المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : [تفريغ] [خطبة جمعة] [حكم شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم] لفضيلة الشيخ الوالد محمد سعيد رسلان



أبو عبدالرحمن حمدي آل زيد
27-Sep-2012, 09:00 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن اتبع هداه... وبعدُ:

[تفريغ خطبة الجمعة]
حُكْم شَاتِم الرسولِ -صلى الله عليه وسلم-

[فضيلة الشيخ]
محمد سعيد رسلان

[تاريخ إلقاء هذه الخطبة]
27 من شوال 1433 هـ، الموافق 14- 09 -2012 م

[مكان إلقاء هذه الخطبة]
بالمسجد الشرقي - سُبك الأحد - أشمون - محافظة المنوفية - مصر

[صورة من ملف التفريغ]
http://img818.imageshack.us/img818/5958/27092012065337.jpg

[التفريغ]
صيغة PDF = جاهز للطباعة
اضغط هنا للتحميل (http://archive.org/download/Rslan_HokmShatem/Rslan_HokmShatem_V1.pdf)

صيغة DOC = وورد 2003 فما دونه
اضغط هنا للتحميل (http://archive.org/download/Rslan_HokmShatem/Rslan_HokmShatem_V1.doc)

صيغة DOCX = وورد 2007 فما فوقه
اضغط هنا للتحميل (http://archive.org/download/Rslan_HokmShatem/Rslan_HokmShatem_V1.docx)

أبو عبدالرحمن حمدي آل زيد
27-Sep-2012, 09:02 PM
[القراءة]
إنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِالله مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عِمْرَان:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللـهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النِّسَاء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأَحْزَاب:٧٠-٧١].
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللـهِ، وَخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فمن أعظم الجرائم وأشنعها، وأكبر الخطايا وأفظعها الاستهزاءُ بالرسول -صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فضلاً عن شتمه وسبِّه، بأبي هو وأمي ونفسي -صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-.
وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- كتابه: «الصارم المسلول على شاتم الرسول» -صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في وقعة عَسَّافٍ النصراني الذي سب النبي -صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، فوقعتْ محنةٌ عظيمة ضُرب على إثرها شيخُ الإسلام ابن تيمية، وسُجن من قبل نائب السلطان، فصنف شيخ الإسلام هذه الواقعةَ كتابًا ما تزال الأجيال تتلقفه محتاجةً إلى ما فيه من العلم والهدى والذكر.
وقد ذكرَ الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- هذه الواقعة والحادثة بالتفصيل، فقال: «كَانَ هَذَا الرَّجُلُ -[يعني: عَسَّافًا النَّصْرَانِيِّ]- مِنْ أَهْلِ السُّوَيْدَاءِ قَدْ شَهِدَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ أَنَّهُ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ، وَقَدِ اسْتَجَارَ عَسَّافٌ هَذَا بِابْنِ أَحْمَدَ حِجِّيّ أَمِيرِ آلِ عَلِيٍّ، فَاجْتَمَعَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بن تَيْمِيَةَ، وَالشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ الْفَارِقِيُّ شَيْخُ دَارِ الْحَدِيثِ، فَدَخَلَا عَلَى الْأَمِيرِ عِزِّ الدِّينِ أَيْبَكَ الْحَمَوِيِّ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ فَكَلَّمَاهُ فِي أَمْرِهِ فَأَجَابَهُمَا إِلَى ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ لِيُحْضِرَ عَسَّافًا فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ وَمَعَهُمَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَرَأَى النَّاسُ عَسَّافًا حِينَ قَدِمَ وَمَعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ فَسَبُّوهُ وَشَتَمُوهُ، فَقَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ الْبَدَوِيُّ: هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ -[يَعْنِي: النَّصْرَانِيَّ]- فَرَجَمَهُمَا النَّاسُ بِالْحِجَارَةِ، وَأَصَابَتْ عَسَّافًا وَوَقَعَتْ خَبْطَةٌ قَوِيَّةٌ فَأَرْسَلَ النَّائِبُ فَطَلَبَ الشَّيْخَيْنِ ابْنَ تَيْمِيَةَ وَالْفَارِقِيَّ فَضَرَبَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَرَسَمَ عَلَيْهِمَا فِي الْعَذْرَاوِيَّةِ -[أي: حبسهما]- وَقَدِمَ النَّصْرَانِيُّ فَأَسْلَمَ وَعُقِدَ مَجْلِسٌ بِسَبَبِهِ، وَأَثْبَتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشُّهُودِ الذين شهدوا عليه بالسب عَدَاوَةً، فَحُقَنَ دَمُهُ، ثُمَّ اسْتُدْعِيَ بِالشَّيْخَيْنِ فَأَرْضَاهُمَا النائبُ وَأَطْلَقَهُمَا، وَلِحَقِّ النَّصْرَانِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ بِبِلَادِ الْحِجَازِ، فَاتَّفَقَ قَتْلُهُ قَرِيبًا مِنْ مَدِينَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَتَلَهُ ابْنُ أَخِيهِ هُنَاكَ، وَصَنَّفَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ كِتَابَهُ الصَّارِمُ الْمَسْلُولُ عَلَى سَابِّ الرَّسُولِ».
صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. هكذا ذكره ابن كثير في «البداية والنهاية»، والمشهورُ: الصارمُ المسلول على شاتم الرسول، -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
وقد صنف شيخ الإسلام -رحمه الله- هذا الكتاب الفحل في وقعة عسافٍ النصراني هذا في شهر رجبٍ سنة ثلاثٍ وتسعين وستمائة، وكان عُمْرُ شيخ الإسلام آنذاك اثنتين وثلاثين سنة، وأربعةَ أشهرٍ تقريبًا -رحمه الله رحمةً واسعةً-.
وهذه فوائدُ ونُتَفُ ومسائل من كتابه -رحمه الله تعالى-، والغرضُ من سَوْقِها منظومةً أن يعلمَ المسلمُ -لا أن يعلم الكافر- خطورةَ الوقوع في جنابِ رسول الله -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؛ فإن مما يُؤسى له أن يتورط كثيرٌ من المسلمين في الاستهزاء برسول الله -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، بل ربما تطور الأمرُ إلى سب النبي -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، بل ربما زاد عن ذلك إلى سب رب العزة -جل وعلا- فضلاً عما تسمعه هنا وهناك من سب دين الله -رب العالمين-.
فينبغي أن يعلم المسلم -قبل الكافر- حكم هذه المسائل، وأن تكون منه على ذُكْرٍ، وأن ينتبه إلى ناقض من نواقض الإسلام لا يتحرز منه إلا مَن نوَّر الله قلبَه، وجعل الله -رب العالمين- الهدايةَ في فؤادهِ، واستقامت على الحق وعلى الطريق المستقيم خُطاه.
والسَّبُّ: هو الكلامُ الذي يُقْصَدُ به الانتقاص والاستخفاف سواءٌ كان دعاءً مثل: لا رحمه الله، أو قبَّحه الله، أو لا رفع الله ذِكرَه، أو كان خبرًا.
وكلُّ ما كان في العرف سبًا للنبي -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فهو الذي يُنزَّل عليه كلامُ أهل العلم في هذه المسألة العظيمة.
