه رحمه الله .
وقد قال تعالى: {{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْخَابَ مَن دَسَّاهَا}} [ الشمس:7-10]، قال الحسن رحمه الله تعالى : معناه قد أفلح من زكى نفسه فأصلحها وحملها على طاعة الله عز وجل{{ قَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}} أهلكها وأضلها وحملها على المعصية.
وقال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره : أي طهر نفسه من الذنوب ، ونقاها من العيوب ورقاها بطاعة الله ، وعلاها بالعلم النافع ، والعمل الصالح .قلت : ولا يكون ذلك إلا بمحاسبتها وحملها على ذلك .
وفي الحديث عن أنس بن مالك عن رسول الله قال: <<الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني >>رواه الإمام أحمد[ج/124] والترمذي وقال حديث حسن .وابن ماجة والخطيب في المشكاة]. والسفاريني الحنبلي في شرح كتاب الشهاب [رقم 289] وقال إسناده صحيح ، وحسنه النووي في الأربيعين ، وضعفه الألباني في تحريج المشاكاة [ج5289] وفي رياض الصالحين [ج67].وضعيف الترمذي [ح2459].قال الترمذي وغيره من العلماء : دان نفسه : حاسبها .
قال الشيخ العثيمين في شرحه لهذا الحديث من رياض الصالحين [ج1/ص321].
الكيس : هو الرجل الحازم الذي يغتنم الفرص ويتخذ لنفسه الحيطة حتى لا تفوت عليه الأيام والليالي فيضيع.
وقوله : من دان نفسه :أي حاسبها ونظر ماذا فعل من المأمورات ، وماذا ترك من المنهيات ، هل قام بما أمر به وهل ترك ما نهي عنه ؟ إذا رأى من نفسه تفريطا في الواجب استدركه إذا أمكن استدراكه وقام به أو بدله ، وإذا رأى منها انتهاكا لمحرم أقلع وندم وتاب واستغفر .
وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد عن عمر بن الخطاب أنه قال: ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنواأنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً، أن تحاسبوا أنفسكم اليوم،وتزيّنوا للعرض الأكبر{{ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ}}[الحاقة:18] ونقل ابن القيم عن الحسن أنه قال: (المؤمن قوّام على نفسه يحاسب نفسه لله، وإنما خفّ الحساب يوم القيامة على قومحاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر منغير محاسبة.. ).
وقال وهب بن منبه رحمه الله فيما ذكره الإمام أحمد رحمه الله: ( مكتوب في حكمة آل داود: حق على العاقل، أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيهانفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوته الذين يخبرونه بعيوبه ويَصدقونه عن نفسه، وساعة يتخلى فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن في هذه الساعة عوناً على تلك الساعات وإجماماً للقلوب ). وقال ميمون بن مهران: ( لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوّان إن لم تحاسبه ذهب بما لك ).
وكتب عمر بن الخطاب إلى بعض عماله: ( حاسب نفسك في الرخاء قبل حسابالشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضى والغبطة، ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة ) [أخرجه البيهقي في الزهد وابن عساكر].
ونقل ابن الجوزي في ذم الهوى عن السلمي قال: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت أبا محمد الحريري يقول: من استولت عليه النفس صار أسيراً في حكم الشهوات محصوراً في سجن الهوى. وحرَّم الله على قلبه الفوائد، فلا يستلذ كلامه ولايستحليه، وإن كثر ترداده على لسانه.
وكان الأحنفُ بن قيسٍ يجيءُ إلى المصباحِ فيضعُ إصبَعهُ فيه ثم يقول : يا حُنيف ، ما حمَلَكَ على ما صنعتَ يومَ كذا ؟ ما حمَلَكَ على ما صنعتَ يومَ كذا ؟ وقال الحسن – رحمه الله - : " إن المؤمنَ واللهِ ما تراهُ إلا يلومُ نفسهُ على كلِّ حالاته ، يستقصرها في كل ما يفعل ، فيندمُ ويلومُ نفسَهُ ، وإنّ الفاجرَ ليمضي قُدُمـاً لا يعاتبُ نفسَه " .
فيجبُ أن يكونَ المؤمنُ محاسباً لنفسهِ مهتماً بها ، لائماً على تقصيرِها قال الإمامُ ابنُ القيمِ رحمه الله تعالى : (( ومن تأملَ أحوالَ الصحابةِ رضي الله عنهُم وجدَهم في غايةِ العملِ معَ غايةِ الخوف ، ونحن جمعنا بين التقصير ، بل بين التفريطِ والأمن )) .هكذا يقولُ الإمامُ ابن القيمِ عن نفسه وعصره !فماذا نقولُ نحنُ عن أنفسِـنا وعصرِنا ؟!
