المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بدع الخطباء للشيخ أبي بكر يوسف لعويسي- حفظه الله-



أبو عبد المصور مصطفى الجزائري
31-Aug-2012, 12:07 PM
بدع الخطباء



بسم الله الرحمن الرحيم


المقدمـة:
إن الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هـادي له ، وأشهد أن لا إلـه إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسولـه صلى الله عليه وسلم .
{{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}}[آل عمران:102]
{{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساءا ،واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا}} [النساء : 1].
{{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ، ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسولـه فقد فاز فوزا عظيما }}[الأحزاب: 70 / 71 ].
أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.[ 1]
--------------------
1- هذه خطبة الحاجة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه،وقد أفردها بالتأليف العلامة المحدث، مجدد العصر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله، رسالة فلتراجع.

الصفحة :2
لقد بعث الله الرسل مبشرين ومنذرين ومبينين للإنسان ما يضله ويهديه وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وأمرهم بالاعتصام به حذرا من التفرق في الدين، وحضهم عند التنازع على الرد إليه؛ والى رسوله المبيْن. [ 1].
وقد جاءت الشريعة لتحقيق ذلك بالنصوص الكثيرة المتظافرة من الكتاب والسنة في الحـث على الإتباع والنهي عن الابتداع ، ولو كان في ذلك إلا قوله تعالى :{{فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم }} سورة النساء .
وقوله صلى الله عليه وسلم :<< إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار >> رواه مسلم، لكان كافيات لترك البدع واجتنابها فكيف، وقد جاءت الأدلة تترا من الوحيين كتابا وسنة تذمها وتحذر منها .
وليس من شك أن المتبعين أثار رسول الله صلى الله عليـه وسلم وأثار أصحابه هم أهل السنة لأنهم على تلك الطريق التي لم يحدث فيها حادث، وإنما وقعت الحوادث والبدع بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم [ 2].
ولازال أهل العلم- رحم الله أمواتهم وحفظ لنا أحياءهم - يشيدون هذا البناء العظيم بنشر كل سنة ومحق كل بدعة ورد أصحاب الأهواء وترهاتهم ،تارة بالعلم والتعليم..وأخرى بالرد والتحذير...وطورا بالهجر والتعنيف ...وأطوارا بالتأليف والتصنيف... [3]*.
--------------------
1 - من مقدمة شيخ الإسلام ابن تيمية لكتابه - تنبيه الرجل العاقل إلى تمويه الجدل الباطل كما في العقود الدرية[ص 29-30] لابن عبد الهادي وعنه علي حسن عبد الحميد في مقدمته لكتاب البدع والحوادث لأبي بكر الطرطوشي [ص5 /6].
2- الأمر بالإتباع والنهي عن الابتداع للسيوطي[ص81].
3- من مقدمة كتاب البدع والحوادث، علي حسن[ص 6].
*-ملاحظة:أخذت عن كتابه هذا قبل أن يظهر منه ما ظهر، وما ستجده هنا هو كذلك للأمانة.

الصفحة:3
فصنفوا مؤلفات جليلة ذات قيمة علمية عظيمة لا يعرفها إلا من غاص في أحشاءها وسبر غورها فذاق نسغها * واستنبط علومها ، وأجراها أنهارا يرتوي من سلسبيلها النمير** ومعينها الذي لا ينضب أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم [1].
بين يدي البحث:
ولابد لي من كلمة بين يدي البحث فأقول وبالله التوفيق:
إن مما يجب العلم به أن معرفة البدع التي أدخلت في الدين أمر هام جدا لأنه لا يتم للمسلم التقرب إلى الله إلا باجتنابهـا، ولا يمكن ذلك إلا بمعرفة مفرداتها إذا كان لا يعرف قواعدها وأصولها وإلا وقع في البدعة وهو لا يشعر ، فهي من باب : - ما لا يقوم الواجب إلا به فهـو واجب - كما يقول علماء الأصول رحمهم الله تعالى . ومثل ذلك معرفة الشرك وأنواعه فإن من لا يعرف ذلك وقع فيه كما هو مشاهد من كثير من المسلمين الذين يتقربون إلى الله بما هو شرك ، كالنذر للأوليــاء والصالحين والحلف بهم، والطواف بقبورهم، وبناء المساجد عليها ، وغير ذلك مما هو معلوم شركه عند أهل العلم ، ولذلك فلا يكفي في التعبد الاقتصار على معرفة السنة فقط، بل لابد من معرفــة ما يناقضها من البدع، كما لا يكفي في الإيمان التوحيد دون معرفة ما يناقضه من الشركيات وإلى هذه الحقيقة أشار رسول صلى الله عليه وسلم بقوله :<< من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد مـن دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله >>[2].
--------------------
1- البدعة وأثرها السيئ في الأمة [ ص 3 ]للأخ سليم الهلالي .
*-نسغها:النُّسغ بالضم،ماء يخرج من الشجرة إذا قطعت، ترتيب القاموس المحيط(ص365).
**- النمير: الزاكي من الماء، أو الناجع عذبا كان أو غير عذب، ترتيب القاموس المحيط (ص441/ 442 ) .
2- الحديث رواه مسلم كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: << لا إله إلا الله محمد رسول الله >> [ح 32 / ص53/ ج 1].

الصفحة :4
فلم يكتف عليه الصلاة والسلام بالتوحيد بل ضم إليه الكفر بما سواه؛ وذلك يستلزم معرفة الكفر وإلا وقع فيه وهو لا يشعر، وكذلك القول في السنة والبدعة ، أي كما ينبغي على العبد معرفة السنة ، فعليه أن يعرف معرفة البدع حتى يجتنبها ،ولا فرق بين ذلك لأن الإسلام قام على أصلين عظيمين .
الأول: أن لا نعبد إلا اللـه.أي مخلصين له الدين .
والثاني: أن لا نعبده إلا بما شرع. أي أن تكون أعمالنا موافقه لما شرع ، منضبطة بالإتباع .
فمن أخل بأحدهما فقد أخل بالآخر، ولم يعبد الله تبارك وتعالى، ورد عليه عمله [2].وتحقيق القول في هذين الأصلين العظيمين تجده مبسوطا في كتب شيخي الإسلام ابن تيمية ، وابن القيم رحمهما الله، وغيرهم من كتب السلف رضي الله عنهم .
فثبت بما تقدم أ ن معرفة البدع أمر لابد منه لتسلم عبادة المؤمن من البدعة التي تنافي التعبد الخالص لله تعالى فالبدع من الشر الذي يجب معرفته لا لإثباته بل لاجتنابـه على حد قول الشاعر: عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه
وهذا المعني مستقى من السنة ، فقد قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه : كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت : يا رسول الله إنْا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: << نعم>> فقلت : هل بعد ذلك الشر من خير ؟
--------------------
1-وقد كتبت رسالة في الأصلين سميتها << الأمل في تحقيق شروط قبول العمل>> يسر الله إخراجها، وفي الحقيقة أن العمل يقوم على ثلاثة شروط، وليست اثنتين كما هو متعارف عند الكثير من الناس وهي : 1- الإيمان بالله ، إذ عمل المشرك والكافر لا يقبل ، والأدلة من الكتاب والسنة على ذلك كثيرة .2- الإخلاص .3 – الموافقة والإتباع.