وليس المرجع في معرفة حد السب والشتم إلى اللغة، بل كلُّ ما كان عَدَّهُ الناسُ سبًا فهو كذلك -وإنْ كان معناه في اللغة غيرَه-، فمرجع هذا إلى ما تعارف عليه الناس، -وإن لم تدل اللغة عليه-.
وقد قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في «منهاج السنة النبوية»: «وَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَيَجِدُ فِي قَلْبِهِ لِلرَّسُولِ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْمَحَبَّةِ مَا لَا يَجِدُ لِغَيْرِهِ، حَتَّى إِنَّهُ إِذَا سَمِعَ مَحْبُوبًا مِنْ أَقَارِبِهِ أَوْ أَصْدِقَائِهِ يَسُبُّ الرَّسُولَ، هَانَ عَلَيْهِ عَدَاوَتُهُ وَمُهَاجَرَتُهُ، بَلْ وَقَتْلُهُ لِحُبِّ الرَّسُولِ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا».
إنّ سب الله -تعالى- كفرٌ محض، وهو حق لله -جل وعلا- وتوبةُ مَن لم يصدر منه إلا مجردُ الكفر الأصلي أو الطارئ مقبولة مسقطعةٌ للقتل بالإجماع.
فانتبه إلى هذا الأمر العظيم، فسبُّ ربنا -تبارك وتعالى- كفرٌ محضٌ، وسب الرسول -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أمرٌ زائدٌ على الكفر المحض؛ لذلك لا تُقبل فيه توبةٌ تُسْقِط حَدَّه، فإن تاب قُتِل وإلا لم يتب قُتِل، وأما الذي يسب الله -جل وعلا- فإن تاب خُلِّيَ عليه، ولا كذلك الذي يسب رسول الله -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
والسرُّ في ذلك أن الله -جل وعلا- قد عُلم منه أنه يُسْقِطُ حقه عن التائبِ؛ فإن الرجل لو أتى من الكفر والمعاصي بملءِ الأرض ثم تابَ، تابَ الله عليه، وهو -سبحانه- لا تلحقه بالسب غَضاضَةٌ ولا مَعَرَّة، وإنما يعود ضرر السب على قائله، وحرمتُه -تعالى- في قلوب العباد أعظمُ من أن يهتكها جرأة الساب.
وبهذا يظهر الفرق بينه وبين الرسول -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فإن السب قد تعلّق به حقُّ آدمي، والعقوبةُ الواجبةُ لآدميٍّ لا تَسْقُطُ بالتوبة، والرسولُ -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تلحقه المعرة والغضاضة بالسب، فلا تقوم حرمته وتَثْبُت في القلوب إلا باصْطِلَام سابِّه، بما أن هَجْوَهُ وشتمه يُنْقِصُ من حرمته عند كثيرٍ من الناس، ويقدح في مكانه في قلوبٍ كثيرةٍ، فإن لم يُحفَظ هذا الحِمَى بعقوبة المنتهِك وإلا أفضى الأمرُ إلى فساد.
وأيضًا فإن سب الله ليس له داعٍ عقلي -في غالب الأمر-، ولا يقصد الساب حقيقة الإهانة لعلمه أن ذلك لا يؤثِّر، بخلاف سب الرسول -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فإنه في الغالب إنما يقصد به الإهانةَ والاستخفافَ، والدواعي إلى ذلك متوفرةٌ في كل كافرٍ ومنافق، فصار من جنس الجرائم التي تدعو إليها الطباعُ، فإن حدودها لا تَسْقُطُ بالتوبة بخلاف الجرائم التي لا داعي لها، فناسبَ أن يُشرَع لخصوصه حد، والحدُّ المشروع لخصوصه لا يسقط بالتوبة كسائر الحدود، فلما اشتملَ سبُّ الرسول -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- على خصائص من جهة توفر الدواعي إليه، وحرص أعداء الله عليه، وأن الحرمة تُنتهك به انتهاك الحرمات بانتهاكها، وأن فيه حقًّا لمخلوق تحتمت عقوبته، لا لأنه أغلظُ إثمًا من سب الله -جل وعلا-، بل لأن مفسدته لا تنحسم إلا بتحتم القتل.
فمَن سب الله -جل وعلا- اِسْتُتِيبَ، فإن تاب خُلِّيَ عنه، واللهُ -جلا وعلا- لو أتاه المرء بِقُراب الأرض خطايا، ثم رجع إليه تائبًا تاب عليه، وأما إذا سب الله -جلا وعلا- فاستيب فلم يتب فإنه يُقتل ردةً.
وأما الذي يسب رسول الله -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فالذي عليه جمهورُ أهل السنة، ومنهم: مالكٌ وأحمد وغيرهما -رحمة الله عليهم أجمعين- أنه لا يُستتاب أصلاً، فإنْ استتيب فتابَ قُتل حدًا، وإن استتيب فلم يتب قُتل ردةً.
وفَرْقٌ عظيم بين القتل حدًا والقتل ردةً؛ فإن الذي يُقتل حدًا يموت مسلمًا، وله ما للمسلم بعد موته، من: تغسيله، وتكفينه، والصلاةِ عليه، والدعاءِ له، ودفنهِ في مقابر المسلمين، ويُورَثُ: يرثه أهلُه، ثم قد يُرجى له أنه بإقامة الحد عليه أن الله قد تاب عليه، وأما إن قُتل ردةً فإنه لا يلزم المسلمين أن يغسلوه ولا أن يكفنوه ولا أن يصلوا عليه، بل يَحْرُمُ أن يُصلى عليه، فإنه لا يُصلى على الكافر، ولا يُدفن في مقابر المسلمين، ولا يرثه أهلُه، ومالُه إلى بيت المال، ثم هو خالدٌ في النار أبدًا، نسأل الله السلامة والعافية.
فمن سب الله -تبارك وتعالى- فاستُتيب فتاب خُلي عنه، وأما إن لم يتب قُتل ردةً، والذي عليه الناس أن مَن سب رسول الله -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنه يُستتاب فإن تاب قُتل حدًا، وإن لم يتب قُتل ردةً، فهو مقتولٌ في كل حال.
لا أمرٌ هَيِّنٌ هو!! أن يُسَبَّ رسولُ الله -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
وكما مَرَّ لا يشتبهنّ عليك الأمر، فتقول: إنّ سب النبي -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على هذا أعظمُ من سب الله -جل وعلا- على حسب ما يترتب عليه من العقوبة.
لا؛ لأننا قد علمنا يقينًا أن الإنسان مهما أتى به من ذنب فتاب منه فإن الله يتوب عليه، وأما مَن أذنب في حق رسول الله -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقد قبضَ الله إليه رسولَه، ولا ندري أيعفو عن هذا أو لايعفو عنه -صَلَّى اللـهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ -؟
مَن سب النبي -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مسلمًا كان أو ذميًا أو كافرًا، فإنه يجب قتله، هذا مذهب عامة أهل العلم.
قال ابن المنذر: «أجمع عوام -[أي: عامة]- أهل العلم على أن حَدَّ مَن سب النَّبي -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- القتلُ، وممن قاله: مالك والليث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعي».
