ذكر الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " 8 / 192
أن قوله :
" إِنْ شَاءَ مُجبية وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مُجبية غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ "
قال : " وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَفْسِيرِ الزُّهْرِيِّ لِخُلُوِّهَا مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَاب بن الْمُنْكَدِرِ مَعَ كَثْرَتِهِمْ " .
قلت : الحديث في " صحيح مسلم " 1435 :
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي بَكْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، سَمِعَ جَابِرًا، يَقُولُ: " كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: إِذَا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا، كَانَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فَنَزَلَتْ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] "
وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْح، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، " أَنَّ يَهُودَ كَانَتْ تَقُولُ: إِذَا أُتِيَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ دُبُرِهَا، فِي قُبُلِهَا، ثُمَّ حَمَلَتْ، كَانَ وَلَدُهَا أَحْوَلَ "، قَالَ: " فَأُنْزِلَتْ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] "،
وَحَدَّثَنَاهُ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، ح وحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ أَيُّوبَ، ح وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، ح وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، ح وحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَأَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ رَاشِدٍ، يُحَدِّثُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، ح وحَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ مَعْبَدٍ، حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ وَهُوَ ابْنُ الْمُخْتَارِ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِح، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ، بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: إِنْ شَاءَ مُجَبِّيَةً، وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مُجَبِّيَةٍ، غَيْرَ أَنَّ ذَلك فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ
وقد زعم محقق " سنن سعيد بن منصور " د . سعد بن عبد الله بن عبد العزيز آل حميد أن الحافظ ابن حجر وهم في زعمه تفرد الزهري بهذه الزيادة، فاستدرك عليه أن الزهري قد تابعه : أبو عوانة ؛ وابن جريج على هذه الزيادة ؛ وأنه لم ينفرد بها الزهري ! .
قلت : سنعرف قيمة هاتين المتابعتين فيما يلي من سطور ؛ لكن يجب أن نعلم أن الذين خالفوا الزهري فلم يذكروا لفظ :
" إِنْ شَاءَ مُجَبِّيَةً، وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مُجَبِّيَةٍ، غَيْرَ أَنَّ ذَلك فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ " التي انفرد هو بها من دونهم هم :
1- سفيان الثوري 2- جرير بن أبي حازم 3- شعبة
4- أيوب السختياني 5- أبو حازم 6- سهيل بن أبي صالح .
( وسيأتي مزيد من الثقات الأثبات ممن لم يذكر هذه الزيادة عن ابن المنكدر أصلاً ) .
فقد اتفق هؤلاء الثقات ( ومنهم أئمة ) على عدم ذكر تلك الزيادة ؛ وخالفهم الزهري فزادها مفسراً بها الحديث ؛ وهي طريقة معروفة من الزهري ذكرها ابن حجر في العديد من الأحاديث التي تكون فيها زيادات مدرجة في الحديث من قول الزهري ؛ فانظر :
" الفتح " 3 / 453 , 4 / 181 , 184 , 442 , 5 / 45 , 310 , 351 , 6 / 354 , 557 , 8 / 4 , 9 / 597 , 10 / 265 , 12 / 139 قال في الموضع الأخير : " وَالْعَسِيفُ الْأَجِيرُ وَهَذَا التَّفْسِيرُ مُدْرَجٌ فِي الْخَبَرِ وَكَأَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ لِمَا عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ كَانَ يُدْخِلُ كَثِيرًا مِنَ التَّفْسِيرِ فِي أَثْنَاءِ الْحَدِيثِ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِي فِي الْمُدْرَجِ " .
على أن الزهري بريء من عهدة هذه الزيادة على الصحيح المتيقن ؛ فإن الراوي عنه وهو النعمان بن راشد سيء الحفظ ؛ بل ضعيف جداً عند ابن المديني ؛ فالجناية معصوبة برأسه على التحقيق !
ولننظر الآن إلى قول محقق " سنن سعيد بن منصور " بأن الزهري ما انفرد بتلك ؛ بل وافقه على معناها كل من : أبي عوانة وابن جريج .
فأقول :
أما متابعة أبي عوانة فهي في " سنن سعيد بن منصور " 3 / 340 :
حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، قَالَ: نا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِر، عَنْ جَابِرٍ قَالَ:
" قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّمَا يَكُونُ الْوَلَدُ أَحْوَلَ إِذَا أتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ خَلْفِهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ) مِنْ بَيْنِ يَدَيْهَا، وَمِنْ خَلْفِهَا، وَلَا يَأْتِيهَا إِلَّا فِي المَأتَى " .
