-
التقصير الموروث؟!
• التَّقصِير الموروث:
«إنَّنا يا أبنائي كُنَّا أوَّلَ من نَامَ، وآخِرَ من استيقَظ، فمن الحَزْم أن لا نقطع الوقت في العتِاب والمَلام، والحَرب بالكلام، فإنَّ ذلك إطالةٌ للمرض، وزيادةٌ في البلاء على المريض، ومن الحزم أن نتحاسب على الدَّقائق، إذا تحاسب غَيرُنا على السَّاعات، وعلى الأيَّام إذا تحاسب غَيرُنا على الأعوام. إنَّ وراءَنا من الزَّمن سائقًا عنيفًا، وإنَّ معنا من العصر ورُوحه زاجِرًا مُخيفًا، وإنَّ أمامنا سُبلًا وَعْرةً، وصِراطًا أرقَّ من الشَّعْرَة، وإنَّ عن أيْمَانِنَا وعن شَمَائِلنَا عوائِـقَ من الدَّهر، ومُعَوِّقِينَ من البشر، وإنَّ في طَيِّ الغُيوب، من القَدَرِ المَحْجُوب، بوائِـقَ في أكمامها لم تُفْتَقْ، وإنْ أدْرِي أقَريبٌ أم بعيدٌ مَا أَوْعَدَ الله الظَّالمينَ، ولكنَّني أدري أنَّ العاقِـبة للمُتَّقِينَ، وأنَّنا لا نغلبُ العَـوائِـقَ، ولا نتَّقِي البَـوائِـقَ، إلَّا بإيماننا بالله، ثُمَّ بديننا، ثُمَّ بلُغتنا، ثُمَّ بأنفسنا ثُمَّ بالحَـقِّ الَّذي جعله الله ميزانًا للكون، وقَيُّومًا على الكائنات، ترجع إليه صَاغِرةً، وتَقِفُ عنده داخِرةً.
• إنَّ التَّقصير في الواجب يُعَـدُّ جريمة من جميع النَّاس، ولكنَّه في حَقِّنا يُضاعَفُ مرتين، فيُعَدُّ جريمتين، لأنَّ المُقصِّرَ من غيرنا لا يَعْدَمُ جابِرًا أو عاذِرًا، فقد يُغطِّي على تقصيره عمَلُ قَوْمِه أو حكومته، وقد يَقُومُ له بالعُذْر حالُه الجاري على كمال مُقنعٍ؛ أمَّا نحن فحالنا حال اليتيم الضَّائِـع الجائِـع، إذا لم يَسْعَ لنفسه ماتَ. فإذا قَصَّرنا في العمل لأنفسنا ولِمَا ينفَعُ أمَّتَنَا ويَرْفَعُها، فمن ذا يعمل لها؟ آلحُكومة؟ وقد رأينا من معاملتها لنا أنَّها تمنَعُ الماعون، وتُدَاوي الحُمَّى بالطَّاعون، وتبارز الإسلام بالمُنكرات، وتُجَاهِر العربيَّة بالعُدوان. فمن ضَلَّ مِنَّا مع هذا فقد ضَلَّ على علمٍ، ومن هلك فإنَّما هلك عن بيِّنة.
• وإنَّ لِمَا يَبُوءُ به المُقَصِّرونَ من النَّدامة لمرارةً، تجتمع في العُقبى مع الخَّسارة، فيكون منها حالٌ من الحسرة يَحْلُو معه بخْعُ النُّفوس، وإتلاف المهج؛ وتلك هي الحالةُ الَّتي نُعِيذُ أنفسنا ونعيذكم بالله من تَسْبيب أسبابها، وتَقْريب وسائِلها؛ وقد نهى ديننا الإسلام عن التَّقصير في الواجبات، ونعى التَّفريط في الحُقوق، وبيَّنَ آثاره وعواقِـبه، وحَضَّ على الأعمال في مواقيتها، وقَبَّح الكسل والتَّواكل والإضاعة، فشرع لنا بذلك كُلِّه من شرائع الحزم والقُوَّةِ وضبط الوقت والنَّفْس ما لم يُشَرِّعْهُ قانونٌ، ولم تأتِ به عَقْليَّة، وما أخذنا بذلك إلا ليأخُذ بحُجَزِنا عن التَّهور في الكسل والبطالة، ويَقِينَا تَجَرُّعَ مرارة النَّدم، وحرارة الحَسْرة.
• قَصَّرَ آباؤنا وأجدادنا في واجباتٍ اقتضاها زمانُهم، وفَرَّطُوا في حقوقٍ تَقَاضَاهَا منهُم مَكَانُهُم؛ بَعْدَ ما لاحت لهم النُّذر، وقامت عليهم الحُجج، ودمغتهم البيِّنات، فغالطُوا في الحقائق، وكذَّبُوا بالنُّذُر، وموَّهُوا بالزِّيف، وغَشُّوا أنْفُسَهُمْ بالأماني والأحلام، وغَشُّونَا بالضَّلالات والأوهام؛ حتَّى مات من استيقظت شواعِرُه منهم بحسرات النَّدم، ومات الغافلون منهم كما يموت الغُفْلُ من النِّعَم، فلا حَسْرةُ أولئك أجدَتْ علينا شَيئًا، ولا غفلةُ هؤلاء أفادتنا نَقِيرًا؛ وإنَّما أضاف تفريطُهم المُخجِلُ واجباتهم إلى واجباتنا، فأصبحَتْ حِـمْلًا ثَقِـيلًا، هو هذا الَّذي نَـنُوءُ به ويَـنُوء بِنا، هو هذه الأعباء المركومة الَّتي نحاول النُّهوض بها فَيُقِيمُنَا الإيمان والأمَلُ، وتُقْعِدُنَا الكثرةُ والثِّقَلُ، وإنَّ من الظُّلم تكليفُ جيلٍ بواجبات أجيال، وإن من الجُور أن يَحْمِل القَرنُ الأخير أوزار القُرون الماضية. ولو أنَّهم -سامحهم الله- قَامُوا بواجباتهم أو ببعضها، لخفَّفُوا عنَّا الكثير، وهوَّنُوا علينا العَسِير، كما خفَّفْنَا نحنُ وهَوَّنَّا على الجِيل الآتي؛ ولو أنَّهم غرسُوا الشَّجرة، لقرَّبوا منَّا جني الثَّمرة.
• هذه هي حالتنا- يا أبنائي- نهدِمُ ونرفَعُ الأنقاض ونبني ونُعمِّرُ في آنٍ واحدٍ، ونُؤَدِّي فريضةَ الوقت ونقضِي الفَوائِتَ على غيرنا في آنٍ واحدٍ، ثُمَّ نُؤَدِّي الكفَّارَاتِ على ذنوب لم نجترحها … كُلُّ ذلك مع محاربةٍ من الجَارِ، ومُشَاغَبةٍ من الشَّريك في الدَّار، ومع وَشَلٍ من المال لا يَتِمُّ به العمل، ومثبِّطاتٍ من سُوء الحال يتَضاءَلُ معها -لولا الإيمان- الأمَلُ، وإنَّها لحالةٌ لا يثبُت معها إلَّا المُؤمنون الصَّابرون الصَّادقُون المُخلِصُونَ المُحْتَسِبُونَ، المُؤَيَّدُونَ برُوحٍ من الله، ونحُن وأنتم كُلُّ ذلك، إن شاء الله».
[آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (٣/٢٦٣)]