وقال إسحاق بن رَاهُويَة: «أجمع المسلمون على أن مَن سَبَّ الله، أو سَبَّ رسولَه -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، أو دفع شيئًا مما أنزل الله -عز وجل-، أو قتل نبيًا من أنبياء الله -عز وجل- أنه كافرٌ بذلك، وإنْ كان مُقِرًّا بكل ما أنزل الله».
هذا إجماع المسلمين، وقال محمد بن سُحْنُون: «أجمع العلماء على أن شاتم النَّبي -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- المتنقِّص له كافرٌ، والوعيد جارٍ عليه بعذاب الله له، وحكمُه عند الأمة القتل، ومَن شك في كفره وعذابه كفر».
ومَن شك في كفره وعذابه كفرَ: أي كفرَ الشاكُّ.
فتحريرُ القول أن الساب إن كان مسلمًا فإنه يكفر ويُقتل بغير خلاف، وإنْ كان ذميًا فإنه يُقتل أيضًا في مذهب مالكٍ وأهل المدينة، وهو مذهب أحمد، وفقهاء الحديث، قال الإمام أحمد: «كلُّ مَن شتم النبي -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أو تنقصه مسلمًا كان أو كافرًا، فعليه القتلُ».
لستُ هنا بصدد التعرض لما وقعَ، فالحقُّ أن ما وقع كلمةُ السب والاستهزاء بالنسبة إليه طُهْرٌ إلى نجاسة!!، ليس هذا بسب ولا بشتم، هذا شيء كالمستنقع المنتن بل هو كذلك، هذا أمرٌ تمجه الطباع المستقيمة، وترده النفوس السليمة، اتهامٌ بما اتُّهم به عيسى -عليه السلام- فيما اتهمه فيه يهود من أنه وُلد لغير رِشْدَة..
أهذا سب؟! هذا لم يقله أبو جهل!! فضلاً عن أن يقوله أولئك، فالذي جِيئ به أمرٌ فظيع، ولو أن قِيل في حق رئيس أمريكا لقُدِّم قائدُه إلى المحاكمة بتهمة السب والقذف، فيدلسون عليهم بقولهم: إن القانون الأمريكي لا يمنع حرية الرأي والتعبير!!، بل إنه لا يمنع من الاعتداء على الحرمات بصورةٍ من الصورِ!!
ولكنْ لأنه متعلِّقٌ برسول الإسلام بنبيا محمد -عليه الصلاة وأفضل السلام-، ولو كان متعلقًا بغيره من الصعاليق الذين لا يساوي الواحد منهم وزنه ترابًا ولا ذبابًا لأقاموا الدنيا ولم يقعدوها.
ولكنْ سترى -إن شاء الله جل وعلا- كما قد مرَّ ورُؤي ما يفعل الله بمَن تنقّص جنابَ رسول الله -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-.
وأما الأدلة من القرآن على كُفر الشاتم وقتلِه، فمنها قولُه -تعالى-: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ﴾ [التوبة: 61]، إلى قولِه: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [التوبة: 61]، إلى قولِه: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ [التوبة: 63].
فَعُلِمَ أنّ إيذاءَ رسول الله -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محادةٌ لله ولرسولِه؛ لأنّ ذِكرَ الإيذاء هو الذي اقتضى ذِكرَ المحادة، ودلَّ ذلك على أن الإيذاء والمحادة كفرٌ؛ لأنه أخبرَ أن له نارَ جهنم خالدًا فيها، ولم يقل: هي جزاؤه، وبين الكلامين فَرْقٌ، بل المحادة هي المعاداة والمشاقة، وذلك كفرٌ ومحاربة، فهو أغلظُ من مجرد الكفر، فيكون المؤذي لرسول الله -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كافرًا عدوًا لله ورسولِه، محارِبًا لله ورسوله.
وفي الحديث: أنّ رجلاً كان يسب النبي -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، فقال: «مَنْ يَكْفِينِي عَدُوِّي؟».
وحينئذٍ فيكونُ كافرًا حلالَ الدم، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ﴾ [المجادلة: 20]، ولو كان مؤمنًا معصومًا لم يكن أَذَل؛ لقوله -تعالى-: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: 8]، وقولِه: ﴿كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [المجادلة: 5]، والمؤمنُ لا يُكْبَتُ كما كُبِتَ مُكَذِّبِي الرسل قط.
ومن الأدلة على كفر شاتم الرسول -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ووجوب قتله، قولُه سبحانه: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ﴾ [الأنفال: 12]، إلى قولِه: ﴿سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ [الأنفال: 12-13].
فجعل إلقاء الرعب في قلوبهم والأمرَ بقتلهم؛ لأجل مشاقتهم لله ورسوله، فكلُّ مَن شاق الله ورسوله يستوجِب ذلك، والمؤذي للنبي -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مشاقٌ لله ورسوله فيستحق ذلك.
ومن الأدلة قولُه -سبحانه-: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ [التوبة: 65-66]، وهذا نصٌّ في أن الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفرٌ؛ لأنهم ماذا قالوا؟ قالوا: ما رأينا مثل قُرَّائنا هؤلاء، أرغبَ بطونًا، وأجبنَ عند اللقاء. يعنون: النبي -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ومَن كان معه من أصحابه -رضوان الله عليهم-.
وقد استظهرَ شيخُ الإسلام -رحمه الله- أن الذين قالوا هذا القول لم يكونوا من المنافقين بل كانوا من المؤمنين الذين ضَعُفَ إيمانهم؛ لأن الله -جل وعلا- يقول: (قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)، ولو كانوا منافقين ما قال: (بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)، ومع ذلك فإنهم لما قالوا هذا القول وفيه تعريضٌ واستهزاء برسول الله -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- والقُرَّاء حكمَ الله بكفرهم، فلما اعتذروا بأنهم كانوا يخوضون ويلعبون، وأنهم لم يقصدوا حقيقة السب والاستهزاء لم يرحمهم وإنما حكمَ عليهم بالكفر وكفَّرهم، فيستوي في الاستهزاء بالرسول -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- المستحل وغيرَ المستحل والجادُّ القاصد والهازل الذي لا يقصد، كلُّ أولئك إنْ استهزأ واحدٌ منهم بالرسول -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهو كافرٌ حلالُ الدم.
هؤلاء لما تنقَّصوا النبي -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؛ حيثُ عابوه والعلماءَ من أصحابه واستهانوا بخبره أخبر الله -عز وجل- أنهم كفروا بذلك -وإن قالوه استهزاء- فكيف بما هو أغلظُ من ذلك؟!!
فهذا نص في أن الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفر، فالسب المقصود بطريق الأولى، وقد دلت هذه الآية على أن كلَّ مَن تنقَّص رسول الله -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جادًا أو هازلاً فقد كفر.
ومن الأدلة قولُه -تعالى-: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾ [التوبة: 58]، واللمزُ: العيبُ والضعف، قال -تعالى-: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ﴾ [التوبة: 61]، وذلك يدل على أن كل من لمزه أو آذاه كان منهم.