الصفحة :5
قال:<< نعم وفيه دخن *>> قلت: وما دخنه ؟ قال: << قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هدي تعرف منهم وتنكر >> فقلت:هل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال: << نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها >> فقلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: << نعم قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا..... >>الحديث [1].
ولهذا كان من الضروري جدا تنبيه المسلمين على البدع التي دخلت في الدين، وليس الأمر كما يتوهم البعض أنه يكفي تعريفهم بالتوحيد والسنة فقط، ولا ينبغي التعرض لبيان الشرك والبدع بل يسكت عن ذلك ، وهذا نظر قاصر ناتج عن قلة المعرفة والعلم بحقيقة التوحيد الذي يباين الشرك والسنة التي تباين البدعة،وهو في الوقت نفسه يدل علـى جهل هذا البعض بأن البدعة يقــع فيها حتى الرجل المتعلم وذلك أن أسباب البدعة كثيرة جدا لا مجال لذكرها الآن، ولكـن أذكر سببا واحدا وهو : الأحاديث الضعيفة والموضوعة إنما قد تخفى على بعض أهل العلم فضلا عن العامة ، ويظنها من الأحاديث الصحيحة ؛ فيعمل بها ويتقرب بها إلى الله تعالى؛ ثم يقلده في ذلك الطلبة والعامة فتصير سنة متبعة [2].
--------------------
*- الدّخن بالتحريك: مصدر دخنت النّار تدخن إذا أُلقي عليها حطب رطب فكثر دخانها.وقيل أصل الدخن أن يكون في لون الدّابة كُدُورة إلى سَواد.وجاء تفسيره في الحديث أنه فساد واختلاف وقيل لا ترجع قلوب قوم على ما كانت عليه:أي لا يصفو بعضها لبعض ولا ينصع حبها،كالكدورة التي في لون الدابة .النهاية في غريب الحديث والأثر ،لابن الأثير[ج 2/ 108].
1- الحديث رواه البخاري كتاب الفتن، باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة[ج 8/ ص92-93] ومسلم كتاب الإمارة: باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن [ج3/ ص1475] وهذا لفظ مسلم.
2- الأجوبة النافعة عن أسئلة لجنة مسجد الجامعة بتصرف يسير والرسالة لفضيلة العلامة المحدث الألباني [ص/ 61] بتصرف يسير .

الصفحة :6
فمن البدع المشعرة بأنها من السنن المتبعة لعمومها، وشهرتها ، واستدامة مبتدعيها ومتبعيهم لفعلها ما يفعله عوام الخطباء وشبه العوام في كثير من بلاد الإسلام ممن يدعي العلم منهم مـن أمور سنذكرها ، وإن ذلك المنبر الذي يخطب عليه لمقام عظيم وارتقاء كريم [ 2] قد كان يؤمر فيه بالمعروف وينهـى فيه عن المنكر ، ويحذر فيه من أهوال الموت ، ويوم الحشر ، مقام جِدٍ ، يزهد فيه في الدنيا ويرغب في الآخرة ، ويكثر فيه الوعظ والمواعظ التي تحرك القلوب والضمائر خوفا من الله تعالى ،مقام يدعى فيه إلى التمسك بالكتاب والسنة بفهم السلف الصالح لهذه الأمة ، قولا وعملا واعتقادا،فهو أولى المقامات باجتناب البدع فيها؛وأحراها بإظهار السنن لمتبعيها[3 ].
وإن خطبة الجمعة عبادة عظيمة وشعيرة شريفة للأمة في يوم عيد عظيم له من الخصائص العظيمة ما ليس لغيره ، حد معالمها إمام الخطاء، وسيد العاملين صلى الله عليه وسلم ، فكان مدارها على تعظيم الله وتوحيده، وبيان شريعة الإسلام وإتباع سنة نبيه، وعلى ذلك درج الخطباء من العلماء .
قلت :هذا في الزمن الأول قبل أن تحدث الحوادث ، وتنتشر البدع أما اليوم فترى ببغاء كل منبر ينفث سموم البدع والتدمير ويهرف بما لا يعرف ، ويخبط خبط عشواء في أمور الدين بجهالاته التي يزعم أنها إصلاح حتى أصبحت الخطب الآن مظنة الأحاديث الضعيفة والواهية التي بسببها تنتشر أكثر البدع في الأمة ، وتموت السنن .
--------------------
2- ونقصد بالمقام العظيم والارتقاء الكريم المنبر .
3- الباعث على إنكار البدع والحوادث للحافظ أبي القاسم المقدسي بتحقيق وتعليق بشير محمد عون[ ص / 141 ] .

الصفحة :7
الدافع لكتابة هذه الرسالة :
والدافع القوي الذي جعلني أهتم بهذا الموضوع وأكتب فيـه هو خطورة البدع في الدين ونهاية السوء التي يؤول إليها المبتدع دنيا وأخرى .وما رأيته من واقع كثير من الخطباء من التهوين من شأن البدع ، والوقوع فيها، بل والدعوة إليها فوق المنابر .
وحسبك دليلا على خطورة البدع على المبتدع أنّ التوبة عنه محجوبة مادام مصرا على معصيته ومابرح مقيما على بدعته، لذلك يُخشى عليه سوء الخاتمة- والعياذ بالله - قال عليه الصلاة والسلام: << إنّ الله حجب التوبة عن صاحب كل بدعـة >>[1].
وكذلك عمله مردود عليه مهما كان ما لم يكن موافقا لسنة النبي العدنان، قال عليه الصلاة والسلام:<< من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد >>وفي الرواية الأخرى << من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد >> [2]، وخاصة أولئك الذين يحسنون البدع قال الله تعالى :{{ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}} [الكهف : 103- 104].قال صديق حسن خان في فتح البيان في مقاصد القرآن :[ج4/229] الأخسرين : جمع أخسر أي أشد خسرانا من غيرهم ، أو بمعنى خاسر، وجمع العمل بقوله أعمالا :للدلالة على إرادة الأنواع منه .
وقال ابن كثير في التفسير:[ج3/ص1803 ]أخرج البخاري في صحيح [ح 4728]بسنده إلى مصعب قال: سألت أبي – يعني سعد ابن أبي وقاس عن الآية :{قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا } أهم الحرورية ؟ قال:لا ، هم اليهود والنصارى ، أما اليهود فكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما النصاري كفروا بالجنة وقالوا : لا طعام فيها ولا شراب ، والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، وكان سعد يسميهم الفاسقين .
--------------------
1 ـ حديث حسن أنظر السلسلة الصحيحة للشيخ الألباني (ح / 1620 ) .
2 ـ أخرجه البخاري ( 5 / 301 الفتح ) وشرح مسلم للنووي (12 /16 ).

الصفحة :8
وقال علي بن أبي طالب ، والضحاك ، وغير واحد : هم الحرورية . ومعنى هذا عن علي رضي الله عنه :أن هذه الآية الكريمة تشمل الحرورية كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم ، لا أنها نزلت في هؤلاء على الخصوص ولا هؤلاء، بل هي أعم من هذا فإن هذه الآية مكية قبل خطاب اليهود والنصارى ، وقبل وجود الخوارج بالكلية ، وإنما هي عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها ، وان عمله مقبول ، وهو مخطئ وعمله مردود .
وأن صاحب البدع لا يرد حوض النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يحظى بشفاعتــه وقد بين ذلك النبي في قوله :<< أنا فرطكم على الحوض ، ليرفعن رجال منكم ، حتى إذا أهويت لأناولهم اختلفوا دوني ، فأقول : أي رب ! أصحابي. فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك >> وفي رواية: << إنك لا تدري ما بدلوا بعدك . فأقول : سحقا سحقا لمن بدل بعدي >>[ 1].
ومن مضار البدع على صاحبها أن عليه إثم من عمل ببدعته إلى يوم القيامة، قال تعالى : {{ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم}}[النحل: 25].
قال ابن كثير عند تفسير هذه الآية [ج2/ص1627]أي يصير عليهم خطيئة ضلالهم في أنفسهم ، وخطيئة إغوائهم لغيرهم واقتداء أولئك بهم ، كما جاء في الحديث ، قال عليه الصلاة والسلام : << ... ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة ؛ كان عليه وزرها ، ووزر من عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا >>[2]وقال الله تعالى:{وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون }وما ذلك إلا لكونه سنّ سنة سوء ، وجعلها طريقا مسلوكا ، فليتق الله امرؤ ، وليعـلم أن البدع لا تزداد على طول الزمان إلا مضيا واشتهارا وانتشارا ، وعلى وزن ذلك يكون إثم المبتدع لها ، وأيضا فإن البدع يلزمها إماتة سنن تقابلها ، فعلى المبتدع إثم ذلك أيضا ، فهو إثم مضاعف ، زائد على إثم الابتداع .
--------------------
1- أخرجهما البخاري [13/ 3 -4 الفتح ].
2 -شرح مسلم للنووي[ج 7 /102- 104].