وقد رواه كذلك من هذا الوجه : ابن حبان في " صحيحه "
9 / 512 , والبيهقي في " السنن الكبرى " 7 / 315 , وفي " السنن الصغير " 3 / 54 , وفي " معرفة السنن والآثار " 10 / 161 , وابن عساكر في " معجمه " 2 / 1039 , وقاضي المارستان في " مشيخته " 2 / 702 , ومسعود الأصبهاني في " عروس الأجزاء " ( 58 ) ,
والمخلص في " المخلصيات " 2 / 94 .
قلت : أبو عوانة هو الوضاح بن عبد الله اليشكري الواسطي البزاز ؛ ومع كونه ثقة فقد قال أبو حاتم عنه :
" إذا حدث من حفظه غلط كثيراً " !
ومن يغلط كثيراً ( أو فاحش الخطأ ) ؛ فهو في عداد المتروكين كما بين الحفاظ ؛ فلا تصلح متابعته أصلاً ؛
فقد يكون حدث بهذا من حفظه !
وكأنه لذلك لم يعتد بها الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى مما يدل على عميق فهمه الذي استدرك عليه محقق " سعيد بن منصور " دون تمحيص في كلام أئمة العلل !.
وإنه لمما يؤكد غلط أبي عوانة أن الحديث جاء في " صحيح مسلم " برقم 1435 فقال :
وَحَدَّثَنَاهُ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، ح وحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ أَيُّوبَ، ح وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، ح وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، ح وحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَأَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ رَاشِدٍ، يُحَدِّثُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، ح وحَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ مَعْبَدٍ، حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ وَهُوَ ابْنُ الْمُخْتَارِ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِح، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ، بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ :
" إِنْ شَاءَ مُجَبِّيَةً، وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مُجَبِّيَةٍ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ " .
فقد رواه أبو عوانة هنا عن ابن المنكدر به فلم يذكر الزيادة التي زادها هو نفسه في " السنن " لسعيد بن منصور وهي قوله :
" وَلَا يَأْتِيهَا إِلَّا فِي المَأتَى " مما يؤكد أنه غلط في الزيادة واضطرب فيها فغير اللفظ ؛ فهي في " صحيح مسلم " بلفظ : " " إِنْ شَاءَ مُجَبِّيَةً، وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مُجَبِّيَةٍ ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ " ! وفي " سنن سعيد " :
" وَلَا يَأْتِيهَا إِلَّا فِي المَأتَى " .
وقد رواه كذلك من طريق النعمان بن راشد به :
الطحاوي في " شرح معاني الآثار " 3 / 41 , والبيهقي في " الكبرى " 7 / 195 , والطبراني في " الأوسط " 8 / 83 , وابن حبان 9 / 474 .
وهذه الزيادة التي في " صحيح مسلم " وهي قوله :
" وَزَادَ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: إِنْ شَاءَ مُجَبِّيَةً، وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مُجَبِّيَةٍ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ " إنما زادها : النعمان بن راشد ؛ وهو ممن ضعفه جداً ابن المديني ؛ وقال ابن حجر : صدوق سيء الحفظ ؛ فزيادته منكرة !
فلم يتابعه أحد عليها .
ولا يهولن أحد علينا بأن الزيادة أصلها في " صحيح مسلم " فإن الثقات الذين رووا الحديث قد ذكرهم مسلم
( وقد تقدموا بأسمائهم ) ؛ فلم يذكروا تلك الزيادة المنكرة ؛ بل انفرد النعمان بن راشد بها من دون أصحاب الزهري ؛ فرواها عنه مخالفاً لهم في ذلك ؛ والنعمان بن راشد الجزري هو أبوأسحاق الرقي وقد ضعفه النقاد مثل القطان والبخاري وابن المديني وأحمد بن حنبل وابن معين والنسائي .
ويكفيه ضعفاً ووهاء أنه هو الذي روى حديثاً باطلاً مكذوباً ( ليس فيه من تعصب الجناية برأسه سواه ) ذكر فيه أنه عليه الصلاة والسلام هم بالانتحار من روؤس الجبال !!