والله -سبحانه وتعالى- ابتلى الناس بأمورٍ، ويميِّز بين المؤمنين والمنافقين كما قال -تعالى-: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾ [العنكبوت: 11]، وقال -تعالى-: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ [آل عمران: 179]؛ وذلك لأن الإيمان والنفاق أصله في القلب، وإنما الذي يظهر من القول والفعل فرعٌ على ما في القلب ودليلٌ عليه، فلما أخبرَ -سبحانه- أن الذين يلمزون النبي -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- والذين يؤذونه من المنافقين ثَبَتَ أن ذلك دليلٌ على النفاق، وفرعٌ له.
فإنّ لمز النبي -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وأذاه لا يفعله مَن يعتقد أنه رسولُ الله، لا يفعله أبدًا مَن يعتقد أنه رسولُ الله حقًا وصدقًا، وأنه أولى به من نفسه، وأن يجب على جميع الخلق أن يوقِّروه ويعزِّروه، وإذا كان دليلاً على النفاق نفسه فحيثما حصل اللمز والاستهزاء حصل النفاق -النفاق الأكبر-؛ لأنه لا يُمْكِنُ أن ينطوي القلب على ذرة من الإيمان بالرسول مع الاستهزاء به، لا يجتمعان!! إلا إذا جمعتَ الماءَ والنارَ في يدك!!
وقد نطقَ القرآن بكفر المنافقين في غير موضع، وقال عنهم: ﴿وَمَا هُمْ مِنْكُمْ﴾ [التوبة: 56]، وهذا إخراج لهم عن الإيمان، بل جعلهم أسوأَ حالاً من الكافرين، وجعلهم في الدرك الأسفل من النار.
ومن الأدلة قولُه -تعالى-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا﴾ [الأحزاب: 57-58]، الآيات..
ودلالاتها من وجوه:-
أولاً: أنه قَرَنَ أذاه بأذاه كما قرنَ طاعته بطاعته «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ». كما قرنَ طاعته بطاعته قرن أذاه بأذاه -صَلَّى اللـهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ -، فمَن آذاه فقد آذى الله -تعالى-، ومَن آذى الله -تعالى- فهو كافرٌ حلال الدم.
ثانيًا: أنه فرَّق بين أذى الله ورسوله وبين أذى المؤمنين والمؤمنات «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا»، فذكرَ مَن آذى الله وآذى رسوله وفرَّق بين هذا الأذى وأذى المؤمنين، فقال في الآية بعدها: «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا»، ففرَّق بين أذى الله ورسوله وبين أذى المؤمنين والمؤمنات، فجعل هذا قد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا، وجعل على ذلك لعنته في الدنيا والآخرة، وأعد له العذابَ المهين، ومعلومٌ أن أذى المؤمنين قد يكون من كبائر الإثم وفيه الجلد، وليس فوق ذلك إلا الكفر والقتل.
ثالثًا: أنه ذكر أنه لعنهم في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابًا مهينًا، واللعن: الإبعاد عن الرحمة، ومَن طرده عن رحمته في الدنيا والآخرة لا يكون إلا كافرًا.
ومن آثار تلك اللعنة التي وُعِدُوهَا الأخذُ والتقتيل كما قال تعالى ﴿مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا﴾ [الأحزاب: 61]، ويؤيده قولُ النبي -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الصحيحين: «لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ». فإذا كان الله لعن هذا في الدنيا والآخرة فهو كقتله، فَعُلِمَ أن قتله مباح.
ومن الأدلة قولُه -سبحانه-: ﴿لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات: 2].
ووجهُ الدلالة أن الله -سبحانه- نهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وعن الجهر له كجهر بعضكم لبعض؛ لأن هذا الرفع والجهر قد يفضي إلى حُبوطِ العمل وصاحبه لا يشعر، ولا تَحْبَطُ الأعمال بغير الكفر ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: 65].
فإذا ثبت أن رفع الصوت فوق صوته والجهر له بالقول يُخاف منه أن يكفر صاحبه، فمن المعلوم أن ذلك لما ينبغي له من التوقير والتشريف والتعظيم والإكرام والإجلال والتعزير -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
لأن رفع الصوت قد يشتمل على أذى له أو استخافٍ به وإن لم يقصد الرافع ذلك، وإذا كان هذا من غير قصد صاحبه يكون كفرًا، فالأذى والاستخفاف المقصودُ المتعمَّد كفرٌ بطريق الأولى.
ومن الأدلة قولُه -تعالى-: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63].
أمرَ مَن خالف أمره أن يحذر الفتنة -والفتنةُ: الردة والكفر- فدل على أنه قد يكون مفضيًا إلى الكفر أو إلى العذاب الأليم، وذلك لما يقترن به من استخفاف بحق الآمِرِ، كما فعل إبليس فكيف بما هو أغلظُ من ذلك كالسب والانتقاص ونحوه.
ومن الأدلة من القرآن المجيد، قولُه -تعالى-: ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 53].
فحرّم على الأمة أن تنكحَ أزواجه من بعده؛ لأن ذلك يؤذيه، وجعلَه عظيمًا؛ تعظيمًا لحرمته، لذا فإن عقوبة مَن نكح أزواجه وسرايره القتلُ جزاءً بما انتهك من حرمته -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فالشاتمُ له أولى.
إذا كان رفعُ الصوت بمحضره لا يجوز، ورفعُ الصوت بعد مماته في مسجده لا يجوز؛ لما سمع عمر رجلين قد رفعا صوتيهما في مسجد الرسول، استدعاهما فقال: من أين أنتما؟ قالا: من الطائف. قال: أما إنكما لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتُ ظهريكما ضربًا، أترفعان صوتيكما في مسجد رسول الله؟!!
بعد موته!! لا يجوز أن ترفع الصوت في مسجده، فكيف به في حياته؟!!، فكيف بانتقاصه؟!! فكيف بشتمه والاعتداء عليه في أصله؟!! وهو أشرفُ الخلق جميعًا -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
اصطفى الله -رب العالمين- ولدَ إسماعيل، واصطفى منهم كنانة، واصطفى من كنانة بني هاشم، واصطفاه من بني هاشم، فهو خيرُ الخلق، لم يلحقه شيء من سِفاح الجاهلية قط، ما زال ينتقل من الأصلاب النقية الطاهرةِ إلى الأرحام النقية الطاهرة حتى وضعته آمِنة، فيأتي أولادُ الخَنا!! والذين يروِّجون الزنا!! ليطعنوا في أصل رسول الله -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
ليس العيبُ عليهم في الأصل، إنما العيبُ على أتباعه الذين لم يعرِّفوا الدنيا به: بأفعالهم، بالتزامهم، بإقامتهم لسنته، وتطبيقهم لشريعته، والتزامهم بنهجه وطريقته، ودلالةِ الناس على [كلمة غير مفهومة] وصفاته، وتعليم الخلق جميلَ ما أتى به من الشريعة المطهرة.
لأن الصورة عند الغرب عن القرآن المجيد وعن الرسول الرشيد وعمن تمسك بدين الإسلام العظيم صورةٌ سلبيةٌ جدًا!! أضلَّهم مفكِّروهم، وقُسوسُهم، ورهبانهم، وأحبارهم، وقادتهم، وساستهم، ومتعصبوهم، وصدَّق كلامَ هؤلاء المسلمون بأفعالهم وبممارساتهم وبجهلهم وبإدعائهم الكاذب بالتزامٍ ظاهر، ما هو إلا قشرةٌ ظاهرة على حقيقةٍ فاجرةٍ في كثير من الأحيان، وإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوةَ إلا به.