الصفحة:9
وليعلم كل صاحب بدعة إن لم يتب منها فهو ملعون على لسان المعصوم قال عليه الصلاة والسلام << من أحدث فيها، أو آوى محدثا ، فعليه لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين>>[1].
وبعد مطالعتي لبعض المصنفات في هذا الموضوع القديمة منها والحديثة لعلـي أرتوي من سلسبيلها النمير ومعينها الذي لا ينضب ، رأيت أن الكثير من البدع التي نص عليها علماؤنا قديما وحديثا منتشرة بين المسلمين عامة وبين خطباء المنابر خاصة، فدفعني ذلك أيضا إلى أن أكتب هذه الرسالة الصغيرة الحجم ، الكبيرة الفائدة بإذن الله ، لطلبة العلم عامة وللخطباء خاصة ، لعلهم يجدونها لبابا في موضوعها وعنوانا في بابها وشذورا يلتقطونها فينتفعون بها .
ومما زاد في همتي وقوى في عزيمتي ما لمسته من بعض خطباء المساجد الذين يحثون الناس على إتباع السنة وترك البدع؛ ومعظم خطبهم يغلب عليها البدع، والمخالفات للهدي النبوي .
يقلبون الحقائق الدينية ، وينشرون الكذب والباطل والزور على الله ورسوله مـن الأحاديث الضعيفة والموضوعة والخرافات، والقصص التي لا مستند لها ، وقد جعلوا السنة بدعة والبدعة سنة حتى أصبح العامة ونصف المثقفين من المقلدة يعتقدون أن ذلك هو لب الإسلام وأسه فلا يقبلون بل يستنكرون بشدة كل من قام منكرا عليهم أو ناصحا لهم .
فانظروا يرحمكم الله كيف عكسوا الحقائق وانتكسوا بغرورهم ، وجهلهم ، وكيف ضلوا وأضلوا الألوف، بل الملايين- والله حسبهم - وعلى هذا أكثر الخطباء إلا من رحم ربك ، وهذا ناشئ عن ضعف البصيرة ، وقلة التفقه في دين الله ، وخاصة عند الخطباء المتخرجين من معاهد تكوين الأئمة والزوايا، التي هي من أكبر أماكن تعشيش البدع وأسباب انتشارها وفشوها .
ومن أسباب فشوها أيضا السكوت عنها، وعدم التحذير منها مما يكاد معظم الناس ممن يحسبون على العلم أن يطبقوا عليه، ولا يلتفتوا إليه، لذا وجب التنبيه على جملة منها.
--------------------
1-فتح الباري[ج 12/ 41- 42 ، و 13/ 281]وشرح مسلم للنووي[ج9/140- 145].

الصفحة :10
وإليك الآن ما وعدناك به من الأمور المبتدعة التي يفعلها كثير من خطباء المنابر.
1- التجمل والتزين للجمعة ببعض المعاصي:
قال الشيخ العلامة محمد عبد السلام الشقيري رحمه الله:[1]
وآية ذلك حلق بعض الخطباء والعلماء وأئمة المساجد لحاهم ، ولباسهم الحرير والنظارات والخواتم الذهبية ، وذهابهم إلى المساجد هكذا زاعميـن أنهم قد أخذوا زينتهم لصلاة الجمعة ، وغفلوا أو تغافلوا عن أن هذه الزينة قد حرمها الله عليهم [2]على لسان نبيه؛بل هي زينة النسوان ثم إذا كانوا هم لا يتعظون بما يدّرسون فكيف يقبل أو يؤثر وعظهم ونصحهم وإرشادهم لمن يرشدون.
قلت : أي الشيخ الشقيري: ولباسهم جبة المشيخة يجرونها ، وما علموا أو علموا وكابـروا أن هذه المعاصي من الكبائر وقد اجتمع فيها ثلاثة معاص وهـي: فعل المحرم، والمداومة عليه، والمجاهرة به، وقد جاء الوعيد الشديد في هذه الثلاثة معاصي [3].
--------------------
1- في كتابه السنن والمبتدعات[ ص/ 88 ]، والأجوبة النافعة عن لجنة مسجد الجامعة للألباني.
2- وهذا لا يعني أن التحريم خاص بهؤلاء المذكورين بل يشمل جميع الأمة، ولكن في حق هؤلاء أشد.
3- وبهذا جاءت الأدلة ، بالوعيد الشديد على تحريم حلق اللحى وتحريم لـبس الذهب للرجال وتحريم إسبال الثياب، والإصرار عليها والمجاهرة بها، أنظر لذلك كتاب الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيثمي [ج1/ 9/ 154/ 157]، ورسالة الروح إلى أحكام التوبة النصوح للأخ سليم الهلالي
قلت : وينضاف إلى هذه المعاصي التي ذكرها الشيخ والتي اجتمعت في حلق اللحية ، والتختم بخاتم الذهب ، وإسبال الثياب ، معصيتين اثنتين وهما :
الأولى: التشبه بالنسوان، فهن المطلوب منهن إرخاء الثياب شبرا واجبا، وذراعا استحبابا، كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح، ويجوز لهن التزين بالذهب، ولا لحية لهن.
والثانية : التشبه بالكفار أو النسوان في حلق اللحية، والتزين بالذهب، وينضاف إلى حلق اللحية معصية أخرى وهي تغييرهم لخلق الله بهذا الفعل، وكل ذلك من عمل الشيطان الذي زين لهم ظنه فاتبعوه.
وكل هذه الذنوب المذكورات من الكبائر ، وليس الأمر كما يزعم كثير من المتفقهين أن توفير اللحية مجرد سنة ، وأن حلقها ليس بحرام ،بل توفير اللحية واجب ، وحلقها حرام ، ويتفق علماء الصحابة والتابعين على ذلك؛كما اتفق الأئمة الأربعة على تحريم الحلق ، ولا يجوز لأحد من العلماء أن يقول في ترك مجرد سنة أنها حرام ، فلفظ الحرام لا يطلق إلا على ترك واجبا ، أو فعل محرما ، وكل الأوامر التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها محمولة على الوجوب ، ويؤكد ذلك فعله ، ومواظبته على ذلك حتى مات عليه، وكذلك أصحابه، وإنكاره على المجوسيين اللذين حلقا لحاهما ، فلو كان شيئا مستحبا فقط لما أنكر عليهما، إذ لا إنكار في المستحب كما يقوله الأصوليون والفقهاء، [1] ولكان في الصحابة من يترك هذا المستحب ؛كما ثبت أن بعضهم ترك بعض المستحبات إما لأنها لم تصله ، وإما اجتهادا منه، ولما لم يثبت فيهم من يحلقها دل هذا على الإجماع ، وكانت قرينة قوية للوجوب .ولا يقال أن توفيرها من العادات فلو كان كذلك ما جاءت فيها أحاديث تؤمر بتوفيرها ،وإعفائها.
--------------------
1- وأما أهل الحديث، أتباع أهل السنة والجماعة فيرون الإنكار على من خالف السنة، سنة.

