إنَّ التَّوحيد أوَّل دعوة الرُّسل، وهو زُبْدَة الرِّسالة الإلهيَّة، وخلاصة الدَّعوة النَّبويَّة، وعليه أسِّست الملَّة، ومن أجله نصبت القبلة.
قال الله تعالى: ï´؟لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُï´¾ [الأعراف: 59].
وقال هود - عليه السَّلام - لقومه: ï´؟اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُï´¾ [الأعراف: 65]، وقال صالح - عليه السَّلام - لقومه: ï´؟اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُï´¾ [الأعراف: 73]، وقال شعيب - عليه السَّلام - لقومه: ï´؟اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُï´¾ [الأعراف: 85]، وقال تعالى: ï´؟وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَï´¾ [النحل: 36].
فالتَّوحيد مفتاحُ دعوة الرُّسل، وهو أوَّل ما يُدْخَلُ به في الإسلام، وآخر ما يُخْرَجُ به من الدُّنيا، كما قال النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ دَخَلَ الجَنَّةَ»، فهو أوَّل واجبٍ وآخرُ واجبٍ، فالتَّوحيد أوَّل الأمرِ وآخرُه(1).
قبل الشُّروع في صلب الموضوع؛ فإنَّه ينبغي أنْ يُعلم أنَّ الواجبات تُتلقَّى من كلام الله، ومن المبلِّغ عنه، وهم رسلُه - عليهم السَّلام -؛ فإنَّ الله تعالى يحكم ما يريد، فيأمر وينهى ويوجب ويحلِّل ويحرِّم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «وأصل الدِّين أنَّه لا واجب إلاَّ ما أوجبه الله ورسوله، ولا حرام إلاَّ ما حرَّمه الله ورسوله، ولا مكروه إلاَّ ما كرهه الله ورسوله، ولا حلال إلاَّ ما أحلَّه الله ورسوله، ولا مستحبَّ إلاَّ ما أحبَّه الله ورسوله، فالحلال ما حلَّله الله ورسوله، والحرام ما حرَّمه الله ورسوله، والدِّين ما شرعه الله ورسوله ...»(2).
وقال أبو المظفر السَّمعاني - رحمه الله -: «اعلم أنَّ مذهب أهل السُّنَّة أنَّ العقل لا يوجب شيئًا على أحدٍ، ولا يدفع شيئًا عنه، ولا حظَّ له في تحليل ولا تحريم، ولا تحسين ولا تقبيح، ولو لم يرد السَّمع ما وجب على أحد شيء، ولا دخلوا في ثواب ولا عقاب»(3).
فإذا تقرَّر هذا؛ فإنَّ أوَّل ما أوجبه الله على لسان رسوله، هو: الإقرار بالشَّهادتين، كما قال النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لرسوله معاذ بن جبل - رضي الله عنه - لَمَّا بعثه إلى اليمن: «إِنَّكَ تقْدمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى» رواه البخاري (6937)، واللَّفظ له، ومسلم (130)، ولفظه - وهو رواية للبخاري (1331) -: «اُدْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ؛ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ في كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ... ».
وهذا الحديثُ ظاهرُ الدِّلالة على أنَّ أوَّل ما يجب على العبيد الإقرار بشهادة التَّوحيد.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: «وهذا ممَّا اتَّفق عليه أئمَّة الدِّين وعلماء المسلمين، فإنَّهم مُجْمِعُون على ما علم بالاضطرار من دين الرَّسول أنَّ كلَّ كافر، فإنَّه يُدْعَى إلى الشَّهادتين سواء كان معطِّلاً أو مشركًا أو كتابيًّا، وبذلك يصير الكافر مسلمًا، ولا يصير مسلمًا بدون ذلك»(4).
ومن ذلك ما رواه البخاري (2676) ومسلم (36) من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ محمَّدًا رَسُولُ اللهِ، ويُقيموا الصَّلاة ويؤتوا الزَّكاة، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ».
ولمسلم (34) من حديث أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَيُؤْمِنُوا بي وَبمَا جِئْتُ بهِ ...».
قال أبو محمَّد بن حزم - رحمه الله -: «أوَّل ما يلزم كلّ أحدٍ ولا يصحُّ الإسلام إلاَّ به: أن يعلم المرءُ بقلبه عِلْمَ يقينٍ وإخلاص، لا يكون لشيء من الشَّكِّ فيه أثرٌ، وينطق بلسانه ولابدَّ، بأن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله.
برهان ذلك: ـ ثمَّ أسند حديث أبي هريرة»(5).