وأما الأدلةُ من السنة فيما ذكر الإمام العلامة العَلم شيخ الإسلام ابن تيمية في «الصارم المسلول». احرص عليه، تَعَلَّمْه، وتأمل في أطوائه، وانظر في مناحيه؛ لتعلم حركة هذا العقل الجبار في الاستنباط، واستخراج الأحكام من النصوص على قواعد أهل العلم من أصحاب الرسول ومَن تبعهم بإحسانٍ.
يقول: الأدلةُ من السنة: منها ما رواه أبو داود عن عن علي -رضي الله عنه- أن يهودية كانت تشتم النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقعُ فيه -[أي: تتعمدُ عيبَه وانتقاصَه وشتمَه، بأبي هو وأمي ونفسي صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ]- فخنقها رجلٌ حتى ماتت؛ فأبطلَ رسول الله -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- دمها. إسنادُه جيد، ضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود.
وهذا الحديث نصٌّ في جواز القتلِ لأجل شتم النبي -صلى الله عليه وسلم-، ودليل على قتل الرجل الذمي وقتل المسلم والمسلمة إذا سبا بطريق الأولى؛ لأن هذه المرأة كانت مُوَادَعَة مُهَادَنَة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قَدِمَ المدينة وادعَ جميع اليهود الذين كانوا بالمدينةِ وادعهم موادعةً مطلقة، ولم يضرب عليهم جزية، وهذا مشهورٌ عند أهل العلم بمنزلة المتواتر عندهم حتى قال الشافعي -رحمه الله-: فلم أعلم مخالفًا من أهل العلم بالسير أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما نزل المدينة وادع يهود كافة على غير جزية.
قال شيخ الإسلام: وهو كما قال الشافعي.
ولو لم يكن قتلها جائزًا لبيَّنَ للرجل قُبْحَ ما فعل لمَّا خنقها، فإنه قال: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدَةً بِغَيْرِ حَقِّهَا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ». الحديثُ أخرجه البخاري في الصحيح.
ولأوجَبَ ضمانها أو الكفارة، فلما أهدر دمها عُلِمَ أنه كان مباحًا، لذلك قال في روايةٍ أخرى، أخرجها أبو داود والنسائي، قال: «اشهدوا أن دمها هَدَر»، والهَدَرُ: الذي لا يُضْمَنُ بِقَوَدٍ ولا دية ولا كفارة، فعُلم أن السب أباح دمها لاسيما والنبي -صلى الله عليه وسلم- إنما أهدر دمها عقب إخباره بأنها قُتلت لأجل السب، فعُلم أن السبَّ الموجِبُ لذلك.
ومن السنة: ما ثبتَ عن أبي بَرْزَةَ أنه قال: أغلظَ رجل لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فقلت لأبي بكرٍ: أقتله؟ فانتهرني وقال: ليس هذا لأحدٍ بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وفي روايةٍ: أنه -أي: الرجل- شتمه -أي: شتم أبا بكرٍ رضي الله عنه-، والحديث حديث صحيح.
فعُلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان له أن يقتل مَن سبه ومَن أغلظ له، وأنّ له أن يأمر بقتل مَن لا يعلم الناس منه سببًا يُبيح دمه، وعلى الناس أن يطيعوه في ذلك؛ لأنه لا يأمر إلا بما أمر الله به، لا يأمر بمعصية قط، بل من أطاعه فقد أطاع الله.
وقد تضمن الحديث خَصِيصَتَيْنِ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
إحداهما: أنه يُطاع في كل مَن أمر بقتله -كما سيأتي إنْ شاء الله- وقد أمر بقتل ابن خَطَل فقُتل متعلِّقًا بأستار الكعبة، وكان له قَيْنَتَان تغنيان بهجاء رسول الله فأهدر الله رب العالمين على لسان رسوله دم هذا الكافر، فقُتل متعلِّقًا بأستار الكعبة.
وأما إحدى القَيْنَتَيْن فَكَمَنَتْ، ثم استأمنت فَأُمِّنَتْ، وأما الأخرى فقُتلت مع أن الإسلام يأمر بعدم قتل النساء، ولكنها كانت تغني بهجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأهدرَ دمها.. يُطاع في كل مَن أمر بقتله.
والثانية: أنّ له أن يقتل مَن شتمه وأغلظ له.
وهذا المعنى الثاني الذي كان له باقٍ في حقه بعد موته، فكل مَن شتمه أو أغلظ في حقه كان قتله جائزًا بل ذلك بعد موته أوكد وأوكد؛ لأن حرمته بعد موته أكمل والتساهلُ في عرضه غيرُ ممكن، وهذا الحديث يفيد أن سبه في الجملة يبيح القتل، ويُستدل بعمومه على قتل الكافر والمسلم.
لا نحتاج إلى التنبيه على أن الذي يأمر بالقتل وينفذه هو الحاكمُ المسلمُ، وأما إذا ما سارع إلى ذلك رجل فعُلم من القرائن ما كان، فالشأنُ إلى الحاكم المسلم أيضًا، ولا تُطلَق أيدي الناس في دماء الناس ولا في أبشارهم.
كذلك من الأدلة: قصةُ العصماء بنت مروان، وكانت تؤذي النبي -صلى الله عليه وسلم- بالشِّعر، وتعيب الإسلامَ، وتحرِّض على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: «مَن لي بها؟»، فقال رجل من قومها: أنا يا رسول الله، فنهض فقتلها فأخبرَ النبي -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، فقال: «لا ينتطحُ فيها عنزان».
قال عمير بن عَدِي -وهو الذي قتلها-: فالتفت النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى مَن حوله وقال: «وإذا أحببتم أن تنظروا إلى رجلٍ نصر الله ورسوله بالغيب، فانظروا إلى عمير بن عدي».
فثبت بذلك أن هجاءه وذمه موجِبٌ للقتل، وأنّ الساب يجب قتله -وإن كان من الحلفاء المعاهَدين-.
ومنها: حديثُ أنس بن زُنَيْمٍ الدِّيَلِيّ، وهو مشهور عند أهل السير، قال مِحْجَنُ بن وَهْب: كان آخر ما كان بين خزاعة وبين كنانة أن أنس بن زنيم الديلي هجا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فسمعه غلامٌ من خزاعة، فوقع به، فشجه، فخرج إلى قومه فأراهم شجته فثار الشر على ما كان بينهم وما تطلب بنو بكرٍ من خزاعة في دمائها.
قال هشام بن خالد الكعبي: وخرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبًا من خزاعة يستنصرون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويخبرونه بالذي أصابهم.
قال: فلما فرغ الركب قالوا: يا رسول الله إن أنس بن زنيم الديلي قد هجاكَ فَنَدَرَ -أي: فهدرَ- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دمه.