الصفحة :12

وكذلك يقال في إسبال الثياب ، فبعضهم يربط ذلك بأن النهي عنه مرتبط بالخيلاء ، وهذا فيه مغالطة فإن مجرد إسبال الثوب كبيرة ، يجازى فاعلها بما يستحق من العقاب كما قال صلى الله عليه وسلم : << ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار >>البخاري والنسائي صحيح الجامع [ح5405].
ويؤكد أنه معصية قوله صلى الله عليه وسلم:<<.. ولا حق للكعبين في الإزار >> أخرجه أحمد بمعناه أنظر صحيح الجامع [933] .
أما جره خيلاء فذلك من أكبر الكبائر؛ وهو حد زائد على الكبائر ، لذلك جاء فيه الوعيد بقوله صلى الله عليه وسلم : ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ،ولا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم السبل إزاره ....>>.أخرجه أحمد ومسلم، صحيح الجامع [ح3062]وفي الحديث المتفق عليه[ح1349]اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :<< لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء >>. ولاشك أن الاستحياء من الناس برفع الثوب فوق الكعبين ، وتركه أسفل الكعبين يجر حتما إلى الخيلاء ، ويدفع بالكثير إلى اعتقاد شيء من النقص في شخصية المسبل ، وهذا واقع ، والله المستعان ، وإلا فما هو الدافع لأن يترك المسلم ثوبه أسفل الكعبين والله تعالى يقول :{{ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أن يكون لهم الخيرة من أمرهم }} وقد قضى الله بالتحذير من مخالفة رسوله ومشاقته ،وقضى رسوله صلى الله عليه وسلم على الإسبال بالنار، فلماذا الإصرار ، والاستمرار ؟ إن لم يكن هناك في النفس شيء ؟ وقال تعالى:{{فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم }}،فقد أمر بإرخاء اللحى ، ونهى عن إسبال الثياب .
الجزء الثاني :

لباس الخفين من أجل الجمعة فقط :
قال العلامة ابن الحاج رحمه الله:[1]وكذلك لا يلبس– الخطيب- الخفين وإن كان لبسهما جائزا سفرا وحضرا لكن لبسهما لأجل الجمعة والخطبة فقط يعد بدعة.
قلت : وقصده أنه لا ينبغي له أن يقصد بلباسه الخفين الجمعة ، ويجعل ذلك خاصا بهذا اليوم ، فإن لم يخصص الجمعة والخطبة بهما فهو جائز ولا حرج في ذلك ، بل هو من السنن المهجورة اليوم ، وأن المسح عليهما من عقيدة أهل السنة والجماعة خلافة للرافضة وبعض الخوارج .
3 - المواظبة على تخصيص الجمعة بلباس معين:
قال أبو طالب المكي رحمه الله :[1] .
ومن أفضل ما يلبس البياض ولبس السواد يوم الجمعة، من أجل الجمعة فقط ، ليس من السنة ، ولا من الفضائل أن ينظر إلى لابسه .
وقال ابن الحاج رحمه الله:[2] وقد تقرر في الشريعة أن أحسن لباس الناس البياض لقوله عليه الصلاة والسلام: << خير لباسكم البياض>>[ 3]
--------------------
1- 2- المدخل لابن الحاج[ج/2/ ص271] وإحياء علوم الدين[ج1/ ص162]، وشرعة الإسلام وهو مخطوط[ ص/ 140] وعندي نسخة منه، بخط جميل.
3- أخرجه أبو داود[ج2/ص176]والترمذي[ج2/132]وابن ماجة[ج1 /ص 449] والبيهقي [ح3426]والضياء في المختارة[60/229/2]وأحمد ولفظه:<<البسوا من ثيابكم البياض فإنها خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم>>وله شاهد من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه أخرجه النسائي[1/ 268]،وابن الجارود [260]قال الشيخ الألباني:وسنده صحيح كما قال الحاكم والذهبي والحافظ في الفتح [ج3/105].

الصفحة :2
فينبغي للأمام أن يبادر إليه قبل غيـره لأنه قدوة وينبغـي أن يكون غالب لباسه البياض ، سيما للجمعة، وإن كان لباس السواد جائزا لكن المواظبة عليه للأمام للجمعـة دون غيره بدعة .
وأفتى العز بن عبد السلام: بأن المواظبة على لبس السواد للجمعة والأعياد بدعة[1][ 2].
وقال النووي رحمه الله: ويستحب للإمام أكثر مما يستحب لغيره ممن الزينة ، وغيرها ، وان يتعمم ، وأفضل ثيابه البيض كغيره ، هذا هو المشهور .ونقل عن الغزالي رحمه الله عن الغزالي كراهة لباس السواد للجمعة[3].
4- التذكار قبل خطبة الجمعة بنوعيه :
وأقصد بالتذكار أمرين اثنين:
الأول : ما يفعله كثير من الخطباء والمدرسين حتى أصبح العامة يعتقدون أنه من السنن المتبعة ، وهذا لم يكن من الأمر الأول من الهدي النبوي وأصحابه؛ بل هو قريب العهد بالحدوث وهو إلقاء درس قبل صلاة الجمعة ، مع أن الشارع نهى عن ذلك. فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم : << أنه نهى عن البيع والشراء في المسجد وأن تنشد فيه الضالة، وأن ينشد فيه شعر ، ونهى عن التحلق قبل صلاة الجمعة >> [4] .
--------------------
1- أنظر المرقاة شرح المشكاة للملا علي قارئ[ج3 /504-505]ففيه بحث جيد في المسألة.
2- فتاوى العز بن عبد السلام [ص 80] .
3- المجموع شرح المهذب [ج4/411].
4-رواه أبو داود [ج3 /293/ح1079] عون المعبود شرح سنن أبي داود لمحمد شمس الحـق آبادي، والنسائي[ج2/ 47/ح713] باب النهي عن البيع والشراء في المسجد، وعن التحلق قبل صلاة الجمعة ، قال الشارح: يكره قبل الصلاة الاجتماع للعلم والمذاكرة ليشتغل بالصلاة والذكر، وكذا قال الخطابي في معالم السنن[ج2/ ص 13] والترمذي[ج2/ص171 -172/ح322] وقال المباركفوري ما قاله الخطابي ،وأخرجه ابن خزيمة بلفظ أصرح من هذا وفيه :<< نهى عن التحلق للحديث يوم الجمعة قبل الصلاة >>صحيح ابن خزيمة [ج2/275] قال الشيخ الألباني : إسناده حسن، وكذلك أشار الحافظ ابن حجر في الفتح إلى تحسينه[ج1/563] .

الصفحة :3
الثاني: ما يفعله كثير من الجهلة بحضرة الخطباء وهو أن يجمع جماعة من المؤذنين فيرفعون أصواتهم على المنار، ويقولون الوضوء للصلاة ويدورون عليه مرارا وهو بدعة[1 ].
قلت : أما اليوم فبطريقة أخرى ، وهي أن يقف المؤذن أمام المكبر وينفخ فيه إذانا منه بأن الوقت قد حان أو يقول : الصلاة يرحمكم الله ، أو يضع شريط [كاسيت ] إما خطبة نارية وإما قرآنا تذكيرا للعامة بدخول الوقت ، أو الاستعداد لحضور المسجد، وهذا كله لم يأذن فيه الشارع ولم يكن من الأمر الأول .
اعتراض وجوابه :
فإن قال قائل: الناس مضطرون إلى التذكار لكي يقومون من أسواقهم ويخرجون من بيوتهم فيأتون المسجد لأنهم مشغلون طوال الأسبوع كل بما هو عليه من عمل قـد أعرضوا عن تعلم دينهم . أقول الجواب عليه من وجوه :
الوجه الأول: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولا أمر به ولا فعله أحد بعده من السلف الماضين رضي الله عنهم أجمعين[2].
--------------------
== 1- المدخل لابن الحاج[ج2/264 -265]، والإبداع في مضار الابتداع .
2- المدخل لابن الحاج[ج2/ 264].