قال الطبري في " تفسيره " ج24 / ص 520 , وفي " التاريخ " 2 / 298 :
حدثني أحمد بن عثمان البصري، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا أبي ,قال: سمعت النعمان بن راشد يقول عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة أنها قالت :
" كان أوّل ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي .... الحديث وفيه :
" ثُمَّ دَخَلْتُ عَلى خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، حتى ذَهَبَ عنِّي الرَّوْعُ، ثُمَّ أتانِي فَقالَ: يا مُحَمَّدُ، أنا جِبْرِيُل وأنْتَ رَسُولُ اللهِ، قال: فَلَقَدْ هَمَمْت أنْ أطْرَحَ نَفسِي مِنْ حالِقٍ مِنْ جَبَلٍ ، فَتَمَثَّل إليَّ حِينَ هَمَمْتُ بذلكَ، فَقالَ: يا مُحَمَّدُ، أنا جِبْرِيلُ، وأنْتَ رَسُولُ اللهِ، ثُمَّ قالَ: اقْرأ، قُلْتُ: ما أقْرأ؟ قال: فأخَذَنِي فَغطَّنِي ثَلاثَ مَرَّاتٍ، حتى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ قالَ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) فَقَرأتُ ... " !!
وهذا مع بطلان ما فيه من الهم بالانتحار منه عليه الصلاة والسلام ؛ ففيه النكارة الشديدة في أنه قال له : اقرأ في ذلك الوقت ؛ مخالفاً بذلك ما جاء في
" الصحيحين " البخاري برقم ( 3 , 4953 , 6982 ) , ومسلم برقم ( 252 ) من أن ذلك كان في غار حراء كما في لفظ : " حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ " !!
أما الهم بالانتحار الذي ذكره الزهري بلاغاً ( دون سند أصلاً فهو بلا زمام ولا خطام ) فقد روي في " صحيح البخاري " برقم
( 6982 ) - والبخاري بريء من تلك الزيادة الباطلة فهي ليست على شرطه أولاً ؛ وهي مكذوبة ثانياً – بلفظ
: " وفتر الْوَحْي فَتْرَة حَتَّى حزن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِيمَا بلغنَا - حزنا غَدا مِنْهُ مرَارًا حَتَّى يتردى من رُؤُوس شَوَاهِق الْجبَال، فَكلما أوفى بِذرْوَةِ جبل لكَي يلقِي نَفسه مِنْهُ تبدى لَهُ جِبْرِيل فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، إِنَّك رَسُول الله حَقًا، فيسكن لذَلِك جأشه، وتقر نَفسه، فَإِذا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَة الْوَحْي غَدا لمثل ذَلِك، فَإِذا أوفى بِذرْوَةِ جبلٍ تبدى لَهُ جِبْرِيل فَقَالَ لَهُ مثل ذَلِك " .
وقد بينت بحمد الله تعالى في مقالة منفردة بطلان وكذب هذه الرواية التي لا خطام ولا زمام لها ؛ فإذا كانت مراسيل الزهري من أوهى المراسيل عند الحفاظ ؛ فكيف ببلاغاته !؟
وقد استغلها أعداء الإسلام للنيل من رسول الله عليه الصلاة والسلام ؛ وهو – بأبي وأمي – بريء منها أكثر من براءة الذئب من دم ابن يعقوب !
ولعل أصل هذا البلاغ هو ما رواه الطبري كما تقدم ؛ فتكون الجناية من عمل النعمان بن راشد أخطأ فيها لسوء حفظه الشديد فقد تقدم بيان أنه ضعيف جداً عند ابن المديني .
وقد ذكر شيخنا الألباني هذا الحديث الباطل ( الهم بالانتحار ) في " السلسلة الضعيفة " برقم 4858 من رواية الواقدي الكذاب وغيره مع تحقيق في غاية النفاسة تراه هناك مفصلاً ؛ فارجع إليه غير مأمور .
ونعود الآن لذكر بقية الثقات الذين وافقوا الثقات السابقين الذين
ذكرهم مسلم ممن روى حديث ابن المنكدر عن جابر دون الزيادة في آخره ؛ والتي بين الحافظ ابن حجر والحافظ الزيلعي
وغيرهما أنها من قول الزهري ؛ وبينت أنا بحمد الله تعالى أن الزهري بريء من عهدتها ؛ وأن الراوي عن الزهري وهو : النعمان بن راشد هو من يستحق أن تعصب جناية هذه الزيادة المنكرة برأسه !
فمن هؤلاء الثقات : معمر عند عبد الرزاق في" التفسير " برقم 264 :
نا مَعْمَرٌ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ , عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , قَالَ: كَانَتِ الْعَرَبُ تُبَرِّكُ نِسَاءَهَا , وَكَانَتِ الْيَهُودُ تُعَيِّرُهُمْ يَقُولُونَ: إِذَا وُلِدَ لِأَحَدِهِمْ وَلَدٌ كَانَ أَحْوَلَ , فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]
ومنهم : الإمام مالك : عند الدارمي في "سننه" (1 / 206 رقم 1127) ، و (2 / 69 رقم 2220) فقال :
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، " أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ وَهِيَ مُدْبِرَةٌ، جَاءَ وَلَدُهُ أَحْوَلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] " .