فَعُلِمَ بذلك أن الهجاء أغلظُ من نقض العهد بالقتال بحيث إذا نقض قومٌ العهد بالقتال وآخرون هجوا ثم أسلموا عُصم دم الذي قاتل ونقض العهد، وجاز الانتقامُ من الهاجي؛ فالهجاء ونقض العهد بالقتال كلاهما موجِب للقتل، وعُلم أن الوقوع في عرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أعظم عنده من سفك دماء المسلمين والمعاهَدين.
وتأتي -إن شاء الله، جل وعلا- بقيةُ الأدلة من السنة بعد حين، أسأل الله -رب العالمين- أن يرزقنا حقيقة الإيمان وحلاوة اليقين والمسلمين أجمعين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فمن الأدلة من السنة على أنّ مَن سب الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولو كان مسلمًا فهو كافرٌ حلال الدم: قصةُ ابن أبي سَرْح، وهي مما اتفق عليها أهلُ العلم، واستفاضت عندهم استفاضةً يستغني بها راويها عن رواية الآحاد، وذلك أثبت وأقوى بما رواه الواحد والعدل.
يعني الشيخُ -شيخُ الإسلام-: ما كان من الاستفاضة عند أهل العلم.
قال سعد بن أبي وقاص: لما كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان فجاء به حتى أوقفه على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثًا، كلُّ ذلك يأبى فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه -صلى الله عليه وسلم- فقال: «أما كان فيكم رجلٌ رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففتُ يدي عن بيعته فيقتله». فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك؟ قال: «إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنةُ الأعين». رواه أبو داود بإسناد صحيح.
وكان ابن أبي سرح قد أسلم، ثم ارتد مشركًا راجعًا إلى قريش، فقال: والله إني لأصرِّفه -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- حيث يريد، إنه لَيُمْلِي عليّ فأقول: أو كذا أو كذا، فيقول: «نعم».
كان يكتب بين يديه ما أُوحي به إليه، فادَّعى أنه يصرِّف النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يُوحى إليه، فيقول: والله إني لأصرِّفه حيث يريد، إنه ليملي علي فأقول: أو كذا أو كذا، فيقول: «نعم».
فافترى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يتمم له الوحي، ويكتب له ما يريد، فيوافقه عليه، وأنه زعم أنه سينزِل مثلَ ما أنزلَ الله، وهذا الطعنُ على رسول -صلى الله عليه وسلم- وعلى كتابه، وهذا الافتراءُ عليه بما يوجِب الريب في نبوته قدرٌ زائد على مجرد الكفر به والردة في الدين، وهو من أنواع السبِّ، وإباحةُ النبي -صلى الله عليه وسلم- دمه بعد مجيئه تائبًا مسلمًا، وقولُه: «هلّا قتلتموه»، ثم عفوه عنه بعد ذلك دليلٌ على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان له أن يقتله، وأن يعفو عنه، ويعصم دمه، وهو دليلٌ على أن له -صلى الله عليه وسلم- أن يقتل مَن سبه -وإن عاد إلى الإسلام-.
وعُلم أن السابَّ إذا عاد إلى الإسلام جَبَّ الإسلام إثم السب وبقي قتله جائزًا حتى يوجد إسقاطٌ ممن يملكه إن كان ممكنًا، وقد قبض الله رسول الله، وهو الذي يملك الإسقاط.
من الأدلة: حديث القينتين اللتين كانتا تغنيان بهجاء النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكذا مولاةٌ لبني عبدالمطلب كانت تؤذيه، وذلك مشهور مستفيض عند أهل السِّير.
قال الزهري: وأمرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يكفوا أيديهم فلا يقاتلوا أحدًا إلا مَن قاتلهم، وأمر بقتل أربعة، وأمر بقتل قينتين لابن خَطَلٍ تغنيان بهجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ثم قال الزهري: وقُتلتْ إحدى القينتين، وكمنت الأخرى حتى استؤمن لها.
وقال أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر: القينتان كانتا تغنيان بهجائه، وسارةُ مولاة أبي لهبٍ كانت تؤذيه بلسانها، وكانت سارةُ مغنيةً نَوَّاحَةً بمكة يُلقَى عليها هجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فتغني به.
ووجه الدلالة أن تعمُّد قتل المرأة لمجرد الكفر الأصلي لا يجوز بالإجماع، وقد استفاضت بذلك السنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنه قد نهى عن قتل النساء والصبيان كما في الصحيحين وغيرهما.
وهؤلاء النسوة كُنَّ معصومات بالأنوثة، ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- مع ذلك أمر بقتلهن لمجرد كونهن كن يهجينه وهن في دار حرب، فعُلم أن مَن هجاه وسبه جاز قتله بكل حال؛ لأنّ السب من أغلظ الموجبات للقتل.
ومن الأدلة: ما في الصحيحين عن أنسٍ -رضي الله عنه- أنّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- دخلَ مكةَ عام الفتح فجاءه رجل فقال: ابنُ خطل متعلِّقٌ بأستار الكعبة. قال -صلى الله عليه وسلم- مع ذلك: «اقتلوه»، فقُتل متعلقًا بأستار الكعبة.
وهذا مما استفاض نقلُه بين أهل العلم واتفقوا عليه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهدرَ دم ابنِ خَطَلٍ يوم الفتح فيمن أهدر، وأنه قُتل.
قال أبو بَرْزَةَ: أخرجتُ عبدالله بن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة فضُربت عنقه بين الركن والمقام، وكان ابنُ خطلٍ ممن يهجو رسولَ الله -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهوصاحب القينتين المذكورتين آنفًا، وقد قُتل دون استتابة مع كونه مستسلمًا قد ألقى السَّلَمَ كالأسير، فعُلم أن مَن ارتد وسبَّ يُقتل بلا استتابة كابن خطل بخلاف مَن ارتد فقط، فإنه يُستتاب.
ويؤيده أنّ النبي -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آمَّنَ عام الفتح جميعَ المحاربين وأهدرَ دمَ ابن خطل، فعُلم أنه لم يُقتل لمجرد الكفر فقط بل لأمرٍ زائد وهو السب.
وقد فرَّ كثيرٌ من الشعراء الذين كانوا يهجون رسول الله -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كابن الزِّبَعْرَى وكعب بن زهير لما بلغهم أن رسول الله -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قتل عددًا ممن كان يهجوه بعد الفتح.
من الأدلة: أنه كان يندب إلى قتل مَن يهجوه، ويقول: «مَن يكفيني عدوي؟».
هذه الأحاديث كلها تدل على أنّ مَن كان يسب النبي -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويؤذيه من الكفار، فإنه كان يقصد قتله، ويحض عليه؛ لأجل ذلك، ثم من هؤلاء مَن قُتل ومنهم مَن جاء مسلمًا تائبًا، فعُصم دمه لثلاثة أسباب:-
إحداها: أنه جاء تائبًا قبل القدرة عليه، والمسلم الذي وجب عليه حد لو جاء تائبًا قبل القدرة عليه لسقط عنه فالحربي أولى.
والثاني: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان من خُلقه أن يعفو عنه.
والثالث: أن الحربي إذا أسلم لم يُؤخذ بشيء مما عمله في الجاهلية.