الصفحة :4
الوجه الثاني: فقد رغب الشارع في السعي والتكبير إلى الجمعة قال تعالى:{{يا أيها الــذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون }}[الجمعة: 9] فجعل السعي واجبا حين سماع الأذان المشـروع فالزيادة عليه مما ذكر بدعة، ويبقى الاستحباب في التبكير إلى الجمعة ، وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام :<< من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح إلى الجمعة في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقـرة ...>> الحديث [2]ولعل الحكمة التي من أجلها أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتقصير الخطبة وإطالة الصلاة ، هو هذا التبكير الذي ستنافس فيه المؤمنون والذي جاء فيه هذا الفضل ، فحتى لا يشق عليهم الخطيب بإطالة الخطبة ، أمره أن يخففها ؛وأن يريحهم بإطالة الصلاة لأن فيها راحة ، وقد ثبت عنه أنه كان يقول لبلال أرحنا بها يا بلال، وقد ذكرت فيما سبق الضابط في ذلك ، والحمد لله على توفيقه .
قال ابن الحاج رحمه الله:[3 ].
فتجب على الناس حينئذ بحسب قرب مواضعهم وبعدها ، وقد يتعين على بعضهم الإتيان إلى الجمعة من طلوع الشمس وبعضهم من الزوال بحسب ما ذكر من البعد والقرب.
قلت : ففـي المشروع غنية عما أحدثوه.
ثالثا: ففي التذكار من التشويش على من هو في المسجد ينتظر الجمعة؛ وهم على ما يعلم من حالهم منهم المصلي ، ومنهم الذاكر والتالي، والمتفكر إلى غير ذلك ، وهذه سنة من مضى ، وإذا كان ذلك كذلك فلا ضرورة تدعو إلى ما أحدثوه ، وهذه البدعة قد عمت بها البلوى في الأقاليم فيجب تركها[4 ].
--------------------
2-رواه البخاري عن أبي هريرة [ح881/ج 2/ص/425] فتح الباري، ومسلم في كتاب الجمعة في موضعين باب الغسل ، وفضل التهجير إلى الجمعة[ج6/ص135-145] شرح النووي .
3- 4 - المدخل لا بن الحاج[ج 2/265] .

الصفحة :5
والفاعلون لهذه البدعة لما لم يجدوا دليلا يستندون إليه؛ وسقطت حجتهم لجئوا إلى باب لعلهم يجدون فيه مخرجا يسوغون به بدعتهم أمام الرأي العام؛ وأمام أتباعهم الذين يجهلون العلم الشرعي تماما، ولا يقبلون شيئا إلا منهم ، ذلك المخرج هو قولهم أن تقديم الدرس قبل صلاة الجمعة يعتبر من المصالح المرسلة؛ ولأن بعض الدعاة والخطباء يعمل به .
فلما سمعت بدليلهم هذا ضحكت لهذا الجهل- وشر البلية ما يضحك- وجوابا عليه أقول: إنّ في هذا المخرج ثلاث مخالفات.
الأولى : قولهم أنه من المصالح المرسلة ، وقد علموا-إن كان عندهم علم - أنّ المصالح المرسلة لا تدخل في العبادات لأن العبادات توقيفية [1] والمصلحة المرسلة ليست توقيفية، وبهذا يفرق العلماء بين البدعة والمصلحة المرسلة، وأيضا فإن المصلحة المرسلة تخدم العبادة بوجه عام ، لا تستدرك على الشارع، وتستحسن البدع .
--------------------
1- يعني العبادة موقوفٌ تشريعها على الشارع ، والحكمة قد تظهر وقد لا تظهر ، وبالمثال يتضح المقال . فمن أين عرفنا كيفية هــذه الصلاة ؟ مثلا الظهر فيها أربع ركعات وسرية والركعة فيها ركوع واحد وسجدتان ، فلماذا لا نركع فيها ركوعين وسجدة واحدة أو ثلاث سجدات والعصر مثلها ؟ ولماذا لانخالف بينها وبين الظهر كما خالفنا بينها وبين الصلوات الأخرى ؟ ولماذا المغرب ثلاث ركعات اثنتان بالجهر وواحدة بالسـر والعشاء أربع ركعات ؟ فلماذا لا تكون ثلاث كالمغرب لتقابلها كالعصر مع الظهر ؟ وهكذا وما الحكمة في ذلك ، كل ذلك توقيفي لا مجال للعقل فيه حتى يبتدع ويعبد الله على مزاجه .

الصفحة :6
الثانية : قولهم : إنّ بعض الدعاة والخطباء يفعله.. ولم يعلموا أن الحجة فيما شرعه الله تعالى وجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وليس فعل أحد من الناس حجة ، وقد علمت أيهـا القارئ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الفعل، وقرنه بالبيع والشراء ، والناس لو رأوا إنسانا يبيع ويشتري في المسجد استنكروه ، فكيف لا يستنكرون فعل الإمام مع أنه يفعل نفس الحكم الذي يفعله ذلك البائع ، والجواب أنّ الناس يجهلون هذا الحكم ، والإمام هو الإمام لا يفعل في نظرهم إلا المشروع، وهو هنا لا يحب أن يبين لهم ، وربما استحى منهم لذلك لا يستطيع أن يترك هذه البدعة .اللهم إلا إذا حصلت مفسدة عظيمة ؛وضرر بالغ من السلطان بعزل الخطباء السلفيين السنيين ، واستبدالهم بالمبتدعة الذين يروجون للبدع والمحدثات ففي هذه الحالة فقط أفتى بعض أهل العلم بجواز ذلك التذكار مع عدم المواظبة، وبيان حكمه للناس وأنه مكره عليه ..
الثالثة : وقولهم ذلك ، وعدم تبيينهم للنّاس يعتبر تدليسا على الأمة ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول :<< من غشنا فليس منا >>[1].
الرابعة : أن علماء الأمة الذين يرجع إليهم في الفتوى حكموا على هذا التذكار بنوعيه بأنه محدث ، ولم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه بعض فتاويهم .
العلامة الشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله قال وقد سئل فضيلته عن حكم الاجتماع للدرس يوم الجمعة قبل الصلاة الذي يفعله كثير من الوعاظ والخطباء .
فأجاب حفظه الله : الذي نعتقده وندين الله به أن هذه العادة التي سرت في بعض البلاد العربية ، وهي أن ينتصب أحد المدرسين أو الخطباء ليلقي درسا أو كلمة أو موعظة قبل أذان الجمعة بنصف ساعة أو ساعة من الزمان ، هذا لم يكن من عمل السلف الصالح رضي الله عنهم ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فمن المعلوم لدى علماء المسلمين قاطبة أن هناك أحاديث صحيحة تأمر المسلمين بالتبكير للحضور إلى المسجد الجامع يوم الجمعة ، كمثل قوله عليه الصلاة
--------------------
1- رواه مسلم (ج 1/ 69) وغيره بألفاظ أخرى متقاربة ، أنظر إرواء الغليل (ح 1319) .