ومنهم : أَحْمَدُ بْنُ خَازِمٍ الْمَعَافِرِيُّ ذكر الخطيب في " تلخيص المتشابه " 1 / 211 وأنه روى عن محمد بن المنكدر وغيره ؛ فإن المزي وابن حجر لم يذكروه في تلاميذ ابن المنكدر .
فقد روى الثعلبي في " التفسير " (2 / 97 / ب) - وهو محذوف الأسانيد في المطبوع منه – من طريق أحمد بن خازم، عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال :
" كان اليهود يقولون : من جامع امرأته وهي مجبّية من دبرها في قبلها كان ولدها أحول ، فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال : كذبت اليهود فأنزل الله تعالى " نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ " .
وقد رواه خُصَيْف، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جابر، عن رسول االله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قول الله تبارك وتعالى: " وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ" ، فقال: إن اليهود قالوا: من أتى امرأته في دبرها كان ولده أحول، وكن نساء الأنصار لا يدعن أزواجهن يأتونهن من أدبارهن، فجاؤوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عليه وسلم - فسألوه عن إتيان الرجل امرأته وهي حائض، فأنزل الله تبارك وتعالى: " وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ" الأطهار : الاغتسال .
" فَإِذَا تَطَهَّرْنَ ؛ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ * نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ " :
" إنما الحرث من حيث الولد" .
أخرجه البزار في "مسنده" كما في "كشف الأستار" (3 / 41 - 42 رقم 2192) ، ثم قال البزار: " لا نعلمه عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم - إلا بهذا الإسناد " .
قلت : وهذه الزيادة : " إنما الحرث من حيث الولد " منكرة تفرد بها خصيب من دون الثقات الذين رووا عن ابن المنكدر ؛ وهو سيء الحفظ خلط بأخرة كما قال ابن حجر .
وقال ابن حبان فيه : " تركه جماعة من أئمتنا ، و احتج به آخرون ، و كان شيخاً صالحاً فقيهاً عابداً إلا أنه كان يخطيء كثيراً فيما يروى ، و ينفرد عن المشاهير بما لا يتابع عليه ، و هو صدوق فى روايته إلا أن الإنصاف فيه قبول ما وافق الثقات فى الروايات وترك ما لم يتابع عليه " .
ومن أقوال أحمد فيه : " شديد الاضطراب في السند " .
ومع كل ما ذكرنا عن خصيف ؛ فالظاهر أنه عهدته برئت من هذه الزيادة المنكرة ؛ فإن في الطريق إلى خصيف في سند البزار : مجهول عين هو : عبيد الله بن يزيد بن إبراهيم الحراني وليس فيه توثيق لأحد ؛ ولهذا قال ابن حجر : مجهول .
ومن المعلوم أن حديث مجهول العين شديد الضعف ؛ لا يصلح في الشواهد ولا في المتابعات .
وابنه محمد ( شيخ البزار ) فيه لين كما قال ابن حجر .
أما الراوي الثاني الذي زعم محقق " سنن سعيد بن منصور " أنه وافق الزهري على الزيادة التي زادها فهو ابن جريج عند الطحاوي في " شرح معاني الآثار " 3 / 41 فقال :
حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ : ثنا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ , أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ حَدَّثَهُ , عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ , أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ وَهِيَ مُدَبَّرَةٌ , جَاءَ وَلَدُهَا أَحْوَلَ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مُقْبِلَةٌ وَمُدْبِرَةٌ , مَا كَانَ فِي الْفَرْجِ ".
فابن جريج قد قال عثمان بن سعيد الدارمى ، عن يحيى بن معين : ليس بشىء فى الزهرى .
وهذا يعني أنه ضعيف جداً في الزهري ؛ فلا تصلح متابعته أصلاً .
بل قال أبو زرعة : " أخبرني بعض أصحابنا، عن قريش بن أنس، عن ابن جريج، قَالَ: ما سَمِعْتُ من الزهري شيئاً، إنما أعطاني الزهري جزءاً فكتبته وأجازه " .
وهذا يعني أن السند منقطع بين ابن جريج والزهري !
وَقَالَ يحيى بن سعيد القطان : " كَانَ ابن جريج لا يصحح أنه سَمِعَ من الزهري شَيْئاً . قَالَ - يعني الفلاس - فجهدت بِهِ في حَدِيْث : " إن ناساً من اليهود غزوا مع رَسُوْل الله صلى الله عليه وسلم فأسهم لَهُم " ؟ فَلَمْ يصحح أنه سَمِعَ من الزهري " .
ونقل ابن محرز عن ابن معين أنه قَالَ :
" كَانَ يحيى بن سعيد لا يوثقه في الزهري " .