قال الإمام العلاَّمة عبد الحميد بن باديس - رحمه الله -: «أوَّل واجب على المكلَّف من مسلمٍ بالغٍ أو كافرٍ يريد الدُّخول في الإسلام: أن يعلم أنْ لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمَّدًا رسولُ الله لحديث معاذ المتقدِّم، ولحديث وفاة أبي طالب: لَمَّا حضرت أبا طالب الوفاة؛ جاءه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أُمَيَّةَ، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «يَا عَمُّ! قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بهَا عِنْدَ اللهِ...» [البخاري (1294)]، ولقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَيُؤْمِنُوا بي وَبمَا جِئْتُ بهِ ...».
قال: لا يكفي النُّطق بكلمتي الشَّهادة إذا كان النَّاطق بهما لا يفهم أصل معناهما؛ لقوله في الحديث المتقدِّم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَيُؤْمِنُوا بي وَبمَا جِئْتُ بهِ»(6).
ويؤيِّد هذا الَّذي قرَّره الشَّيخ - رحمه الله - ما رواه مسلم (21) من حديث أبي مالك الأشجعيِّ عن أبيه - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: «مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَكَفَرَ بمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ»، فإنَّ هذا لا يكون إلاَّ عن عِلْمٍ وفَهْمٍ.
ومن ذلك ما رواه البخاري (1290) عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان غلامٌ يهوديٌّ يخدم النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -، فمرض، فأتاه النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: «أَسْلِمْ»، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أَطِعْ أبا القاسم - صلَّى الله عليه وسلَّم -؛ فأسلمَ. فخرج النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يقول: «الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ». وفي لفظ «المسند» (13129): «الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ بي مِنَ النَّارِ».
قال: وفي قوله: «أَنْقَذَهُ بي مِنَ النَّارِ» دلالة على أنَّه صحَّ إسلامه(7).
ومن ذلك ما رواه التِّرمذي (2953) في قصَّة إسلام عديِّ بنِ حاتمٍ - رضي الله عنه -، حيث قال: أتيتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو جالس في المسجد، فقال القوم: هذا عديُّ بن حاتم، وجئت بغير أمان ولا كتاب، فلمَّا دفعت إليه أخذ بيدي، وقد كان قال قبل ذلك: «إنِّي لأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَ اللهُ يَدَهُ في يَدِي»، قال: فقام فلقيته امرأةٌ وصبيٌّ معها فقالا: إنَّ لنا إليك حاجة، فقام معهما حتَّى قضى حاجتهما، ثمَّ أخذ بيدي حتَّى أتى بي داره، فألقت له الوليدة وسادة، فجلس عليها وجلست بين يديه، فحمد الله وأثنى عليه، ثمَّ قال: «مَا يُفِرُّك(8) أَنْ تَقُولَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ فَهَلْ تَعْلَمُ مِنْ إِلَهٍ سِوَى اللهِ ...» الحديث، وحسَّنه الألباني.
وكذلك كتبه إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام، كما في كتابه إلى هِرَقْل ملك الرُّوم وفيه: «بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحِمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ بدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَعَلَيْكَ إِثْمُ الأَرِيسِيِّينَ وï´؟يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَï´¾» رواه البخاري (2782)، ومسلم (1773).
قال النَّوويُّ - رحمه الله -: «قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «أَدْعُوكَ بدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ» وهو بكسر الدَّال، أي بدعوته، وهي «كلمة التَّوحيد»، وقال في الرِّواية الأخرى الَّتي ذكرها مسلم بعد هذا: «أَدْعُوكَ بدَاعِيَةِ الإِسْلاَمِ»، وهو بمعنى الأولى، ومعناها الكلمة الدَّاعية إلى الإسلام(9)، وهي «شهادة أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله»(10).
إلى أمثال هذه الأحاديث، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -: «وقد تواتر عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه أوَّل ما دعا الخلق إلى أن يقولوا لا إله إلاَّ الله»(11).
وهذه المسألة محلُّ إجماع بين السَّلف.
قال أبو بكر بن المنذر - رحمه الله -: «أجمع كلُّ مَنْ أحفظ عنه مِنْ أهل العلم على أنَّ الكافر إذا قال: أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، وأنَّ كلَّ ما جاء به محمَّدٌ حقٌّ، وأَبْرَأُ إلى الله من كلِّ دينٍ يُخالف دين الإسلام - وهو بالغ صحيح يعقل - أنَّه مسلم، فإن رجع بعد ذلك؛ فأظهر الكُفْرَ، كان مرتدًّا يجب عليه ما يجب على المرتدِّ ...»(12).