الصفحة :7
والسلام :<< ... من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ..>>[1]، ومما لا شك فيه أن حض النبي صلى الله عليه وسلم على التبكير في الرواح يوم الجمعة إلى المسجد الجامع ليس لسماع الدرس وإلقائه ، وغنما للتفرغ في هذا اليوم لعبادة الله عز وجل ، ولذكره وتلاوة كتابه ، وبخاصة سورة الكهف [2] والجلوس للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تحقيقا لقوله في الحديث الصحيح المروي في السنن وغيرها ، ألا وهو قوله عليه الصلاة والسلام : << أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة ، فإن صلاتكم تبلغني >> قالوا كيف وقد أرمت ؟ قال :<< إن الله حرم على الأرض أكل أجساد الأنبياء >> [3] .
وقد ثبت أيضا في أحاديث كثيرة مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، كما ثبت تطبيق الصحابة لتلك الأحاديث هو أن أحدهم كان يأتي إلى المسجد يوم الجمعة ، فيصلي ما بدا له إيمانا وتحقيقا لقوله عليه الصلاة والسلام : << من غسّل يوم الجمعة واغتسل ، وبكر وابتكر ، ثم صلى ما بدا له -وفي رواية - ما كتب الله له ، غفر له ما بينه وبين الجمعة التي تليها >>[4] فهذه وظائف يوم الجمعة لكل مسلم يأتي يوم الجمعة ، فإذا انتصب المدرس يوم الجمعة –كما هو مشاهد في بعض البلاد العربية اليوم –فهو يصد الناس عن كل هذه العبادات والطاعات بسبب تشويشه على هؤلاء الآتين للمسجد والذين أقل ما يفعله أحدهم أن يصلي ركعتين تحية المسجد
--------------------
1 – سبق تخريجه قريبا .
2 – صححه الشيخ الألباني في الإرواء [ح 626].
3- صححه الشيخ الألباني في الإرواء [ح4/ ج1/ص34].
4 – هذا حديث جمع فيه الشيخ بين حديثين جزء منه رواه الأربعة ، أنظر صحيح أبي داود [ح333-345 و 334-346] وصحيح سنن الترمذي [ح410-500]وصحيح سنن ابن ماجة [ح891-1087]والمشكاة [ح1388] وجزء آخر في صحيح مسلم وأوله بلفظ : من توضأ ، وليس من اغتسل .

الصفحة :8
يوم الجمعة فحينئذ يكون مشوشا ومبددا للقائمين بمثل هذه الصلاة التي لابد منها وهما ركعتا تحية المسجد فضلا عمن أراد أن يتطوع بأكثر من الركعتين –كما سبق الإشارة لحديث الرسول عليه السلام في قوله :<< ثم صلى ما بدا له أو كتب الله له >>. وقد ثبت عن بعض الصحابة كابن مسعود وغيره بأنهم كانوا يصلون أربعا وستا وثمانيا ، فهؤلاء كيف يصلون إذا أرادوا أن يحيوا هذه السنة التي أماتها الناس ، وهناك صوت المدرس يلعلع ويشوش على هؤلاء المتعبدين والمصلين ، وقد جاء في الحديث الصحيح قوله عليه السلام :<< يا أيها الناس كلكم يناجي ربه ، فلا يجهر بعضكم على بعض في القراءة >>[1] فلا يجوز إذا لهذا المدرس أن ينتصب للتدريس في هذا المكان الذي لعبادة الله عز وجل بشتى أنواع العبادات ، ومن أجل ذلك جاء في السنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده :<< أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التحلق يوم الجمعة >>[2].
وهذا النهي معقول المعنى ، وسبق ذكره في الكلام السابق ، ولما فيه من التشويش على الذين يحضرون المسجد، ويصلون ويذكرون الله ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك نقول: لا يجوز التدريس يوم الجمعة ؛ لم يكن –أولا – في عهد السلف الصالح ، لأنه يشوش على الناس في طاعتهم وعبادتهم ، لن النبي نهى عن التحلق يوم الجمعة هذا ما عندي والله أعلم[3] .
وقد ورد سؤال إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن هذا التحلق ، وهذا نص السؤال :
ما حكم إلقاء الوعظ والإرشاد يوم الجمعة قبل صلاة الجمعة ؟.
--------------------
1 – [الصحيحة ح1603].
2- سبق تخريجه قريبا .
3 – هذه الفتوى أخذتها من رسالة الإنباء بأخطاء الخطباء التي هي في الأصل رسالة لي أخذها المؤلف وزاد فيها بعض الأمور وطبعها باسمه وقد استفدت منه هذه الفتوى [63-68].

الصفحة :9
الجواب: لا ينبغي إلقاء المواعظ والدروس يوم الجمعة قبل الجمعة لما روى أبو داود والنسائي والترمذي ، قلت : وابن ماجة عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده : << أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن التحلق قبل صلاة الجمعة >>[1].
والتحلق : التجمع للعلم والمذاكرة ، ولما في ذلك من شغل المجتمعين لصلاة الجمعة عن الذكر والتلاوة والنافلة ، وتهيئة الصفوف ، وإعداد النفوس لاستماع الخطبة والإصغاء إليها التي أمر الله به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم .
والدروس والمواعظ قبلها إذا كثرت وتوالت قد تقلل من شأنها وأثرها في النفوس ، وذلك مناف للحكمة التي شرعت من اجلها ، ولأن فيها – إذا اعتني بها- واختير لها من يصلي ويفيد- ما يغني عن مواعظ ودروس تلقى بين يديها ، وأيضا ما كان عليه الصلاة والسلام ولا خلفاؤه يفعلون ذلك ، والخير في إتباع هديه صلى الله عليه وسلم ، وهدي خلفائه الراشدين رضوان الله عليهم ، وذلك فيما يكثر ويغلب أما إذا كانت الحاجة لإيضاح وبيان أمر يهم المسلمين أو لأه علاقة بصلاة الجمعة أو خطبتها ونحو ذلك ، ونبه عليه دون أن يكون له صفة الاستمرار فلا بأس في ذلك –إن شاء الله –وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فتوى رقم [2015 ][2].
قلت : وفيه أيضا صد الكثير من الناس عن التبكير إلى المسجد فقد أصبح الكثير ممن يتبعون السنة وينبذون البدع يتأخر عن التبكير بحجة أن هذا الدرس بدعة ، وغيرهم يحتج بالإطالة في الدرس ، وأن هذه الدروس أو المواعظ مملة ، وأنهم يخرجون الجمعة عن هيئتها إذ لا يفصلون بينها وبين هذه الدروس إلا بقدر ما يصعدون المنبر ، فتصبح الجمعة فيها ثلاث خطب والله المستعان .
--------------------
1- سبق تخريجه قريبا .
2 – مجلة البحوث العملية العدد 17[ص71-72].

أبو هنيدة ياسين الطارفي
16-Dec-2012, 05:29 PM
بارك الله فيك وجعلها الله في ميزان حسناتكم وثبتك الله على السنة . ..اللهم أمين.
فعلى الخطباء أن يتنبهوا ويلتزموا السنة فإننا في غربة .....