والخلاصة أن ابن جريج ضعيف في الزهري مطلقاً كما قال كثير من الحفاظ .
فهذا السند وإن صرح فيه ابن جريج بالسماع ؛ فلا يفيد ذلك شيئاً ؛ فالحفاظ لا يصححون سماعه منه ؛ وابن جريج يدلس عن المجروحين كما وصفه الدارقطني بأنه : " وحش التدليس ؛ لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح " .
ففي " سؤالات الحاكم للدارقطني " برقم 265 :
" سُئِلَ عَن تَدْلِيس ابن جريح فَقَالَ يتَجَنَّب تدليسه ؛ فَإِنَّهُ وَحش التَّدْلِيس لَا يُدَلس إِلَّا فِيمَا سَمعه من مَجْرُوح مثل إِبْرَاهِيم بن أبي يحيى ومُوسَى بن عُبَيْدَة وَغَيرهمَا " !
فهذا السند ضعيف جداً لا قيمة له ؛ والزيادة التي فيه منكرة جداً .
وقد رويت الزيادة عن أم سلمة رضي الله عنها :
قال أحمد في " المسند " 6 / 305 :
حدثنا عفان ثنا وهيب ثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن عبد الرحمن بن سابط قال: دَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ ابْنَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقُلْتُ: إِنِّي سَائِلُكِ عَنْ أَمْرٍ، وَأَنَا أَسْتَحْيِي أَنْ أَسْأَلَكِ عَنْهُ، فَقَالَتْ: لا تَسْتَحْيِي يَا ابْنَ أَخِي، قَالَ: عَنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ، قَالَتْ: حَدَّثَتْنِي أُمُّ سَلَمَةَ أَنَّ الأَنْصَارَ كَانُوا لا يُجِبُّونَ النِّسَاءَ، وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: إِنَّهُ مَنْ جَبَّى امْرَأَتَهُ كَانَ وَلَدُهُ أَحْوَلَ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ نَكَحُوا فِي نِسَاءِ الأَنْصَارِ، فَجَبُّوهُنَّ، فَأَبَتِ امْرَأَةٌ أَنْ تُطِيعَ زَوْجَهَا، فَقَالَتْ لِزَوْجِهَا: لَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَتْ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهَا، فَقَالَتِ: اجْلِسِي حَتَّى يَأْتِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَحَتِ الأَنْصَارِيَّةُ أَنْ تَسْأَلَهُ، فَخَرَجَتْ، فَحَدَّثَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ ادْعِي الأَنْصَارِيَّةَ، فَدُعِيَتْ فَتَلا عَلَيْهَا هَذِهِ الآيَةَ " نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ " ، قال :
" صِمَامًا وَاحِدًا " .
وفى رواية للبيهقى في " الكبرى " 7 / 316 زيادة :
" يأتيها مقبلةً ومدبرةً في سرٍّ واحدٍ ، يعني في ثقبٍ واحدٍ " .
قلت : سند ضعيف ؛ والزيادة منكرة ؛ فقد قال علي بن المديني عن عبد الله بن عثمان بن خثيم : " منكر الحديث ".
وقال ابن معين : " أحاديثه ليست بالقوية " .
وقال النسائي : " ليس بالقوي " .
ووثقه العجلي وابن سعد وابن حبان وقال : يخطيء .
وهذا التوثيق لا قيمة له ؛ فإن هؤلاء من المعروفين بالتساهل في التوثيق ؛ بل إن أشدهم تساهلاً قال : " يخطيء " !!
وحفصة بنت عبد الرحمن وثقها العجلي وابن حبان وروى عنها ثلاثة من الثقات ؛ فلا بأس بها .
ومن سوء حفظ ابن خثيم هذا أنه رواه مرسلاً كما في
" مسند أبي حنيفة " ص 178 فقال :
حدثنا الحسين بن أحمد بن أبي المخارق: حدثنا محمد بن الحسن بن سماعة: (ح) وحدثنا محمد بن الحسن بن أبي الحسين الكوفي من كتاب جده محمد بن الحسين بن أبي الحسين، قالا: حدثنا أبونعيم : حدثنا أبوحنيفة عن ابن خثيم، عن يوسف بن ماهك، عن حفصة قالتْ: أَتت امرأةٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالتْ: إنَّ زوجَها يأتِيها وهي مُجَبَّيَة فقالَ: «لا بأسَ إذا كانَ في صَمامٍ واحدٍ " .
وهذه رواية منكرة فمع ما فيها من ضعف ابن خثيم ؛ وهو قد رواه مرسلاً هنا ؛ فحفصة هي بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق تابعية .