وقال الشيخ عبد العزيز السلمان رحمه الله فيكتابه موارد الظمآن: ( فإذا علم أنه مناقش في الحساب عن مثاقيل الذر، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة أحوج ما يكون إلى الحسنات، وغفران السيئات، تحقق أنه لا ينجيه من هذه الأخطار إلا اعتماده على الله، ومعونته على محاسبة نفسه ومراقبتها ومطالبتها في الأنفاس والحركات، ومحاسبتها في الخطرات واللحظات، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه وحضر عند السؤال جوابه وحسن متقلبه ومآبه.
تجهزي بجهاز تبلغين به *** يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثاً
وحاذري سقطة الذل وانكسري *** باب كريم كم هدى وعفا
واخشي حوادث صرف الدهر في مهل *** واستيقظي لا تكوني كالذي سقطا
في هوة الذل كان فيها قطع مدته *** فوافت النفس سعيها كما سلفا
قال ابن قدامة رحمه الله في منهاج القاصدين: ( واعلم أن أعدى عدو لك نفسك التي بين جنبيك،وقد خلقت أمارة بالسوء، ميالة إلى الشر، وقد أُمرت بتقويمها وتزكيتها وفطامها منمواردها وأن تقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها، فإن أهملتها جمحت وشردت ولم تظفربها بعد ذلك وإن لزمتها بالتوبيخ رجونا لك أن تصير مطمئنة، فلا تغفلن من تذكيرها.
إهمال محاسبة النفس وترك الزمام لها:
ويترتبُ على ترك محاسبة النفس أمرٌ هامٌ جداً ، ألا وهو هلاكُ القلب ، هـلاكُ القلب واسوداده بالران حتى يصبح لايعرف معروفا ، ولاينكر منكرا ! وتعتاد النفس على الانهماك في الرذائل والقبائح ، يقولُ ابنُ القيّم – رحمه الله - : " وهلاكُ القلب من إهمالِ النفسِ ومن موافقتها وإتباع هواها " .
وقالَ رحمه الله في إغاثةِ اللهفان : " وتركُ المحاسبة والاسترسالُ وتسهيلُ الأمورِ وتمشيتُـها ، فإنَّ هذا يؤولُ بهِ إلى الهلاكِ ، وهذه حالُ أهلِ الغرور ، يُغْمضُ عينيهِ عن العواقبِ ويُمَشّي الحال ، ويتكلُ على العفو ، فيهملُ محاسبة نفسهِ والنظرُ في العاقبة ، وإذا فعلَ ذلكَ سَهُلَ عليه مواقعةُ الذنوبِ وأنِسَ بها وعَسُرَ عليه فِطامُها ولو حَضَرَه رُشْدَه لعلِم أنّ الحميةَ أسهلُ من الفِطام وتركُ المألوف والمعتاد " انتهى كلامه رحمه الله . وكتبَ عمرُ بن الخطابِ رضي الله عنه إلى بعضِ عمُّالِهِ ( حاسب نفسكَ في الرخاء قبلَ حسابِ الشدة ، فإن من حاسبَ نفسهُ في الرخاءِ قبلَ حساب الشدة ، عادَ أمرُه إلى الرضا والغبطة ، ومن ألهته حياته وشغلتْـهُ أهواؤه عادَ أمرُه إلى الندامةٍ والخسارة )) .
أنواع المحاسبة وسبلها.
إن لمحاسبة النفس أنواع. قال ابن القيم رحمه الله ومحاسبة النفس نوعان: نوعٌ قبل العمل ونوعٌ بعده.
قلت: ونوع أثاء العمل .
فالنوع الأول:الذي هو قبل العمل فهو: أن يقف عند أول همه وإرادته، ولايبادر بالعمل حتى يتبين الدافع له على ذلك الهم ليعالج نيته ويصححها ويحسب نفسه عليها .
النوع الثاني : عند إرادة العمل وبدايته ينظر العبد هل هذا العمل مقدور عليه أو غير مقدور عليه ، وهل ترجح العمل به على تركه؟ وهل يجد في نفسه ما طرأ عليه من الرياء الذي يفسده ؟ قال الحسن رحمه الله: ( رحمالله عبداً وقف عند همه فإن كان لله مضى وإن كان لغيره تأخر).
النوع الثالث:محاسبة النفس بعد العمل وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي. ثم يحاسب نفسه هل قام بطاعة الله على وجه يرضي الله تعالى أم قصر بذلك؟
الثاني: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيراً من فعله.
الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد، لِمَ فعله؟ وهل أراد به وجه اللهوالدار الآخرة؟ فيكون رابحاً، أو أراد به الدنيا وعاجلها؟ فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به.
... تبع إن شاء الله