أبو عبد الله المعتز بالله الجيلالي السلفي
16-Dec-2012, 07:34 PM
بارك الله فيكم

أبو عبد المصور مصطفى الجزائري
15-Aug-2014, 07:45 PM
وفيكم يبارك الله ونفع بكم

أبو عبد المصور مصطفى الجزائري
17-Sep-2016, 07:44 PM
تنبيه الخطباء والمدرسين والمؤلفين إلى حكم وصف آل الرسول بالطاهرين





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد وحده لا شريك له ، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد : فهذه فائدة نفيسة ودرة عزيزة استفدتها من مقدمة كتاب شرح كشف الشبهات للشيخ محمد بن إبراهيم الذي جمعه تلميذه البار محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن قاسم – رحمهما الله- في وصف آل الرسول بالطيبين الطاهرين .. مما يستلزم العصمة لهم ، أو يفهم أن ذلك كان بإرادة كونية تفسيرا لقوله تعالى :{{ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }} كما يقوله الشيعة عليهم من الله ما يستحقون ، وهذه الجملة يكتبها كثير من المؤلفين بل وينطق بها كثير من الواعظين والمحاضرين ، منهم من يثبتها اعتقادا ومنهم عرضا دون معرفة لمعناها لما دلت عليه كما كنت أنا أفعله في بعض كتاباتي حتى وقفت عليها وعرفت حقيقتها فعدت إلى تركها والرجوع عنها ، مع اعتقادي أن أهل البيت من امتثل أمر الله فيما أمر به واجتنب ما نهي عنه طهره الله من الذنوب والرجس تحقيقا لوعده الذي وعدهم به وخصهم بهذا الفضل دون غيرهم ، ولا يخلف الله وعده ، فنسأل الله تعالى أن يعفو عن جهلي وخطئي وتقصيري إنه سميع مجيب .
قال محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن قاسم -رحمه الله - في مقدمته لكتاب" شرح كشف الشبهات لشيخ" محمد بن إبراهيم ما نصه .
ولم نسمع منه -رحمه الله- في الدروس ولا في الخطب ولا غيرهما بعد ذكر "آله" عبارة "الطيبين الطاهرين" لأن هذه العبارة خبر عن طهارتهم والآية والحديث الواردان في ذلك فيهما الأمر لهم، وفرق بين الأمر والخبر.
ثم نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- أنه قال في "منهاج السنة": والله لم يخبر أنه طهر جميع أهل البيت وأذهب عنهم الرجس فإن هذا من الكذب على الله، كيف ونحن نعلم أن من بني هاشم من ليس بمطهر، ولأنه قال: {{ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }}. [الأحزاب: 33]. ففيه أنه يحب ذلك ويرضاه لكم ويأمركم به، فمن فعله حصل له هذا المراد المحبوب، ومن لم يفعله لم يحصل له ذلك.
وقال في موضع آخر: قوله -صلى الله عليه وسلم - : "اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ". دليل على أنه لم يخبر بوقوع ذلك ، فإنه لو كان وقع لكان يثني على الله بوقوعه ويشكره على ذلك لا يقتصر على مجرد الدعاء، ولأنه قال في الدعاء لنفسه والأمة تبع له: " اللهم طهرني من الذنوب والخطايا ". منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية (ج4/20 ) ج2/419، 145، 146)
قلت : وهذا جزء من حديث أخرجه أحمد 4/354(19328) والبُخَارِي في الأدب المفرد( 676 )وفي (684 ) ومسلم (2/47/1002) وفي (1003) والنَّسَائي(1/198).
ولكن ذكر بعض أهل العلم أنهم طهّروا بآية التطهير فهم مطهرون قال ابن جرير الطبري (20/262)في تفسير الآية : يقول الله : إنما يريد الله ليذهب عنكم السوء والفحشاء يا أهل بيت محمد، ويطهركم من الدنس الذي يكون في أهل معاصي الله تطهيرا.ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) فهم أهل بيت طهرهم الله من السوء، وخصهم برحمة منه؟

قال أبو العبَّاس الأنصاريُّ القرطبيُّ -رحمه الله- في المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم .
ومنبابفضائلعبداللهبنجعفربنأبيطالب -رضياللهعنهما-
(( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا قدم من سفر تُلُقِّيَ بصبيان أهل بيته )) ؛ إنما كانوا يتلقونه بصبيان بيته لما يعلمونه من محبته لهم ، ومن تعلق قلبه بهم ، ولفرط فرح الصغار برؤيته ، ولتنالهم بوادر بركته .
وقوله : (( فَسُبِق بي إليه ، فحملني بين يديه )) ؛ يدل على : أن عبد الله من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس ، وطهرهم تطهيرًا .
وقال المناوي في فيض القدير شرح الجامع الصغير .
(إني تارك فيكم خليفتين) وفي رواية بدل خليفتين ( ثقلين ) (كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي ) وهم أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
وقال الملّا عليّ القاري : الأصحّ أنّ فضل أبنائهم على ترتيب فضل آبائهم إلّا أولاد فاطمة رضي اللّه تعالى عنها فإنّهم يفضّلون على أولاد أبي بكر وعمر وعثمان لقربهم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فهم العترة الطاهرة والذرّيّة الطيّبة الذين أذهب اللّه عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا (شرح كتاب الفقه الأكبر لأبي حنيفة : 210 مسألة في تفضيل أولاد الصحابة).
وقال الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير (21/247)ولذلك هم أهل بيته بدليل السنة وكل أولئك قد أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا بعضه بالجعل الإلهي وبعضه بالجعل النبوي. ا هـ