وأبو حنيفة ضعيف في الحديث .
وله لفظ آخر عند أحمد قال :
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ غَيْلانَ، حَدَّثَنَا رِشْدِينُ، حَدَّثَنِي حَسَنُ بْنُ ثَوْبَانَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ يَحْيَى الْمَعَافِرِيِّ، حَدَّثَنِي حَنَشٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223] فِي أُنَاسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلُوهُ فَقَالَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
" ائْتِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ إِذَا كَانَ فِي الْفَرْجِ "
قلت : منكر رشدين هو ابن سعد قال أبو حاتم :
" منكر الحديث ، و فيه غفلة ، و يحدث بالمناكير عن الثقات ، ضعيف الحديث ، ما أقربه من داود بن المحبر ، و ابن لهيعة أستر ، و رشدين أضعف " .
وقال ابن معين : لا يكتب حديثه .
و قال النسائى : متروك الحديث .
و قال فى موضع آخر : ضعيف الحديث ، لا يكتب حديثه .
وهذا يعني عدم جواز الاستشهاد بحديث من هذه حاله من الضعف الشديد .
والخلاصة : لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال :
" مُقْبِلَةٌ وَمُدْبِرَةٌ , مَا كَانَ فِي الْفَرْجِ ".
ولا زيادة : " مِنْ بَيْنِ يَدَيْهَا، وَمِنْ خَلْفِهَا، وَلَا يَأْتِيهَا إِلَّا فِي المَأتَى " .
ولا : " إِنْ شَاءَ مُجَبِّيَةً، وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مُجَبِّيَةٍ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ " .
ولا : " " صِمَامًا وَاحِدًا " .
ولا : " «لا بأسَ إذا كانَ في صَمامٍ واحدٍ " .
ولا : " يأتيها مقبلةً ومدبرةً في سرٍّ واحدٍ ، يعني في ثقبٍ واحدٍ "
ولا : " ائْتِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ إِذَا كَانَ فِي الْفَرْجِ ".
ولا : " إنما الحرث من حيث الولد" .
ولهذا قال الشوكاني في " نيل الأوطار " 6 / 243 عن كلام الحافظ ابن حجر الذي ذكرناه في بداية المقال :
" كَذَا قِيلَ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَلَوْ كَانَتْ مَرْفُوعَةً لَمَا صَحَّ قَوْلُ الْبَزَّارِ فِي الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ: لَا أَعْلَمُ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثًا صَحِيحًا لَا فِي الْحَصْرِ وَلَا فِي الْإِطْلَاقِ، وَكَذَا رَوَى نَحْوَ ذَلِكَ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيِّ، وَمِثْلَهُ عَنْ النَّسَائِيّ،
وَقَالَهُ قَبْلَهُمَا الْبُخَارِيُّ " .
فائدة : وافق الحافظ ابن حجر على القول بأن هذه الزيادة إنما هي من قول الزهري : الحافظ الزيلعي في " تخريج أحاديث الكشاف " 1 / 139 :
" زاد مسلم في رواية من قول الزهري : إن شاء مجبية وإن شاء غير مجبية غير أن ذلك في صمام واحد انتهى " .
وكذا قال المناوي في " الفتح السماوي " 1 / 266 .
وقبل أن نفهم أن الزيادة "صمام واحد " - أو غيرها من الألفظ الأخرى مما سبق ذكرها - زيادة منكرة لا أصل لها عن النبي عليه الصلاة والسلام علينا أن نفهم أولاً أن الحديث المنكر عند أئمة الحديث والعلل كالإمام أحمد ويحيى القطان والبرديجي ( حافظ من أعيان الحفاظ المبرزين في العلل كما قال ابن رجب ) والحاكم وغيرهم من الحفاظ الذين حكى عنهم الحافظ أبو يعلى الخليلي أن الشاذ عندهم ما ليس له إلا إسناد واحد يشذ بذلك شيخ : ثقة كان، أو غير ثقة، فما كان عن غير ثقة فمتروك ، لا يقبل، وما كان عن ثقة يتوقف فيه ، ولا يحتج به ! .
فلننظر إلى تمام كلام ابن رجب في هذا المجال :
قال الحافظ ابن رجب في " شرح علل الترمذي "
2 / 653 : " ولم أقف لأحد من المتقدمين على حد المنكر من الحديث ، وتعريفه إلا على ما ذكره أبو بكر البرديجي الحافظ، وكان من أعيان الحفاظ المبرزين في العلل : أن المنكر هو الذي يحدث به الرجل عن الصحابة ، أو عن التابعين ، عن الصحابة ، لا يعرف ذلك الحديث ، وهو متن الحديث ، إلا من طريق الذي رواه فيكون منكراً " .