فهذا الذي مر من سنة النبي -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فيما جمعه وذكره شيخُ الإسلام الهمام -رحمةُ الله عليه- في «الصارم المسلول» في تحتم قتل مَن كان يسبه من المشركين مع العفو عمن هو مثله في الكفر، كان مستقرًّا في نفوس أصحابه على عهده -وبعد عهده- يقصدون قتل الساب، ويحرِّضون عليه -وإن أمسكوا عن غيره- ويجعلون ذلك الموجِبَ لقتله.
ومن سنة الله -تعالى- أن مَن لم يمكن الله -رب العالمين- المؤمنين منه أن يعذبوه من الذين يؤذون الله ورسولَه فإن الله -سبحانه- ينتقم منه لرسوله ويكفيه إياه، كما قال الله -جلا وعلا-: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ [الحجر: 95].
كِسْرَى لما مزّق كتاب رسول الله -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، واستهزأ به قتله الله بعد قليلٍ، ومزَّق ملكه كلَّ ممزَّق، وهذا واللهُ أعلمُ تحقيقُ قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ [الكوثر: 3].
فكل مَن شنأه وأبغضه وعاداه فإن الله -تعالى- يقطع دابره ويمحق عينه وأثرَه، وإذا كان الإنسان -لو كان مسلمًا- أتيًا بشرائع الإسلام لا يتخلف عن شيء من شرائعه وكَرِهَ شيئًا مما أنزل الله على رسولِه، وكره شيئًا مما جاء به رسول الله -وإنْ عمل به- فإنه يكون كافرًا مرتدًا مع أنه يأتي به ولا يتركه ولكنه يكرهه ويكره ما أنزل الله على رسوله، فكيف بمَن يكره رسول الله -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؟!! وإن لم يصرِّح بذلك البغض وإن التزم الشرائع ظاهرًا فإنه لا يكون مسلمًا في حقيقة الأمر.
من الكلامِ السائر «لحومُ العلماء مسمومة»، فكيف بلحوم الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-؟!!
وأما إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- فلأن ذلك نُقل عنهم في قضايا متعددة ينتشر مثلُها ويستفيض، ولم ينكرها أحدٌ منهم، فصارت إجماعًا.
واعلم أنه لا يمكن ادعاء إجماع الصحابة على مسألة فرعيةٍ بأبلغَ من هذا الطريق، واعلم أن استحلالَ السبِّ ليس شرطًا في القتل؛ لأنّ سب الله أو سب رسولَه كفرٌ ظاهرًا وباطنًا سواءٌ كان الساب يعتقد أن ذلك محرَّمٌ أو كان مستحلاً له أو كان ذاهلاً عن اعتقاده. هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين: بأن الإيمان قولٌ وعمل.
مَن سب الرسول كفر، ولا يُشترط استحلالُ القلب لهذا الاستهزاء، مَن قال بذلك تورطَ في الإرجاء!!!
مَن استهزأ بالنبي كفر، مَن استهزأ بالله كفر، مَن استهزأ بالقرآن كفر، مَن سب الدين كفر، مَن أهان المصحف كفر، ولا يُقال: أمُستحِلٌّ هو أو غير مُستحِل؟!! هذا كفرٌ ظاهرًا وباطنًا، وهذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة والجماعة من علماء الإسلام القائلين: بأن الإيمان قولٌ وعملٌ ممن خالفوا المرجئة والإرجاء.
ولا يُقال: أمستحلٌّ هو أو غير مستحل؟!! هذا أمرٌ باطلٌ، وهذا العمل الظاهر دلالة على خلو الباطن من كل إيمان وإسلام، وعلى هذا مَن يُعتد به ويُعتبر من علماء الإسلام ومشايخه ومن شيوخ السنة سلفًا وخلفًا.
قال إسحاق بن رَاهُويَة: «أجمع المسلمون على أن مَن سَبَّ الله، أو سَبَّ رسولَه -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أو دفع شيئًا مما أنزل الله، أو قتل نبيًا من أنبياء الله، أجمعوا على أنه كافرٌ بذلك، وإنْ كان مقرًّا بكل ما أنزل الله».
وقال الإمامُ أحمد: «مَن شتم النبي -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُتل؛ وذلك أنه إذا شتمه فقد ارتد عن الإسلام، ولا يشتم مسلمٌ النبي -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-».
فبيّن أن هذا مرتد، وأن المسلم لا يُتصور أن يشتم النبي وهو مسلم!! هذا لا يُتصور.
وسُئل الشافعيُّ عمن هزل بشيء من آيات الله -تعالى-، قال: «هو كافر»، واستدل -رحمه الله- بقوله -تعالى-:﴿قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ [التوبة: 65-66].
قال عياض -رحمه الله-: «جميع مَن سب النبي -صلى الله عليه وسلم- أو عابه أو ألحق به نقصًا في نفسه أو نسبه أو دينه أو خصلة من خصاله أو عرَّضَ به أو شبهه بشيء على طريق السب له والإزراءِ عليه أو الغض منه والعيب له، فهو ساب له، والحكمُ فيه حكم الساب: يُقتل ولا نستثني فصلاً من فصول هذا الباب عن هذا المقصد، ولا نمتري فيه تصريحًا كان أو تَلْوِيحًا.
وكذلك مَن لعنه أو تمنى مضرة له أو دعا عليه أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم أو عيّبه في جهته العزيزة بِسُخْفٍ من الكلام وهُجْرٍ ومُنْكَرٍ من القول وزور أو عيّره بشيء مما يجري من البلاء والمحنة عليه أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه. قال: هذا كله إجماعٌ من العلماء وأئمة الفتوى من لدن أصحابه -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهَلُمَّ جَرَّا». يعني: إلى عصره، إلى عصر عياضٍ -رحمه الله-.
وإذا تبين أنّ مذهب الأمة بسلفها وأئمتها ومَن اتبعهم بإحسانٍ ممن خلفهم أن السب في نفسه كفرٌ، استحلها صاحبها أو لم يستحلها، فالدليل على ذلك جميعُ ما مر من الأدلة على كفر الساب؛ كقوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ﴾ [التوبة: 61]، وقوله تعالى: ﴿لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [التوبة: 66]، إلى غيرها من الآيات، وما ورد من الأحاديث والآثار؛ فإنها أدلة بينة على أن نفس أذى الله ورسوله كفر، مع قطع النظر عن اعتقاد التحريم أو عدمه، عن الاستحلال أو عدمه، مجردُ الاستهزاء كفرٌ.
وأما مسألةُ استتابة الساب، فقد قال القاضي عياض في «الشفا»، ارجع إليه حتى يشفي الله -رب العالمين- وَحَرَ صدرك.
مسألةُ الساب لا يُتَصَوَّرُ فيها الخلافُ؛ لأنه حق يتعلق بالنبي -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبأمته بسببه، لا تُسْقِطُه التوبة كسائر حقوق الآدمين، وكذلك بقول الجمهور: إنه يُقتل حدًا. يعني: إنْ تاب. والتوبةُ لا تُسقط الحد بحال، والصحيح أنه يُقتل بكل حال كما هو ظاهر كلام مالكٍ وأحمد.
قال مالك: «مَن سَبَّ رسول الله -صَلَّى اللـهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو شتمه أو عابه أو تنقَّصه، قُتِل مسلمًا كان أو كافرًا ولا يُستتاب».