ولعل قولهم هذا يؤكده ما أخرجه الحكيم الترمذي والطبراني وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله عمهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : << إن الله قسم الخلق قسمين ، فجعلني في خيرهما قسماً ، فذلك قوله : { وأصحاب اليمين . . . وأصحاب الشمال } [ الواقعة : 27 - 41 ] فأنا من أصحاب اليمين ، وأنا خير أصحاب اليمين . ثم جعل القسمين أثلاثاً ، فجعلني في خيرها ثلاثاً ، فذلك قوله : { فأصحاب الميمنة . . . وأصحاب المشئمة . . . والسابقون السابقون } [ الواقعة : 8 - 10 ] فأنا من السابقين ، وأنا خير السابقين . ثم جعل الأثلاث قبائل ، فجعلني في خيرها قبيلة ، وذلك قوله : { وجعلناكم شُعُوباً وَقَبَائِلَ لتعارفوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم } [ الحجرات : 13 ] وأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله ولا فخر . ثم جعل القبائل بيوتاً فجعلني في خيرها بيتاً ، فذلك قوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً } فأنا ، وأهل بيتي مطهرون من الذنوب >>.
قال الشيخ الألباني موضوع بهذا التمام وآثار الوضع والغلو في المتن ظاهرة ؛ لا سيما في الجملة الأخيرة منه : ".. مطهرون من الذنوب" .فإنه يشعر بأن التطهير في الآية تطهير كوني ! وليس كذلك ؛ بل هو تطهير شرعي ؛ كما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية - في رده على الرافضي - في كتابه العظيم : "منهاج السنة" .
قلت : وهذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية زيادة على ما نقله عبد الرحمن بن قاسم قال - رحمه الله - في منهاج السنة (4/12):
وأما آية الطهارة فليس فيها إخبار بطهارة أهل البيت وذهاب الرجس عنهم وإنما فيها الأمر لهم بما يوجب طهارتهم وذهاب الرجس عنهم فإن قوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا كقوله تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وقوله يريد الله ليبين لك ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا فالإرادة هنا متضمنة للأمر والمحبة والرضا وليست هي المشيئة المستلزمة لوقوع المراد فإنه لو كان كذلك لكان قد طهر كل من أراد الله طهارته وهذا على قول هؤلاء القدرية الشيعة أوجه فإن عندهم أن الله يريد مالا يكون ويكون ما لا يريد فقوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا إذا كان هذا بفعل المأمور وترك المحظور كان ذلك متعلقا بإرادتهم وأفعالهم فإن فعلوا ما أمروا به طهروا وإلا فلا وهم يقولون إن الله لا يخلق أفعالهم ولا يقدر على تطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم وأما المثبتون للقدر فيقولون إن الله قادر على ذلك فإذا ألهمهم فعل ما أمر وترك ما حظر حصلت الطهارة وذهاب الرجس ومما يبين أن هذا مما أمروا به لا مما أخبروا بوقوعه ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أدار الكساء على علي وفاطمة وحسن وحسين ثم قال:<< اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا >> وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه عن عائشة ورواه أهل السنن عن أم سلمة وهو يدل على ضد قول الرافضة من وجهين أحدهما أنه دعا لهم بذلك وهذا دليل على أن الآية لم تخبر بوقوع ذلك فإنه لو كان قد وقع لكان يثنى على الله بوقوعه ويشكره على ذلك لا يقتصر على مجرد الدعاء به .
السعدي { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ } بأمركن بما أَمَرَكُنَّ به، ونهيكن بما (4) نهاكُنَّ عنه، { لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ } أي: الأذى، والشر، والخبث، يا { أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } حتى تكونوا طاهرين مطهرين.
أي: فاحمدوا ربكم، واشكروه على هذه الأوامر والنواهي، التي أخبركم بمصلحتها، وأنها محض مصلحتكم، لم يرد اللّه أن يجعل عليكم بذلك حرجًا ولا مشقة، بل لتتزكى نفوسكم، ولتتطهر أخلاقكم، وتحسن أعمالكم، ويعظم بذلك أجركم.
قال الشنقيطي في أضواء البيان (6/238) وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ الْآيَةَ ، يَعْنِي : أَنَّهُ يُذْهِبُ الرِّجْسَ عَنْهُمْ ، وَيُطَهِّرُهُمْ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ ، وَيَنْهَى عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ ; لِأَنَّ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ أَذْهَبَ عَنْهُ الرِّجْسَ ، وَطَهَّرَهُ مِنَ الذُّنُوبِ تَطْهِيرًا .
ثم قال تَنْبِيهٌ .
اعْلَمْ أَنَّهُ يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَفِي اللُّغَةِ إِتْيَانُ اللَّامِ الْمَكْسُورَةِ مَنْصُوبًا بَعْدَهَا الْمُضَارِعُ بَعْدَ فِعْلِ الْإِرَادَةِ ; كَقَوْلِهِ هُنَا : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ } الْآيَةَ وَقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ . وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ :
أُرِيدُ لِأَنْسَى ذِكْرَهَا فَكَأَنَّمَا ... تُمَثَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ سَبِيلِ
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي اللَّامِ الْمَذْكُورَةِ أَقْوَالٌ ، مِنْهَا : أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ بِمَعْنَى أَنْ ، وَهُوَ قَوْلٌ غَرِيبٌ . وَمِنْهَا : أَنَّهَا لَامُ كَيْ ، وَمَفْعُولُ الْإِرَادَةِ مَحْذُوفٌ ، وَالتَّقْدِيرُ : إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يَأْمُرَكُمْ وَيَنْهَاكُمْ ، لِأَجْلِ أَنْ يُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ، وَالرِّجْسُ كُلُّ مُسْتَقْذِرٍ تَعَافُهُ النُّفُوسُ ، وَمِنْ أَقْذَرِ الْمُسْتَقْذَرَاتِ مَعْصِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى .
وقال الألوسي في روح المعاني (ج 11 / ص : 199)
وقديستدلعلىكونالإرادةهاهنابالمعنىالمذكوردونالمعنىا لمشهورالذييتحققعندهالفعلبأنهصلّىاللّهعليهوسلمقالحي نأدخلعلياوفاطمةوالحسنينرضياللّهتعالىعنهمتحتالكساء «اللهمهؤلاءأهلبيتيفأذهبعنهمالرجسوطهرهمتطهيرا >>
فإنه أي حاجة للدعاء لو كان ذلك مرادا بالإرادة بالمعنى المشهور وهل هو الادعاء بحصول واجب الحصول.
قلت بمعنى : ما فائدة الدعاء إذا كان ذلك حاصل فإنما هو على تحصيل حاصل إذا كانوا مطهرين .
ثم رجح ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية فقال : والذي يظهر لي أن الإرادة على معناها الحقيقي المستتبعة للفعل ، والآية لا تقوم دليلا على عصمة أهل بيته صلّى اللّه عليه وسلم وعليهم وسلم الموجودين حين نزولها وغيرهم ولا على حفظهم من الذنوب على ما يقوله أهل السنّة لا لاحتمال أن يكون المراد توجيه الأمر والنهي أو نحوه لإذهاب الرجس والتطهير بأن يجعل المفعول به { ليريد} محذوفا ويجعل لِيُذْهِبَ و{ يطهر} في موضع المفعول له وإن لم يكن فيه بأس وذهب إليه من ذهب بل لأن المعنى حسبما ينساق إليه الذهن ويقتضيه وقوع الجملة موقع التعليل للنهي والأمر نهاكم اللّه تعالى وأمركم لأنه عزّ وجلّ يريد بنهيكم وأمركم إذهاب الرجس عنكم وتطهيركم وفي ذلك غاية المصلحة لكم ولا يريد بذلك امتحانكم وتكليفكم بلا منفعة تعود إليكم وهو على معنى الشرط أي يريد بنهيكم وأمركم ليذهب عنكم الرجس ويطهركم إن انتهيتم وائتمرتم ضرورة .
فمفاد التركيب إذهاب الرجس والتطهير بعد الانتهاء والائتمار لأن المراد الإذهاب المذكور بشرطهما فهو متحقق الوقوع بعد تحقق الشرط وتحققه غير معلوم إذ هو أمر اختياري وليس متعلق الإرادة ، والمراد بالرجس الذنب وبإذهابه إزالة مبادئه بتهذيب النفس وجعل قواها كالقوة الشهوانية والقوة الغضبية بحيث لا ينشأ عنهما ما ينشأ من الذنوب كالزنا وقتل النفس التي حرم اللّه تعالى وغيرهما لا إزالة نفس الذنب بعد تحققه في الخارج وصدوره من الشخص إذ هو غير معقول إلا على معنى محوه من صحائف الأعمال وعدم المؤاخذة عليه وإرادة ذلك كما ترى.
وكأن مآل الإذهاب التخلية ومآل التطهير التحلية بالحاء المهملة ، والآية متضمنة الوعد منه عزّ وجلّ لأهل بيت نبيه صلّى اللّه عليه وسلم بأنهم إن ينتهوا عما ينهي عنه ويأتمروا بما يأمرهم به يذهب عنهم لا محالة مبادئ ما يستهجن ويحليهم أجلّ تحلية بما يستحسن ، وفيه إيماء إلى قبول أعمالهم وترتب الآثار الجميلة عليها قطعا ويكون هذا خصوصية لهم ومزية على من عداهم من حيث إن أولئك الأغيار إذا انتهوا وائتمروا لا يقطع لهم بحصول ذلك.
قلت : ومن هنا لا ينبغي أن يعمل بهذه الجملة كتابة ومشافهة –قطعا- بأن الله طهرهم تطهيرا كونيا بمعنى أنهم معصومين ، فهذا كذب على الله ، وافتراء عليه ، أما إذا قصد التطهير الشرعي وأنهم قاموا بما أوجب الله عليهم واجتنبوا ما نهاهم عنه وأن ذلك تحقق بدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : << اللَّهُمَّ هَؤُلاءِ أَهْلُ بَيْتِي، اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا >> فلا شك أنه مستجاب الدعوة فهذا له وجه ولكن ينبغي أن يبين حتى لا يتوهم السامع أو القارئ أن هذا تطهير كوني والعلم عند الله تعالى.
وكتبه : أبو بكر يوسف لعويسي