ثم قال : " ذكر هذا الكلام في سياق ما إذا انفرد شعبة أو سعيد بن أبي عروبة أو هشام الدستوائي بحديث عن قتادة، عن أنس، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
وهذا كالتصريح بأن كل ما ينفرد به ثقة عن ثقة ولا يعرف المتن من غير ذلك الطريق فهو منكر، كما قاله الإمام أحمد في حديث عبد الله بن دينار، عن بن عمر، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ "في النهي عن بيع الولاء وهبته".
وكذا قال أحمد في حديث مالك، عن الزهري، عن عروة عن عائشة:
"إن الذين جمعوا الحج والعمرة طافوا حين قدموا لعمرتهم، وطافوا لحجهم حين رجعوا من منى".
قال: لم يقل هذا أحد إلا مالك. وقال: ما أظن مالكاً إلا غلط فيه، ولم يجىء به أحد غيره ، وقال مرة: لم يروه إلا مالك ، ومالك ثقة .
ولعل أحمد إنما استنكره لمخالفته للأحاديث، في أن القارن يطوف طوافاً واحداً.
قال البرديجي بعد ذلك : " فأما أحاديث قتادة التي يرويها الشيوخ مثل حماد بن سلمة، وهمام، وأبان، والأوزاعي، ننظر في الحديث فإن كان الحديث يحفظ من غير طريقهم عن النبي صلى الله عليه وسلم , أو عن أنس بن مالك من وجه آخر، لم يدفع، وإن كان لا يعرف عن أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا من طريق عن أنس إلا من رواية هذا الذي ذكرت لك، كان منكراً " .
وقال أيضاً : " إذا روى الثقة من طريق صحيح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً لا يصاب إلا عند الرجل الواحد لم يضره أن لا يرويه غيره ، إذا كان متن الحديث معروفاً، ولا يكون منكراً ولا معلولاً " .
وقال في حديث رواه عمرو بن عاصم، عن همام، عن إسحاق بن أبي طلحة عن أنس، أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : "إني أصبت حداً فأقمه علي" الحديث :
" هذا عندي حديث منكر، وهو عندي وهم من
عمرو بن عاصم " .
ونقل ابن أبي حاتم عن أبيه أنه قال : " هذا حديث باطل بهذا الإسناد" .
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من هذا الوجه .
وخرج مسلم معناه أيضاً من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فهذا شاهد لحديث أنس .
ولعل أبا حاتم والبرديجي إنما أنكرا الحديث لأن عمرو بن عاصم ليس هو عندهما في محل من يحتمل تفرده بمثل هذا الإسناد، والله أعلم .
وقال إسحاق بن هانيء : قال لي أبو عبد الله (يعني أحمد) : قال لي يحيى بن سعيد : " لا أعلم عبيد الله - يعني ابن عمر - أخطأ إلا في حديث واحد لنافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام ... الحديث".
قال أبو عبد الله : " فأنكره يحيى بن سعيد عليه " .
قال (أبو عبد الله) : قال لي يحيى بن سعيد : فوجدته قد حدث به العمري الصغير عن ابن عمر مثله.
قال أبو عبد الله : لم يسمعه إلا من عبيد الله، فلما بلغه عن العمري صححه .
وهذا الكلام يدل على أن النكارة عند يحيى القطان لا تزول إلا بمعرفة الحديث من وجه آخر.
وكلام الإمام أحمد قريب من ذلك.
قال عبد الله : سألت أبي عن حسين بن علي، الذي يروي حديث المواقيت ؟
فقال : هو أخو أبي جعفر محمد بن علي، وحديثه الذي روي في المواقيت ليس بمنكر ؛ لأنه قد وافقه على بعض صفاته غيره .
وقال أحمد في بريد بن عبد الله بن أبي بردة : " يروي أحاديث مناكير " .
وقال أحمد في محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، وهو المنفرد برواية حديث الأعمال بالنيات : في حديثه شيء، يروي أحاديث مناكير، أو قال: منكرة .
وقال في زيد بن أبي أنيسة : إن حديثه لحسن مقارب، وإن فيها لبعض النكارة ، قال : وهو على ذلك حسن الحديث .
قال الأثرم : قلت لأحمد : إن له أحاديث أن لم تكن مناكير فهي غرائب ؟
قال : نعم .
وهؤلاء الثلاثة متفق على الاحتجاج بحديثهم في الصحيح، وقد استنكر أحمد ما تفردوا به، وكذلك قال في عمرو بن الحارث: (له أحاديث) مناكير، وفي الحسين بن واقد، وخالد بن مخلد، وجماعة خرج لهم في الصحيح بعض ما ينفردون به .