وقال أحمد في رواية حنبل: «كل مَن شتم النبي -صلى الله عليه وسلم- وتنقَّصه مسلمًا كان أو كافرًا فعليه القتل، وأرى أن يُقتل ولا يُستتاب».
لأن قتله وَجَبَ على جُرْمٍ مُحرَّمٍ في دين الله، فلم يَسقط عنه موجِبه بالإسلام إذا كان غيرَ مسلم كعقوبته على الزنا والسرقة والشرب، وهذا القول هو الذي يدل عليه أكثر الأدلة.
ليس السابُّ كالمرتد، بل السب جناية زائدة على الكفر، على وجه يقطع العاقل أن سب الرسول -صلى الله عليه وسلم- جنايةٌ لها موقع يزيد على عامة الجنايات بحيث يستحق صاحبها مع العقوبة ما لا يستحق غيرُه.
ومَن تأمل في إهدار النبي -صلى الله عليه وسلم- دمَ الهجّائين السابين لجنابه الرفيع بعد الفتح على النحو الذي مرَّ وصفُه وتم ذكره يعلم حقيقة الأمرِ.
فالحقُّ أني أقصد بهذا كلِّه مما مرَّ من كلام شيخنا العظيم شيخ الإسلام -رحمه الله رحمةً واسعةً- مع سوق الأدلة كتابًا وسنةً وإجماعًا وذِكر أقوال العلماء، ما قصدته هو بيان خطورة المسألة بالنسبة للمسلمين، فإن أكثر ما تسمع في ديار المسلمين وهو واقعٌ ممن ينتسبُ إلى الإسلام تنقصًا وشتمًا لرسول الله، بل شتمًا وتنقصًا لله، وإزدراءً بكتاب الله، واحتقارًا لشعائر الإسلام الظاهرة، والعلماءُ قد قرروا أن مَن سب الدين كفر، ومَن استهزأ بشيء من شعائره الظاهرة كفر كاللحية أو غير ذلك من السنن المستقرِّة، مَن استهزأ بشيء منها كفر.
فقصدتُ المسلمين -لا أردتُ الكافرين-، فالكفار الذين فعلوا ما فعلوا، وصنعوا ما صنعوا إنْ لم يمكِّن الله -تبارك وتعالى- المسلمين منهم فلستُ في شك من أن الله -تبارك وتعالى- يتولى عقابهم، يتولى إخزاءهم.
وإذا لم يتمكن منهم المسلمون سترون -إن شاء الله رب العالمين-، وتصديقُ ذلك ما رواه الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه، وكذا مسلم عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ، وَقَرَأَ البَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ -[وقرأ: في لسانهم حَفِظَ، في لسان المتأخرين، أي: حَمَلَ]- وَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَادَ نَصْرَانِيًّا، فَكَانَ يَقُولُ: مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلَّا مَا كَتَبْتُ لَهُ فَأَمَاتَهُ اللهُ فَدَفَنُوهُ -[لأنه لَحِقَ بالنصارى، فَدَفَنُوهُ؛ إذ مات بينهم]- فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ فَأَلْقَوْهُ خَارِجَ الْقَبْرِ، فَحَفَرُوا لَهُ وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الأَرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا، فَأَصْبَحَ قَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَعَلِمُوا: أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ فِعْلِ النَّاسِ، فَأَلْقَوْهُ». في لفظٍ آخر عند مسلم -رحمه الله-: «فَتَرَكُوهُ مَنْبُوذًا».
قال شيخُ الإسلام: «فهذا الملعون الذي افترى على النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ما كان يدري إلا ما كتب له، قصمه الله وفضحه بأن أخرجه من القبر بعد أن دُفِنَ مرارًا، وهذا أمر خارج عن العادة، يدل كل أحد على أن هذا عقوبة لما قاله، وأنه كان كاذبًا؛ إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل ذلك، وأن هذا الجُرْمَ أعظمُ من مجرد الارتداد؛ إذ كان عامة المرتدين يموتون ولا يصيبهم مثل هذا، وأن الله منتقم لرسوله -صلى الله عليه وسلم- ممن طعن عليه وسبه، ومُظْهِرٌ لدينه ولكذب الكاذب إذا لم يُمْكِن الناس أن يقيموا عليه الحد».
وروى شيخ الإسلام -رحمه الله- من تجارب المسلمين في عصره فيمن سب الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال: «ونظيرُ هذا ما حدثناه أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة عما جربوه مرات متعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حُصِرَ فيها بنو الأصفر في زماننا، قالوا: كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس منه حتى إذا تعرَّض أهلُ الحصن لسب رسول الله والوقيعة في عرضه تَعَجَّلْنَا فتحَهُ وتيسر، ولم يكد يتأخر إلا يومًا أو يومين أو نحو ذلك، ثم يُفتح المكان عُنْوَة، ويكون فيهم مَلْحَمَةٌ عظيمة. قالوا: حتى إنا كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظًا عليهم بما قالوه فيه».
وذكر عياضٌ -رحمه الله- في «الشِّفَا»: أنّ فُقَهَاء القيرَوَان وَأَصْحَابَ ابن سُحْنُون أفتوا بِقَتْل إبْرَاهِيمَ الفَزَارِيّ وَكَان شاعِرًا مُتَفَنَّنًا فِي كثير مِن العُلُوم وَكَان يستهزأُ بالله وَأنْبِيَائِه وَنِبَيَّنَا محمدٍ صَلَّى الله عَلَيْه وَآلِهِ وَسَلَّم فأمرَ الْقَاضِي يَحْيَى بن عُمَر بِقَتْلِه وَصَلْبِه فَطُعِن بالسَّكّين وَصُلِب مُنَكّسًا ثُمّ أُنْزِل وَأُحْرِقَ بالنَّار.
وَحَكَى بَعْضُ المؤرخين أنَّه لَمّا رُفعت خشبته وزالت عَنْهَا الأيدي استدارت وحوَّلته عَن القبلة؛ إذ إنهم لما صلبوه جعلوه إلى القبلة، فاستدارت خشبته وتحولت عن القبلة، فكان آيةً للجميع، وكبَّر النَّاس، وجاء كلبٌ فولغَ فِي دمه.
فعادةُ الله -تعالى- في عقاب وإذلال مَن استهزأ بنبيه وخليله وكليمه محمدٍ معلومةٌ لا تتخلف، فإن لم يُتَمَكَّن من أولئك الكفرة الفجرة، فإن الله -تبارك وتعالى- يتولى عقابهم، ولكنَّ الشأنَ كلَّ الشأنِ في المسلمين فَبُوثُّوا العلمَ بينهم -طلابَ العلم-، ولا تتوانوا فإن نواقض الإسلام يتهافت فيها كثيرٌ من الناس كما يتهافت الفراشُ على النار، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.



وفرَّغه/
أبو عبدالرحمن حمدي آل زيد
11 من ذي القعدة 1433 هـ، الموافق 27/9/2012 م

فإنْ تجد عيبًا فسُد الخللاَ = جلّ مَن لا عيبَ فيه وعلاَ.