وأما تصرف الشيخين والأكثرين فيدل على خلاف هذا، وإن ما رواه الثقة عن الثقة إلى منتهاه، وليس له علة فليس بمنكر.
وقد خرجا في الصحيحين حديث بريد بن عبد الله بن أبي بردة، وحديث محمد بن إبراهيم التيمي، وحديث زيد بن أبي أنيسة .
وقد قال مسلم في أول كتابه : " حكم أهل العلم والذي يعرف من مذهبهم في قبول ما ينفرد به المحدث من الحديث أن يكون قد شارك الثقات من أهل الحفظ في بعض ما رووا وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وجد كذلك ثم زاد بعد ذلك شيئاً ليس عند أصحابه قبلت زيادته " .
" فأما من نراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك، قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على اتفاق منهم في أكثره، فيروي عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث، مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح الذي عندهم، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس، والله أعلم " .
فصرح بأن الثقة إذا أمعن في موافقة الثقات في حديثهم، ثم تفرد عنهم بحديث قبل ما تفرد به ، وحكاه عن أهل العلم .
وقد ذكرنا فيما تقدم قول الشافعي في الشاذ ، وأنه قال:
" ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة من الحديث ما لا يروي غيره، إنما الشاذ أن يروي الثقة حديثاً يخالف الناس " .
وكذا قال أبو بكر الأثرم .
وحكى أبو يعلى الخليلي هذا القول عن الشافعي وجماعة من أهل الحجاز، ثم قال : " الذي عليه حفاظ الحديث أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد يشذ بذلك شيخ : ثقة كان، أو غير ثقة، فما كان عن غير ثقة : فمتروك، لا يقبل، وما كان عن ثقة : يتوقف فيه، ولا يحتج به " .
وكذلك ذكر الحاكم أن الشاذ : " هو الحديث الذي ينفرد به ثقة، من الثقات، وليس له أصل متابع لذلك الثقة ولم يوقف له على علة " .
ولكن كلام الخليلي في تفرد الشيوخ ، والشيوخ في اصطلاح أهل هذا العلم عبارة " عمن دون الأئمة والحفاظ، وقد يكون فيهم الثقة وغيره " ، فأما ما انفرد به الأئمة والحفاظ فقد سماه الخليلي فرداً، وذكر أن أفراد الحفاظ المشهورين الثقات، أو إفراد إمام عن الحفاظ، والأئمة صحيح متفق عليه، ومثله بحديث مالك في" المغفر ".
فتلخص من هذا أن النكارة لا تزول عند يحيى القطان والإمام أحمد والبرديجي وغيرهم من المتقدمين إلا بالمتابعة، وكذلك الشذوذ كما حكاه الحاكم .
وأما الشافعي وغيره فيرون أن ما تفرد به ثقة مقبول الرواية، ولم يخالفه غيره فليس بشاذ، وتصرف الشيخين يدل على مثل هذا المعنى .
وفرق الخليلي بين ما ينفرد به شيخ من الشيوخ الثقات، وما ينفرد به إمام أو حافظ، فما انفرد به إمام أو حافظ قبل واحتج به، بخلاف ما تفرد به شيخ من الشيوخ، وحكى ذلك عن حفاظ الحديث، والله أعلم .
انتهى النقل من كلام الإمام ابن رجب ؛ ومنه نعلم أن تفرد من تفرد بالزيادة التي في أول المقال وكذا الألفاظ التي في معناها كلها فمما تفرد به إما : سيء الحفظ , أو متكلم في سماعه مع تدليسه عن المجروحين مع كون روايته عن بعض شيوخه واهية , أو ممن روى المنكرات والأباطيل , أو كان كثير الغلط فيما يروي من حفظه وخالف مع ذلك كله الأئمة الثقات الأثبات في زيادته عليهم بما لم يزيدوه , واضطرب مع ذلك في اللفظ الذي زاده عليهم , أو كان ممن اختلط بآخره ويخطيء كثيراً في روايته , أو كان مجهول عين لا تساوي روايته شيئاً , أو كان هو نفسه منكر الحديث ومع هذا لم يوثقه سوى المتساهلون في التوثيق أو كان متروك الحديث وفيه غفلة مع ذلك " فكل هؤلاء ينطبق عليهم ما قاله ابن رجب في التفصيل الأخير عن الخليلي ؛ فلا يحل الاستشهاد بمروياتهم ؛ بل يجب اطراحها بالكلية .
أسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا , وأن يعلمنا ما ينفعنا , وأن يزيدنا علمأ , وأن يتقبل منا , إنه هو السميع العليم .
